«وأجري خلف خولة» لحسن البطران.. قصص يميزها طرح جريء

«وأجري خلف خولة» لحسن البطران.. قصص يميزها طرح جريء

الطرح الجريء للقاص حسن علي البطران بات سمة تُميز نتاجه القصصي الإبداعي، مستعملا لغة السهل الممتنع بأسلوب يجعل القارئ يجتهد في فهم الخطاب المُصدر له.

حسن علي البطران

آخر مجموعة قصصية للقاص حسن علي البطران كانت بعنوان: «وأجري خلف خولة..» التي صدرت عن (مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع، بابل، العراق، 2021م) بقطع متوسط ومُكونة من ست عشرة خيمة، توزعت في 118 صفحة، وكل خيمة يتصدرها عنوان يضم فكرة تحمل في مضمونها دلالات القصص التي ضمتها الخيمة. افتتح القاص مجموعته بعتبات تناول فيها مجمل ثيمات قصص المجموعة وقضاياها، فضلا عن تناوله موضوعات عدّة، اجتماعية وأدبية.

من ناحية، احتضن علم النفسِ الأدبَ بكل صنوفه، وقدم به دراسات كثيرة على وفق التحليل النفسي للمُبدع، وآمن نقاد هذا المنهج بأن لكل عمل أدبي أثرًا من نفسية الأديب أو المُبدع؛ لذلك قدم فرويد دراسات مهمة في الأدب. ويعبر الدكتور عز الدين إسماعيل، قائلًا: «إن النفس تصنع الأدب، النفس تجمع أطراف الحياة لكي تصنع منها الأدب، والنفس التي تتلقى الحياة لتصنع الأدب» (التفسير النفسي للأدب، عز الدين إسماعيل، مكتبة غريب، القاهرة). ويضيف الدكتور محمد مندور «الأدب موضوعه الإنسان في ذاته وفي استجابته لما حوله، وهو في هذا شبيه بعلم النفس» (في الأدب والنقد، محمد مندور، نهضة مصر، القاهرة).

وتحت هذا المفهوم سنبحث في المجموعة القصصية التي كتبها البطران الذي تتميز نصوصه بالرمزية والمفارقة والتورية. والمجموعة القصصية من عتبتها الأولى المتمثلة في العنوان: «وأجري خلف خولة..»، دليل على رغبة القاص في المضي قدمًا خلف الأحلام والأمنيات التي استعار لها اسم علم مؤنث (خولة) شاع وانتشر عند العرب القدامى، ويحمل دلالة في المعجم العربي، وهي المرأة الممتلئة بالأنوثة التي تمشي بخفة وتَبَاهٍ، وسياق الجملة الفعلية المبدوءة بالفعل (أجري) الذي يثبت عنصر العاطفة والرغبة وانعكاسًا لنفسية المبدع.

وحدة وصراع

وتماشيًا مع هذه البداية، نأخذ من المجموعة قصة قصيرة جدًّا عنوانها: «هجران غير مشروع»، وتحمل عنصر التعلق، والمشهد يترجم هذا الأثر النفسي البليغ في نفس الكاتب. ويزداد الشعور بالوحدة والصراع في اللاوعي، فهو متألم مما حدث مع زوجته، وهي تحرمه من اللذة التي أرادها، ويعود لمشهد اللجوء إلى حضن الأم الذي منحه الأمان والمحبة… وهذا المشهد الأول المجسد للاقتراب الجسدي والتلاقي بين الأم وطفلها، فضلًا عن إشباع الرغبات الجسدية للطفل. وقد ربط القاص بين رغبة الطفل الرضيع وبين رغبته الشخصية، هو حين ينام على صدر أمه، وقد أصاب حظًّا موفورًا من ثديها، وبدت عليه أمارات الرضى والارتياح وهذا يُسمى بالإشباع، بينما الراوي لم يحقق هذا الإشباع وبقي كابتًا الأمر، وعبر عنه بالذهاب لقبر الأم جائعًا.

في مشهد آخر حافل بالإيحاء الجسدي في قصة «ماء لا يروي»، يقول: «يصرخ طفلُها.. معدته خاوية، يريد (رضَّاعته)، لا وقت معها، فهي مشغولة في تلوين وجهها، انتظارًا لإعادة المباراة التي لم تحسم نتيجتها في الجولة العشرين، لكن زوجها يفاجئها بعودته سريعًا من سفرته التي لم تستمر إلا ثلاثة أيام وأربع ساعات وخمس دقائق وعددًا من الثواني.. صاحب المرسيدس يخسر إجازته الاضطرارية، ولم يتمكن من حسم النتيجة في ذلك اليوم…!!» نلحظ في هذه القصة القصيرة جدًّا صراعًا يتماوج ما بين شدة الرغبة وبين الوقت الذي داهم الشخصية/ البطلة برجوع زوجها، والتأزم بين مكونات النفس؛ الأنا والهو الذي مثل الطفل الجائع، الذي ينتظر إشباعه من لدن أمه، وبين رغبتها (المرأة) التي تسعى وراءها بكل ما أوتيت من قوة.

فالرغبة كانت هي الثيمة الأساسية التي دار حولها النص، وتظهر المرأة/ الزوجة في منظر غير المشبعة بحيث لجأت إلى الخيانة وإشباع رغباتها، وقد وظف القاص كل الإمكانيات التي تعكس لنا الحالة النفسية التي تعيشها المرأة.

مشهد خيالي

وفي قصة «استجمام»، الفعاليات النفسية التي أتت ردًّا لفعل شريك البطلة كانت سببًا في رفضها لرغبته ورغبتها، وعدم التجاوب مع ما يريد، كانت تهرب منه بدافع الشعور بالألم، وطغى على هذه القصة القصيرة جدًّا رفض الرغبة، والانحياز إلى دونها مثلما وصفها القاص بأنها في مرحلة استجمام. فهذه اللفظة عاشت مع كل دلالات العبارات التي كونت النص، فضلًا عن البنية الذاتية والتفكير الذاتي، الذي انحصر في الجسد؛ فهي جابهت شريكها بما شعرت ولم تُعلن عن رغبتها، بل فضلت الذهاب صوب البحر حتى تحقق لنفسها رغبات أخرى، لكن المفارقة جعلتها تتألم مرة أخرى جراء ما حدث لها في أثناء سباحتها. المشهد خيالي غير حقيقي والمعنى جاء بلغة جزلة مساوية للمضمون، عكس الرغبة والألم والتفاعل بين الأنا والهو، ما تبقى من حركية الصورة داخل المبنى الحكائي للنص بصورة عامة.

وفي نصّ «إثارة..»، تمظهر المعنى الطائف على النص ذات الدلالة الإيحائية بالرغبة الشديدة والتعلق فيما بينهما؛ العتبة الأولى فتحت لنا باب التأويل على مصراعيه حتى نتمكن من القراءة ذات الأبعاد النفسية، على ما يبدو أن القاص كان يبحث عن المقصدية لمفهوم الإثارة، فهي ميالة إليه وهو أيضًا، فصار الأمر شبهَ واقعيٍّ أو لنقل واقعيًّا، فضلًا عن رأيه في شخصيتها الصاخبة بالرغبة، فعندما يرغب كل منهما في الآخر يشتعل الفتيل، وتتضارب الأهواء، وتتصارع من أجل بلوغ غايتها، فضلًا عما كان من هيامٍ ووَلَهٍ، وتُختم القصة بالنتائج المنتظرة من لدنها حتى تُكتمل وتُشبع رغباتها جميعًا.

حملت المجموعة كثيرًا من النصوص التي حفلت بثيمات: الرغبة، والتعلق، والوَلَه، وهذا النهج الذي سار عليه القاص في كتابته للقصة القصيرة جدًّا في هذه المجموعة، وهو ما دعاني إلى اتخاذ مصطلح الليبيدو مسارًا لتحليل بعض نصوص المجموعة، وهي مجموعة غنية بموضوعات أخرى، تصلح لأن تكون عينة لقراءات أخرى.