أوتار كاكو في رواية «ماكيت القاهرة» لطارق إمام

أوتار كاكو في رواية «ماكيت القاهرة» لطارق إمام

قدّم المخرج البرازيلي بيدرو موريللي، فِلْمه «زووم» عام 2015م بطريقة الدمج بين التمثيل الحي وتقنية الأنيميشن. بناءً على سيناريو الكندي ماثيو هانسن؛ يحكي السيناريو، الذي ترشح بسببه هانسن لجائزة الشاشة الكندية لعام 2016م، ويدور في قالب الفانتازيا، عن ثلاثة أشخاص يعيشون حيوات مختلفة، يكتب كل منهم حكاية الآخر، في اشتباك يزلزل فكرة الاعتقاد بكون حقيقي واحد!

لا تشغل نظرية الأكوان المتوازية بالَ روائيّي الخيال العلمي فقط؛ تَرَشَّح هيو إيڤيرت، عام 1954م، لنيل الدكتوراه من جامعة بريستون؛ بسبب فكرته الجذرية عن تعدد الأكوان، مخاطرًا بمستقبله المهني من أجل إجابة سؤال واحد يتعلق بفيزياء الكم: لماذا تتصرف الأجسام الكمية بشكل غير منضبط؟ الوجه المزعج لنظرية إيفيريت إنها تهدم مفهومنا الخطي عن الزمن. في الحقيقة، ليست ميكانيكا الكم هي الفرع الوحيد في الفيزياء الذي يبحث في تلك المسألة؛ لقد انشغل علماء الفيزياء تحت الذريّة بها، ليخرجوا علينا بنظريّة الأوتار، التي وضعها ميشو كاكو، والتي تقول: إن كوننا يشبه فقّاعة بجانب أكوان شبيهة، يمكنها أن تكون على اتصال! يقول كاكو: إنه «بمجرد السماح لعالم بالنشوء، نفتح الباب لنشوء عوالم لا متناهية».

مستفيدًا مِن أوتار كاكو، يخرج علينا طارق إمام بروايته الجديدة «ماكيت القاهرة»؛ مرتكزًا على ثلاث شخصيات، كما فعل هانسن، لكنه، وبوعي تام، لا يضعهم فقط في عوالم مختلفة؛ يبدو تأثر إمام الكامل بعَوْد نيتشه الأبدي، وكلام هاينه عن التكرار التاريخي وسلاسلها السببية، قَبْل أن يضع في حسبانه مُنطلق العلاقات الجبرية في الرياضيات: إن شخصيات إمام تنظر من أكوانها على أكوان نظيراتها، بينما يتقاطعون جميعًا، في بقعة زمنية ما؛ ليصنعوا عالمًا واحدًا، يظل يتكرر باستمرار، حتى مع سقوطهم المريع، داخل فخ الزمكانية الهشة!

يقول ستيڤن ھوكنغ: لو كان الكون مختلفًا، لما كنا ھنا لنسأل: لماذا نحن ھنا؟ دوائر، دوائر كثيرة، متداخلة، ومتكرّرة، تسبح جميعها حول «غاليري القاهرة»، الدائريّ بطبعه؛ لا نعرف هل تبدأ الحكايات بالهروب إليه، أم تنتهي بمحاولات الهروب مِن داخله؛ مُدركًا طبيعة الشكل الإيديوغرافيّة، يستخدم إمام الدائرة، ذلك الكمال الخالد، بوصفها رمز السلطة الفوقية في المكان الذي يجذب أبطاله، ويغرقهم داخله في طاعةٍ كاملةٍ، حتى استفاقتهم الأخيرة، وتمردهم عليه بالخروج، لكنهم، وفي إطار هروبهم من مخاوفهم، يحافظون على وجودها الأبدي، فيزيدونها قسوة وتوحشًا!

أسماء الشخصيات في «ماكيت القاهرة» جميعها حركية، يختارها أصحابها لدلالة ما، تتحرك فيها ذواتهم المتمردة على سلطة كارديناليّة، تصنع منهم «بنياتا» بخطايا جديدة، وبدلًا مِن رجمها مجتمعيًّا في سبيل غفران ما، تستغلّها سُلطةٌ أقوى في إعادة حياكة مجتمع مكرّر، بكل أفكاره، وخطاياه، ومصيره السرمدي؛ بكل بَشَره لو أردنا الحقيقة: كثير من «أوريغا» و«نود»، و«بلياردو»، الكثير حتى من كل قاطني القاهرة، وبيوتهم، وسياراتهم، وحيواتهم المزدحمة، وعلى كل الأحجام المُمكنة، وكأننا أمام ماتريوشكا لا نهائية!

يقولب طارق إمام روايته في ثلاثة فصول كاملة، كمسرحية، نكتشف في فصلها الثالث وجودها الروائي داخلها نفسها؛ اللعبة الميتا- سردية لعبة قائمة على قصدية الكتابة، كأدب تخيّلي بعد حداثي: استخدم إمام وعيه الكامل بأدوات السرد ليكشف عن خِدع النص الداخلية؛ يَبرز كسارد، يُعلن صراحةً نية كتابة الحكاية، مِن وقت لآخر، حين يتدخل الراوي ليخاطب المتلقي، وهو الأقل في «ماكيت القاهرة» مِن استعراض الراوي، في كثيرٍ مِن الأحيان، نظرته الفلسفية عن الإبداع.

وللوهلة الأولى، تعتقد، خطأً، في رتابة السرد، بدلًا من كسر خطيته التتابعية؛ صحيحٌ أن تعدد الأصوات جليٌّ في تناوب الحكي مِن «أوريغا» إلى «نود» وصولًا إلى «بلياردو»، في مشاهد قصيرة، إلا أن تكرار ذلك بشكل رتيب، قد يستوقفك لحظة، قبل أن تكتشف معمارية التناوب قبل نهاية الرواية؛ كيف ينظر كل منهم إلى عالم الآخر بالترتيب نفسه، بينما تكرار ذلك يتسق تمامًا مع ما تبنيه الرواية مِن تصور العالم في تكرارٍ دائري متواصل، يغيب عنه بطله المركزي، بينما تتحول شخصياته الثانوية إلى مانشتّات الجرائد، في صورة البطل الضد؛ باب واسع، نحو تداخل الهوية السردية للمدينة، لتمرير التاريخ التوثيقي، في خفة لا تتحملها المخطوطات والوثائق؛ الحدث التاريخاني هنا، هو ما أدركه الناس، لا ما حاكته الصحف الرسمية، يأتي مُختلطًا باليوميات؛ أوتوبيوغرافي خالص بكل ما تتقاطع فيه مع الأيديولوجي، في صورته العامة.

عالم لا يعرف الفناء

تقع أحداث الرواية، اعتباريًّا، بين أعوام 2011م، و2045م، حين يجد «بلياردو» معجزته، تبدأ الرواية وتنتهي، أو علّها تبدأ مِن جديد، في عالم لا يعرف الفناء، أبدًا؛ ثيمةٌ تبدو اعتيادية في غلافها الخارجي، حين يلتقي هامشيٌّ وضيعٌ، يعمل رسام غرافيتي، بهامشيّةٍ هاربةٍ تعمل مصورةً سينمائيةً مغمورةً، ليكوّنا حياةً مهترئةً، يتخلّلها صبيٌّ لامعٌ، يصنع حيواتٍ أخرى؛ بينما، وفي سَيْرنا داخل سيرهم الذاتية، التي تبجّل ما يعدّه الناس شاذًّا، يتكشّف لنا المجتمع الذكوري الذي نحياه، بكل متناقضاته، وانحطاط ما يسميه أخلاقًا، وسلطويته الزائفة، حتى يلتجئ هؤلاء ناحية قوةٍ خارقةٍ، تُحيلهم جميعًا إلى قَتَلَة، لا يَغفر لهم إلا فعل التطهير الذاتي بالانتحار/ الفداء.

بينما على مستوى آخر مِن التأويل، يمكننا أنْ نرى ذلك الثالوث، المرهون بالدين، المخلوط بين المصرية القديمة، والأرثوذكسية، وهي خلطةٌ لا تخفى على كثيرين؛ هل قصد إمام إعادة إنتاج عائلةٍ مقدّسةٍ، عصريّةٍ، ما زالت ترزح تحت القدرية العلوية، التي يمثلها ملاك الرب/ المسز، أو حتى ذلك التجسد، بلا وجه، للاعب البلياردو الوحيد؟

طارق إمام

لماذا اختار إمام ميعاد المنح التي يقدّمها «غاليري القاهرة» في الحادي والثلاثين من كانون الأول دومًا، لماذا اختار عُمْر المتقدم للمنحة ثلاثين عامًا، ولماذا أغلق روايته في زمنٍ يُقارب الأربعة والثلاثين عامًا؟ لقد ولد «أوريغا» لأبٍ بلا جسدٍ حقيقي، يعيش في كل المرايا، ولأم نذرت نفسها له، من دون رجال العالم، من دون أن يمسها بشر، حتى زوجها، زوجها ذو الأيدي الخشنة، الذي ارتضى ألا يرجمها المجتمع، بعد أنْ عَلِم كيف أنجَبَت، والذي سيصارع المسز يومًا، ويرى لاعب البلياردو الوحيد وينجو، قبل أنْ يفقد عينه الباقية، بعد أن رأى بها مفتاح الحياة على صدر زوجته.. «أوريغا» الذي اختار الفداء الأخير، أمام أمه، والذي صنع بكلتا يديه عالمًا حقيقيًّا مِن ماكيت صغير، وهو في الثلاثين مِن عمره، وطهّر العالم بجسده، قبل أن يُكمل الرابعة والثلاثين؛ كل الحكايات التي تضمّنها كتابٌ واحدٌ، مقدّسٌ لدى الجميع، بينما يحكي لكل منهم حكايته الشخصية، كلوحٍ محفوظ!

التأويل نفسه، الذي يمكن دحضه مِن داخل الرواية ذاتها، بعد أنْ قتل «أوريغا» أباه الافتراضي، وهو يتلمّس قدراته الخفية، التي لنْ يكتشف، أبدًا، أنه ورثها عن والدته؛ التخلص مِن سلطوية الأب، لمْ تقتصر على «أوريغا» بل تغلغلت في نفس الشخصيات جميعها، حتى تدمير المجتمع/ الماكيت بالكامل، من دون انتظارٍ لتدميره ذاتيًّا، كما أشارت المسز.

تقليص اتساع التأويلات

الكتاب، تلك القوة الخفية، لمْ يستقر له الحفاظ على نفسه، ضد كل الشخصيات؛ كان دومًا، مختلطًا بملحوظات المسز، الوحيدة التي استطاعت التدوين عليه أبدًا، والتي نكتشف نقصانها الشخصي في آخر الرواية. لا يستقر تأويلٌ، إلا وتُحطّم الرواية الأرض تحت قدميه، في رفضٍ عنيدٍ لثابتٍ يمكن الارتكان له؛ تحطيم المقولات المركزية، بما فيها قوة الرواية نفسها على تشكيل عالمٍ ما، بعد أن شكّك الراوي في كل شيء! ينهال، هنا، سؤالٌ عنيدٌ على رؤوسنا: لماذا ذيّل طارق إمام روايته بفصلٍ تعقيبيٍّ، يُقلّص اتساع التأويلات، بكلّ المقاييس، على قَدْر اتساقه مع الخلل الضئيل في التكرار، الذي تتكلم عنه نظريات الأكوان المتعددة؟

هل خاف إمام، مِنَ استغلاق الرواية على عقول بعض القرّاء، فقدّم لهم حلًّا سهلًا، لا يخلو مِن إثارةٍ هيتشكوكيّةٍ ملحوظةٍ؟ أمْ قرّر أن يتخلص مِن التأويلات، التي تفتح الباب على هواءٍ سيئ الرائحة، في مجتمعٍ يحاسب الفن بمعيار الأخلاق الواهي؟ كلا الحليّن، في رأيي، لا يستحق أن يخلق إمام كتاب المانغا، الذي أسماه «تعقيبًا»، بعد أنْ أدار الرواية مِن جديدٍ، وترك العالم يكرّر نفسه، في ديمومةٍ قَصَدَها السرد منذ البداية.

على مستوى السرد، الذي وقع في أربع مئة صفحةٍ، أو يزيد، تحلّت الرواية بالجمل الطويلة، صاحبة الصور الممتدة؛ باراغرافات كاملة في حجمٍ يحتاج إلى نَفَسٍ طويلٍ، وقراءةٍ متأنيةٍ؛ لا تكاد صفحةٌ تخلو مِنْ تداخل السرد الروائي مع النقد الأدبي التطبيقي، كون «المتعدد هو الأساس الإدراكي، والمعرفي، لأي ممارسةٍ فنيةٍ أو أدبية»*.

تقنية السرد، بالكامل، كانت على لسان الراوي العليم؛ فنّد إمام، بنفسه، تلك المثلبة كما يدّعي بعض، داخل روايته، وعلى لسان «أوريغا» الذي ظلت مسألة الرواية تؤرقه داخل أروقة الرواية، وكأنه طارق إمام ذاته: «ذلك أن مَن يسرد قصته يعرف، بداهةً، عن أي شخص يتحدث، بخلاف الراوي العليم، الذي يُقدم شخصيته مِن السطور الأولى؛ لذا فالسارد بضمير المتكلم يُبقي هويّةً مرجأةً لبعض الوقت»، وكأن إمامًا لا يبتغي الإيهام، أو يُوهمنا أنه لا يفعل!

نحن أمام روايةٍ مليئةٍ بالتفاصيل، أشبه بتشييد ماكيت، ربما أكبر مِن الماكيت الذي نعيش فيه، يتحكّم في مصايرنا شخصيات، ربما كانت روائية، ربما نحن أساسًا، شخصياتٌ في روايةٍ، نتحكّم في شخصياتٍ روائيةٍ أخرى؛ مَن يدري، الآن، أين هو الواقع الحقيقي مِن الافتراضي، وأينا موجودٌ حقًّا؟!