كالأطفال في أعياد ميلادهم

كالأطفال في أعياد ميلادهم

البارحة بعد الظهيرة داسَتْ حافلة الساعة السادسة الآنسة بوبيت. لا أعرف ماذا أقول؛ في النهاية، كانت فقط في العاشرة من عمرها، ومع ذلك لن ينساها أحدٌ ممن أعرفهم في تلك البلدة؛ لسبب واحد، فهي، ومنذ أول مرة رأيناها، لم تقم قط بأي فعل اعتيادي. وكان ذلك منذ عام مضى. وصلت الآنسة بوبيت وأمها في حافلة الساعة السادسة نفسها، التي تأتي من مدينة موبيل. وقد تصادف أنه كان عيد ميلاد بيلي بوب ابن خالي، ومعظم أطفال البلدة حاضرون هنا في منزلنا. كنا جالسين على العتبة الأمامية نتناول الآيس كريم بقطع الفواكه وكعك الشكولاتة عندما اقتحمت الحافلة منعطف ديدمان. كان ذلك الصيف الذي لم تمطر فيه قط؛ وقد اصطبغ كل شيء بجفاف صدئ؛ وحين تمرّ سيارة على الطريق كان الغبار الذي تثيره يبقى عالقًا في الهواء راكدًا لساعة أو أكثر. قالت الخالة «إل»: إنّهم إن لم يقوموا برصف الطريق السريع في القريب فستنتقل إلى ساحل البحر بالجنوب؛ لكنها ظلت تقول ذلك لمدة طويلة. على كل حال، كنا جالسين فوق العتبة، يذوب الآيس كريم فوق أطباقنا، نتمنى فقط لو يحدث أي شيء، وقد حدث بالفعل؛ إذ ظهرت الآنسة بوبيت من خلال تراب الطريق الأحمر. فتاة صغيرة نحيلة في ثوب احتفالي مُنشى ليموني اللون، قادمة في ثقة وخيلاء الكِبار، بيد على وسطها، والأخرى تمسك بمظلّة تليق بعانس. تبعتها أمها في الخلفية وهي تجرّ حقيبتي سفر وغرامافون قديمًا. كانت امرأة نحيلة شعثاء بعينين صامتتين وابتسامة مشجعة.

تجمّد كل الأطفال على العتبة، حتى إن الفتيات لم يطلقن صرختهن المعتادة عندما بدأ سرب من الزنابير في الطنين. ظل انتباههن كلهن مشدودًا لاقتراب الآنسة بوبيت وأمها، وقد وصلتا إلى البوابة حينها. «أستميحكم عذرَا!» هتفت الآنسة بوبيت بصوت بدا ناعمًا وطفوليًّا لحظتها، كقطعة جميلة من الساتان، مضبوط النبرة كصوت نجمة سينمائية أو معلّمة مدرسة، «أيمكننا التحدث مع الكبار في هذا المنزل؟» هذا بالطبع يعني الخالة إل وبشكل ما أنا. بيلي بوب وباقي الأولاد، لم يكن بينهم من تجاوز الثالثة عشرة، تبعونا عبر الباب. كنت لتقول مما بدا على وجوههم إنّهم لم يروا فتاةً من قبل. بالتأكيد ليست كالآنسة بوبيت. فكما قالت الخالة إل: «ومن سمع من قبل عن فتاة تضع المكياج؟» أضفى أحمر الشفاه على شفتيها لمعةً برتقالية، وكان شعرها كتلة من تموجات صهباء، وعيناها مزججتان بقلم الكحل بخبرة؛ حتى وإن كان وقارها ضعيفًا، فقد كانت «ليدي»، والأكثر من ذلك، أنها تنظر في عينيك بجرأة رجل. «أنا الآنسة ليلي جين بوبيت، الآنسة بوبيت من ممفيس، تينيسي»، قالت بثقة. نظر الأولاد في الأرض، وعلى العتبة، أطلقت كورا مكال، التي كان بيلي بوب يغازلها حينها، عاصفة قهقهات بين الفتيات. «قالت الآنسة بوبيت بابتسامة متفهّمة: «أطفال الريف» ولفّت مظلتها بطريقة لعوب. «أمي» وهزت تلك المرأة البسيطة رأسها لتعرّف نفسها، «لقد حجزنا أنا وأمي غرفتين هنا. هل تكرمتم بإرشادنا للمنزل؟ إنه ملك للسيدة سوير». طبعًا، قالت الخالة إل، هذا منزلها، عبر الشارع. هو النُّزُل الوحيد في المحيط، مكان عال مُعتم وقديم، بحوالي دستتين من موانع الصواعق على سطحه. فالسيدة سوير تموت خوفًا في أثناء العواصف الرعدية.

قال بيلي بوب، وقد احمر وجهه كتفاحة، أرجوك سيدتي، اليوم حار، ألا يستريحان قليلًا ويتناولان بعض آيس كريم الفواكه؟ وقالت الخالة إل نعم، على الرحب والسعة، لكن الآنسة بوبيت هزت رأسها رافضة. «هذا الآيس كريم شديد الدسامة، لكن «ميرسي» لكرمك». ثم أخذتا في عبور الشارع، كانت الأم تقريبًا تجرجر الحقائب في التراب. وبعد ذلك، وبتعبير صادق، التفتت الآنسة بوبيت؛ وقد خفت لون عينها الناصع وأدارت حدقتيها في المحجرين كمن يحاول تذكر أمر ما: «تُعاني أمي اضطرابًا في لسانها، فمن الضروري أن أتكلم نيابة عنها»، صرّحت بذلك بسرعة ثم أفلتت تنهيدةً. «أمي خياطة شديدة الكفاءة؛ كانت تحيك الثياب لسيدات المجتمع في كثير من المدن والبلدات، من ضمنها ممفيس وتالاهاسي. لقد لاحظتم الثوب الذي أرتديه وأعجبكم بلا شك. حاكت يد أمي كل غرزة به. تستطيع أمي تقليد أي تصميم، وفازت مؤخرًا بجائزة قيمتها خمسة وعشرون دولارًا من «ليديز هوم جورنال». تقوم أمي أيضًا بالحبك والرتق والتطريز. إن أردتم القيام بأي نوع من الخياطة، أرجوكم تعالوا إلى أمي. وأرجو أن تخبروا أصدقاءَكم وعائلاتكم. شكرًا». ثم غادرت مصحوبة بحفيف وهسهسة.

شدّت كورا مكال والفتيات شرائط شعورهن بعصبية وشك، وبدَون مضطربات وعابسات. أنا الآنسة بوبيت، قالت كورا وهي تلوي وجهها في تقليد شرير، وأنا الأميرة إليزابيث، هذا من أكون، ها ها ها. علاوة على ذلك، قالت كورا، هذا الفستان مبتذل لأقصى حد؛ كل ملابسي تأتي من أطلانطا؛ بالإضافة إلى زوج من الأحذية من نيويورك، ولا داعي لذكر خاتمي الفضي الفيروزي المُبتاع من العاصمة المكسيكية. قالت الخالة إل: إنهن يجب ألّا يتصرَّفن بهذا الشكل حيال طفلة مثلهن وغريبة في البلدة، لكن الفتيات واصلن مثل عُصبة من الساحرات، وشاركهن الأولاد السخيفين الذين يحبون التقرب من الفتيات، فقالوا أشياء جعلت لون الخالة إل يتحول إلى الأحمر، وصرَّحت بأنها سترسلهم جميعًا إلى منازلهم وتخبر آباءهم ليركلوهم. لكن قبل أن تكمل تهديدها تدخّلت الآنسة بوبيت بنفسها، إذ أخذت تتمشى على عتبة بيت آل سوير في ثوب جديد مذهل.

الأولاد الأكبر سنًّا، مثل بيلي بوب وبريتشر ستار، الذين بقوا صامتين بينما تذمّ الفتيات في الآنسة بوبيت، وقد كانوا يرقبون البيت الذي اختفت بداخله بوجوه غائمة شديدة التوق، قاموا الآن وترجّلوا نحو البوابة. تنشقت كورا مكال ومددت شفتها السفلى، وذهب بقيتنا وجلسوا على درجات المدخل. لم تعرنا الآنسة بوبيت أي اهتمام. حديقة آل سوير مظللة بشجر التوت مزروعة بالنجيل وشجيرات زهر الأفروديت. كنت تستطيع أحيانًا، بعد المطر، أن تشم رائحة الأفروديت تعبر إلى منزلنا؛ في وسط الحديقة ثمة ساعة شمسية أقامتها السيدة سوير عام ١٩١٢م كنصب تذكاري لكلبها صني من فصيلة بوسطن بول الذي نفق بعد أن احتسى دلوًا من الطلاء. مشت الآنسة بوبيت إلى الحديقة في دلال حاملة مشغّل الأسطوانات، ووضعته على النصب؛ أدارت الزنبرك ثم شغلت أسطوانة، أسطوانة أوبريت الكونت دي لوكسمبورغ. كان الليل آخذًا في الهبوط، ساعة اليراعات، زرقاء في صفاء الحليب؛ وعصافير كالسهام انقضت معا واجتاحت أجمات الشجر. قبل العواصف، تبدو أوراق الشجر والزهور ساطعة بنور استثنائي، ونهضت الآنسة بوبيت في تنورة بيضاء في لون الطحين وشرائط مقصبة بخيوط ذهبية تربط شعرها، وبدت على خلفية العتمة التي تلف المكان كأنها تعكس تلك الطبيعة المضيئة. قوست ذراعيها فوق رأسها، وتدلى كفاها، ووقفت مستقيمة على أطراف أصابعها. وقفت كذلك لمدة طويلة، وقالت الخالة إل: إن ذلك براعة منها. ثم بدأت ترقص الفالس، وأخذت تدور وتدور، وواصلت الدوران حتى قالت الخالة إل: إنها أصيبت بالدوار من المشهد. تتوقف فقط عندما يجيء وقت إعادة لف زمبرك الغرامافون؛ وبعد أن هبط القمر وراء التلال، وسمع دوي الجرس الأخير ينادي للعشاء، وذهب كل الأطفال إلى منازلهم، وبدأ السوسن في التفتح، ظّلت الآنسة بوبيت هناك
في الظلام تدور مثل نحلة.

لم نرها ثانية لمدة. وكان بريتشر ستار يأتي إلى منزلنا كل صباح ويبقى رأسًا حتى موعد العشاء. بريتشر فتى نحيل كالعصا بكتلة شعر أحمر كث ذكورية؛ لديه أحد عشر شقيقًا وشقيقة، حتى هم يخافونه، فله غضبات رهيبة، ومشهور في تلك المناطق بالغل: في عيد الاستقلال الأخير ضرب أولي أوفرتون بعنف شديد حتى إن عائلة أولي اضطُرَّت إلى إدخاله المستشفى في بنساكولا؛ ومرة أخرى قضم أذن أحد البغال ومضغها ثم بصقها على الأرض. وحين كان بيلي بوب لا يزال أقصر منه، داوم بريتشر على التنمر عليه. فكان يضع نباتات شائكة حول ياقة قميصه، ويفرك الفلفل في عينيه، ويقطِّع ما أنجزه من واجبات مدرسية. لكنهما الآن أعز صديقين في البلدة: يتحدثان بالطريقة نفسها، يسيران بالطريقة نفسها، وأحيانًا يختفيان معًا لأيام، لا يعرف مكانهما سوى الرب. لكن في أثناء تلك الأيام التي لم تظهر بها الآنسة بوبيت استقرا قريبًا من المنزل. يقفان في الحديقة الأمامية يفتعلان اصطياد العصافير فوق أعمدة التليفون بالنبال؛ أو يعزف بيلي بوب على قيثارته أحيانًا ويغنيان بصوت عال لدرجة أن الخال بيلي بوب الكبير، الذي كان قاضي هذه المقاطعة، ادعى أنه يسمعهما من المحكمة: «ابعث لي رسالة، ابعثها بالبريد، ابعثها على عنواني بسجن برمنغهام». لم تسمعهما الآنسة بوبيت؛ على الأقل لم تطلّ برأسها خارج الباب. ثم ذات يوم، جاءت السيدة سوير لتستلف قدحًا من السكر، وثرثرت كثيرًا عن نزلائها الجدد. أتعلمين، قالت وهي تحدق بعينيها اللتين تشبهان عيون الدجاج، الزوج كان مُحتالًا، آه، أبلغتني الطفلة بنفسها. وهي لا تشعر بأي عار، ولا مثقال ذَرّة. قالت: إن والدها كان أعزّ أب وأجمل مطرب في تينيسي كلها… فقلت: حبيبتي، أين هو؟ وبتلقائية شديدة قالت: آه، إنه في السجن ولم تعد تصلنا أخباره. ألا يشعرك هذا بالرعب؟ آه، كنت أفكر، أمها، تبدو كأجنبية نوعًا ما: لا تنطق بكلمة، وأحيانًا تبدو كأنها لا تفهم ما يقال لها. وتعلمين، تأكلان كل شيء نِيء. بيض نِيء، لفت نِيء، جزر- لا لحوم إطلاقًا. لأسباب صحية، تقول الطفلة، ولكنها راقدة في الفراش تعاني الحمى منذ الثلاثاء الماضي.

تلك الظهيرة ذاتها خرجت الخالة إل لتسقي ورودها، فقط لتكتشف أنها اختفت. كانت ورودًا مميزة، زرعتها لترسلها إلى معرض الزهور في موبيل، فبطبيعة الحال أصابها القليل من الهيستريا. اتصلت بمأمور الشرطة وقالت: اسمعني يا مأمور، تعال إلى هنا سريعًا. أحدهم أخذ كلّ زهور الليدي آن التي كرست لها قلبي وروحي منذ بداية الربيع. عندما وقفت سيارة الشريف خارج منزلنا، خرج كل الجيران إلى عتباتهم، وهرولت السيدة سوير، بطبقات من الكريم المرطب قد بيضت وجهها، عبر الشارع. وهتفت «سحقًا»، محبطةً بشدة لاكتشافها أنه لم تكن هناك جريمة قتل، سحقًا، قالت: لم يسرق أحد ورودك. جلبها بيلي بوب وتركها لبوبيت الصغيرة. لم تنطق الخالة إل بكلمة. فقط أخذت بعض الخطوات تجاه شجرة الخوخ، واقتطعت لنفسها فرعًا خشبيًّا. أوووه، بيلي بوب، وخرجت لتلاحقه في الشارع منادية باسمه. وجدته عند جراج سبيدي حيث كان هو وبريتشر يشاهدانه وهو يفكك أحد المحركات. ببساطة جذبته من شعره، وسحبته إلى البيت وهي تصب جام غضبها عليه. لكنها لم تستطع أن تجبره على الاعتذار ولم تجعله يبكي. وعندما أفلتته جرى إلى الحديقة الخلفية وتسلق شجرة البقن الباسقة، وأقسم أنه لن ينزل أبدًا. وبعد ذلك وقف أبوه بالنافذة ونادى عليه: يا ولدي، لسنا غاضبين منك، فانزل وكل عشاءك. لكن بيلي لم يتزحزح. ذهبت الخالة إل وجثت أمام الشجرة. حدثته بصوت في رقة الضوء. أنا آسفة يا ولدي، قالت: لم أقصد ضربك بهذه القسوة. لقد أعددت عشاءً طيبًا: سلطة بطاطس ولحم فخذ الخنزير المطهو وبيضًا محشوًّا. اذهبي عني، قال بيلي بوب، لا أريد أي عشاء، أنا أكرهك لأبعد الحدود. أخبره والده أنه لا يجب أن يتحدث بهذا الأسلوب مع أمه، وبدأت هي في البكاء. وقفت هناك تحت الشجرة وبكت، رافعة حاشية ثوبها لتمسح دموعها: أنا لا أكرهك يا بني… لو لم أكن أحبك لما ضربتك. بدأت أوراق البقن في الحفيف؛ انزلق بيلي بوب نازلًا، جذبته إليها الخالة إل وهي تمرر أصابعها بين شعره سريعًا. آه يا أمي، قال، آه يا أمي.

بعد العشاء أتي بيلي بوب وطرح نفسه عند نهاية سريري. كانت رائحته حلوة ومرة، كرائحة كلّ الصبية، وشعرت بالأسف له، خصوصًا لأنه بدا قلقًا جدًّا. عيناه مهمومتان شبه مغمضتين. قال بورع: «من الواجب أن نرسل الزهور إلى المرضى». عندها سمعنا صوت الغرامافون، صوت غناء بعيد، وحلقت فراشة ليلية عبر النافذة انسابت في الهواء في رقة الموسيقا. لكن الأجواء كانت مظلمة آنذاك، ولم نستطع تحديد إن كانت الآنسة بوبيت ترقص. تلوى بيلي بوب كأنه يتألم، وانطوى على نفسه فوق الفراش مثل المطواة، لكن فجأةً صار وجهه صافيًا، تلألأت عيناه الصبيانية الحقيرة كضوء الشموع. وهمس: إنها حلوة جدًّا، أجمل شيطانة رأيتها بحياتي، إلهي، فليذهب كل شيء إلى الجحيم، أنا لا أبالي، سأجمع كل الورود ولو من الصين.

كان بريتشر أيضًا ليجمع كل الورود من الصين. كان مجنونًا بها مثل بيلي بوب. لكن الآنسة بوبيت لم تعرهما انتباهًا. الاتصال الوحيد الذي جرى معها كانت رسالة إلى الخالة إل تشكرها بها على الزهور. يومًا بعد يوم، أخذت تجلس على عتبتها، ترتدي دومًا لتكن الأجمل، تمارس بعض التطريز، أو تمشط خصلات شعرها، أو تقرأ في قاموس ويبستر- في هيئة رسمية، لكن بمودة كافية؛ إن قلت لها: «يوم سعيد» قالت لك: «يوم سعيد». ومع ذلك، لم يقدر الأولاد قط على استجماع شجاعتهم للذهاب والحديث معها، وفي معظم الأحيان تتجاوزهم بنظراتها، حتى عندما يستعرضون ذكورتهم في الشارع في محاولة لجذب أنظارها. تصارعوا، لعبوا دور طرزان، قاموا بحيل غبية بالدراجات. كان أمرًا بائسًا. يتجول عدد كبير من فتيات البلدة بالقرب من منزل سوير مرتين وثلاثًا في ساعة واحدة فقط لاحتمال اختلاس نظرة. بعض الفتيات اللاتي فعلن ذلك كن: كورا مكال، ماري مرفي جونز، جانيس أكرمان. كذلك لم تُبْدِ الآنسة بوبيت لهن أي اهتمام. لم تعد كورا لتتحدث مع بيلي بوب وقتها. كذلك الأمر بين جانيس وبريتشر. في الواقع، كتبت جانيس رسالة إلى بريتشر بحبر أحمر على ورق مزخرف الحواف أخبرته بها أنه حقير بشكل يتجاوز كل البشر وكل الكلمات، وأنها اعتبرت ارتباطهما منتهيًا، وأن بإمكانه استرجاع دمية السنجاب التي أعطاها إياها. وقال بريتشر: إنه يريد أن يتصرف بلطف فأوقفها بعدها عندما عبرت أمام منزلنا، وقال، حسنًا، يمكنها أن تحتفظ بهذا السنجاب القديم إن أرادت. بعدها، لم يفهم لماذا جرت جانيس وهي تصرخ بهذا الشكل.

ثم ذات يوم كان الأولاد أكثر جنونًا من المعتاد؛ كان بيلي بوب مترهلًا في زي الحرب العالمية الأولى لأبيه، وبريتشر، عاريًا حتى خصره، وقد رسم على صدره امرأة عارية تمامًا بأحمر شفاه الخالة إل القديم. بديا كمعتوهين، لكن الآنسة بوبيت، معتلية الأرجوحة بالكاد تثاءبت. كانت الظهيرة، ولم يكن هناك أحد يمرّ بالشارع، عدا فتاة ملونة، بجسم طفولي ممتلئ في استدارة وعاء السكر سارت تدندن حاملة سطل من التوت. لكن الولدين تكالبا عليها كالهاموش، وشبكا أيديهما ولم يسمحا بمرورها، ليس قبل أن تدفع الرسوم. «لا أعلم تلك الرسوم»، قالت، عن أي رسوم تتحدث، سيدي؟ حفل في الجرن، قالت بريتشر وهو يجز على أسنانه، حفل هائل لطيف في الجرن. وهي، رفعت كتفيها عابسة وقالت، هه، إنها لا «تعلم» أية حفلات في الجرن. وعندها قلب بيلي بوب سطل التوت، وعندما انحنت، بصراخ يائس يشبه صراخ الخنزير، في حركة عقيمة لإنقاذه، ركل بريتشر، الذي يمكن أن يكون في وضاعة إبليس، مؤخرتها ركلة أوقعتها مترجرجة كالهلام منبطحةً بين التوت والتراب. عبرت الآنسة بوبيت الشارع متحفزة، تحرك إصبعها مثل البندول؛ قالت وهي تصفق بيديها وتضرب بقدمها الأرض مثل معلمة: «من الحقائق المعروفة أن الرجال المهذبين خلقوا على وجه الأرض لحماية السيدات. أتتصوران أن الأولاد يسلكون بهذا الشكل في مدن كممفيس، نيويورك، لندن، هوليود أو باريس؟» وقف الأولاد دون رد ووضعوا أيديهم في جيوبهم. ساعدت الآنسة بوبيت الفتاة الملونة على الوقوف؛ نفضت عنها التراب، وجففت عينيها، أعطتها منديلًا ونصحتها بالتمخّط. «حدث جميل»، قالت، «موقف رائع حين لا تقدر سيدة على السير بأمان بين الناس وفي وضح النهار».

وبعد ذلك رجعت كلتاهما للجلوس على عتبة السيدة سوير؛ ولعام أتى لم تفترقا، الآنسة بوبيت وتلك الفيلة الرضيعة، التي كان اسمها روزالبا كات. في البداية، أثارت السيدة سوير بعض الجلبة حول وجود روزالبا في منزلها كثيرًا. أخبرت الخالة إل أنه أمر غير طبيعي أن تكون هناك تلك اللطعة الزنجية المتراخية على عتبتها الأمامية على مرأى من الجميع. لكن الآنسة بوبيت كان لها سحر خاص، فأي شيء تفعله تفعله باكتمال، وبمباشرة وإخلاص شديدين، بحيث لا يمكنك إلا أن تقبله. على سبيل المثال، كان أصحاب المتاجر يختلسون الضحك وهم يدعونها الآنسة بوبيت؛ شيئًا فشيئًا صارت الآنسة بوبيت فعلًا، وقاموا يحيونها بانحناءة متيبسة بينما هي تجول في الجوار تطوح مظلتها. أخبرت الآنسة بوبيت الجميع أن روزالبا أختها، مما أثار كثيرًا من النكات؛ لكن مثل معظم أفكارها، بدا تدريجيًّا أنه أمر طبيعي، وعندما نسمعهما تناديان بعضهما بأختي روزالبا وأختي بوبيت لم نعد للابتسام. لكن الأخت روزالبا والأخت بوبيت قامتا ببعض الأمور الشاذة. كانت هناك مسألة تتعلق بالكلاب. فبما أنه هناك كمية عظيمة من الكلاب بهذه البلدة، فصيلة الرات تريير، البيرد دوغز، البلادهاوندز؛ تتسكع بطول الشوارع المقفرة في الظهيرة القائظة في قطعان ناعسة من ستة إلى اثني عشر كلبًا. تنتظر جميعها الظلام والقمر، وعندما تسمع عواءها خلال الساعات الموحشة تفكر مباشرةً: شخص ما يحتضر، شخص ما قد مات. اشتكت الآنسة بوبيت للمأمور؛ قالت: إن بعض الكلاب تستقر دومًا أسفل نافذتها، وهي نومها خفيف قبل أي شيء؛ الأدهى من ذلك، وكما قالت الأخت روزالبا، فإنها لا تعتقد أنها كلاب بالمرة، لكنها نوع من الشياطين. لم يفعل الشريف شيئًا بطبيعة الحال؛ فأمسكت هي بزمام الأمور. ذات صباح، بعد ليلة ذات ضوضاء فريدة، رُئِيَتْ تتجول ماسحةً البلدة بجانبها الأخت روزالبا، تحمل روزالبا سلة زهور مليئة بالحجارة؛ كلما شاهدتا كلبًا توقفتا فتتفحصه الآنسة بوبيت. أحيانًا تهزّ رأسها نافية، لكن في الأغلب تقول: نعم، نعم، هذا واحد منهم، أختي روزالبا، فتأخذ الأخت روزالبا حجرًا من سلتها، وتصوب باستهداف شرس بين عيني الكلب.

حدث شيء آخر يخص السيد هندرسن. للسيد هندرسن غرفة خلفية بمنزل آل سوير؛ وهو رجل خشن قصير القامة، كان يعمل منقبًا عن النفط بشكل فردي في أوكلاهوما، في نحو السبعين من عمره، ككثير من الرجال المسنين، كان مهووسًا بوظائف الجسد. هو أيضًا سكير رهيب. وذات مرة ظل مخمورًا طوال أسبوعين؛ كلما سمع الآنسة بوبيت والأخت روزالبا تتحركان بالمنزل كان يخرج في بسطة الدرج العلوية ويجأر للسيدة سوير بالأسفل أن هناك أشباحًا في الجدران تحاول سرقة مخزونه من ورق المراحيض. قال، لقد سرقوا بالفعل ما تساوي قيمته خمسة عشر سنتًا. في ليلة، عندما كانت الفتاتان جالستين تحت شجرة في الفناء، خرج السيد هندرسن، لا يرتدي شيئًا سوى قميص نومه، متهجمًا عليهما. تنويان سرقة كل ورق المراحيض مني؟ صاحَ، سأريكم أيها الأقزام… لينجدني أحد، وإلا سرقت هاتان العاهرتان القزمتان كلَّ ورقة في البلدة. كانا بيلي بوب وبريتشر هما من أمسك بالسيد هندرسن وقبضا عليه حتى وصل بعض الرجال الكبار وبدؤوا في تقييده. أخبرت الآنسة بوبيت، التي تصرفت بهدوء يدعو للإعجاب، الرجال أنهم لا يعرفون كيف يربطون عقدة متينة، وتولت هي الأمر. قامت بعمل ممتاز حتى إن كل لفات الحبل كانت تنتهي عند يدي السيد هندرسن وقدميه، ومضى شهر قبل أن يقدر على السير مرة أخرى.

كان بعد ذلك بمدة وجيزة عندما زارتنا الآنسة بوبيت. جاءت يوم الأحد وكنت هناك وحدي، بما أن العائلة ذهبت إلى كنيسة. «روائح الكنيسة كريهة جدًّا»، قالت منحنية للأمام ويداها مطويتان بأناقة أمامها. «لا أريدك أن تظن أني وثنية يا سيد ك؛ لقد اكتسبت من الخبرة ما جعلني أعرف أن هناك إلهًا وأن هناك شيطانًا. لكن طريقة ترويض الشيطان ليست بالذهاب إلى الكنيسة وسماع كيف هو مذنب شرير وأحمق. لا، أحب الشيطان كما تُحب يسوع: لأنه رجل ذو قوى، وسيرد لك الجميل إن أدرك أنك تثق فيه. لقد ردّ لي الجميل في كثير من الأحيان، في مدرسة الرقص في ممفيس مثلًا… دائمًا كنت أدعو الشيطان ليساعدني في الحصول على دور البطولة في عرضنا السنوي. هذا منطقي؛ أترى، أنا أعلم أن ليس ليسوع دخل بالرقص. في الحقيقة، لقد دعوت الشيطان مؤخرًا. هو الوحيد الذي يستطيع مساعدتي في الخروج من هذه البلدة. أنا لا أعيش هنا بالضبط. أفكر دومًا في مكان آخر، مكان آخر حيث كل شيء يرقص، الناس يرقصون في الشوارع، وكل شيء فاتن، مثل الأطفال في أعياد ميلادهم. كان أبي الغالي يقول: إنه يعيش في السماء، لكن إن كان عاش بالسماء أكثر من ذلك لصار غنيًّا كما أراد. مشكلة أبي أنه لم يحب الشيطان، ترك الشيطان يحبه. لكني ذكي جدًّا في هذا الصدد؛ أعلم أن ثاني أفضل شيء هو في كثير من الأحيان الأفضل. كان ثاني أفضل شيء لنا هو أن نأتي إلى تلك البلدة؛ وبما أني لا أستطيع أن أبحث عن مشواري المهني هنا، فإن ثاني أفضل شيء لي هو أن أبدأ تجارة صغيرة بالتوازي. وهو ما قد فعلت. أنا الوحيدة في هذه المقاطعة المسجَّلة كوكيل لقائمة مبهرة من المجلات، تضم «ريدرز ديجيست»، و«الميكانيكا للجميع»، و«قصص بوليسية» و«حياة طفل». ولتطمئن يا سيد ك، لست هنا لأبيع لك أي شيء. لكن لديَّ فكرة. كنت أفكر بهذين الولدين اللذين يتسكعان هنا دائمًا، خطر إلى ذهني أنهما رجال بنهاية المطاف. أتظنهما يصلحان كزوج من المساعدين؟

عمل بيلي بوب وبريتشر بدأب للآنسة بوبيت، وأيضًا للأخت روزالبا. تولت الأخت روزالبا طقمًا من مستحضرات التجميل اسمه ديودروب، وكان من ضمن مهام الصبيين أن يوصلا المشتريات إلى الزبائن. صار بيلي بوب يرجع منهكًا في المساء حتى إنه أمسى يمضغ عشاءه بصعوبة. قالت الخالة إل: إن هذه فضيحة مخجلة، وفي النهاية عندما عاد بيلي بوب ذات يوم ببوادر ضربة شمس قالت، حسنًا، هذه النهاية، سيتوجب على بيلي بوب اعتزال الآنسة بوبيت. لكن بيلي بوب عاندها حتى اضطر أبوه إلى حبسه في غرفته، حينها قال: إنه سيقتل نفسه. كنا قد حذرناه ذات مرة في أثناء الطهو أنه إنْ أكل كميةً من الكرنب الغارق في دبس السكر فسيموت حتمًا مثل من أصابته طلقات الرصاص؛ وكان هذا ما فعله. أنا أموت، قال متلويًا للخلف ثم للأمام على سريره، أموت ولا أحد يبالي.

حضرت الآنسة بوبيت وقالت له أن يصمت. «ليس بك أي سوء يا فتى»، قالت. «أنت تعاني مغصًا، ليس إلا». ثم قامت بشيء صدم الخالة إل كثيرًا: كشفت الغطاء عن بيلي بوب ودلكته بالكحول بطول جسمه من رأسه حتى أخمص قدميه. عندما أخبرتها الخالة إل أنها لا تعتقد أن من اللائق أن تقوم فتاة صغيرة بأمر كهذا، أجابتها الآنسة بوبيت: «لا أعلم إن كان لائقًا أم لا، لكنه بالتأكيد منعش جدًّا». بعدها فعلت الخالة إل كل ما تستطيعه لتمنع بيلي بوب من العودة إلى العمل لصالح الآنسة بوبيت، لكن والده قال نتركه وشأنه، يجب عليهم أن يتركوا الولد يسيّر حياته كما يحلو له.

كانت الآنسة بوبيت شديدة الأمانة ماديًّا. تدفع لبيلي بوب وبريتشر عمولتهما بالضبط، ولم تسمح لهما قط بمجاملتها، كما حاولا أحيانًا، في متجر الخردوات أو في السينما. «من الأفضل لكما أن توفرا أموالكما»، أخبرتهما. «هذا إن أردتما الذهاب إلى الجامعة. لأنكما لا تتمتعان بالذكاء الكافي للفوز بمنحة دراسية، ولا حتى منحة تفوّق بكرة القدم». لكن المال كان سبب واقعة كبيرة بين بيلي بوب وبريتشر؛ لم يكن ذلك السبب الحقيقي بالطبع: السبب الحقيقي هو تفاقم غيرة أحدهما من الآخر على الآنسة بوبيت. فذات يوم، قال بريتشر للآنسة بوبيت، وكانت له وقاحة القيام بذلك أمام بيلي بوب ذاته: إن من الأفضل لها أن تراجع حساباتها بحرص لأن لديه أكثر من شكوك حول عدم رجوع بيلي بوب إليها بكل ما حصَّله. هذه كذبة لعينة، قال بيلي بوب، ثم أسقط بريتشر من فوق عتبة آل سوير بخطافية يسرى نظيفة ثم قفز فوقه على حوض نبات أبي خنجر. لكن بمجرد تمكُّن بريتشر منه، لم يعد لدى بيلي بوب أي أمل. لدرجة أن بريتشر لطخ عينيه بالطين. في أثناء كل هذا، صرخت السيدة سوير كالنسر، متدلية من النافذة العلوية، وهتفت الأخت روزالبا مبتهجة في سمنتها، ودون أن تحدد، اقتله! اقتله! اقتله! فقط الآنسة بوبيت بدت واعية لما تفعل. أوصلتْ خرطوم الحديقة وأطلقَت المياه عن قرب باندفاع قوي أغرق الولدين. وقف بريتشر لاهثًا مرتبكًا. آه، حبيبتي، قال وهو ينفض نفسه مثل كلب مبتل، حبيبتي، عليك أن تقرري. «أقرر ماذا؟» قالت الآنسة بوبيت فورًا متعجبة، آه، حبيبتي، قال بريتشر لاهثًا، لا أظنك تريدين لنا أن يقتل أحدنا الآخر. عليك أن تقرري من هو حبيبك الحقيقي. «حبيبي… هذا سخف!» قالت الآنسة بوبيت. «كان عليَّ أن أتعقل قبل أن أتورط مع كل هؤلاء الأطفال الريفيين. كيف ستصير رجل أعمال أنت؟ اسمعني جيدًا يا بريتشر ستار: أنا لا أريد حبيبًا، وإن أردت، فلن يكون أنت. في الواقع، أنت حتى لا تقف تأدبًا عندما تدخل سيدةٌ إلى الغرفة».

بصق بريتشر على الأرض ثم تمهل صوب بيلي بوب. وقال له: «هيا بنا»، كأن شيئًا لم يكن، «إنها قاسية حقًّا، لا تريد إلا الوقيعة بين صديقين عزيزين». لوهلة بدا وكأن بيلي بوب سيأخذ صفه في سلام؛ لكن فجأة، انتبه لنفسه، رجع للخلف ولوح بإيماءة. أخذ كلا الولدين ينظر للآخر خلال دقيقة كاملة، وكل الحميمية بينهما استحالت إلى لون قبيح: لا يمكن أن تكره لهذه الدرجة ما لم تكن تحب أيضًا. وأظهر وجه بريتشر كل ذلك. لكن لم يمكن بوسعه فعل أي شيء سوى الرحيل. نعم يا بريتشر، بدوت ضائعًا بشدة ذلك اليوم لدرجة أني أعجبت بك للمرة الأولى، كنتَ شديد النحافة والانحطاط والضياع وأنت عائد على الطريق وحيدًا.

لم يتصالح بريتشر وبيلي بوب؛ ليس لعدم رغبتهما في ذلك، كان فقط لعدم رؤية طريقة واضحة لقيام صداقتهما مرة أخرى. لكنهما لم يستطيعا التخلص من تلك الصداقة: صار كل منهما منتبهًا على الدوام لما يفعل الآخر؛ وعندما صار لبريتشر صديق جديد، أخذ بيلي بوب يدور حول نفسه لأيام، يلتقط أشياء ثم يلقي بها مجددًا، أو يقوم بأعمال مجنونة فجأة، كدس إصبعه عمدًا في المروحة الكهربائية.

في بعض الأمسيات، كان بريتشر يتوقف عند البوابة ويتحدث مع الخالة إل. أظن أن ذلك كان فقط لتعذيب بيلي بوب. لكنه ظل ودودًا معنا جميعًا، وفي عيد الميلاد أهدانا علبة كبيرة من الفول السوداني. وترك هدية لبيلي بوب أيضًا. اتضح أنها واحد من كتب شرلوك هولمز؛ وقد خط في صفحة الإهداء: «الصديق المتسلق كاللبلاب على الجدار حتمًا سينهار». هذا أكثر شيء سوقي رأيته في حياتي، قال بيلي بوب. إلهي، يا له من غبي! لكن بعدها، وعلى الرغم من أنه كان يومًا شتويًّا باردًا، ذهب إلى الفناء الخلفي وتسلق شجرة البقن، وربض وسط أغصانها طوال مساء ديسمبر الأزرق.

لكنه كان سعيدًا معظم الوقت؛ لأن الآنسة بوبيت كانت هناك، وقد صارت لطيفة معه طول الوقت. عاملته هي والأخت روزالبا كرجل؛ وذلك بسماحهما له بأن يفعل كل شيء لهما. من ناحية أخرى، تركاه يفوز في مباراة بريدج ثلاثية، لم تشككا في أكاذيبه مطلقًا ولم تحبطا طموحه. كانت مرحلة سعيدة. ومع ذلك، بدأت المتاعب مرة أخرى عندما بدأت الدراسة. رفضت الآنسة بوبيت الذهاب إلى المدرسة. «إنها سخافة»، قالت عندما حضر الناظر، السيد كوبلاند، ليستفسر، «سخافة حقًّا؛ أستطيع القراءة والكتابة وهناك في البلدة من لديه كل الأسباب ليعرف أني أستطيع حساب الأموال. لا، يا سيد كوبلاند، فكر للحظة وسترى أننا كلينا لا يملك الوقت أو الطاقة لذلك. في النهاية، ستكون مسألة وقت، من ستخضع رُوحه قبل الآخر، رُوحك أم رُوحي. وإلى جانب ذلك، ماذا لديك لتعلمني إياه؟ إن كنت تعرف أي شيء عن الرقص سيكون ذلك موضوعًا آخر؛ لكن تحت تلك الظروف، نعم يا سيد كوبلاند، تحت تلك الظروف، أقترح أن ننسى الأمر برمته». كان السيد كوبلاند على استعداد تام ليفعل. ولكن بقية البلدة اعتقدوا أنها يجب أن تُجلَد. كتب هوراس ديزلي مقالًا في الجريدة المحلية بعنوان «موقف مأسوي.» كان موقفًا مأسويًّا، من وجهة نظره، أن تتحدى فتاة صغيرة ما أسماه دستور الولايات المتحدة. واختتم هذا المقال بسؤال: «هل يمكنها أن تفلت من العقاب؟» وقد فعلت؛ وكذلك الأخت روزالبا. لكنها كانت ملونة فلم يهتم أحد. لم يكن بيلي بوب في مثل حظهما. كان عليه بالمدرسة، حسنًا؛ كان قد يبقى بالبيت هو أيضًا بسبب جدوى الدراسة. في شهادة المرحلة الأولى رسب بفداحة في ثلاث مواد، رقم قياسي نوعًا ما. لكنه كان فتى ذكيًّا. أظن أنه لم يقدر على الحياة تلك الساعات من دون الآنسة بوبيت؛ بعيدًا منها كان يبدو دومًا شبه نائم. كان كذلك دومًا في مشاجرة؛ إما بكدمة سوداء على عينه، أو بشفة مشقوقة، أو بخطوة عرجاء. لم يتحدث مطلقًا عن تلك المعارك، لكن الآنسة بوبيت كانت بالدهاء الكافي لتخمن السبب. «أنت عزيز عليَّ، أعرف ذلك، أعرف. وأنا أقدرك يا بيلي بوب. لكن لا تتعارك مع الناس بسببي. هم بالطبع يقولون أشياء قبيحةً عني. لكن هل تعرف سبب ذلك يا بيلي بوب؟ إنها مجاملة بشكل ما؛ لأن في باطنهم يرون أنني رائعة بمعنى الكلمة».

وكانت على حق: إن لم تكن مثيرًا للإعجاب فلن يتحمل أحد عبء نفي ذلك. لكن فعليًّا لم نكن ندرك كم هي رائعة إلى أن ظهر الرجل الذي عُرف بماني فوكس. حدث ذلك في أواخر فبراير. أول أخبار وصلتنا عن ماني فوكس كانت عن طريق سلسلة من اللافتات المبهجة عُلّقت فوق المتاجر في أنحاء البلدة: ماني فوكس يقدم راقصة المروحة عارية من المروحة؛ ثم بخطّ أصغر: أيضًا، برنامج هواة مثير يشارك فيه أهل المنطقة – الجائزة الأولى، اختبار وجوه حقيقي هوليودي للقدرات على الشاشة.

كل هذا كان سيحدث الخميس التالي. وسعر التذكرة دولار واحد، هذا مبلغ كبير هنا؛ لكننا لم نعتد الحصول على أي نوع من الترفيه الحسي، فقصف الجميع بأموالهم وأعدوا قائمة مهام حول الأمر كله. ظلّ الكاوبويز أصحاب متجر الخردوات يتحدثون ببذاءة طوال الأسبوع، غالبًا عن راقصة المروحة العارية من المروحة، التي اكتشفنا لاحقًا أنها السيدة ماني فوكس. نزلا في مخيم تشاكلوود السياحي على الطريق السريع؛ لكنهما كانا في البلدة طوال النهار، يتجولان في سيارة باكارد قديمة، نُقش على أبوابها الأربعة جميعًا اسم ماني فوكس كاملًا. كانت زوجته ذات وجه جامد ولهجة لاتينية، شعرها أحمر بشفاه رطبة وجفون دبقة؛ كانت في الواقع كبيرة الحجم، وإن بدت ضئيلة مقارنة بماني فوكس، فقد كان ذا جرم ممتلئ وضخم.

جعلا من قاعة البلياردو مقرًّا رئيسًا لهما، وكان يمكنك رؤيتهما هناك كل مساء، يجرعان البيرة ويمازحان متسكعي البلدة. وعندما توسعت أعمال ماني فوكس لم تعد مقتصرة فقط على العروض. أدار أيضًا ما يشبه مكتب التوظيف: فقد انتشر بالتدريج أن مقابل رسوم قدرها ١٥٠ دولارًا يستطيع أن يجد للشباب المغامرين في المقاطعة وظائف راقية على متن سفن استيراد الفواكه التي تبحر من نيو أورليانز إلى أميركا الجنوبية. فرصة العمر، كذلك أسماها. لم يكن هناك شابان في الناحية يملكان أكثر من خمسة دولارات تحت تصرفهما؛ ومع ذلك، استطاع ما يربو على الاثني عشر شابًّا من تجميع المال اللازم. أعطت أيدا ويلينغهام ابنَها كلَّ ما كانت ادخرته لتنشئَ شاهد قبر على شكل ملاك لزوجها، وباع والد آيسي ترامب محصوله من القطن مقدمًا بثمن بخس.

لكن ليلة العرض! كانت ليلة نسي الناس فيها كل شيء: القروض العقارية، والصحون في حوض المطبخ. قالت الخالة إل: إنك لتظن أننا ذاهبون إلى الأوبرا، كلٌّ متأنق، بوجوه نضرة وعطور حلوة. لم يمتلئ مسرح أوديون هكذا منذ ليلة وهبوا بها طقم من الفضة الإسترلينية. عمليًّا، كان للجميع أقارب مشاركون في العرض، فكان هناك كثير من القلق بسبب المنافسة. المتسابقة الوحيدة التي نعرفها جيدًا هي الآنسة بوبيت. لم يستطع بيلي بوب الجلوس ساكنًا؛ ظل يخبرنا مرارًا وتكرارًا أننا يجب ألّا نصفق لأي شخص سوى الآنسة بوبيت؛ قالت الخالة إل: إن ذلك غير مهذب، مما أرجع بيلي بوب إلى حالته السابقة؛ وعندما اشترى أبوه لنا جميعًا أكياس الفشار لم يلمسه لأنه سيزيِّت يديه، وأرجوكم، شيء آخر، لا يصح أن نأكل فشارنا في أثناء أداء الآنسة بوبيت فنسبب إزعاجًا. اشتراكها متسابقةً حدث مفاجأة في اللحظة الأخيرة، وإن كان منطقيًّا تمامًا. ثمة مؤشرات كانت لتدلنا؛ على سبيل المثال، عدم ظهورها خارج منزل آل سوير أكثر من يوم؟ وصوت الغرامافون المسموع طوال الليل، وخيالها وهو يدور على ستار النافذة، والنظرة المفعمة بالأسرار على وجه الأخت روزالبا كلما سئلت عن صحة الأخت بوبيت.

وها هي مدرجة كثاني اسم في البرنامج في الواقع، على الرغم من أن ظهورها تأخر لمدة طويلة. في الأول ظهر ماني فوكس، لزجًا بنظرة شهوانية، قال كثيرًا من النكات الغريبة، مصفقًا بيديه، ها ها. قالت الخالة إل: إنه إذا قال نكتة أخرى كهذه فستغادر المسرح مباشرة: لكنه فعل، ولم تغادر. وقبل أن تخرج علينا الآنسة بوبيت كان هناك أحد عشر متسابقًا، بينهم أوستاشيا برينستين، التي قامت بتقليد نجوم السينما حتى بدوا جميعًا يتحدثون مثل أوستاشيا لا العكس، ثم كان السيد باستر رايلي الخارق، ذو أذنين كبيرتين كأذني الإبريق معتمرًا قبعة صوفية قديمة قادمًا من أقصى المقاطعة، عزف «ماتيلدا راقصة الفالس» على منشار. حتى تلك اللحظة كان نجم الحفل؛ ليس لأي فرق ملحوظ في ردود الأفعال المتنوعة، فالجميع يصفق بكرم، عدا بريتشر ستار. كان يجلس أمامنا بصفين، يحيي كل أداء بصوت استهجان عال كنهيق الحمار. قالت الخالة إل: إنها لن تكلمه مرة أخرى. الشخص الوحيد الذي صفّق له كانت الآنسة بوبيت.

لا شك في أن الشيطان كان حليفها، لكنها كانت تستحق. خرجت تهز ردفيها، وخصلاتها المموجة، وتدوّر عينيها. كان بإمكانك أن ترى فورًا أنها لن تكون إحدى فقراتها الكلاسيكية. تنقر خشبة المسرح بقدميها جيئةً وذهابًا، رافعة برقة طرفي تنورتها السماوية. هذا أجمل شيء رأيته في حياتي، قال بيلي بوب، ضاربًا فخذه، واضطرت الخالة إل إلى الموافقة على أن الآنسة تبدو حلوةً حقًّا. عندما بدأت الدوران انفجر الحضور في التصفيق تلقائيًّا؛ فقامت بالدوران مرة أخرى هامسة، «أسرع، أسرع»، للآنسة أديلايد المسكينة، التي كانت تعزف على البيانو بأفضل ما تعلمته في مدارس الأحد. «ولدت في الصين، وكبرت باليا- بان…» لم نسمعها تغني من قبل، وكان لها صوت أجش. «… إن لم يعجبك خوخي، فابتعد عن سلّتي، آه آه!» شهقت الخالة إل من الصدمة؛ شهقت مرة أخرى عندما قامت الآنسة بوبيت بحركة ارتفعت لها تنورتها كاشفة عن لباس داخلي من الدنتيلا الزرقاء، وبذلك حصدت معظم صفارات الإعجاب التي ادخرها الشبان للراقصة ذات المروحة العارية من المروحة، لكنهم أطلقوا صافراتهم بالصخب نفسه للسيدة لاحقًا، على نغمة «تفاحة للمعلمة» وصرخات غجرية؛ إذ قامت بفقرتها في رداء السباحة. لكن لم يكن استعراض الآنسة بوبيت لمؤخرتها آخر انتصاراتها. أخذت الآنسة أديلايد في عزف هدير مشؤوم من نغمة كئيبة، حينها دخلت الأخت روزالبا إلى المسرح تحمل مشعلًا، وسلمته إلى الآنسة بوبيت، التي كانت بصدد تأدية حركة فتح حوضها؛ وقد أدتها فعلًا، وفور ذلك تفجرت الشعلة إلى ألعاب نارية ككريات من لهب أحمر وأبيض وأزرق، واضطررنا كلنا للوقوف لأنها كانت تغني «علمٌ لماع بالنجوم» بأعلى صوت. قالت الخالة إل لاحقًا: إنه كان من أجمل الأشياء التي رأتها على المسرح الأميركي.

حسنًا، بالتأكيد استحقت فرصة اختبار وجوه لهوليوود، ونظرا لفوزها بالمسابقة، بدا أنها ستحصل عليه. قال ماني فوكس: حبيبتي، أنت مشروع نجمة حقيقية. لكنه ترك البلدة في اليوم التالي، تاركًا فقط وعوده الدافئة. راقبوا البريد، يا أصدقائي، سأبعث لكم جميعًا. هذا ما قاله للشباب الذين أخذ نقودهم، وهذا ما قاله للآنسة بوبيت. يصل البريد ثلاث مرات يوميًّا، صار ذلك الجمع الكبير يتجمهر عند مكتب البريد في موعدها جميعًا، تجمهر مرح صار تدريجيًّا مكدرًا. ويالارتعاشة أيديهم كلما انزلقت رسالة في صناديق بريدهم. خيّم عليهم صمت رهيب مع مرور الأيام. أدركوا جميعًا الأمر، لكن لم يجرؤ أحد على التصريح به، ولا حتى الآنسة بوبيت. وهو ما قالته بوضوح مديرة مكتب البريد السيدة باترسون: الرجل محتال، علمت أنه محتال من البداية، وإن اضطررت لرؤية وجوهكم ليوم آخر سأرمي نفسي بالرصاص.

في النهاية، بعد أسبوعين، كانت الآنسة بوبيت هي من كسر الصمت. كانت عينها قد صارت خالية التعبير أكثر مما يتخيل أحد عنها لكن ذات يوم، بعد وصول البريد الأخير، رجع اتقادها القديم من جديد. «حسنًا يا شباب، حان وقت تطبيق القانون العرفي»، قالت متقدمة لتقود العصابة إلى المنزل معها. كان هذا أول اجتماع لنادي شانقي ماني فوكس، وهي مؤسسة مستمرة حتى اليوم، في شكل اجتماعي أكثر، على الرغم من أن ماني فوكس قد قُبض عليه منذ زمن مضى، ويمكن القول: إنه شُنق. نسب الفضل في ذلك بكل جدارة إلى الآنسة بوبيت. فخلال أسبوع كانت قد أرسلت أكثر من ثلاثمئة برقية بأوصاف ماني فوكس إلى مأموري الشرطة في أنحاء الجنوب؛ كتبت أيضًا رسائل للجرائد في المدن الأكبر، وهو ما جذب اهتمامًا واسعًا. نتيجة لذلك عُرضت على أربعة من الشباب المسروقين وظائف بمرتبات مجزية من شركة الفواكه المتحدة، وبنهاية ذلك الربيع، عندما قُبِض على ماني فوكس في أقصى شمال أركنساس، حيث كان يستعد للقيام بخدعته نفسها، مُنِحت الآنسة بوبيت جائزة العمل الصالح عن استحقاق من جمعية فتيات صنبيم الأميركية.

لسبب ما، قصدت أن تعلم الجميع أن ذلك لم يعجبها. «أنا غير راضية عن هذه المؤسسة»، قالت. «كل هذا الصخب المثار. ليس هو بخير ولا هو نسائي حقًّا. على كل حال، ما الفعل الصالح؟ لا تترك أحدًا يخدعك، الفعل الصالح هو ما تفعله لأنك تريد شيئًا بالمقابل». سيكون مطمئنًّا أن نقرر أنها كانت مخطئة، وأن مكافئتها العادلة، عندما جاءت أخيرًا، أُهديت لها بناء عن كرم وحب. ومع ذلك، ليست هذه قضيتنا. قبل نحو أسبوع، تلقى كل الأولاد ضحايا عملية الاحتيال شيكات من ماني فوكس تغطي خسائرهم، والآنسة بوبيت، بإصرار أخرق، اقتحمت اجتماعًا لنادي الجلادين، الذي صار حجة الأولاد لشرب البيرة ولعب البوكر كل ليلة خميس، وقالت مُجازِفةً: «انظروا، يا شباب، لم يظن أي منكم أنه سيرى هذه النقود مرة أخرى، لكن بما أنه قد حصل، يجب أن تستثمروها في شيء عملي- أنا مثلًا». كان العرض أن يجمعوا من نقودهم ما يكفي لتمويل رحلتها إلى هوليوود؛ في المقابل، يحصلون على عشرة في المئة من أرباحها مدى الحياة بعد أن تصير نجمة قريبًا، وهو ما سيجعلهم جميعا أثرياء. «على الأقل»، كما قالت، «في هذا المنطقة من البلاد». لم يرغب أحد من الأولاد في فعل ذلك: لكن عندما تنظر إليك الآنسة بوبيت، ماذا سيكون بوسعك أن تقول؟

منذ الإثنين، ظلت تمطر مطرًا صيفيًّا مبهجًا يتساقط مع أشعة الشمس، لكنه كئيب في الليل مليء بالأصوات، مليء بأوراق شجر تقطر بإيقاع بليل، إغراقات لا تنام. بيلي بوب مؤرق بعين جافة لا تدمع، على الرغم من أن كل ما يفعله بارد قليلًا ولسانه متصلب. لم يكن أمرًا هينًا عليه، رحيل الآنسة بوبيت. لأنها كانت تعني أكثر من ذلك. أكثر من ماذا؟ من أن تكون في الثالثة عشرة وتُحب بجنون. كان الشذوذ الذي بداخله، مثل شجرة البقن وحب الكتب واهتمامه بالناس بقدر يسمح لهم بأذيته. كانت الأشياء التي يخاف أن يظهرها لأي شخص آخر. وفي الظلام تدفقت الموسيقا من خلال المطر: ألن تأتي ليالٍ نسمعها فيها كأنها تعزف بالفعل؟ وتلك الظهيرات، عندما تختلط كل الظلال مرة واحدة، وتمر أمامنا على العشب متجلية كقطعة جميلة من الحرير؟ ضحكت لبيلي بوب؛ أمسكت يده، بل إنها قبَّلته. «لن أموت»، قالت. «ستأتي إلى هناك، وسنتسلق جبلًا، وسنعيش جميعًا معًا، أنت وأنا والأخت روزالبا». لكن بيلي بوب علم أن الأمور لن تكون بهذا الشكل أبدًا، وعندما تناهت إلى سمعه الموسيقا عبر الظلام كبس رأسه بالوسادة.

لكن ارتسمت ابتسامة غريبة ليوم أمس، وكان ذلك اليوم الذي ستغادر فيه. نحو الظهيرة، سطعت الشمس، جلبت معها في الهواء كل عذوبة زهور الوستارية. كانت زهور الخالة إل من الليدي آن الصفراء تتفتح مجددًا، وهي فعلت فعلًا رائعًا؛ إذ أخبرت بيلي بوب أن بإمكانه قطفها وإهداءها إلى الآنسة بوبيت لتوديعها. كانت الآنسة بوبيت تجلس طوال الظهيرة على العتبة محاطة بزوار جاؤوا ليتمنوا لها النجاح.. بدت كأنها ذاهبة إلى طقس كنسي، ترتدي ثوبًا أبيض وتحمل مظلة بيضاء. أهدتها الأخت روزالبا منديلًا، لكنها اضطرت إلى اقتراضه ثانية؛ لأنها لم تستطع التوقف عن الانتحاب. أحضرت فتاة صغيرة أخرى دجاجة مشوية، ربما لتؤكل بالحافلة؛ المشكلة أنها نسيت أن تخليها من العظم قبل طهوها. قالت أم الآنسة بوبيت: إنه لا بأس في ذلك، فالدجاج هو الدجاج؛ وسنتذكّر هذا لأنه الرأي الوحيد الذي نطقت به على الإطلاق. كانت هناك نغمة وحيدة مريرة. لساعات ظل بريتشر ستار متلكئًا عند الناصية، يقف حينًا على الرصيف يقذف بعملة في الهواء ويلتقطها، ويختبئ أحيانًا خلف شجرة، كأنه لا يريد أحدًا أن يراه. وقد سبب ذلك توترًا للجميع. وقبل عشرين دقيقة من موعد الحافلة ترجّل نحو بوابتنا. كان بيلي بوب ما زال يلتقط الورود من الحديقة؛ كان بالفعل قد قطف كومة هائلة، وكانت رائحتها ثقيلة كالريح. ظل بريتشر يراقبه حتى رفع رأسه. وبينما ينظر أحدهما إلى الآخر بدأت تمطر من جديد، سقط المطر خفيفًا كرذاذ البحر ملونًا بقوس قزح. من دون كلمة، خطا بريتشر داخلًا نحو بيلي بوب وبدأ في مساعدة بيلي بوب في تقسيم الورود إلى باقتين عملاقتين: حملاها معًا إلى الرصيف. كان هناك طنين من الثرثرة عبر الشارع، لكن عندما رأتهما الآنسة بوبيت، فتيان تقنّعا بطاقتين من الزهور كقمرين أصفرين، أسرعت نازلة الدرجات ذراعاها مفتوحان على اتساعهما. كنت لترى ماذا سيحدث؛ وصرخنا محذرين، أصواتنا كالبرق وسط المطر، لكن الآنسة بوبيت، وهي تركض نحو هذين القمرين من الزهور، لم تسمعنا. هذا عندما داستها حافلة الساعة السادسة.