محمد شوقي الزين: الصورة السلبية للنقد منعت  انطلاق الإصلاح الديني والعلم لا يعد يوتوبيا سوى عندما يتحول إلى أيديولوجيا

محمد شوقي الزين: الصورة السلبية للنقد منعت انطلاق الإصلاح الديني

والعلم لا يعد يوتوبيا سوى عندما يتحول إلى أيديولوجيا

يعد الباحث والمفكر محمد شوقي الزين، الأستاذ السابق للفلسفة في جامعة إكس أون بروفانس الفرنسية، وأستاذها الحالي في جامعة تلمسان، من أبرز الأسماء العربية حاليًّا في مجال الفلسفة، بفضل أعماله ومؤلفاته وترجماته. نشرت له أعمال كثيرة، منها: «إزاحات فكرية: الحداثة والمثقف» (2005م)، و«علي حرب: النقد، الحقيقة، التأويل» (2010م)، و«جاك دريدا: ما الآن؟ ماذا عن غد؟ الحدث، التفكيك، الخطاب» (2011م)، و«الذات والآخر» (2012م)، و«الثقاف في الأزمنة العجاف: فلسفة الثقافة في الغرب وعند العرب» (2013م)، و«الثقافة وصورة الفكر: أشكال تأويلية» (2019م).

يدافع عن العقلانية بالطاقة نفسها التي يدافع بها من أجل الرجوع إلى منابع الصوفية. في هذه المقابلة التي خص بها مجلة «الفيصل»، يتحدث عن دور الفلسفة والصوفية خاصة في تحريك الفكر العربي. ويتوقف الكاتب عند دوافع التعصب الديني وأسباب انحساره في المنطقة العربية، في الوقت الذي يشهد العالم الغربي مدًّا مخيفًا لليمين المتطرف. وفي الحوار يشيد الزين بدور مؤسسات سعودية في نشر الفكر الفلسفي من خلال ما ينظم فيها من مؤتمرات وندوات وتأسيس جمعية فلسفية.

  تشتغل كثيرًا على مفهوم «العيش المشترك»، وتؤمن بأنه طالما هناك اختلاف في اللغة والهوية والمعتقد والتصور، فهناك إمكانية للعيش المشترك. ماذا يمنع إذن في رأيك تحقيق الوئام بين الشعوب مع تزايد النزاعات الوطنية والدولية واشتداد النزعات القومية المتطرفة في كثير من بلدان العالم اليوم؟

  ليس العيش المشترك «يوتوبيا» أو أمنية. إنه ضرورة طبيعية وثقافية في الوقت نفسه. الإنسان مُجبَر على التعايش مع غيره كما يُمليه الاجتماع البشري. لم يُجعل الإنسان للتفرد، بل هو يكتمل بغيره. هذا ما نتعلمه من الفلسفات الاجتماعية والسياسية، من أرسطو إلى اليوم مرورًا بابن مسكويه وروسو. لكن ما بال النزعات القومية والصراعات الجيوسياسية التي تظهر بين الحين والآخر في موطن من الأرض؟ هل هذا مسوغ كافٍ لكي ينغلق كل واحد في حدوده الجغرافية والثقافية ويقطع مع غيره؟ للإجابة عن هذين السؤالين، ينبغي التسليم بأن الاجتماع البشري ضرورة طبيعية وثقافية، وبأن الصراع هو كذلك ضرورة طبيعية وثقافية. ولا يُوجد أي تناقض بين الحدين، مثلما لا يوجد تناقض في الأسرة بين أن يتحاب الزوجان وأن يتصارعا بدوافع الغيرة؛ لأن كل طرف يريد أن يتملك الآخر ويحول دون أن تلتهمه دواعي الغواية أو الخيانة.

طبعًا، لسنا في الاجتماع البشري في مقام الحب بين الزوجين. لكن الأولية هي نفسها، وكان القدماء (ومن بينهم هِرقليطس، الفيلسوف السابق على سقراط) قد تنبهوا إلى تناوب الجاذبية والتنافر في الوجود الطبيعي والبشري. ومن ثم فإن الصراع بين البشر لا يستبعد العيش المشترك بينهم. بل إن دوافع الاعتراف والرغبة في التعايش هي الخيط المتين الذي يشد البشر بعضهم إلى بعض.

أما النزعات القومية المتطرفة، فيمكن القول: إنها المتفاقم من الصراع. إذا كان الصراع هو سلوك بشري محمود لأن الحياة البشرية مبنية في أسها وأساسها على الصراع، من الشجار بين الزوجين أو الإخوة إلى النضال من أجل الحقوق أو البيئة مرورًا بالانتخابات والمقاومات والمنافسات الرياضية والتجارية، إلا أن البُعد المتفاقم من الصراع، وجهه البشع، هو الإسراف في الصراع، هو الانتقال إلى مقام المقت والكراهية، هو الرغبة في الانتقام وفي حتف الآخر فقط لأنه آخر، يختلف في الثقافة والديانة واللغة. عادةً ما نمقت الآخر ليس لأنه آخر (أحواله) بل لأنه فعل شيئًا مشينًا (صفاته) تمجه الأخلاق أو الحس السليم. لكن عندما نمقت الآخر في ذاته، وليس لما يتصرف به، هنا تكمن الخطورة، وهنا يكمن المساس بأساسيات العيش المشترك. التطرف هو الوجه البشع للصراع، بُعده المفرط أو المتفاقم.

تفكيك التطرف

  هذا يجرنا إلى الحديث عن صعود اليمين المتطرف في فرنسا، وارتفاع حظوظ مرشحيه في تبوؤ منصب رئيس الجمهورية لأول مرة. كيف تتصور إمكانية العيش المشترك في هذا البلد، وبخاصة بين المسلمين الذين يشعرون بالاضطهاد والسكان الأصليين؟

  نرى بالفعل صعود اليمين المتطرف في العديد من البلدان، ومنها فرنسا. هل يمكن القول: إن اليمين المتطرف هو تعويض عن العظمة المتلاشية على المستوى الحضاري، بما يُشبه الجرح النرجسي؟ عندما نتابع خطابات إيريك زمور، أحد المترشحين لتبوؤ منصب رئيس الجمهورية في فرنسا، غالبًا ما نراه يلجأ إلى أمجاد الماضي الفرنسي ويُزين في عيون مناصريه العظمة الفرنسية. كل ما هو خالص زال بزوال العظمة الماضية ولا بد من متهم! المتهم في نظره هو الأجنبي الذي لوث الخلوص الفرنسي بتمازج الأجناس، هو المغترب أو المهاجر الذي غير في نظره العادات والأعراف المحلية بعاداته وأعرافه التي جلبها معه. لا يؤمن اليمين المتطرف بالاختلاط بين الأجناس، بل يضع نفسه في سُلم حضاري أرقى من الأجناس الأخرى. لم نعُد نتحدث اليوم عن «العرق» الذي سوغ للنظام النازي جرائمه للحفاظ على خلوص «العرق الآري»؛ لأن الأزمنة تغيرت علميًّا بوجود عرق بشري واحد، وتغيرت سياسيًّا بسن قوانين ردعية وبالإقرار بحقوق الإنسان.

لكن بين الحين والآخر، نرى عودة هذه المباحث العرقية التي تتحول إلى عنصرية مشينة، ولأن اليمين المتطرف هو امتداد للتصورات التي تبنتها الأنظمة الفاشية في القرن العشرين. مشكلة اليمين المتطرف في فرنسا مثلًا، هو أنه يتحدث بخلفية «ماهوية»، أي بوجود ثابتة منغرسة في ذهنية أو سلالة تُحدد هويتها؛ لذا، نرى أن إيريك زمور لا يضع فارقًا بين الإسلام والإسلاموية. فهو يرى أن الأول أنتج الثانية. ليس فقط الإنتاج، لأن المسيحية أنتجت كذلك حروبًا دينية بين الكاثوليك والبروتستانت ومحاكم التفتيش، لكن نظرته «الماهوية» جعلته يقول: إن الإسلام محكوم عليه بأن يكون ديانة مضرة بالبشرية، أي أنه، على غرار الأيديولوجيا الفاشية منذ موسوليني وهتلر، يبحث عن ماهية لا تاريخية أو ميتافيزيقية أو ثابتة أزلية يحملها قوم أو ديانة. قراءته لتاريخ الإسلام فيه كثير من المغالطات؛ لأن في تاريخ الإسلام كانت هنالك ثورات عقلانية مع المعتزلة وابن رشد، وثورات روحية مع الصوفية، وثورات فكرية مع تأسيس بيت الحكمة وترجمة الإرث الإغريقي وتأصيل التجربة العلمية.

لكن إذا تراجع الإسلام في تجلياته التاريخية، فإن ذلك بسبب عوامل تنطلي على أية ديانة، أي أن المسألة ليست «ماهية» خفية أو ميتافيزيقية هي بمنزلة «فيروس» يقتضي الإبادة أو «شيطان» يتطلب التعزيم، بل هي فقط مسألة شروط حضارية وعوامل تاريخية لها سياق، تستدعي قراءة نقدية، وتفكيكية، وتأويلية للإجابة عن سؤال النهضة: «لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟».

  تهتم كثيرًا أيضًا بظاهرة التطرف الديني بأبعاده التاريخية والأنثروبولوجية والحضارية. تعيش هذه الظاهرة في المنطقة العربية حالة من الانحسار. هل هو انحسار طبيعي يخضع لمنطق أو حتمية تاريخية، أم هو نتيجة لضغوط سياسية داخلية ولأوضاع ظرفية ليس إلا؟

  التطرف الديني مثله مثل التطرف القومي هو ما يتفاقم من العلاقة بالدين، وما يحتد من العلاقة بالوطن. كل تفاقم أو إفراط أو إسراف يضر بالدين كما يضر بالوطن. لماذا؟ لأن نظام الخيال لا يتلاءم أو لا ينطبق مع نظام الواقع. في الدين، نتخيل يوتوبيا في شكل مملكة الله في الأرض أو الخلافة، وفي الوطن نتخيل عرقًا صافيًا ومتفوقًا كما كانت تؤمن الأيديولوجيا النازية. في كلتا الحالتين نحن إزاء ظاهرة مَرَضية، متفاقمة مثل الحمى، مُسرفة تتجاوز حدود العدل والاعتدال، حدود التوازن بالسقوط في الاختلال. إذا كان التطرف الديني يعيش حالة من الانحسار في المنطقة العربية، فذلك لأسباب ثقافية وسياسية.

أما الأسباب الثقافية، فهي رفض المسلمين أن تلتصق بهم نعوت التطرف والإرهاب وأن تُسحَب منهم نعوت التسامح والتعايش، وبخاصة أن لهم تمثلًا تاريخيًّا هو صناعتهم لحضارة إنسانية من بغداد ودمشق والقاهرة إلى غرناطة وقرطبة تعايشت فيها مجتمعات متنوعة الانتماء الثقافي والديني، وتجادلت فيها تيارات كلامية وفلسفية، وتناقشت فيها مصاير وقرارات. بهذا التمثل الذي يجعلهم ورثة حضارة إنسانية، يرفضون أن يُنسبوا إلى التعصب والإرهاب. وأما الأسباب السياسية، فهي إقدام الحكومات العربية والإسلامية على محاربة التطرف بالقانون من جهة، وبالتربية من جهة أخرى.

بهذه المحاربة المزدوجة تراجع التطرف الديني لكن لم تزُل أسبابه التي هي مادية من جهة، ورمزية من جهة أخرى. أما الأسباب المادية فهي ضعف المدخول والفقر الذي يمس شرائح واسعة من المجتمعات العربية والإسلامية، وأما الأسباب الرمزية فهي الجرح النرجسي في فقدان العظمة الإسلامية التي صنعت حضارة إنسانية اختفت ولم تعُد قادرة على الانبعاث أو النهوض. لكن يبقى التطرف الديني الاستثناء وليس القاعدة، الأقلية في العدد وفي العُدة.

الإصلاح الديني ومواكبة الحضارة

  هناك دعوات متزايدة للإصلاح الديني، مع أن الفكرة قديمة جدًّا، ولا تزال إلى اليوم موضع جدال. ماذا يمكن أن يُصلَح حتى نواكب الركب الحضاري ونخرج من السبات الذي غطسنا فيه؟

  الإصلاح الذي يُقدم على أنه ترجمة للكلمة الأجنبية Reformism، لا يؤدي الدلالة نفسها. في الإصلاح هناك مدلول تقني في إعادة تشغيل آلة معطوبة توقفت عن الاشتغال، ومدلول أخلاقي في تعميم الصلاح والاستقامة بتقويم الطباع وأخلقة الحياة العامة. أما مدلول الكلمة الأجنبية فهو إعادة تشكيل الحياة الدينية والسياسية، أي إعادة إضفاء الشكل (form) على ما فقد شكله وبليت صورته وصار مثل العملة الصدئة غير قابلة للتصريف في سوق التداول. هل نأخذ بالمدلول العربي الذي يغلب عليه البُعد الأخلاقي أم بالمدلول الأجنبي الذي يطغى عليه البُعد الحداثي؟ لأن إضفاء أشكال جديدة على مادة قديمة هو الحداثة عينها، أي الجدة، الجديد، المتجدد؛ لأن الحداثة لم تكن دائمًا قطيعة جذرية مع القدامة، بل هي مجاوزة للقدامة بالاحتفاظ بعناصر نشيطة منها، عناصر مُغذية. الملحوظ أن الإصلاح الديني لا يبرح مكانه؛ لأنه يبني على البناء، ويُكرر ما تم الإقرار به باسم «المعلوم من الدين بالضرورة».

لا يتأتى الإصلاح بالبقاء قرونًا في التصور نفسه، بل يأتي بالنقد الذي هو التمييز والتقدير والحكم. الصورة السلبية للنقد هي التي منعت انطلاق الإصلاح الديني؛ لأن النقد فُهم منه الهدم والتقويض، ولم يُفهم منه التقدير والمراجعة والتحيين؛ لذا جاءت مشروعات النقد مع محمد عابد الجابري ومحمد أركون وصادق جلال العظم هامشية أو مهمشة، ولم تخرج من الأسوار الأكاديمية. فقط في الآونة الأخيرة، بتراجع الإسلام السياسي وانحسار الإرهاب، بدأت المؤسسات الرسمية للدولة في إدراج الروح النقدية في دراسة المادة التراثية. غير أنها لا تزال محتشمة ومنعزلة وليس لها مفعول الثورة الفكرية. لا نزال نحتكم إلى التقاليد والتصورات العريقة في طريقة فهمنا للدين.

إعادة اكتشاف التصوف

  نشهد في السنوات الأخيرة شغفًا متجددًا في العالم الإسلامي بالصوفية، من نواحٍ مختلفة، دينية واجتماعية حتى فنية. هل يمكن للصوفية أن تكون بديلًا أو سبيلًا للخلاص من التوجهات الدينية المتشددة؟

  أنا واثق من ذلك. الرؤية الصوفية للعالم هي رؤية هادئة، وتأملية، وبنائية. تصور أن الكاثوليكية التي طبعت الغرب خلال أكثر من ألف سنة هي فرقة صوفية من المسيحية. كبار المفكرين الكاثوليك كانوا متصوفة مثل أوغسطين والمايستر إكهرت اللذين تركا إرثًا هائلًا أثر في تاريخ الغرب ومصيره فيما أصبح يسمى بسؤال الذات أو كيف يتمثل الغرب ذاته. انطلق هذا السؤال من المتصوفة لينتهي عند الفلاسفة مثل ديكارت (الذي تربى عند اليسوعيين وهم فرقة صوفية) وإلى فرويد مرورًا بالروح الرأسمالية والفلسفة الليبرالية مع الإصلاح الديني عند البروتستانت.

لدينا تراث صوفي كبير يمكن استئنافه بالاقتباس منه في تنظير عصري تنتقل فيه الرؤية الصوفية إلى القراءة الفلسفية والدينية للتراث، وإلى المعالجة النفسية للفرد والمجتمع. لماذا هجرنا التصوف؟ لأن تصورنا له في غاية الابتذال والغفلة. أولًا: أرجعناه إلى الفرار من العالم. هذا خطأ، لأن الفلسفات الحاسمة في تاريخ البشرية مثل الرواقية كانت ذات نزوع صوفي، وقدمت دعامة أساسية لبناء نظريات اجتماعية وأخلاقية كان لها دوي كبير في تاريخ الفكر؛ ثانيًا: أرجعناه إلى زوايا وطرق ومشيخة وهذا فقط التجلي الأنثروبولوجي.

أما التجليات الفكرية والفلسفية لا تزال اليوم مهمشة بالرغم مما كُتب حول أسماء شهيرة مثل ابن عربي والسهروردي، لكنها قراءات بقيت في حدود التكرار والقدامة. أي أننا أهملنا البُعد الفكري للتصوف لنركز على البُعد الاجتماعي والأنثروبولوجي؛ ثالثًا: فصلنا بشكل حاد بين العقل والقلب، ومن ثمة بين الفلسفة والتصوف، ولم نلقَ جسورًا بينهما. مثلما اكتشف كانط قارة الفاهمة بين العقل الخالص والحس وهو أمر خفي عن الغزالي وابن سينا والفارابي، اكتشف الكاردينال نيكولا الكوزي، متصوف ألماني، قارة العقل اللطيف (intellect) الذي هو وساطة بين العقل الكثيف (reason) والعالم الحسي، أي إمكانية الربط بين الفلسفة والتصوف بهذا العقل الوسيط.

نسينا أن الفكرة موجودة عند ابن عربي، لكن لم نُعِرْها الاهتمام لأن استهلاكنا للدين لا يزال تراثيًّا أو ما سماه الجابري «القراءة التراثية للتراث»؛ رابعًا: انجر عن الفصل الحاد والجذري بين العقل والقلب أو بين الفلسفة والتصوف، احتقار الثاني وإرجاعه إلى شطحات وخزعبلات، ونسينا أو تناسينا المدونة النفسية التي يزخر بها التصوف التي سمحت في الغرب بظهور التحليل النفسي على أساس التجربة أولًا (المنهج الوضعي الشائع وقتها) وعلى أساس الاقتباس من مدونة الصوفية الكاثوليك مثل تيريزا الآبلية التي ألهمت جاك لاكان في التحليل النفسي. يُوفر التصوف صورًا إبداعية يمكنها أن تصير أفكارًا تأسيسية في المجالات الاجتماعية والنفسية.

  تقول: إن أية محاولة للإصلاح تسبقها «إزاحات فكرية»، أي حلحلة الأفكار النمطية التي بُني عليها الهيكل الثقافي الذي نعيش فيه. إلى أي مدى يمكن أن تصل هذه الإزاحات؟ هل يصل الأمر إلى إعادة النظر في المقدسات، كما يرى بعضٌ؟

  جاءت فكرة «الإزاحة» لتضع حدًّا لإصلاح مزيف، لا يقوم سوى بتكرار الماضي في الحاضر. الإزاحة هي نقل البنيات الذهنية والفكرية نحو عتبة الإبداع بالكف عن التكرار والاجترار. عندما نزيح هذه البنيات بربطها بحاضرها وسياقها، فإنها تكون قادرة على إنتاج شروط نهوضها وابتكار آليات تجددها. وإن كانت البنيات الذهنية والفكرية في المنطقة العربية تتغير، لكنها تتغير ببطء شديد، ولم تُحقق بعدُ النقلة النوعية نحو اعتبار شرطها الحضاري وإنتاج شروط نهوضها. وزن القدامة قوي جدًّا بالمقارنة مع الحداثة، هذه الحداثة التي اكتفت بالتحديث المادي بصيرورة مدننا عصرية وشيوع التقنيات الحديثة، لكن لم تمس بعد التحديث الذهني والفكري بالانتقال إلى عتبة الإبداع وصياغة الأشكال النظرية والعملية الجديدة والمرتبطة بسياقها الراهن. الإزاحة هي كذلك أن نتوقف عن «مَتْحَفَة» التراث بجعله قطعًا أثرية تُحتفظ في متاحف الذاكرة وتُجند له قوى الارتكاس التي تشغل دور الحامي والحارس. ما يُسمَّى المقدسات لم يعد يشمل اللحظة الميتافيزيقية وهي الله والوحي، بل أصبح يشمل التراث الذي بُني عقليًّا بالاجتهاد.

هذا ما تريد الإزاحة استبعاده وهو إرجاع للتراث بُعده التاريخي؛ لأنه حصيلة اجتهادات بُنيت فكريًّا. ما يُبنى على الأساس المتين لا يمكنه أن يكون متينًا. مثل أساس الدار، لكن الدار ليست بمنأى عن الزوال بفعل زلزال أو إعصار. ما بُني على القرآن من تفاسير لا يمكنه أن يكون مقدسًا؛ لأن التفاسير والتأويلات بما هي أبنية عقلية وسياقية خاصة بزمن وإقليم لها القابلية للمراجعة والتحيين في الأزمنة المعاصرة لبلورة معقولية جديدة وفهم متجدد للأصول التأسيسية.

الترجمة وحدود الدين والفلسفة

  للترجمة دور أساس في التثاقف والتعايش بين الحضارات. كيف تحكم على حال الترجمة في العالم العربي؟

  الترجمة هي عملية نقل الروح والعبقرية لشعب ما من لغته إلى لغة أخرى. فهي تلعب دور الوساطة بين اللغات والثقافات. إنها عملية مهمة لأنها تفتح الثقافات على بعضها بأن تتعرف إلى بعضها الآخر من خلال منتجاتها العلمية والأدبية والفلسفية. الترجمة في العالم العربي هزيلة على المستويين الكمي والنوعي. ما تترجمه دولة أوربية (مثل فرنسا) في السنة الواحدة يُعادل كل الدول العربية مجتمعةً. ثم إن هزال الترجمة اللغوي والأسلوبي هو أن العديد من المترجمين غير محترفين ويُقدمون على الترجمة لدواعٍ مالية بما يضمن لهم عيشًا كريمًا.

هناك طبعًا مؤسسات خاصة أو تابعة للدول تقوم بجهود كبيرة لتجديد المعرفة عبر ترجمة الكتب المهمة في المجالات العلمية والتقنية والفكرية، إلا أنها تبقى يسيرة بالمقارنة مع حجم ما يُنتَج في الأقاليم الأخرى، خصوصًا في الغرب، وما يُترجم بين اللغات الأوربية. نحن الذين اشتُهر عنا بيت الحكمة وترجمة الإرث الإغريقي، لا أتصور أن تبقى الترجمة في العالم العربي مهمشة. لا بد من قرار سياسي مثل قرار المأمون في رد الاعتبار للترجمة وجعلها من أولويات السياسة المعرفية والفكرية للعالم العربي؛ لأن الإصلاح والإبداع يأتيان كذلك بالتواصل مع الآخر، ويكون ذلك بالترجمة، أي بتجديد لغتنا وعصرنتها عبر البحث والتنقيب، وباكتشاف اللغات الأخرى والاستفادة من العلوم والمعارف الأجنبية.

  كيف ترى دور الفلسفة في البيئة العربية الحالية؟ هل يمكن أن تنافس الدين في تناول الأمور الوجودية واللاهوتية؟ وبمعنى آخر، هل هناك إمكانية للتعايش بين الفلسفة والثيولوجيا؟

  هناك تعايش بأداء كل مجال لأدواره في حدوده المخولة له. لا أظن أن الفلسفة تنافس الدين، ولا الدين ينافس الفلسفة. لكل واحد منهما مجال خاص به، الدين في حدود الاعتقاد والتسليم، والفلسفة في حدود العقل والتفكير. غير أن الفلسفة كانت مهمشة بالمقارنة مع الدين منذ تراجع أقطاب العقل في الثقافة العربية الإسلامية مع المعتزلة والرشدية، وأُلْحِقَتْ بالإلحاد والكفر لإلحاق الضرر بها. لا تزال الفلسفة مهمشة بالمقارنة مع الدين. رجال الدين لهم النفوذ بالمقارنة مع الفلاسفة. هؤلاء نادرون في المنابر الإعلامية والتلفزية بالمقارنة مع رجال الدين. في كل محفل سياسي رسمي نرى رجل الدين ولا نرى فيلسوفًا.

نقول ربما إن المسألة عادية لأن التدين الشعبي له ممثلون من بين رجال الدين، أما الفلسفة فهي من اختصاص النخبة. لكن معكوس القضية هو أن التدين الشعبي تفاقم إلى تعصب ديني أضر بالمقومات الحيوية للدولة، حتى مصير الدولة في بعض الأقاليم (مثل الجزائر في التسعينيات من القرن العشرين)، والاختصاص الفلسفي يُعلم التأمل ويُوفر الأدوات الملائمة للتفكير النقدي. إذا قارنا بين الوضعيتين نجد أن المجال الديني لا بد أن توضع له حدود حتى لا يتحول إلى تعصب وتطرف، وأن المجال الفلسفي يحتاج إلى مساحات أوسع لإفادة الميادين العلمية والاقتصادية والتربوية بالمادة التأملية والفكرية. بالرغم من انحسار المجال الفلسفي إلا أن تنامي الاهتمام به ملحوظ في العديد من الأقاليم، في المغرب الكبير مثلًا (المغرب، الجزائر، تونس)، وكذلك في دول الخليج، وخصوصًا السعودية التي تشهد حراكًا فلسفيًّا لافتًا للنظر بما يُعقد من مؤتمرات وحلقات فكرية وتأسيس جمعية للفلسفة وتطوير لمجلات.

للطبيعة صافرات إنذار

  يمر عالمنا اليوم بتحولات جذرية في سلوكيات الإنسان وفي علاقته بالحياة وبالطبيعة، بسبب جائحة كوفيد 19. هل هذا -في رأيك- يمهد لتحولات جوهرية في حضارتنا المعاصرة؟ هل سنعيش على أنقاض الحضارة الحالية أم ستتولد حضارة جديدة بمقاييس وبراديغمات جديدة؟

  العالم المتسارع يتحول بالضرورة. كلما زاد تسارعًا زاد تحولًا. الخطورة هي أن الوتيرة التي يتحول بها تجعله يفقد التوازن، يغوص في المظاهر وتفوته الجواهر. ما كشفته جائحة كورونا هو هشاشة مواجهة اللامتوقع؛ لأن ضماناتنا مبنية على أساس البداهة واليقين. ومن ثم فإن الوقائع المفاجئة تفسد رؤيتنا للحياة، وكل ما لا يتحكم فيه العقل الآلي يضعه في خانة المبهم أو يرميه في مهملات الميتافيزيقا. إذا كان ثمة حضارة جديدة يمكنها أن تتولد من مخاض العصر الحاضر لا بد أن تكون متصالحة مع الطبيعة. كل الأوبئة هي خلل في نظام الطبيعة ألحقه بها الإنسان. بالنسبة لجائحة كورونا، سواء تعلق الأمر بانفلات الفيروس من المخبر كما تقول بعض التقارير أو انبعاثه من الحيوان، فإن الشروط التي تعانيها الحيوانات (مثل إنفلونزا الطيور) تطول الصحة البشرية. كذلك الوتيرة التي تُستغل بها موارد الأرض بالمقارنة مع ما يمكن لهذه الأخيرة أن توفره لقرابة ثمانية مليارات نسمة يُسهم في ندرة هذه الموارد مثل الماء والغذاء. ثم إن التصنيع المكثف أسهم هو الآخر في نشوء الاحتباس الحراري وتغيير المناخ الذي يتحول في بعض المواطن من الأرض إلى جفاف مزمن أو إلى أعاصير مدمرة.

أظن أن صافرات الإنذار التي تطلقها الطبيعة على مسامعنا لا ننصت إليها، وأن حضارتنا، إذا لم تنقرض بهذه المفاعيل المروعة، هي مدعوة لأن تتصالح مع الطبيعة وتجعل فلسفة المستقبل هي فلسفة الطبيعة والبيئة. ندرك مثلًا أن الهجرة ستكون في المستقبل هي هجرة مناخية للفرار من الجفاف أو من التقلبات الجوية المفاجئة، وليس فقط هجرة اقتصادية للفرار من الفقر؛ لذا أرى أن البرادايم المستقبلي هو برادايم الطبيعة، لأن حتى على مستوى الفلسفة، نرى عودة فلسفة الطبيعة الإغريقية مثل الرواقية التي شعارها هو: «العيش وفق الطبيعة»؛ علاوة على عودة ما يُسمى بالطب الفلسفي أو الطب الروحاني لعلاج أسقام الحضارة.

  الوباء في نظر كثيرين أثبت عجز الطب ومحدودية العلم عمومًا وتراجع مصداقيتهما على الأقل. هل هذا سيفتح الباب أمام عودة الفكر الروحي والدين كمرجعية عليا؟

  لا أظن أن هناك عجزًا من طرف الطب، لكن فقط العجز عن قراءة ظواهر مفاجئة لم يتهيأ لها العلم. كانت جائحة كورونا ظاهرة مفاجئة، وهو ما استدعت تجند المخابر والموارد المالية لصناعة اللقاحات التي تبقى مع ذلك محدودة ولا تمنع من العدوى. يشتغل العلم في الحاضر. فهو يتعامل مع الزمن الحاضر. لا يلتفت إلى الماضي سوى بشكل انعكاسي لدراسة تاريخ العلوم والتقنيات، ولا يتوجه إلى المستقبل سوى بشكل استشرافي محدود. إذا كان للعلم حدود، فهي حدود موضوعية بالمقارنة مع التوقعات وبالمقارنة مع الأدوات والتقنيات المتوافرة. لا يعد العلم يوتوبيا سوى عندما يتحول إلى أيديولوجيا: مثلًا، الوعد بالخلود أو القضاء النهائي على الأمراض. هذا غير ممكن، والأيديولوجيا العلمية تعد بأحلام أو بأوهام. أما البدائل الأخرى فهي ممكنة مثل الدين، لكن استعمالات الدين هي التي تتوجه به نحو التطرف والتعصب. أرى أن البديل الممكن هو الفكر الروحي بأوسع معاني كلمة «الروح» التي تشمل أيضًا الفنون والموسيقا والجمال والطبيعة والتأمل والرعاية والأخلاق العملية. الفكر الروحي هو أوسع من الفكر الديني؛ لأنه يتيح تعايش الانتماءات الدينية المختلفة والمتنوعة. إنه فكر الروح الإنسانية الجامعة.

الرؤية الفلسفية للعالم

  ألفتَ كتابًا عن فكر الكاتب والفيلسوف اللبناني علي حرب، وكانت لك مناقشات معه حول دور الفلسفة، وبخاصة الفلسفة العربية، وأثرها في الحركة الفكرية عمومًا وفي العمل الأدبي والنقدي. كيف تشرح لنا باختصار هذا الأثر؟

  في سنوات التحصيل، عندما كنت طالبًا في الفلسفة بجامعة وهران، كانت كتب الأساتذة المغاربة مثل محمد عابد الجابري وعبدالسلام بنعبد العالي نعتمد عليها في بحوثنا. ثم اكتشفتُ كتابات علي حرب بفضل مكتبة صوفيا بوهران التي تديرها الكنيسة الجزائرية والتي كانت تجلب كتبًا حديثة من فرنسا ومن لبنان في مجال الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع والاقتصاد. بفضل هذه المكتبة اكتشفتُ أعمال علي حرب خصوصًا الأعمال الأولى مثل «التأويل والحقيقة» ثم «نقد النص» و«نقد الحقيقة». كان هذا النقد الذي سماه هو «نقد النقد» صدمة بالنسبة لي، ليس فحسب على مستوى المضمون الذي جاء جريئًا وصريحًا في معالجة المسائل التراثية وتقويم المشروعات الفكرية العربية، لكن أيضًا على مستوى الشكل، حيث اكتشفت كلمة الشاعر التي تتمفصل بفكرة الفيلسوف، فجاء أسلوبه شاعريًّا ومنسابًا، نقرأ كتبه كروايات، وكلماته متراصة
ومنظمة بشكل جمالي مُحكم.

علي حرب

ثم كانت لي فرصة اللقاء به في باريس بعد أن ترجمت كتابه «حديث النهايات» إلى الفرنسية. كانت نقاشاتنا حول دور الفلسفة وكيف تُسهم في تغيير رؤيتنا للعالم. إتقانه للمناهج النقدية المعاصرة مذهل وقام باستثمار هذه المناهج في قراءة التراث. وجاء نقده للمشاريع الفكرية العربية بسبب طغيان البُعد الإبستمولوجي وإهمال الأبعاد الأخرى مثل التأويلية والتفكيكية التي تنطبق على متون أخرى مثل التصوف؛ لذا رأى انحسارًا في هذه المشروعات باسم عقلانية عدها أصحاب هذه المشروعات في تضاد مع ما سُمي باللامعقول مثل العرفان والإشراق والأسطورة. قام علي حرب بإدراج جوانب أنثروبولوجية وتفكيكية أهملتها تلك المشروعات التي ظلت محصورة النطاق، منحسرة الأفق.

  شاركتَ في مؤتمر الفلسفة الدولي الذي عُقد في الرياض نهاية العام الماضي. ما تقويمك للمؤتمر ولمداخلات المشاركين فيه؟

  كان مؤتمرًا رائعًا بحق، من حيث التنظيم المحكم ومن حيث المضامين الفكرية. اختِيرَ مبحث «اللامتوقع» وجاء هذا الخيار في محله بالمقارنة مع ما نحياه اليوم من وقائع طارئة تتطلب أدوات أخرى في القراءة والمقاربة غير البداهة واليقين. جاءت المداخلات من آفاق متنوعة؛ لأن المتدخلين جاؤوا هم كذلك من آفاق أكاديمية متنوعة، ومن جامعات عالمية في القارات الخمس. أسهم هذا المؤتمر في تقديم رؤية جديدة حول المعطيات الحاضرة، وبيَّن أهمية الفلسفة في الاضطلاع بهذه المهمة في تجديد رؤيتنا للأشياء. لا استغناء عن الفلسفة بما توفره من أدوات في النظر والتحليل والحكم؛ لأنها تبقى حتى اليوم المجال الوحيد الذي يُقدم للإنسان المعاصر (مثلما وفر للقدماء) أشكال الرؤية إلى العالم وآليات فهمه والسلوك وفق معطياته. جاء المؤتمر ليذكر بهذه المهمة الأساسية.