الشخصية التاريخية العربية بين الفلسفة والأيديولوجيا

الشخصية التاريخية العربية بين الفلسفة والأيديولوجيا

تشكِّل الشخصية التاريخية في الفكر العربيِّ قمةَ الجدل بين الفكر الفلسفيِّ والأيديولوجيِّ، وعندما كانت الغلبة السائدة في الفكر العربيِّ للأيديولوجيا ومرجعيتها الفكرية، كانت الشخصية التاريخية ذات رمزيةٍ أيديولوجيةٍ، وهو الأمر الذي تسبَّب في تغييب ماهية الشخصية التاريخية وموضوعيَّتها في فكرنا. وكانت الشخصية التاريخية تعاني عملية شدٍّ وجذبٍ عندما كانت الساحة العربية تعاني تضخُّمًا أيديولوجيًّا يختلف ويتنوَّع في توجُّهاتهِ وفي مصادرهِ، وذلك ليس غريبًا على ثقافةٍ كثقافتنا العربية المبنية على أسسٍ من التناقضات التاريخية.

إنَّ ما يميِّز الشخصيةَ التاريخية سِمَتانِ رئيستان، هما: الفرادة والعظمة، اللتان تجعلان من الشخصية عبر سيرورة التاريخ شخصيةً تاريخيةً حيث تترك بصمتها وأثرها الخاصَّ المميّز لها في تحوُّلات التاريخ. إنَّ تلاقي الفرادة والعظمة في شخصيةٍ ما يمنحها صفة التاريخية لكونها مؤهَّلةً للعب دورٍ غيرِ عاديٍّ في مسيرة حركة التاريخ التي تبرز من خلال أعمالٍ تتجاوز الأعمال الاعتيادية الثابتة، فتحوي عنصرَ المفاجئةِ، وهو ما يعطي مرحلته التاريخية سمةَ التغيير الخالي من النسق الإستاتيكيّ الثابت للتاريخ وحوادثهِ.

أدلجة الشخصية التاريخية

تناولت الأيديولوجيات في الفكر العربيِّ المعاصر الشخصية التاريخية بشكلٍ مختلفٍ عن تناول الفكر الفلسفيِّ لها. سعت كلُّ أيديولوجيا لإظهار شخصيتها الخاصة بها، التي ادَّعت أنَّها شخصيةٌ مفصليةٌ مهمَّةٌ أثرت وأغنت حركة التاريخ العربيِّ. فالأيديولوجيات الدِّينية أظهرت شخصياتٍ على أنَّها قفزةٌ في مسيرة التاريخ لا يكاد يقلُّ ظهورها عن ظهور الدِّيانة ذاتِها، فالصُّوفية، مثلًا، استحدثت طُرقًا وشخصياتٍ منحتها كراماتٍ وخوارق فاقت بقوَّتها حتى معجزات الأنبياء والرُّسل. أمَّا الأيديولوجيات القومية، فكانت لها شخصياتها القومية التي التفَّت حولها لتعدَّها طفرةً في تاريخ الأمَّة. فقد أكَّد القوميُّون العرب أنَّ شخصية جمال عبدالنَّاصر هي رمزٌ للوحدة العربية، كما ذهب دعاة القومية السُّورية إلى عدّ انطون سعادة الأب الرُّوحي والفكري لهذه الدعوة. وهذا الأمر يُقاس على باقي الدعوات العقائدية القومية. وهذا ما أكَّده الباحث مكسيم رودينسون عندما بيَّن «أنَّ الأيديولوجيات العرقية– القومية، هي بصورةٍ طبيعيةٍ أيديولوجيات إثبات، تعطي شكلًا أيديولوجيًّا للوعي بالوحدة»(١).

يبقى سعي الأيديولوجيا في توظيف الشخصيات التاريخية عمليةً غائيةً لتحقيق مصلحة الجماعة التي تؤمن بها، إذ يتمُّ إلباس الشخصيات التاريخية لبوسًا معاصرًا يتماشى مع حاجات هذه الجماعة، ووفقًا لأهدافها الآنية. فقد منح الفكر الأيديولوجيُّ الـ(أنا) بُعدًا تاريخيًّا أيديولوجيًّا يُعبَّرُ عنهُ بوعي الجماعة التي تتبنَّى هذه الأيديولوجيا مصالحها، فكانت الـ(أنا) متماهيةً مع هذا الوعي الجمعيِّ، عندها ظهرت الشخصية التاريخية مطبوعةً بوعي الـ(نحن). كما تُستنطَق هذه الشخصية وفقًا لغاياتهم، حتى لو خالف حقيقة هذه الشخصية واضطرَّهم الأمر إلى تقويلها ما لم تقل. إنَّ عملية توظيف الشخصية التاريخية ضمن مسار الفكر الأيديولوجيِّ تمَّت ضمن جدلية الإيضاح والإخفاء، فهي توضِّح ما يغني فكرها الغائي، في حين أنَّها تخفي ما يؤثِّر في مصلحتها. ويستمرُّ التلاعب بالشخصية التاريخية بين تجميلٍ وتقبيحٍ، ما دامت الموضوعية غائبةً، ومهمة الأيديولوجيا في إعادة إنتاج صورة الشخصية التاريخية وفقًا لمنظورها الذاتيِّ.

يُبيِّنُ عبدالله العروي أنَّ «الإنسان بصفتهِ مؤرِّخًا (هذه درجةٌ أعلى من الوعي) يستحضر أفعال –ولا نقول فقط أحوال– الماضي ليفهم مغزاها»(٢). فالفاعلية البشرية تُحدث تغيراتٍ كثيرةٍ في الأحداث التاريخية، وأبرزها فاعلية الغائية الأيديولوجية في استحضارها الشخصية التاريخية، وتوظيفها في إطار أهدافها التي تصبو إليها. وعندما كانت الأيديولوجيا تسابق الفلسفة في كسب أكبر عددٍ ممكنٍ من الأفراد إلى جانبها كان عليها أن تعزِّز وجودها بين هؤلاء الأفراد، بإسناد فكرها إلى مجموعةٍ من الحقائق التي تقرُّها نتائج العلوم الحديثة، ثم تقوِّيها بالرُّجوع إلى رموزٍ تاريخيةٍ معلومةٍ، ولا سيما تلك الشخصيات التاريخية التي ساهمت بشكلٍ فعَّالٍ في إحداث انعطافٍ مهمٍّ في مجرى التاريخ، فتمنح هذه الشخصية بُعدًا رمزيًّا يلتفُّ حوله ممن آمن بها كمرجعيةٍ فكريةٍ.

إنَّ استحداث الشخصية التاريخية، واستحضارها من الماضي هي عمليةٌ لطمس المستقبل الحقيقيِّ، وإفساح المجال لإدخال الماضي وإحلالهِ محلَّهُ. فبناء مستقبل العرب لا يمكن أن يتمَّ من دون إصلاح حاضرهم الذي يجب أن ينطلق من إصلاح التفكير. فتحلِّي التفكير بالموضوعية والحيادية يشكِّل دافعًا حقيقيًّا لمنطق سيرورة التفكير التاريخيِّ وضرورة حياديتهِ، وهو الأمر الذي يحيِّد الشخصية التاريخية ويجعل حضورها حضورًا مستقلًّا في التفكير.

ولا ننسى صلة الأيديولوجيا بالفكر التاريخيِّ؛ لأنَّ الأيديولوجيا ومضمونها العقائدي بحاجةٍ للعودة إلى الحقائق التاريخية؛ نتيجةً للترابط الوثيق بين الفكر التاريخي والحقائق الاجتماعية التي تستند إليها أية أيديولوجيا. فضرورة الوعي التاريخيِّ للأيديولوجيا ضرورةٌ لازمةٌ؛ ذلك لأنَّ توجيه الشخصية التاريخية ضمن مسارٍ فكريٍّ يتطلَّب معرفةً كاملةً بآليةِ إدارة هذه الشخصية، فالعودة إلى الماضي تقدِّم آليةً لمعالجة إشكاليات الحاضر، والتمرُّن على كيفية الانتفاع من تجربة الماضي وتسخيرها لغايات الأيديولوجيا. إنَّ الانطلاق من إيجابيات الماضي وتوظيفها لأهداف جماعةٍ معينةٍ يسهِّل كثيرًا التعريف بأنفسهم وتوسيع عقيدتهم في الوقت الحاضر. فالتاريخ مُلهمُ الحركات الأيديولوجية بصورةٍ عامَّةٍ، وباحثٌ في شخصياتهِ بصورةٍ خاصَّةٍ.

الرؤية الفلسفية للشخصية التاريخية

لم تكنِ الفلسفةُ بمعزلٍ عن دراسة الشخصية التاريخية؛ لأنَّها لم تكن بمعزلٍ عن قراءة التاريخ وإعادة قراءته. كانت حصيلة هذه القراءة أن أنتجت ما يسمَّى «فلسفة التاريخ». فعندما كان الفيلسوف، حسب رأي أفلاطون، «هو الإنسان الذي يتأمَّل الأزمنة جميعًا، ولا يرى الوجود إلا ككلّ»(٣)، كانت الفلسفة عودةً أيضًا لقراءة شخصية هذا الفيلسوف الذي يمتاز بالموضوعية والمصداقية، فتكون كتاباتهُ خيرَ شاهدٍ على ذلك. وتقدِّم الفلسفة خير دليلٍ على تطوُّر التاريخ وتقدُّمهِ. حيث تتخذ الفلسفة منهجًا موضوعيًّا محايدًا بعيدًا من الذاتية في دراسة الشخصية التاريخية، محاوِلةً الوصول إلى درجةٍ عليا من التفسير المنهجيِّ لصيرورة التاريخ وشخصياتهِ، واستنتاج حقيقة الوقائع والكشف عن دلالاتها ومعناها، متحرِّرةً من أيِّ أثرٍ للعواطف والنزعات الفردية. هذا الأمر هو الذي قاد إلى ظهور فلسفة اللغة، التي تُحلِّل اللغةَ ورموزها ومعانيها وتتحقق منها، وبالتالي سهَّل مهمة معرفة مدى صدق الأخبار التاريخية التي تنقلها هذه اللغة.

إن اهتمام الفلسفة بدراسة التاريخ هو أمرٌ طبيعيٌّ، ذلك نتيجةً للصِّلة التي تربط الفلسفة بالحضارة والتي تستوجب إعادة قراءة التاريخ ومراحلهِ. فالنظريات الفلسفية لا تأتي إلا بعد قراءةٍ تاريخيةٍ دقيقةٍ، كما أن الحضارة تتسم بسمة الفكر الفلسفيِّ الذي يسودها، والفرق بين الحضارة اليونانية والحضارة الرومانية خير مثالٍ على ذلك. اتسمت الحضارة اليونانية بقوَّتها العلمية والفلسفية، أمَّا الحضارة الرومانية فقامت على أساس القوة العسكرية.

يجد محمد عابد الجابري أنَّ فلسفة العلوم ومناهجها تقرُّ بأنَّ «ما يميِّز الحادثة التاريخية عن الحوادث الطبيعية والاجتماعية هي أنَّها حادثةٌ فريدةٌ لا تتكرَّر»(٤)، معنى ذلك أنَّ المعرفة الإبستمولوجية والفلسفية بصورةٍ عامَّةٍ تؤكِّد ضرورة استقلال الحادثة التاريخية وتمييزها عن الحادثة الطبيعية والاجتماعية بمنح الشخصية التاريخية، التي هي مصدرٌ لهذه الحادثة، صفةً استقلاليةً غير قابلةٍ للخضوع لأيِّ أيديولوجيا خاصة.

وأن الأيديولوجيات المتكاثرة في ساحة الفكر العربي تحاول جاهدةً جذب الشخصيات التاريخية، وإسناد فكرها وتدعيمه بهذه الشخصية إلى درجةٍ مبالغٍ فيها. وقد وصل الأمر بها إلى حدِّ التحريف وتقويل هذه الشخصية ما لم تقل. ومن هنا تأتي دعوة الاستقلال الفلسفيِّ عند المفكِّر ناصيف نصَّار، إذ ادَّعى ضرورة تجنيب الواقعة التاريخية وشخصياتها لغاياتٍ المنظومات الفكرية ومصالحها، فيبيِّن أنَّ «المعلومات الدقيقة والصحيحة عن الآخر مطلوبةٌ في الأيديولوجيا، لا من أجل معرفة الآخر في حدِّ ذاتهِ ولذاتهِ، بل من أجل معرفته في علاقتهِ التأثيرية مع جماعة الأيديولوجيا»(٥). فقد يُوَظَّف جزء من هذه المعلومات، وهو جزءٌ صحيحٌ، في خدمة غايات الأيديولوجيا، فالمعرفة هنا معرفةٌ لغاياتٍ نفعيةٍ أيديولوجيةٍ بحتةٍ.

ويبيِّن ناصيف نصَّارٌ أنَّ فاعلية الأيديولوجيا في التاريخ فاعليةٌ غائيةٌ، في الوقت الذي تكون فيه فاعلية الفلسفة فاعليةٌ موضوعيةٌ. «فالفلسفة التاريخية، سواءٌ كانت نظرًا في أصول المعرفة التاريخية أم نظرًا في مبادئ التاريخ الإنسانيِّ بأسرهِ أم بحثًا في الوجودِ الإنسانيِّ من حيث هو وجودٌ تاريخيٌّ، تتفاعل مع تقدُّم العلم التاريخيِّ ومع تجديد الفكر الأيديولوجيِّ»(٦)، فموضوعية الفلسفة تحتِّم عليها العودة إلى التاريخ بمرجعيةٍ منطقيةٍ تستند إلى مخلَّفاتهِ وآليات الإنتاج الفكريِّ في تلك المرحلة والبرهنة على صحَّتها أو على عدم دقَّتها وتناقضها.

لقد كان التاريخ دائمًا موضع نقدٍ للفلسفة؛ لأنَّه ماضٍ نقلتهُ ذاتٌ إنسانيةٌ معرضةٌ لشتى أنواع الزَّلل، لذا كانت مادَّته التاريخية يقينًا موضوعيًّا غير مسلَّمٍ بها. ولا مشكلة في إعادة طرح هذا اليقين للبحث والتفسير وتفنيد كلِّ الأطروحات الأيديولوجية العالقة به؛ ذلك لأنَّ الأيديولوجيا تعتمد في تسليط ضوئها وتكريس اهتمامها على جانبٍ معينٍ من مسيرة التاريخ، أو على شخصيةٍ من شخصيات مرحلةٍ معينةٍ، لأنَّ هذا العمل يحقِّق غاية الجماعة التي تؤمن بهذهِ المنظومة الفكرية.

المأزق الحقيقي

إنَّ مأزقَ الأيديولوجيا العربية المعاصرة، في الواقع، ليس فقط استحضار الشخصية التاريخية من مسيرة التاريخ واستحداثها واستنطاقها فحسب، بل إنَّ المأزق الأصعب هو أنَّ هذه الأيديولوجيات أخذت هذه الشخصية التاريخية لتوظيفها وجعلها في خدمة جماعةٍ معينةٍ تريد فرض نفسها على واقعٍ غير واقعها. أغلب الأيديولوجيات العربية ذات مصدرٍ خارجيٍّ، وبعضها استُحضِر من الماضي، وأرادت التحقق في واقعنا الحالي. كلُّ هذا ساهم في   تشتيت صورة هوية الذات العربية الساعية لإثبات حضورها مقابل الآخر. كما أخفقت عملية استحضار الشخصية التاريخية نتيجةً للتناقض بين الماضي الحقيقيِّ لها وبين الواقع المتغيِّر الذي يعجُّ بتياراتٍ متناقضة الهدف والمسعى.

إذًا ينبغي تحرير العقل العربيِّ من ثقافته التي ارتبطت بشخصياتٍ تاريخيةٍ، تتعايش معها وكأنَّها موجودةٌ بيننا اليوم، ونقصد سرقة الأيديولوجيات هذه الشخصيةَ وتحويرها ووضعها في خدمة مصالحها، وهو الأمر الذي يُخرجها من نطاق الاستقلالية، ويجعلها بسور البراغماتية النفعية والغائية الضيقة، إضافةً إلى تحجيم هذه الشخصية اليوم ومحاربتها من الآخر الذي لا يريد لها سوى أن تبقى مستهلِكةً وغير منتجةٍ فكريًّا، اجتماعيًّا، واقتصاديًّا.


مراجع:

(١) رودينسون، مكسيم، الفعاليات الأيديولوجية، ترجمة، موفق المشنوق، دار الأهالي، دمشق، ط1، 1997م، ص73.

(٢) العروي، عبدالله، مفهوم التاريخ، المركز الثقافي العربي، بيروت، والدار البيضاء، ط4، 2005م، ص362.

(٣) إبراهيم، زكريا، مشكلات فلسفية- مشكلة الفلسفة، مكتبة مصر، القاهرة، 1971م، ص226.

(٤) الجابري، محمد عابد، مسألة الهوية- العروبة والإسلام والغرب، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط4، 2012م، ص74.

(٥) نصَّار، ناصِيف، الأيديولوجية على المحك «فصول جديدة في تحليل الأيديولوجية ونقدها»، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1994م، ص110.

(٦) نصَّار، ناصِيف، الفلسفة في معركة الأيديولوجية «أطروحات في تحليل الأيديولوجية وتحرير الفلسفة من هيمنتها»، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1980م، ص174.