مواجهة الباحث لأفكاره.. في وداع حسين نصار

مواجهة الباحث لأفكاره.. في وداع حسين نصار

حسين نصار

شعرت بالألم عندما ودعت أستاذي حسين نصار (1925ــــ2017م) فقد شعرت بأنني أودع آخر أستاذ من جيل الأساتذة الأجلاء الذين تتلمذت عليهم في قسم اللغة العربية بكلية الآداب في جامعة القاهرة، فقد رحل الأساتذة الذين أتشرف بالتلمذة عليهم بعد طه حسين؛ ابتداءً من سهير القلماوي، وشوقي ضيف، وخليل يحيى نامي، وعبدالعزيز الأهواني، وشكري عياد، وعبدالمحسن طه بدر، وغيرهم من الأساتذة الذين كان آخرهم أستاذي حسين نصار الذي ودعته في صباح الجمعة الموافق الأول من ديسمبر 2017م. والحق أن الدكتور حسين نصار فتح لي الأبواب التي لم أطرقها قبله، من علم اللغويات والدرس المعجمي؛ فقد كان أستاذي حسين نصار صاحب أولى أطروحات الدكتوراه في دراسة المعجم العربي وتطوره، ولا تزال هذه الدراسة نموذجًا للدراسات المنهجية إلى اليوم، رغم إكمال الدراسات التي بدأها في أطروحة الدكتوراه بما أضافه إليها من بحوث عديدة، ودراسات متواصلة، وكشوف عن مجاهل تاريخ الأدب المصري، تواصلًا مع النظرية الإقليمية التي نقلها عن أستاذه أمين الخولي، وأضيف إلى ذلك كله ما اقترن باسم حسين نصار من تحقيقات لدواوين شعرية، تشهد بمكانته العلمية الرفيعة في علوم التحقيق ونشر المخطوطات.

تعلمنا من هذا العالم الجليل النزاهة العلمية، والحياد الأكاديمي، والاحتكام الدائم إلى العقل المنهجي الذي لا يأبه بمتغيرات السياسة أو تقلبات الأمزجة الشخصية، بل يسعى دائمًا وراء الحقيقة المنهجية، كاشفًا عن كل ما يظل في حاجة إلى الكشف. وقد علَّمَنا الدكتور حسين نصار أن البحث المنهجي يحتاج دائمًا إلى مواجهة الباحث لأفكاره هو، قبل أفكار غيره وتصفية وعيه من بقايا ما ظل عالقًا به من تقاليد بالية، دون خوف من أحد إلا الله الذي كان يعرفه حسين نصار الذي كنا نقدر فيه إيمانه العميق وإحساسه الديني القويم وإعزازه لكل ما هو إسلامي أصيل؛ ولذلك ظللت على إعجابي بهذا الرجل، منذ أن عرفته في السنة الثالثة من دراستي الجامعية الأولى، عندما كنت تلميذًا في قسم اللغة العربية، وظل الرجل يرعاني رعاية الأب الحاني طوال سنوات دراستي، ويشجع جهودي المتواصلة على التفوق إلى أن أصبحت معيدًا في القسم الذي تولى رئاسته بعد ذلك لسنوات، وبعدها أصبح عميدًا للكلية التي ينتسب إليها هذا القسم. وكان طوال السنوات التي عرفته فيها أستاذًا ورئيسًا للقسم وعميدًا للكلية نموذجًا رفيعًا للخلق الكريم وللدأب العلمي النادر، منطويًا في كل الأحوال على روح العالم المدقق، وحرص المحقق الذي لا تفوته كلمة أو حرف في أي نص يقرؤه.

نزعة الأبوة

ولا أنسى هنا أنه اشترك في المناقشة العلنية لأطروحتي لدرجة الدكتوراه التي كانت تشرف عليها المرحومة الدكتورة سهير القلماوي، وكان معهما في لجنة المناقشة المرحوم الأستاذ الدكتور عبدالقادر القط. وكان موقف الدكتور حسين نصار في المناقشة، هو موقف الأب الحاني الذي يتحمس دائمًا لإنجازات ابنه التي كانت نزعة الأبوة المتأصلة فيه تدفعه إلى التسامح مع الأخطاء، وإلى الدفاع عمَّا قد يظنه الآخرون أخطاء منهجية جذرية في أطروحة الابن الذي هو أنا. واستمرت العلاقة بيننا على امتداد السنوات الطويلة تجمع بين حنو الأب ورعاية الأستاذ الجليل الذي يريد لتلميذه أن يصل إلى درجات الكمال. وظل على تشجيعه الدائم لي ورعايته العلمية التي جعلته لا يبخل عليّ بمشورة، ولا تحجز عني كتابًا طلبته من مكتبته العامرة التي أهداها قبيل وفاته إلى جامعة أسيوط وفاءً للبلد التي وُلد على ترابها وتأهب لدراسته الجامعية تحت سمواتها. وقد كانت الصفة الأساسية التي يتميز بها حسين نصار هي رحابة الأفق التي تجعله أسرع إلى تقبل الجديد من غيره، وأكثر تسامحًا مع جذرية «الحديث» عن أقرانه الذي حال تمسكهم بالتقاليد الجامدة دون أي تعاطف مع الجديد. وأعتقد أن السبب في ذلك هو معرفته بلغة أجنبية واحدة على الأقل هي الإنجليزية، تلك التي ترجم عنها كتبًا عديدة، سواء في مجال الاستعراب أو في مجال الدرس التاريخي للتراث الموسيقي العربي. وأظن أنه أول من عرف القراء بما كتبه «فارمر» عن الموسيقا العربية، وذلك في مدى الانفتاح الرحب الذي جعله مرنًا بما يتصل بقضايا التجديد وتحديات الحداثة على السواء.

ولا أزال أذكر أنني داعبته يوما بأن قرأت عليه عبارات الجاحظ التي تقول: إن المتكلم لا يصير متكلمًا بارعًا إلا إذا كان ما يحسنه من علوم الدين في وزن ما يحسنه من علوم الفلسفة. وكنت أقول له: يا أستاذي، إنك تشبه «المتكلم» الذي يتحدث عنه الجاحظ، فأنت تحسن من علوم العرب بقدر ما يسمح لك بالإحسان في علوم الأجانب والاطلاع على دراسات المستشرقين. وأذكر أنه قابل ابتسامتي ومداعبتي له بتواضع باسم، وقد ظل على ما عهدته عليه محسنًا كل الإحسان في علوم التراث القديم، وذلك بالقدر الذي كان يتسم فيه بمرونة بالغة في تقبل الجديد أو التفهم له سواء قبله أو لم يقبله. ولذلك لم يقف مرة واحدة في وجه كل ما حاولته من محاولات لتجديد الدراسة المنهجية في النقد العربي قديمًا أو حديثًا، ولم ألمح على وجهه نظرة استنكار واحدة لكل اختلاف لي مع بعض آرائه، بل كان دائمًا يتقبل اختلافي معه بوجهه السمح واتزانه المتعقل وعقلانيته السمحة التي ترحّب بكل جديد شريطة ألا يقضي على الجذور العربية الراسخة، والأصيلة التي علمنا الإيمان بها والحفاظ عليها.

صوت العقل

وقد وصلت كتب أستاذي إلى ما يماثل سنوات عمره؛ فقد منحه الله عمرًا مديدًا، فلم يفارقنا إلا بعد أن جاوز الثانية والتسعين من عمره، تاركًا عشرات الكتب المؤلفة، وعشرات الدواوين المحققة، وكُتبًا مترجمة، وعددًا لا حصر له من المقالات التي حاول حصرها الكِتاب التذكاري الذي أصدره مركز تحقيق التراث في مصر عند احتفاله بعيد ميلاده التسعين. وقد ظللت على علاقة وثيقة بالرجل الذي كنت أعدّه أبًا لي، وصوتًا للعقل المتزن، والمرجع العلمي الهادئ المدقق الذي أستند إليه. فما من مرة من المرات واجهت مشكلة من المشكلات العلمية أو العملية إلا وكنت أذهب إليه، وأجلس في حضرته، وأفتح له صدري؛ لكي أرتوي من نصائحه وآرائه التي لم يبخل عليَّ بها. وقد زاد من حميمية العلاقة بيننا أننا نسكن فى عمارة واحدة، هو بالدور السادس وأنا بالدور الثاني عشر.

ولن أنسى الساعة التي عرفت فيها خبر وفاته، فنزلت إلى حيث يسكن، وفتح لي ابنه الأكبر الباب وعيناه مملوءتان بالدموع؛ فاحتضنته وسألته عن أبيه الذي هو أبي، ودخلت إلى الغرفة التي كان جسده مسجى فيها، وأنا أقرأ القرآن مترحمًا عليه ومودعًا إياه الوداع الأخير، قائلًا لنفسي: كل الأحبة يرتحلون. فترحل عن العين –شيئًا فشيئًا- ألفة هذا الوطن. رحمك الله رحمةً واسعةً يا أستاذي؛ فقد كنتَ نِعْمَ المُعَلِّم والأب والصديق والزميل. و«إنَّا لله وإنَّا إليه رَاجِعُون﴾.