واقعية الصورة في أعمال الفنان السعودي ضياء عزيز ضياء

واقعية الصورة في أعمال الفنان السعودي ضياء عزيز ضياء

استطاع الفنان السعودي ضياء عزيز ضياء أن «يبتكر» عالمًا خاصًّا به يصوّر من خلاله الحياة التقليدية التي عاشها مجتمعه. وقد أسهمت البيئة الفنية التي عاش فيها ضياء في فنيّة أعماله التشكيلية، بالإضافة إلى رحلاته المعرفية الاستكشافية التي كانت المورد الآخر من موارد التكوين الإبداعي في أعماله. والناظر للوحات ضياء عزيز يجد أن معظمها تصوّر وقائع الحياة الشعبية السعودية، من خلال تمثيل الأماكن بأنواعها كالحواري والشوارع والبيوت، وتصوير الناس وتوضيح معالم وجوههم والتعبير عما يختلج في نفوسهم من خلال نظراتهم، إضافة إلى تمثيل «السلوكيات اليومية» التي كانوا يقومون بها، وذلك من خلال التعبير عن المهن الشائعة والعادات والتقاليد المعروفة في مناطق مختلفة من المملكة العربية السعودية. وبالتالي ففنُّه جامع لكل معاني الحياة المختلفة.

يقول الناقد نبيل نعّوم واصفًا جهود ضياء عزيز ضياء الفنية: «إنّه العالم، هي الدنيا. إنه الفن يجمع في شبكة صيده كل المفردات. لذا إنّها شبكة ضياء عزيز المملوءة بالمفردات، هي التي سوف تقودنا للاقتراب من هذا العالم المركب المملوء بالموضوعات والأحاسيس والأفكار. العالم المحسوس والمشابه للعالم الواقعي، ولكنه في الحقيقة يعكسه دون أن يقلده، ويخلقه دون أن يحاكيه. هو عالم غير مسبوق الوجود، يصنعه الفنان بمقدرة، وهو المتمكن من أدوات الخلق الأساسية، كاللون والضوء، ومعرفة تفاصيل الأجساد من إنسان أو حيوان أو نبات، وبصيرة تميل إلى تجسيد الخيال أكثر منها إلى إعادة بناء المشابه. هنا تتحول رغبة الفنان الحقيقية، ليس إلى تجميد الأشكال على سطح اللوحة، بل إلى إطلاق سراحها لتعبر حواجز الزمن الذي كان، أو الذي هو آت».

وانعكاس الواقع دون تقليده يكون في تمثيله، بمعنى، بناء حياة تصورية تتشابه مع تلك التي تختلج في ذات الرسام، لتخرج الصورة كأنها مرآة عاكسة للوجه الحقيقي لتلك الحياة. وقد عبّر ضياء عن هذا المعنى في مجمل لوحاته التي مثّل من خلالها مجتمعه بالفكرة والأسلوب.

تمثيل المهن التي كان يعتاش عليها أبناء المجتمع

اهتم ضياء عزيز ضياء بهذا الجانب في عدد مهم من لوحاته أهمها: «صناعة الهوري»؛ أي صناعة السفن البسيطة التي كان يستخدمها الصيادون في صيد الأسماك. وهي المهن التي كانت شائعة في شبه الجزيرة العربية، ولا سيما في دولتي الكويت والسعودية، وإعادة تصوير هذه المهنة له دلالتان مهمتان: الأولى تتمثل في تفسير حياة الصيادين والوسائل البسيطة التي كانوا يعتمدون عليها في الحصول على قوت يومهم، والدلالة الثانية تتمثل في تفسير حالة أصحاب هذه المهنة، من خلال التعبير عن تعبهم وتأملاتهم وتكيفهم مع عملهم، وكأن الناظر في تلك اللوحة يعيش ذات صاحب المهنة نفسه.

تتكون لوحة «صناعة الهوري» من مشهد تقريبي لحياة صانعي سفن الصيد من خلال تشخيص أحد الصنّاع، وظهور بعض أدوات العمل التي يستخدمها في صناعته، بالإضافة إلى وجود نوعين من السفن: السفن التي صُنِعتْ، والسفن التي ما زال يعمل فيها. واللافت في اللوحة «هيئة الصانع» وطريقة تصويره، فقد ظهر في اللوحة بجلسة القرفصاء وبجانبه إبريق وكأس مملوءة بالشاي. و«هيئة الصانع» عبارة عن بنية علاماتية تتضمن معنى سيميائي يشير إلى متعة العمل الممزوج بالتعب، هذه الجلسة ووضعية اليد بهذه الطريقة -وضع اليد على الركبة- تدلل على ذات الصانع، الذي أنجز جزءًا مهمًّا من عمله، بالدليل نظرته التأملية إلى السفينة التي انتهى من العمل بها للتو.

واللافت في اللوحة استخدام اللون الأصفر الممزوج بألوان أخرى في كل جزئية منها؛ ويظهر ذلك في انعكاس أشعة الشمس على رمال الشاطئ، وعلى الأخشاب المستخدمة في صناعة السفن، وعلى شخصية الصانع نفسه، من خلال مزج الأصفر بالأبيض -لون لباسه- وهذا يدلل على «القوة والأبدية»، من حيث إن هناك قرابة مادية بين كلا اللونين: الأصفر والأبيض، تتمثل في أنهما يشيران إلى الحيوية والقوة الأبدية. تقول الناقدة الفنية كلود عبيد: «إنّ هناك قرابة مادية عميقة بين الأصفر والأبيض، فهو وسيلة نقل لفكر الشباب، للقوة للأبدية الإلهية». وقد وظف ضياء عزيز ضياء هذا المعنى في شخصية الصانع، من خلال الدمج بين اللونين، الذي يظهر من خلالهما إضافة إلى ما سبق ذكره تفاعل الصانع مع البيئة التي يعمل فيها، مشيرا بذلك إلى نشاطه وحيوته. ولو فسّرنا لغة جسده، المتمثلة في هيئة جلوسه لوجدنا أنها عامل إضافي من عوامل تصوير أبناء المجتمع المجدّين والواثقين بأنفسهم في إنجاز عملهم على نحو تام.

وفي لوحة أخرى من اللوحات التي صوّر فيها الفنان صناعة الهوري، يطغى اللون الأصفر على جزئيات اللوحة كلها، تلك التي يظهر فيها عاملان -لا تظهر ملامحها التفصيلية- يقومان بتركيب الأخشاب لإكمال صناعة إحدى السفن. ودلالة اللون الأصفر هنا مشابهة لتلك التي تحدثتُ عنها في اللوحة السابقة بإضافة دلالة أخرى تتمثل في التعبير عن مشقة العمل، ولعل الناظر إلى هذه اللوحة يمكنه أن يقرأ معالم التعب والإرهاق وربما الكآبة أيضًا من خلال اللون الأصفر الطاغي على كل جزء من أجزاء اللوحة.

ومن المهن الأخرى التي أعاد ضياء عزيز تمثيلها، مهنة بيع المياه بعد تنقيتها من الأملاح. كانت هذه المهنة شائعة في مدينة جدة في مكان يُطلق عليه اسم «البازان»، الذي هو عبارة عن «شبكة مياه بها مواسير تسمى أشياب يتدفق منها الماء لتعبئة برميل حديدي مشبوك بعجلتين وحمار». وكان لهذه المهنة أثرها الاجتماعي في سكان المناطق المحيطة، حيث كانوا يألفون المكان والعمال الذي يعملون فيه. وتُظهر لوحة «البازان» 1991م، عددًا من العمال وهم يحملون «تنكات» أو أوعية كبيرة لوضع الماء فيها، واللافت فيها انتشار اللون الرمادي في أجزاء اللوحة كلها، ذلك اللون الذي يرمز إلى المشقة والتعب.

يتحدث الكاتب محمد الهتار عن اجتماعية هذه المهنة من خلال العلاقة الودية بين العاملين وسكان البيوت القريبة. ومن المشاهد التي يوردها الهتار في مقاله «البازان تاريخ يحكي قصة جدة» المنشور في صحيفة عكاظ، عندما كانوا يجلسون أمام جدار مظلل بأشعة الشمس، مستمتعين بأحمال بائعي الماء وبرؤية الحمير التي يحملون عليها تنكات الماء الكبيرة. كما أن الكثير من الناس الذي يأتون إلى البازان لشراء الماء، يأتون باكرًا ويجلسون في ظلال السقائف الموجودة هناك، يحضرون طعامهم ويتناولنه مع السقائين. وفي هذه المرويات طابع تصويري اجتماعية لهذه المهنة التي انقرضت إلى الأبد؛ بسبب التطور والتكنولوجيا التي جلبت بدورها محطات تنقية معاصرة.

إضافة إلى ذلك صوّر ضياء عزيز ضياء البائعين المتجولين في مدن مختلفة من السعودية، ومن هؤلاء: بائع الذرة، وبائع البطيخ (الحبحب)، وبائع الرمان، والبليلة، واللبن.. وغيرها. ويأتي هذا التصوير جزءًا من التكوين الفني الجمالي للمجتمع، فطبيعة البيع تدلل على طبيعة المستهلكين، أي أفراد المجتمع، ويظهر البائعون بلباسهم التقليدي وابتسامتهم المعبّرة عن رضى داخلي للأعمال التي يقومون بها.

التعبير عن سلوكيات أفراد المجتمع

عمد ضياء عزيز ضياء إلى تمثيل المجتمع من خلال إعادة تصوير الحياة اليومية التي كان يمارسها أبناء المجتمع الذين يعيشون في ثقافات وعادات وتقاليد مختلفة. فكل بيئة تختلف عن الأخرى حتى لو كانت في الدولة الواحدة نفسها؛ موظفًا بذلك ما أطلق عليه نيلسون غودمان «الواقعية النسبية»، التي يجري «تحديدها بواسطة التمثيل العادي لثقافة أو شخص معين في لحظة معينة». وتتمثل تلك الواقعية في تمثيل الألعاب التي كان يمارسها الأطفال والكبار، وتوصيف حال بعض الأشخاص، والدخول إلى عالمهم والتعريف بهم وكأنهم صورة مثالية يمكن الاعتماد عليها في معرفة الصورة العامة للمجتمع كله.

ولوحة «لعبة البِرْبِرْ» من اللوحات المعبّرة عن ممارسات أفراد المجتمع اليومية. تصور هذه اللوحة إحدى الألعاب الشعبية المشهورة في السعودية وفي غيرها من البلدان العربية، باختلاف اسم اللعبة من دولة إلى أخرى. واسم البِرْبِرْ (بكسر الباء وتسكين الراء) شائع في المناطق الغربية من المملكة، وهي من الألعاب القديمة التي تثير المتعة والتسلية في نفوس الأطفال. تتألف اللوحة من ستة أطفال: واحد منهم يلعب والآخرون يلتفتون إليه، بالإضافة إلى وجود امرأة تنظر إليهم من نافذة بيتها العلوية.

اللافت في اللوحة الاهتمام بالمكونين الزماني والمكاني للتعبير عن طقوس هذه اللعبة؛ فالمتعارف عليه أن مكان اللعب يكون أمام البيوت التي تكون ساحاتها -عادة- واسعة، حيث يمكن للأطفال أن يخطوا المربعات بسهولة، وحيث تتاح لهم الحركة والتجمع. ويظهر هذا جليًّا في لوحة لعبة البِرْبِرْ، أما زمن اللعب فيكون بعد العصر وقبل الغروب. ويظهر ذلك في انعكاس اللون الأصفر على الأجزاء الرئيسة من اللوحة، ولا سيما تلك التي تُظهر الطفل الذي يلعب والأطفال المحيطين به ينظرون إليه، وكأن هذا اللون صورة مماثلة لانعكاس أشعة الشمس قبل الغروب.

ومن الألعاب الشعبية الأخرى التي أعاد ضياء عزيز ضياء تصويرها، لعبة «الكبوش» في لوحة تحمل اسم اللعبة نفسها. وتعد لعبة الكبوش من الألعاب الشعبية التقليدية القديمة في السعودية، حتى إن أصولها يعود إلى العصر الجاهلي -كما يرى بعض الباحثين- وقد تحدث عنها الشاعر المعروف أبو نواس في قصيدة عنوانها: «جهد أيما جهد»، التي أقسم من خلالها بالسلوكيات التي يحبّها بأنه مخلص في مدح الوالي، على الرغم من الجهد والتعب الذي يتكبده، ومن تلك السلوكيات، ممارسة لعبة الكبوش، يقول: «حلفتُ اليوم بالطنبور والكعبين، والنرد»(١).

وتعرف لعبة الكبوش أيضًا باسم «الكعّابة»، وهو الاسم الذي ورد في إحدى الأمثال الشعبية السعودية: «القلب في القلب ولو في الكعّابة». وهذه اللعبة «عبارة عن عظمة صغيرة حجمها حوالي 2سم، تكون في عرقوب الأغنام بمثابة المفصل، فعند ذبحها يأخذ الأطفال من أرجلها «الكبوش» ويقومون بتنظيفها مما لصق بها من اللحم والدّهن، ثم يحكّون سحطها على الحجر حتى يصبح ناعمًا، ويجتمعون للعب بها في أرض ترابية. يضعون كل كبش بجانب كبش آخر حتى يكون عدد الكبوش نحو عشرين أو ثلاثين، وكلها في صف واحد مستقيم، ثم يحيطون هذا الصف بدائرة من التراب، ويكون عدد اللاعبين اثنين أو ثلاثة أو أكثر. وبعد ذلك يبدؤون باللعب، وذلك بالابتعاد عن الدائرة بنحو ثلاثة أمتار أو أربعة، ويكون كل طفل ممسكًا بيده كبشًا آخر نظيفًا، ثم يصوّب الطفل الذي تم اختياره بالضرب أولًا «البرس» نحو الكبوش المرصوصة داخل الدائرة، فإن أخرجت الضربة كبشًا منها عن الدائرة، أخذها، وعدّ ذلك مكسبًا له. ويقول عندئذ: «شيت كبت»، ثم يعاد بعد ذلك رص الباقي، وكلما خرج كبش عن الدائرة أخذها، وإن لم يستطع إخراج أي كبش تنحى عن اللعب ليأتي بعد ذلك طفال آخر.. وهكذا. وهذا اللعب بالكبوش اندثر، وحل مكانه لعبة تشبه «البرجوان» في الوقت الحالي»(٢).

جاءت لوحة «لعبة الكبوش» صورة مرئية لتعبر عن هذه اللعبة التراثية، التي تُعَدّ حافزة للذاكرة الجمعية في تخيل هذه اللعبة وكيفية القيام بها، وكأن كاتب المقال الذي شرح هذه اللعبة معتمدًا على هذه اللوحة في توضيح تفاصيلها. بمعنى، أن ضياء عزيز ضياء نجح في «تمثيل اللعبة» بدقة عالية في شكلها وهيئة اللاعبين فيها، فنلحظ الدائرة المحفورة والكباش الموجودة داخلها، إضافة إلى التعبير عن هيئة الأطفال، ووصف حالهم في أثناء الفوز، من خلال رسم ابتسامات على وجوههم، وحركة أجسادهم. وهي السمة الشائعة في شخصيات ضياء عزيز ضياء، عدا تكراره للونين المتلازمين في معظم لوحاته: اللون الأصفر والرمادي، اللذان -كما أرى- يعكسان البعد الزمني والمكاني داخل اللوحة، كما ذكرت سابقًا.


هوامش:

(١) ابن هانئ، الحسن. ديوان أبي نواس. بيروت: دار صادر. د.ت. ص215.

(٢) المستادي، ريهام. لعبة الكبوش. السعودية: صحيفة المدينة. السبت، 13-7-2013م.