«أسير الشمس» لحميد عبدالقادر.. الفن بين الرؤية الاستشراقية والأيديولوجيا الاستعمارية

«أسير الشمس» لحميد عبدالقادر.. الفن بين الرؤية الاستشراقية والأيديولوجيا الاستعمارية

مَثّل الاحتلال الفرنسي للجزائر سنة 1830م حدثًا تاريخيًّا بارزًا، طبع بثقله وتداعياته السياسية مجريات القرن التاسع عشر وما تلاه؛ إذ أسهم في إسدال الستار على حقبة تاريخية طويلة هيمنت فيها الدولة العثمانية بأسطولها البحري على البحر الأبيض المتوسط، كما أدى إلى تزايد أطماع الدول الأوربية في اقتسام ثروات القارة الإفريقية، التي فتحت أبوابها على مصراعيها لاستقبال أنوار
«الحضارة الغربية».

حميد عبدالقادر

اختار الروائي والصحفي الجزائري حميد عبدالقادر في رواية «أسير الشمس: أيام أوجين دولاكروا في الجزائر»، الصادرة عن دار ميم سنة 2022م، العودة إلى السياقات التاريخية التي أحاطت احتلال الجزائر، في مسعى لإعادة كتابة الحدث على ضوء تفاصيله الغائبة، فاتخذ من لوحة أوجين دولاكروا «نساء الجزائر في مخدعهن»، التي رسمها عقب زيارته للجزائر سنة 1832م، موضوعًا لاشتغاله؛ محولًا إياها إلى مدخل لترميم الحكاية ورسم التفاصيل التي أسقطتها، وفق منظور ما بعد استعماري؛ لذا يمكن وصف هذا المتن الروائي بأنه أشبه بالنص الإطار المغيب، في مقابل نص آخر كلي الحضور، أنتجه الغازي المنتصر وفق ما يتلاءم ورؤيته، فارضًا من خلاله إستراتيجيات الهيمنة والإزاحة.

نموذج شرقي متخيل

يفكك هذا النص العلاقة التراتبية القائمة بين الغرب والشرق، معيدًا النظر في أبعادها، كاشفًا خضوع الرؤية الغربية، ممثلة في الرسام دولاكروا، لنموذج شرقي متخيل، ومتمثل في «ألف ليلة وليلة». وهذا ما يجعل المتلقي أمام ثلاثة نصوص تَوَلَّدَ بعضُها عن بعض، تجمعها صلة قرابة بالنص الأصلي المستعاد وهو «ألف ليلة وليلة» في نسخته العربية، الذي يمكن وصفه هو الآخر بأنه الأصل المفقود، الذي لا يحضر إلا بغيابه.

وتتمثل هذه النصوص في: «ألف ليلة وليلة» في نسختها الغربية، ولوحة «نساء الجزائر في مخدعهن»، ورواية «أسير الشمس»، التي تستعيد صداه لترسم هي الأخرى مسارات مختلفة للعلاقة بين الجلاد والضحية/ المهيمِن والمهيمَن عليه، سواء تعلق الأمر بالعلاقة بين فرنسا والجزائر، أو الشرق المتخيل وأوجين دولاكروا، أو الكونت دومورني (الضابط النابوليوني) وعشيقته في الرواية. فقد راح هو الآخر يستعيد صدى مزدوجًا لكل من شهرزاد وشهريار؛ فمن ناحية مكنه الحكي من الاستحواذ على عشيقته «السيدة دومورني» مستعيرًا صوت شهرزاد، ومن ناحية أخرى دفعه إرث الرجولة المهزومة، ممثلة في نابوليون، إلى البحث عن فتوحات جديدة، كانت قلوب نساء النبلاء ميدانًا لها؛ لذا أحيت رحلته الفعلية إلى عوالم الشرق هواجس الخيانة التي تهدد بسلبه هيبته وهالته؛ ليغدو طيفًا من أطياف شهريار.

أحجم الروائي عن تقديم تفاصيل الرواية بلسان الشخصية (دولاكروا)؛ بل اختار سردها بصوت الراوي العليم؛ الذي يبرز كشاهد يكمن دوره في استعادة التفاصيل التي أحجمت عينا الفنان عن التقاطها، وهو ما يوحي بإستراتيجية نصية قائمة على استبدال الأدوار والمواقع؛ فبينما تولى هذا الأخير في يومياته تسجيل تفاصيل الرحلة، بوصفه الفاعل المركزي الذي عايش الحدث وفرض رؤيته الخاصة عما جرى؛ تحول في هذا المتن إلى موضوع للرؤية من قبل من اختزل وجوده في الشرق المنمط.

تعذر الرؤية البديلة

يندر حضور الحوار في هذه الرواية مقارنةً بالمقاطع السردية الوصفية التي أتاحت مجالًا أوسع لرؤية الحدث من أبعاده المتعددة، فيما يوحي بغياب الرؤية الجماعية؛ وكأن كل شخصية تسعى خلف تحقيق أهوائها وصنع أمجادها الذاتية، من دون أن تقيم اعتبارًا للآخرين. كما ينعدم الحوار بين الغربيين والشرقيين من دون أن يكون مؤطرًا بتراتبية المواقع والأدوار، في ظل انعدام أي أفق للتواصل الحضاري بينهما، لكنه؛ وعلى الرغم من ذلك، كان محوريًّا في موضعين أساسيين: تمثل أحدهما في الحوار الذي دار بين دولاكروا والصحفي «بيغاليا» (نموذج الشخصية الفرنسية المعتدلة والمحايدة) الذي انتهى بامتناع الرسام عن الإنصات إلى صوت الحقيقة، بعد أن أطلعه على جريمة إبادة «قبيلة العوفية» من قبل الدوق «دي روفيغو»، مفضلًا البحث عن شرقه المشتهى، الذي طالما راوده في أحلامه.

أما الحوار الأهم فقد كان بين نساء اللوحة أي «الحريم»، فبعد خضوع الوالي العثماني لتهديد القائد الفرنسي بسلب أرضه وممتلكاته، يقايض ذلك بالسماح لدولاكروا برسم مجلس نسائه؛ وهو ما يجعل الطرف الفرنسي يبالغ في إذلاله وانتهاك ما اتفق عليه؛ لتنتهي جلسة التصوير بمرارة بالغة: «ردت زهرة توبوجي قائلة، وهي ترمق دولاكروا بنظرة قاسية: «أشعر أنهم قتلوني ثانية، بعد أن قتلوا شقيقي بجامع كتشاوة». فردت عليها موني بن سلطان، وهي تستعد لمغادرة المخدع: «أنا في الحمام، أريد التخلص من نجاسة نظرات هذا المشؤوم» (ص100).

سعى الروائي في هذا المقطع إلى تمرير نقد مزدوج للوجود العثماني والاحتلال الفرنسي على حد سواء، عبر إبراز الامتهان الذي يحكم نظرة كل منهما للمرأة الشرقية (التي تمثل بوصفها متاعًا يتملك)؛ إذ دفعه ذلك إلى إحياء الوجود المتشيئ لنساء لوحة دولاكروا، فمنحهن وجودًا إنسانيًّا متعينًا من خلال التسمية، ومسح عنهن رتابة الصمت والحزن الذي طبع ملامحهن، محولًا ذلك إلى احتجاج هادر في وجه الغازي الذي نُعت من قبلهن بالنجاسة والشؤم، بعد أن انتهكت نظراته شرفهن الذي عجز الرجل العثماني (الزوج) عن صونه، وهو ما يجعلهن المقابل الموضوعي لأرض الجزائر التي تتجاذبها مصالح الغزاة، إلا أنها تظل متمردة وعصية على الخضوع. لكن وجودهن ضمن السياق الروائي يبقى وجودًا منفعلًا، عديم الأثر (رد فعل)، مرتهنًا بحضور المركز، وكأن الغاية من هذه المقاربة تقتصر على معارضة رؤية دولاكروا التي أثث بها يومياته ولوحته الفنية، ونفي مزاعمه حول دور الفن في بث الحياة في الأشياء.

لكن التأسيس لرؤية بديلة ظل متعذرًا؛ لعدم توافر الإمكانات الجمالية التي تتيح التحرر من الرؤية الاستعمارية، ولعل أبرز ما يحيل إليها في هذا النص ارتباط الرؤية بالتجربة الاستعمارية حصرًا والانطلاق من خطابها بوصفه خطابًا مؤسسًا (إعادة كتابة اليوميات من منظور شرقي)، والاستمرار في إنتاج صورة الأصلاني الضحية المجرد من القدرة على المقاومة الفاعلة، فضلًا عن هيمنة صوت الراوي العليم، وتوظيف المعرفة (التأويل النقدي للوحة الذي تضمنه التقديم) كسلطة تصادر حق المتلقي في تشكيل رؤيته الخاصة عن الأبعاد الجمالية للرواية؛ وتصرفه إلى تتبع حضور شخصية دولاكروا، والتقاط ما يثبت تحيزاتها، ليقتصر دور الرواية على رسم خلفية مستعادة للوحة، هي أقرب -وفق منظور الكاتب- إلى الحقيقة منها إلى الخيال؛ ليضيع بذلك سؤال الفن بين الرؤية الأيديولوجية ونقيضها.

آسيا جبار: المخطوط غير المكتمل أو استحالة التأسي

آسيا جبار: المخطوط غير المكتمل أو استحالة التأسي

شهد النص الثاني من سنة 2021م عودة للحديث عن المنجز الأدبي للروائية الجزائرية العالمية آسيا جبار، وذلك بعد نشر مطابع جامعة السوربون الجديدة (فرنسا) ومطبوعات ميديا بلوس (الجزائر) مخطوطًا غير مكتمل مثل الأثر الأخير من أعمالها السردية، بتوقيع كل من ميراي كال غروبير -أبرز الباحثات المتخصصات في دراسة أدبها-وآنياس فرانتز.

وتأتي أهمية هذا المخطوط من كونه يمثل الجزء الأخير من رباعية الجزائر: «الحب والفانتازيا» 1985م، و«ظل سلطانة» 1987م، و«واسع هو السجن» 1995م، فضلًا عن أنه يكشف جانبًا من عالم الكتابة الخاص بها؛ لذا فالتعاطي النقدي معه لا بد أن يأخذ في الحسبان طبيعته الشذرية، فضلًا عن كونه وثيقة أرشيفية ذات قيمة بحثية في الدرجة الأولى، أكثر منها إبداعية (روائية). وهذا ما يبرر وَفْقَ ميراي كال غروبير نشره مرفقًا بمقالات نقدية ووثائق أرشيفية تسهم في إحياء النص والكشف عن المخزون الدفين الذي يتأسس عليه عالم الكتابة الخاص بآسيا جبار، أو ما سمّاه ميشال بوتور، في كتابه «في البحث عن الأدب المفقود»، «الأدب النائم»، ويُقصد بذلك: الأرشيف الخاص بالكاتبة، الأماكن والأحداث التي شغلتها، الشهادات والوثائق، والأرشيف الأدبي والسينيماتوغرافي الخاص بتصوير فِلْمها «النوبة نساء جبل شنوة» (1977-1978م). ويتيح كل هذا «قراءة البُعد المزدوج للغة الكتابة عند آسيا جبار: عنيدة ومنتصبة مثل نبتة الصبار؛ حزينة، تواسي من لا عزاء له في لغة الموتى». (Inachevé, média-plus, constantine, 2021, p16)، إضافة إلى منح العمل طابع الديمومة الذي يتسم بها فِعْل الكتابة؛ ذلك أن كل نص مكتوب هو في آخر المطاف نص غير مكتمل.

انفتاح المخطوط على اللانهائية

تشير ميراي إلى أن سبب عدم اكتمال المخطوط يظل غامضًا، فهو لا يعود إلى وفاة آسيا جبار المفاجئة، في السادس من شهر فبراير 2015م، كما لم يكن نتيجةً انقطاع حبل أفكارها وانطفاء جذوة الإبداع لديها، والدليل على ذلك نشرها للعديد من الأعمال الروائية والأدبية خلال تلك المدة: «بياض الجزائر» 1996م، و«وهران، لغة ميتة» 1997م، و«ليالي ستراسبورغ» 1997م، و«الأصوات التي تحاصرني» 1999م، و«جمال يوسفَ» 1999م، و«بنات إسماعيل في الريح والعاصفة» 2000م، و«المرأة التي لا قبر لها» 2001م، و«اختفاء اللغة الفرنسية» 2003م، «بوابة الذكريات» 2007م.

في حين ظل هذا العمل ملازمًا لحالته غير المكتملة طِيلةَ عشرين سنة؛ أي منذ 1995م، غير منسيٍّ من جانبها؛ إذ صَرّحَت في كثير من المرات بأنه سيكون كتاب الأب أو كتاب الآباء، وأنه قد يحمل عنوان «دموع أوغسطين» صاحب كتاب الاعترافات والملقّب بابن الدموع في إشارة إلى دموع أمه التي كانت تطمح في عودته إلى الديانة الأم (المسيحية)، والتي تقابل هنا اللغة الأم (الأمازيغية) (في دلالة على المأساة). كما ظلت دائمة الحماسة بشأن مشروع كتابته، فضلًا عن البحث والتنقيب عن المعلومات الخاصة بتأثيث تفاصيله، بحكم أنه يندرج في سياق الرغبة في استكشاف جوانب أوسع من سيرتها الذاتية التي تتقاطع في الوقت ذاته مع التاريخ السياسي للمنطقة، وتنفتح على جراح الفقد الأولى المتعلقة باللغة الأم.

كما يختلف هذا الأثر عن غيره في استحضاره -لأول مرة- شخصية الجد الذي ينماز من غيره في كونه متعدد اللسان (الأمازيغية والعربية والفيتنامية بحكم تجنيد فرنسا له في حرب فيتنام) من دون أن يفقد لغته الأم، خلافًا لها ولأبيها، المنفيين في اللغة الفرنسية، فـ«بالنسبة لآسيا جبار، أن تكتب يعني أن تعود للإقامة في جرحك الأصلي، أو في الأصل غير الأصلي. حيث لا توجد لغة أم: الأمازيغية امّحَت، العربية الكلاسيكية لم تدرس مطلقًا. بالنسبة إلى لغة الأب: الأجنبية، لغة الكتابة بالفرنسية. ولا يوجد تاريخ «خاص» غير حامل لبصمة المستعمرة. الكتابة تعني العودة إلى المحنة العاطفية» (ص10).

يكشف تأمل طبيعة النصوص التي أنجزتها الروائية في مدة الانقطاع عن انشغالها بجراح الحاضر الدامي للجزائر في العشرية السوداء عن التحديق في جراحها الخاصة، على الرغم من أن ظلالها قد تسربت عبر مختلف نصوصها، إضافة إلى أسباب أخرى تتعلق بما تطرحه الكتابة عن محنة الذات من حرجٍ يجعلها في حد ذاتها محنةً حين تتوسل الألم لتحقيق ذلك، دون أن تبقي على مسافة الحماية التي يؤمنها الوقوف عند حدود الداخلي والخارجي. ولعل هذا ما تكشف عنه مضامين الفصول الثلاثة المشكلة لهذا المخطوط المكون من أربعٍ وسبعين صفحةٍ، عنونتها على التسلسل بـ: «السُّلم، سيزاري (شرشال)، أولئك الذين يأتون ويذهبون»، ليبقى انفتاح المخطوط على اللانهائية دلالة على استحالة التأسي.

سردية المنفى

يستحضر المخطوط أعمق الهواجس التي شكلت العالم الداخلي لآسيا جبار، حيث تغيب نقطة الارتكاز المحورية في المقاطع الشذرية التي شكلته؛ لتتجلى المعاني كأطياف متعددة يجمعها خيط رفيع هو الفقد الذي يحضر في الفصل الأول عبر الحلم الكاشف عن صدى علاقة الطفلة بمفهوم الأبوة، ليؤثث لاحقًا (في الفصل الثاني) علاقتها بالمكان الأصلي (مدينة شرشال)، الفاقد هو الآخر لأصالته والمغترب عن حقيقته، ليظل الشعور بالاقتلاع اللغوي والنفي في لغة الآخر أعمق الآلام وأقساها؛ بحكم أنه جعلها في حالة ارتحال دائم بين الماضي والحاضر وبين الهنا والهناك؛ بحثًا عن بلسم لجرحها الوجودي، وهذا ما لا يتأتى من دون الإمعان في فتحه.

يضيء المخطوط من ناحية أخرى جوانب متعلقة بعالم الكتابة عند آسيا جبار، تضع القارئ أمام وضعية ملتبسة، تكشف عنها طريقة مزدوجة في تقسيم الفصول والمقاطع؛ إذ تشتمل النسخة المطبوعة على نمطين من الترقيم، يرتسم أحدهما في أعلى الصفحة محددًا ترتيب الفصول والمقاطع بشكل دقيق؛ في حين دُوّنَ الآخر يدويًّا في أسفل الصفحات، وهو ما يعني أنه أعقب الترتيب الأول، كما اختلف عنه فيما أحدثه من انقطاع وغياب (ص42، 43) فضلًا عن التداخل الذي ولده نتيجة التقديم والتأخير بين الأجزاء. وهذا ما يجعل هذه الوثيقة أثرًا كاشفًا لطريقة اشتغال الكاتبة في إخراج أعمالها وإخضاعها للمراجعة دائمًا؛ ليخلص القارئ إلى استنتاج سِمَتيْنِ من سمات الكتابة لديها، تتمثلان «في أنها تنجز عملها على شكل فسيفساء حيث تضع القطعة الواحدة بجوار الأخرى، أما الجانب الآخر فهو إدراكنا لحقيقة أن العمل الأدبي بالنسبة إليها نظام يحيا ويتنفس بشكل مختلف، تثير كلماته ذات الإيقاعات المتغيرة محكيات منفتحة على التأويل اللانهائي. فندرك فجأة أن ما يؤسس عملها هو الشك في حقيقة لغة الكتابة، والشعور بأننا نسير دائمًا فوق رمال متحركة، كما أشار إلى ذلك كلود سيمون في ختام خطاب ستوكهولم» (ص11).

الكتابة بوصفها رحلة بحث عن الجذور

يضعنا هذا العنوان أمام إشكالية فلسفية؛ إذ كيف يمكن للكتابة بلغة الآخر «المنفى القسري» أن تؤمن العثور على الجذور؟ وهل يتعلق الأمر هنا ببحث عن جذور معلومة أم إعادة خلق لها؟ يكشف المخطوط حسب ميراي كال غروبير عن مسعى آسيا جبار لتشييد اللغة الوطن، حيث لن تكون فيها مجددًا هاربة أو منشقّة. وفي ذلك إشارة إلى المأزق الوجودي الذي يجد الكتاب بلغة الآخر -سواء أكان اختياريًّا أم قسريًّا- أنفسهم في مواجهته؛ إذ يرى الباحث نزار بن سعد أن هذا الوضع يهدد هذه الفئة بفقدان موطئ أقدامهم في بلدانهم ويجعلهم مهمشين من الجماعة التي ينتمون إليها؛ لذا استدعى تجاوز هذا الوضع بالنسبة إلى آسيا جبار البحث عن كتابة مهاجر عابرة للتخوم من دون أن تقيم خلفها، وليس هذا خيارًا بين خيارات أخرى بقدر ما مثل حاجة وجودية لبناء ذاكرة لا تتقيد بحدود المكان؛ لأن ذلك هو السبيل الوحيد لتأسيس الأصل المفقود المبتور الجذور. ولعل هذا ما جعلها تفجر اللغة الفرنسية وتفتحها على إمكانات تعبيرية متعددة لا قبل لها بها، أفقدتها هيمنتها الرمزية بوصفها لغة المستعمر، عبر التضايف الذي أتاحه التعدد اللغوي، فـ«بين المقدس (العربية) والعلماني (الفرنسية) يتفجر «الوثني» [الأمازيغية] دون عقيدة ولا قانون» (ص113).

وعن طبيعة هذه العلاقة باللغة تقول الكاتبة: «أنا، امرأة عربية، تكتب بشكل سيئ العربية الكلاسيكية، أحب وأعاني بلهجة أمي»، كما تتصادى عبارتها «لا أملك سوى كتابة واحدة، فقط باللغة الفرنسية» مع مقولة جاك دريدا في كتابه «أحادية الآخر اللغوية»: «نعم أنا لا أمتلك إلا لغة واحدة، ومع ذلك فهي ليست لغتي»، التي يلحقها مباشرة بما ينقضها «لا يمكننا أن نتكلم أبدًا إلا لغة واحدة/ لا يمكننا أن نتكلم لغة واحدة فقط» (ص11)؛ إذ يغدو التهجين هو الأصل، ولعل ما يجمعهما في هذا المقام البيني هو تجربة النفي والانقطاع القسري للجذور التي تصلهما باللغة الأم، وهذا ما جعل اللغة الفرنسية بالنسبة إليها لغة الكتابة دون سائر المقامات الأخرى، كما فتح دلالة الملكية هنا على ظلال أخرى للمعنى هي الاستعارة والتحوير الذي يسهم في إضفاء الطابع الخاص على ما يعد في الأصل لغة الآخر المستعمِر، وذلك عبر التهجين الذي ولده استحضار الأمازيغية كلغة شفوية لها تقاليدها الفاقدة للحرف، والعربية الممتزجة بالألحان الأندلسية (النوبة)، رغبة في تحرير الأصوات المتمردة المختنقة في حنجرتها؛ لإعادة تشكيل الذاكرة التي تعرضت للبتر، وهو ما ينقل تصنيف كتابتها -حسب الباحثة- من كونها فرانكوفونية إلى فرانكوغرافية (نسبة إلى الكتابة لا الصوت)، ويتيح لها الإنصات إلى جراحها التي ولدتها لعنة الفقد اللغوي، تلك اللعنة التي ورثتها عن والدها والتي عبرت عنها في العديد من المقاطع بالإحالة إلى الصمت والتلعثم.

سلالم الهروب والارتقاء

يفتتح المخطوط بمقطع موسوم بـ«السلم» يحيل إلى مشهد رؤيوي أشبه بحلم يقظة، تبدو فيه الكاتبة واقفة أمام جدار بشري مثله والدها الحامل لجدها على كتفيه، وهي آنذاك طفلة ذات ثلاث سنوات، تتهيأ لتسلق هذا الجدار/ السلم، من دون أن تتسبب في هدمه أو تجاوزه، فلا تنجح في تحقيق ذلك سوى بعد أن تصبح امرأة بالغة، وهذا ما جعلها بعد مثابرة طويلة ترتقي لتصل كتفي والدها، وتتبوأ مكانة ملتبسة (لا قاعدة ولا قائمة)، فأسهم ذلك في إحداث التوازن على وقفة الأب بعد أن ناء به حمل والده المتوفى.

تحيل رمزية السلم على ثنائية الهروب بغية تحقيق الوصول الآمن (الخلاص)، والارتقاء للانتقال من منزلة دُنيا إلى منزلة عُليا، وهذا ما يستدعي رمزية «سلم يعقوب» في سفر التكوين، فيغدو تعلُّقها بهذا السلم البشري الذي تراءى لهل حلميًّا سبيلًا للعثور على بيت الوجود الذي تمثله اللغة الأم، إضافة إلى تجلي فكرة النموذج أو القدوة المتمثلة في الجانب الأبوي لا الأمومي (خلافًا للسردية النسوية النمطية)، ويعود ذلك ربما إلى سببين هما امتلاك الجانب الأبوي -خلافًا للأم- القدرة على العبور بين اللغات مع إمكانية العودة إلى الأصل والإقامة فيه (العربية أو الأمازيغية) وهذا ما عُدّ بالنسبة إليها سبيلًا للتحرر، لكن التخلي عن الجد المتوفى المصاب بالعمى عاقَ تحقُّق ذلك نسبيًّا، من دون أن يزيحها عن السلم كليًّا؛ بل حفزها لاستحضارها شخصية رمزية أخرى للاستناد إليها والتحصن بإرثها، وهي شخصية القديس سانت أوغسطين الذي عُرف بفصاحته التي أهّلته لخوض سجال خطابي مع أسقف مدينة شرشال، وكأنها تسعى عبر هذا الاستدعاء إلى إضفاء مشروعية على التعدد، والتصالح مع فكرة الإزاحة اللغوية التي تعرضت لها لغتها الأم عبر تهجينها، بحكم أن هذا الخيار مكّنها من تبوؤ مقعد في سلم الهوية اللغوية للمنطقة، المؤثثة بروافد مختلفة ومتعددة، كما أتاح لها التصالح مع مختلف أبعادها.

التباس الهوية

على امتداد صفحات المخطوط يتصاعد صدى صوت داخلي يحاور الكاتبة ويحاججها، مضفيًا الالتباس على خياراتها، ليبذر الشعور بالندم أو تأنيب الضمير نتيجة التخلي عن الوطن وعن اللغة الأم (الأمازيغية) التي تتجلى لها في منافيها كعينين تدفعانها من خلف لتبصر مآسيه على نحو أعمق «هنا، عينان واسعتان، عينان عميقتان بنظرة ثابتة تدفعانك في الظهر، تنفتحان أو تتسعان فوق العنق، لتتيحا النظر مجددًا إلى هذا الوطن، مأساته، دمه، تأمل حزنه وشهدائه في الوقت ذاته، و… لعنته» (ص11 من المخطوط).

تمارس هذه اللغة الحاضرة بالغياب دور الرقيب الداخلي، عبر ما تثيره في نفسها من قلق وضجيج يحرمانها الشعور بالاستقرار، في حين تتبنى الكاتبة موقفًا مغايرًا من اللغة العربية، يبدو إلى حد ما إجراءً دفاعيًّا نتيجة موقف كانت طفولتها مسرحًا له، تسبب في إثارة سخرية صديقات أمها؛ اللواتي نَعَتْنَها بابنة أبيها بعد أن تلعثمت في أثناء حديثها بالعربية رغبة منها في إثارة اهتمام أمها التي ما كان منها سوى أن شاركتهن الضحك.

تقول: «اللغة التي لا تملك الرموز، فقط بالضجيج الذي يخدش، التي تعارض اللغة الثانية الموصوفة بأنها مقدسة، جعلتك تتلعثمين أمام أمك وصاحباتها الشاعرات اللواتي يرتجلن لكن دائمًا في هذه اللغة الثانية، لغة الكتاب […] كل هذا الوقت، الأولى، السرية، الوثنية، اللغة التي صمت الآذان، التي طالبت بالحوار، التي ظلت تناجي من أعماق حنجرتك حد الاختناق، كل هذا الوقت، كان يمكن لهذه اللغة البدائية، التي عدت بربرية أن ترقص بداخلك وتجعلك ترقصين، لكن الوقت تأخر» (ص12 من المخطوط)، مفسرة ذلك برحيلها إلى فضاء آخر، انصهرت فيه كل اللغات واختلطت بكل حرية، وفي أولها «اللينغوا فرانكا» (ص12 من المخطوط)، ويقصد بها لغة البحارة في الموانئ المتوسطية، وتأتي الإحالة إليها بدل الفرنسية المعاصرة نظرًا إلى طابعها الهجين واستعمالاتها المشتركة، فضلًا عن ارتباطها بعالم الأسفار والارتحال بين ضفتي المتوسط.

تقول: «لغة فرانكا، التي أخفت من أجل إغرائك، ثمنها من الدماء (الجراح الدامية جثث أسلافك الذين قتلهم هؤلاء السادة) الفرانكا التي تعرض أمامك كطعم، كلمات شعرائها، وحالميها، وصولًا إلى أغانيها، وشكاوى نسائها، أخوات ممكنات في الحقيقة، بقلب شجاع» (ص 12 من المخطوط)؛ إذ تقر الكاتبة في هذا المقطع بموقف مزدوج تتجلى في أحد أبعاده كفريسة خاضعة لحيل وإغراءات لغة المستعمِر، تلك الحيل التي جعلتها تغفل عن إرثه الدموي في حق أسلافها؛ لتجد في لغته إخوةً مفترضين.

يتجدد هذا الالتباس في مقطع آخر يحيل إلى موقف الكاتبة من الوضعية التي وجدت نفسها فيها، سواء في مدة الثورة أو بعد الاستقلال، والمتمثلة في كونها محمية من التعرض المباشر للمصير المأساوي الذي كان غيرها عرضةً له، إضافة إلى وجودها خارج المكان (الوطن)، وكأن هذا الاقتلاع اللاإرادي والعجز عن تمثل الدور الذي ينبغي لها أن تلعبه من الداخل على الصعيد المحلي لم يكن أقل مأساوية، بقدر ما هيأها لتصير شاهدة على قضايا لا يستقيم فيها الحياد، وهذا ما جعلها مؤهلةً لتخط مآسي الراحلين الممزقين مثلها بين ضفاف المنافي التي ولدها التاريخ الشائك للمنطقة، والالتفات إلى أصوات المهمشين عبر استحضار مأساة المهجرين من الجزائر غداة الاستقلال (الأقدام السوداء) الذين وجدوا أنفسهم فجأة مبعَدِينَ من وطنهم الأم.

ولتأكيد الطابع المأساوي للمنفى تستعيد الكاتبة قصة جوبا الثاني الملك الأمازيغي الذي اتخذ مدينة شرشال في عهد روما القيصرية عاصمةً لمملكته (موريطانيا) وأقام فيها بعد أن تزوج ابنة كليوباترا الأميرة كليوباترا سيليني الثانية. فعلى الرغم مما شيده وأنجزه على الصعيد المعرفي في لغات محايدة مثل اليونانية، فإنه بدا وقد تنكّر لماضي أسلافه (والده يوبا الأول وسلفه يوغرطة) رغمًا عنه؛ نتيجة التدجين الذي تعرض له في أثناء تنشئته الرومانية في قلب البلاط الروماني، عاجزًا عن تخليد أي أثر يدل على ذلك، ما عدا «قبر الرومية» (المدفن الملكي) ذلك الأثر الشاهد على قصة حب بين منفيين في لغة الآخر.

«اختفاء السيد لا أحد» لأحمد طيباوي أو رحلة البحث عن العائد من القاع

«اختفاء السيد لا أحد» لأحمد طيباوي

أو رحلة البحث عن العائد من القاع

تضعنا رواية «اختفاء السيد لا أحد»، للروائي الجزائري أحمد طيباوي، الصادرة عن منشورات الاختلاف ومنشورات ضفاف، الفائزة بجائزة نجيب محفوظ 2021م، أمام سؤالين محوريين هما: ماذا يمكن للعائد من الموت أن يخسر؟ ما معنى الخلاص بالنسبة إلى من انتقل من حافة الموت إلى حافة الجنون؟

أحمد طيباوي

تهيئ الرواية قارئها منذ العتبة الأولى (العنوان) للدخول في لعبة سردية يؤثثها التأمل الفلسفي الذي يعزّز الشك والارتياب؛ ذلك أن أول سؤال يمكن للمتلقي أن يطرحه حول هذا العنوان هو: كيف لمن لا وجود له أن يختفي؟ ألا يشترط الاختفاء أولا حضورًا متجليًّا؟ ثنائية ضديّة تكرّس مفهوم المفارقة والتناقض على نحو مستمر، يمكن رصدها مبدئيًّا في تقسيم العمل إلى جزأين؛ «الرجل الذي خلع وجهه ورحل» و«الجحيم يطل من النافذة» وهو ما يوحي بأن الاختفاء شرط التجلي وليس العكس.

لكن قبل ذلك دعونا نقف قليلًا عند ملامح شخصية السيد لا أحد: يبادرنا صوت الشخصية من أول سطر في الرواية، وعلى امتداد المقطع الأول الذي يحمل عنوان «مراوغة» وكأن الروائي يدعونا إلى الاستعداد للعبة التي ينبغي لنا أن نبقي فيها حواسنا القرائية متيقظة، حتى لا نسقط في وهم التسليم بما تقوله الشخصية.

يطالعنا «السيد لا أحد» أولًا بميوله العدوانية ورغبته في الفتك بالشيخ الذي يرعاه قائلًا: «قد يكون اقتلاع أحدهم من الحياة حلًّا معقولًا حتى بالنسبة لرجل مثلي لا يملك سوى أسباب تافهة ليفعل ذلك»، لكن السرد سرعان ما يدحض هذه الصورة لتتجلّى صورة مغايرة، يرسم العجز والشعور بعدم الانتماء تفاصيلها، فقد كان همّ الشخصية هو الرغبة في الحفاظ على العتمة التي تخفي حضورها، بعد أن نفضت يديها من الوجود، جالسةً في شرفة الطابق الأخير، تتأمل تفاهة البشر في الظلام الحالك الذي يلف المدينة ويطبق على أنفاس ساكنيها، كمن يقف فوق خراب العالم ليسخر من انحداره، معلنةً انفصالها عمّا حولها، بعد أن قطعت كل صلة لها بالمجتمع البشري، وما وجودها رفقة الشيخ الهرم سوى صفقة عابرة أبرمتها يد القدر في غفلة منها، ما فتئت تريد منها فِكاكًا.

تتولى الشخصية التعبير عن قناعاتها وتصوراتها بشكل متكرر، وهو ما يتيح للقارئ تشكيل ملامحها وأبعادها المختلفة، وهنا تكمن المفارقة، تقول: «أخاف أحيانًا من أن يكشفني جمر سجائري»، «لم يخلف كلامه أي فضول بداخلي لمعرفة أمر يعتقد أنه سيجعلني ملكًا… ملك؟ ذلك يقع عمليًّا خارج دائرة تطلعاتي، دائرة ضيقة ومثيرة للسخرية، ويستحق صاحبها رثاء خاصًّا. لا يهم، أنا عبد قذر، لا يعرفه أحد ولا يأبه له، وهذا يرضيني تمامًا». يشير في مقام آخر إلى غياب الرابط الروحي الذي يستشعره كل إنسان لحظة استحضار صور الأمّ، يقول: «صور أمي في ذاكرتي غير واضحة، بعيدة ومشوشة، ولا عاطفة تشدني إليها…».

إذ يحيل هذا الموقف المحايد إلى فقدان الرابط مع الحياة نتيجة وعي مبكر بتفاهتها؛ ذلك أن الظروف لم تهيئه لنسج علاقات متينة بمن حوله؛ فيكفي أن يتعلّق به أحدهم ليكون الموت وشيكًا، لكن المفارقة العبثية أن الموت أبى الاقتراب منه لحظة التماس المباشر معه (حادثة الاختطاف من جانب الإرهابيين) كشكل من أشكال العذاب المجاني الذي وجد نفسه ضحية له، فقد لفظته الحياة إلى هامشها وأمعنت في سحقه، فما كان منه سوى أن يختار بإرادته أن يكون حشرة، من دون أن يستشعر ألم السحق، وهذا ما يذكّرنا برواية المسخ لفرانز كافكا. تبدو الحياة بالنسبة إلى هذه الشخصية محطة انتظار؛ لذا اختارت موتًا رمزيًّا مؤقتًا يتيح لها الاستعداد للموت الحقيقي بوصفه الخلاص الوحيد المستحق.

العقل حصان طروادة الخاسر

يبدو التمسك بالعقل رهانًا خاسرًا تفننت الرواية في تصوير تبعاته، مذكّرة بلعنة المبصر في مجتمع العميان، وذلك من خلال تسليط الضوء على محنة الوجود العبثي الذي وجد «السيد لا أحد» نفسه معلقًا بين أقداره؛ إذ يصف نفسه ساخرًا بشفافية بالغة: «أنا حبيس جملة من الظروف لا أجد سببًا منطقيًّا يجعلها تتفرغ لي وحدي من دون الناس»، أمام هذه الحتمية يصبح الجنون طوق نجاة للتخفّف من إكراهات الواقع، لكنه خيار لم تدرك الشخصية قيمته إلا بعد أن خبرت حجم البؤس والنفاق البشريين؛ لذا يأتي قرار الاختفاء في النهاية كإعلان عن موقف رافض للحياة، وإن بدا في ظاهره عديم الأثر، فإنه في حقيقته يحمل رمزية الثورة الناعمة بحكم أنه أحدث تحولًا في مسار باقي الشخصيات.

لقد أخرج حدث الموت (موت الشيخ) «السيد لا أحد» من العتمة إلى النور، ونقله من دائرة الحضور الهامشي إلى الحضور المركزي بالنسبة إلى من تقاطعت مسارات حياتهم معه، لكنه حضور بالغياب، فغدت شخصيته مرآة تتجلى من خلالها ذوات الآخرين، بل صارت هاجسًا بالنسبة إلى المحقق رفيق طايبي، الذي تقوده رحلة البحث عن سر هذه الشخصية في الجزء الثاني من الرواية إلى إدراك هشاشة وجوده وعبثية الحرص على تماسكه؛ لذا يختار في آخر المطاف الاختفاء من دون أن يترك أثرًا يدل على وجهته، فيتحول من باحثٍ إلى مبحوثٍ عنه، ويغدو الاختفاء بعد التجرد من الروابط شكلًا من أشكال الخلاص الفردي؛ ذلك أنه لا مجال لتحقيق خلاص جماعي في مجتمع يستعذب السير نحو الهاوية، ولعل هذا ما جعل الروائي يستثمر فكرة الحمل الذي بقي معلقًا، لا كحلّ يخرج المحقق من دائرة اللاجدوى بفعل تواطؤ الظروف وقوى الفساد؛ بل ليعززها؛ إذ لا معنى للاستمرارية إذا لم تكن حاملة لبذور التغيير الجذري، وهو الأمر الذي لا يمكن تحقيقه برؤية رومانسية حالمة، وما إبقاء النهاية مفتوحة إلا تأكيدًا لتعدد المسارات التي يخفيها القدر.

يذكّرنا اختفاء السيد لا أحد برواية «كائن لا تحتمل خفته» لميلان كونديرا؛ ذلك أن الاختفاء مكّن الشخصية من التخفّف من حمولات الواقع والتحرّر من إكراهاته، لكنها خِفة لا تحتمل؛ لأنها أزالت الستار عن مسرح الحياة، كاشفة عورات مجتمع غارق في الزيف والنفاق.

دور المثقف في مجتمع مسلوب

تستحضر الرواية محطة الإرهاب بوصفها محنةً لها الأثر البالغ في تشكيل وعي البطل، على الصعيدين الفردي والجماعي، بغية كشف الانحدار الذي أصاب سلّم القيم في المجتمع الجزائري عقب العشرية السوداء، وما ترتب على ذلك من تغييب المبادئ والمثل وتغليب ثقافة الاستغلال والنهب. تلخص الرواية محنة المثقف العاجز عن إحداث التغيير، يعيش اغترابًا عن شرطه الإنساني، في مجتمع كفرَ بالمُثُل والقيم، واستعذبَ الانحدار، وأمام احتمال الشعور بالمظلومية والخضوع للقهر الذي تمارسه قوى الفساد اختار الاختفاء سبيلًا أوحد للخلاص… ولنا أن نتساءل في الختام: هل يحق لسيزيف (المثقف) من الناحية الأخلاقية التخلي عن الصخرة؟