السؤال عن مستقبل الشعر العربي

السؤال عن مستقبل الشعر العربي

يرتبط السؤال عن «مستقبل الشعر العربي» بالتصورات الراهنة حول هذا الشعر، وأيضًا بتجدّد هذه التصورات، كما ينطلق هذا السؤال من الإطلال على ما أنجز من هذا الشعر حتى الآن، وما ينجز في مشهده الراهن، أو ما يمكن أن ينجز فيه خلال الزمن المقبل. وهذا السؤال يمكن مقاربته خلال نقاط مقترحة ممكنة. وكلها نقاط متداخلة وقابلة لإعادة الترتيب، بل إعادة النظر. وتتصل هذه النقاط بأبعاد عدة، منها:

«تاريخية» هذا السؤال، بمعنى استمرار طرحه في أزمنة متعددة من التاريخ، وفي سياقات متباينة أيضًا.

اعتبارات يجب مراعاتها في محاولات الإجابة عن السؤال، منها إمكان التمييز بين بعض المتغيرات التي أحاطت وتحيط بالشعر وبالسؤال حول مستقبله.

حضور ظاهرة «تحولات الشعر العربي» خلال عدد كبير من الدراسات النقدية، شهدتها العقود الأخيرة، وهو ما يعني أن هناك نوعًا من الإرجاء المستمر لبلورة إجابة نهائية عن السؤال، فمع كل تحول جديد هناك احتياج إلى إجابة جديدة.

محمود الضبع

طرح السؤال الآن، مع بعض الهواجس والمخاوف، في سياق راهن مختلف، نوعيًّا، عن سياقات سابقة. ويكفي لتأكيد هذا الاختلاف الإشارة إلى المخاوف المثارة مؤخرًا حول (نصوص شعرية) يمكن أن تكتبها برامج الذكاء الاصطناعي، في مزاحمة للإبداع الفردي الإنساني.

تصور (يحتمل الخطأ والصواب)، على سبيل محاولة الإجابة عن السؤال.

عن تاريخية السؤال

طرح السؤال، في المسيرة التي قطعها الشعر العربي، متكرر بتسميات متعددة، والإجابات عنه انطلقت من منطلقات متنوعة ومتباينة، اتخذت في بعض الأحيان شكلًا من أشكال الصراع.

من تمثيلات هذا الصراع، في زمن بعيد، ما ارتبط بظاهرة الخصومة بين القدماء والمحدثين قرابة القرن الثامن الميلادي تقريبًا، مع خروج بعض الشعراء (بشار ابن برد، وأبي نواس، وأبي تمام وغيرهم) على الاتجاه الذي استمسك به الشعراء التقليديون. ومعركة «الخصومة بين القدماء والمحدثين»، في ذلك الزمن البعيد، هي تمثيل من تمثيلات سوف تتكرر بتسميات أخرى في أزمنة لاحقة: الاتباع والإبداع، النقل والعقل، الأصالة والمعاصرة، الثبات والتحول، التقاليد والحداثة… إلخ، وهذه كلها تعبيرات عن ثنائيات تمضي في وجهتين، وتعكس تنويعات على تصورين للإجابة، أو لإعادة الإجابة، عن سؤال مستقبل الشعر.

وقد توالت حلقات طرح هذا السؤال، كان من بينها، بعد النقلة الرومانتيكية، الحلقة التي اقترنت بحركة الشعر الحر، نحو منتصف القرن الماضي، ممثلة في أسماء نازك الملائكة، وبدر شاكر السياب، وصلاح عبدالصبور، وأحمد عبدالمعطي حجازي وغيرهم. ويمكن الاكتفاء بتمثيل لهذه الحركة من تجربة نازك الملائكة التي كتبت الشعر الجديد، وقدمت تصورًا نقديًّا له. وهي في إجابتيها، الإبداعية والنقدية، راهنت على أفق رحب. على مستوى دراسة الشعر ينبغي، فيما رأت، إعادة النظر في بعض الظواهر والتقعيدات المتوارثة (بما في ذلك علم العروض نفسه). وعلى مستوى إبداع الشعر كتبت قصائدها التي جسدت استكشافًا لمسار شعري متحرر إلى حد بعيد. وبجانب ما يتصل بإبداع الشعر وبدراساته، كان من تصورات نازك ما رأته، بوجه عام، من أن المجتمعات الإنسانية «ألفت عبر تاريخها أن تقابل التجديد في كثير من الريبة والتحفظ». تفهّمت نازك هذا الاعتياد الكسول، ممن ينظرون «إلى الحرية وكأنها مقامرة غير مضمونة أو معاهدة مع الشيطان»، بتعبيرها، لكنها ظلت تدافع عن حرية التجديد وفتح أبواب جديدة للشعر (وهذا واضح في كتابيها «قضايا الشعر المعاصر» وسيكولوجية الشعر العربي ومقالات أخرى).

خيرة حمر العين

ومن تمثيلات هذا الصراع الذي يعبر عن وجهتين في تاريخية السؤال، ما ارتبط بأطروحات أدونيس التي بلورت تصورات جديدة شاركه فيها عدد من الشعراء والشاعرات. في نهايات الخمسينيات، وفي دراسته «محاولة في تعريف الشعر الحديث» ربط أدونيس بين الشعر «الجديد» و«الرؤيا»، وأكد أن «الرؤيا بطبيعتها قفزة خارج المفهومات السائدة»، وحدد ما يتجه إليه الشعر الجديد بمحددات: التخلي عن الحادثة، والابتعاد عن الواقعية، والتخلي عن «الجزئية» وعن الرؤية المنطقية حيث تبدو الحياة «مشهدًا أو ريفًا أو نزهة»، ورأى أن الشعر الجديد، بعبارته: «كشف عن حياتنا المعاصرة في عبثيتها وخللها».

هذه بعض تمثيلات على تاريخية السؤال، مع قفزات واسعة بالطبع. لكنّ هناك جانبًا آخر، في وجهة تاريخية السؤال أيضًا، يرتبط بالنظر إلى مكانة الشعر وليس إلى تغيّر جمالياته أو مفهومه. وفي هذا المنحى يمكن الإشارة إلى المعركة التي شهدتها أربعينيات القرن الماضي حول موقع الشعر بين أنواع أدبية عرفها العرب خلال تاريخهم الحديث (الرواية والقصة والمسرحية…، إلخ). وقد اتصلت هذه المعركة بمواجهة نجيب محفوظ لـ«الحكم» الذي أصدره عباس العقاد على الرواية؛ إذ رآها مثل «الخرنوب» «الذي فيه قنطار خشب ودرهم حلاوة»، بينما رأى نجيب محفوظ، بالمقابل، أن الرواية هي «شعر الدنيا الحديثة»، بما يعني أن الرواية قد زحزحت الشعر عن موقع صدارته الموروث.

متغيرات أحاطت بطرح السؤال

في رصد المتغيرات التي أحاطت بالسؤال عن مستقبل الشعر يجب التفرقة بين متغيرات مرتبطة بقوانين حراك الأنواع الأدبية، ومتغيرات ترتّبت على ظواهر من خارج الشعر، وإن كان من الصعب التمييز القاطع بين هذه وتلك.

على المستوى الأول نلحظ أن البحث عن قوانين ثابتة، نهائية، للأشكال الأدبية، لم يسفر عن تحديد مفاهيم قاطعة يمكن الاحتكام لها والاطمئنان إليها. ولعل الاستنتاج الوحيد، الذي يمكن الانتهاء إليه من رحلة هذا البحث، هو أن «الحراك» الدائم هو القانون الثابت الوحيد الذي يسيّر تاريخ الأشكال الأدبية.

ويمثّل هذا الحراك ظاهرة قديمة، وقف عندها أرسطو مثلًا: شعر الديثرامب، الملحمة، التراجيديا، الكوميديا. ويمكن المجادلة حول أن الشعر العربي في تاريخه القديم المعروف أفاد في نشأته من سجع الكهان. وقبل هذا التاريخ ظهر الشعر، في ثقافات عدة، مستندًا إلى بعض الطقوس، وإلى تطوير أغاني العمل وأغاني الرحلة…، وهكذا. وعلى المستوى الآخر، يمكن رصد مجموعة من المتغيرات (الخارجية) التي واجهت الشعر وواجهها في العصر الحديث، كان منها تراجع الثقافة السمعيّة (التي ظلت لتاريخ طويل ركنًا من أركان الشعر) وصعود ثقافة بصرية، وكان منها استحداث فنون استندت إلى اختراعات جديدة مثل السينما، وكان منها تنامي وسائل وأدوات التقنية، التي تحولت إلى «غول»، في تصور بعضٍ، ينفي الروح ويناوئ الشعر الذي يخاطب الروح. كذلك كان من هذه المتغيرات انحسار مساحات دوائر تلقي الشعر. وقد مثّل بعض هذه المتغيرات نوعًا من التهديدات والمخاوف، وكلها ألقت بظلالها على محاولات الإجابة عن مستقبل الشعر.

ملاحقة التحولات وإرجاء الإجابات

ديزيره سقال

مع هذه المتغيرات، لاحت تحولات الشعر العربي في العقود الأخيرة ظاهرة كبيرة مشهودة. وهناك عدد كبير من المقاربات النقدية توقفت عند هذه الظاهرة، أسهم فيها إحسان عباس، وأدونيس، وصلاح فضل، وجابر عصفور، وجمال الدين بن شيخ، وكمال خير بك، ومحمد عبدالمطلب، وخيرة حمر العين، وديزيره سقال، وإيمان الناصر، ومحمود الضبع، وغيرهم (وقد سبق أن نشرت «الفيصل» رصدًا لهذه المقاربات وملحوظات حولها- عدد مارس 2022م).

والمغزى المهم هنا أن هذه المقاربات التي تهتم بتحليل تحولات الشعر العربي، تمتد فيما بين خمسينيات القرن الماضي حتى سنوات قليلة قريبة؛ وهو ما يعني أن سؤال مستقبل الشعر والإجابات عنه في حالة من الإرجاء، مع كل تحول من التحولات.

السؤال وصعود المخاوف

في سياقات زمنية قريبة نسبيًّا، طرح سؤال مستقبل الشعر طرحًا آخر، انطلاقًا من إحساس ما بالقلق أو بالخطر. وعلى سبيل الإجابة عن السؤال ظهرت كتب ومقالات واستطلاعات عديدة، منها:

«مستقبل الشعر وقضايا نقدية»، كتاب للدكتور عناد غزوان، انتهى فيه إلى أن «القصيدة الخالدة، بمعناها الفني- الشعري، لن تموت».

«مستقبل الشعر- موت الشعر»، للدكتور عابد خازندار، وفيه رهن استمرار الشعر في المستقبل بقيامه بوظيفة ما، مستنكرًا فكرة أن «الشعر للشعر، وأن الشعر غاية في ذاته».

«مستقبل الشعر العربي»، عبدالله أحمد الفيفي، أكد فيه أن «الشعر قادر على مسايرة العصور، والوصول إلى روح الإنسان»، وأن «بإمكان القصيدة أن تنغرس في نسيجنا العالمي العولمي».

«هل مستقبل الشعر في خطر؟»، مقال للدكتور محمد صابر عبيد، أشار إلى أن «الإنسان العربي كائن ماضوي بامتياز»، يرى «الشعر سرًّا باطنيًّا من أسراره العميقة».

«عن مستقبل الشعر»، مقال متأخر (2022م) للشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي، انتهى فيه إلى أن «الشعر فن لا يموت»، داعمًا هذا باستشهادات عن أزمنة قديمة سابقة شبيهة بالموت، أعقبتها صحوة أو صحوات.

جمال الدين بن شيخ

وإضافة إلى هذا، هناك استطلاعات صحفية انطلقت من السؤال نفسه، منها استطلاع بعنوان «مستقبل الشعر.. سؤال البقاء وقلق الانقراض»، شارك فيه عدد من الشعراء (نشر في موقع «اللبان»، وهي دار نشر عمانية)، وملخص إجابات هؤلاء الشعراء عن السؤال أن الشعر «سوف يظل الأداة التعبيرية الأقرب إلى النفس»، وأنه قد بقي وسوف يبقى. ومنها استطلاع بعنوان «كيف نقرأ مستقبل الشعر؟»، لصفاء ذياب مع عدد من الشعراء والنقاد (نشر في مجلة «الجسرة»)، وفي مجمل الإجابات تأكيدات أن الشعر يظل «قادرًا متمكنًا»، «يحمل رسائله من روح إلى روح»، «ولا خوف عليه»، «ومستقبله سيظل مزدهرًا كما كان مزدهرًا دائمًا». في أغلب هذه المقاربات والمقالات والاستطلاعات يظل التفاؤل واضحًا، لكن يلوح القلق كامنًا أيضًا.

على سبيل الإجابة

تحولات الشعر العربي، في المدة السابقة القريبة، تحولات كبيرة ومشهودة، تمضي في وجهات متنوعة. والشعر الذي تراجع على مستوى «نشر» دواوينه وأرقام توزيعها، لم يتراجع على مستوى الإبداع فيه، فضلًا عن أن «طاقة» الشعر وبعض جمالياته مُثّلَت في إبداعات متعددة، أدبية وغير أدبية، بما في ذلك فن السينما مثلًا، وعلى ذلك فالقول بتراجع روح الشعر والتشاؤم في النظر إلى مستقبله يحتاجان لإعادة نظر.

وفيما يتصل بخطر التقنية على مستقبل إبداع الشعر، ومنها برامج الذكاء الاصطناعي، فلي تجربة قمت بها مع برنامج Chat GPT، وقد طلبت منه كتابة قصيدة في وجهة بعينها، والنتيجة كانت بائسة ومطمئنة بالنسبة لي. والحقيقة أن مثل هذه البرامج لا تنجح حتى الآن، وربما لن تنجح فيما بعد، سوى في إعطاء صورة واضحة التزييف للإبداع الشعري وغير الشعري، صورة تقول لمن ينظر فيها، ولو لبرهة واحدة: «أنا صورة مزيفة»!

أما عن التساؤل المشروع: كيف يمكن للشعر أن يسترد حضوره وجمهوره في المستقبل؟ فهذا يتوقف على استكشاف إمكانات متجددة في الشعر للتعبير عن عالم جديد معقد ومركب، وعلى بلورة الشعراء لبدائل جمالية تشيّد جسور تواصل جديدة بين الشعر ومتلقيه في سياقات راهنة ومقبلة؛ أي أن الإجابة عن هذا التساؤل، وعن السؤال حول مستقبل الشعر بوجه عام، مرهونة بإبداع شعر متجدد الملامح، في عالم تتغير معالمه بشكل متسارع، تقريبًا كل يوم.

حركة «الزنوجة».. تساؤلات حول الصعود والمآل

حركة «الزنوجة».. تساؤلات حول الصعود والمآل

بصوت أو بلسان «سوسنة الأودية»، نسمع أو نقرأ في «نشيد الأنشاد»، في العهد القديم: «أَنَا سَوْدَاءُ وَجَمِيلَةٌ يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ». وبصوت أو بقلم شاعرة سوداء، في قصيدة تنتمي إلى «الزنوجة» في زمن حديث، ليس بعيدًا: «أنا سوداء ولكني جميلة». ولن يغير من هذا الصوت الأخير، تعبير الشاعر ليوبولد سنغور، أحد عرّابي «الزنوجة»، في الزمن الحديث نفسه: «لأنكِ سوداء فأنتِ جميلة». فهذا تصوره هو، مشجعًا ربما، وليس صوتها هي المتباهي. لكن ما أبعد المسافة بين الصوتين، لشارون سوسنة الأودية، وللشاعرة الحديثة، على الرغم مما يجمعهما ويقارب بينهما.

طبعًا وابتداءً، هي مسافة تاريخية وجغرافية، وطبعًا وابتداءً هي ليست كذلك فحسب. في التدقيق، هي مسافة بين سياقين مختلفين؛ تجتاز تاريخًا طويلًا تشكّل واستقوى فيه ميراث ممتدّ غيّر النظرة إلى معايير الجمال، بما فيها لون البشرة. وفيما بين «سوداء وجميلة» الأقرب إلى التفاخر، في التعبير الأقدم، إلى «سوداء [ولكني] جميلة»، الأقرب إلى التدارك المشوب بما يشبه الاعتذار، في التعبير الأحدث. كانت قد اكتملت معالم لتراتب جديد تم ترسيخه حول الجمال، وتم تدشينه حول تباين المكانات بين البشر، كما كانت قد تبلورت تصورات كثيرة قد قسّمت العالم إلى فئات مختلفة، وغذّت ألوانًا من الاستقطاب، وأشكالًا من الصراع، بين هؤلاء البشر، هنا وهناك. ومن وجهة أخرى، كانت قد ماتت وانبعثت نزعات متعددة للسيطرة، وموجات متوالية من ردود الأفعال، ومن المقاومة، هنا وهناك أيضًا.

موجات الصعود والانحسار

إلى هذا المعنى الأخير، المتصل برد الفعل والمقاومة، تنتمي كلمات الشاعرة الزنجية، وتنتمي تجربة الزنوجة كلها، وإن أضافت هذه التجربة إلى نبرة التدارك أو الاعتذار نبرات أخرى: الاحتجاج، والغضب، والتشبث بالهوية، ورفض كل ما جلبه التراتب المفروض الجديد، فضلًا عن مراودات الحنين إلى هوية مرتبطة بجذور باتت نائية.

محمد الفيتوري

«أنا سوداء ولكني جميلة» لم يكن محض تعبير غنائي فردي، كان جزءًا مما يختزل حركة أدبية كبيرة واسعة، صعدت في سياق تاريخي بعينه صعودًا مدوّيًا، وأصبحت في سياق تاريخي آخر ظاهرة موضوعة موضع التأمل، وربما موضع التساؤل: «كيف تحولت هذه الحركة الجماعية الهائلة إلى محض مشتقات فرعية متأخرة؟»، وبصيغة أكثر صراحة وربما أكثر حسمًا: «كيف تراجعت وانحسرت هذه الحركة؟».

حركة «الزنوجة» معروفة لنا جميعًا، ومعروف أيضًا اقترانها بملابسات تاريخية محددة المعالم: بزوغها في النصف الأول من القرن الماضي، فيما بين الحربين العالميتين (وإن كان لها إرهاصات سابقة)، وارتباطها ببعض الشعراء السود الذين يكتبون بالفرنسية (ليوبولد سنغور، إيميه سيزار، جونتران داماس، وغيرهم)، واتصالها بالسعي إلى التحرر من الاستعمار لدى بلدان عدة في إفريقيا ومنطقة الكاريبي، وانطلاقها من سعي إلى بثّ وعي مفقود أو مفتقد بالهوية المغيّبة، ونزوع إلى استعادتها، واتصالها كذلك بما يبدو أشبه بصحوة متأخرة ربما، على ميراث العبودية الطويل والحط من شأن أصحاب وصاحبات البشرة السوداء… إلخ.

ومعالم تيار الزنوجة معروفة لنا أيضًا: على مستوى ربط ما هو جمالي بما هو أيديولوجي وسياسي، ومراودات حنين إلى ماضٍ بعيد مرتبط بالأم الأولى التي أمعنت في غياب، تمثيلًا لـ«إفريقيا» بوجه خاص، فضلًا عن طموح لمناوأة المركزية الأوربية، والغربية عمومًا، التي نظرت بتعالٍ إلى أغلب بلدان العالم على أنها مجرد «مزارع خلفية»، وفي تصور آخر: مناجم خلفية!

ومسيرة تجربة الزنوجة معروفة لنا جميعًا كذلك: موجات من المد والصعود، ازدادت قوة على قوة مع الالتفاف المتزايد حولها، ثم موجات من التراجع والانحسار، ثم صيغ من التحول إلى فروع صغيرة متناثرة هنا وهناك (ومن ذلك «أدب السود» في بعض بلدان العالم) عبر مبدعين أفراد أو عبر جماعات أدبية أكثر هدوءًا وأقل غضبًا وتحمسًا، مدفوعة، على الأغلب، بمقاومة أشكال التمييز العنصري، الذي كان يمثل قضية من بين قضايا الزنوجة.

«الزنوجة»، بهذا السياق التاريخي المعروف، وبهذه القضايا المتبنّاة، تمثل ظاهرة أدبية مفهومة، يسري عليها ما يسري على ظواهر كثيرة مرت بما يشبه دورة الحياة المعروفة. ولكنها بهذا المنحنى المتسارع من الصعود والتراجع، كانت ولا تزال تمثل موضوعًا للتساؤل وللبحث عن تفسير.

محاولات لتفسير انحسار الزنوجة

في سنوات بعيدة، قرأت عبارة للأستاذ علي شلش، وهو أحد المهتمين بالأدب الإفريقي، بدت لي تفسيرًا معقولًا، مع شيء من الاسترابة، لانحسار «الزنوجة». تمثلت هذه العبارة في أن الزنوجة: «كانت تنهل من نبع مؤقت». والآن، حين نعود لهذا التعبير بعد مرور السنوات، يمكن أن نراه تفسيرًا للماء بالماء، ويمكن للتساؤل القديم أن يتناسل إلى تساؤلات تتلوها تساؤلات:

ليوبولد سنغور

هناك تساؤل مرتبط بكون «الزنوجة» منطلقة في جوهرها من أحد أشكال «رد الفعل». في أطروحاتها نجد ما يشبه تلك النظرة التي تنطلق من تقسيم العالم، ليس إلى «فسطاطين» أو «فريقين» أو «قطبين» (وكلها توصيفات سادت لفترات من منظورات شتى)، وإنما خلال تصور مضاد لتصورات مجحفة بحق أصحاب البشرة السوداء، وعمومًا لشعوب البلدان التي تحولت إلى مستعمرات. «الزنوجة»، في مواجهة المركزية الغربية البيضاء قامت، فيما قامت، على أرضية تصلح للاستقطاب، وترى العالم معسكرًا ضد معسكر. ولعلها، من هذه الوجهة، وقفت في مواجهة رياح أخرى تراهن على التفاعل والتقارب والتفاهم، أو على الأقل: «التفهّم»، وليس على الاستقطاب، وهذه الرياح الأخرى سوف تطرح على الآداب والفنون بشكل متزايد، تصورات أعمق حول «تداخلات» وتعقيدات « الهويات، وليس حول قسمتها الثنائية. لقد تراجع، على نطاق واسع، الأدب الذي يحتفي بقضية ثنائية «الشرق/ الغرب»، وصعد الأدب الذي يعبر عن قضايا الهجرة وتداخلات أو التباسات الهوية. هل هذا تفسير؟ ربما.

وهناك تساؤلات حول ما أحاط منذ البداية بمفهوم «الزنوجة» نفسه. نظر إليها سنغور، أحد عرّابيها كما أشرنا، بوصفها «مجموعة واسعة من قيم اقتصادية وسياسية وفكرية ومعنوية وفنية واجتماعية خاصة بالشعوب الإفريقية والأقليات السوداء في هذا العالم». وهذا المفهوم، بهذه الصياغة، فتح الطريق معبّدًا إلى مناهضته على مستوى من المستويات؛ لأنه ببساطة قاد ويقود، كما رأى بعض منتقديه، إلى «التباس عنصري ضد العنصرية». هل هذا تفسير؟ ربما.

ويتصل بهذا التساؤل تساؤل آخر حول صياغات أخرى لهذا المفهوم، جنحت إلى صياغات شعرية تحلق كما يحلق الشعر في أحيان كثيرة. كتب إيميه سيزار، العراب الآخر لـ«الزنوجة»، في «دفاتر عودة للوطن الأم»: «زنوجيتي ليست صخرة صممها اندفاع عكس اليوم (…)، زنوجيتي ليست وسادة ماء راكد مندفع ضد جعجعة اليوم (…) زنوجيتي ليست برجًا ولا كاتدرائية، إنها ترتمي في الإهاب الأحمر للأرض». نص جميل، حقًّا. ومُغْوٍ بالتحليق معه. لكن، ربما، مع حركة التاريخ سوف تلتبس التصورات حول «الإهاب الأحمر للأرض»، وسوف تختلف الرؤى حول ملامح «جعجعة اليوم»، حتى حول إمكان تحديد معنى «اليوم» في حاضر يتحول إلى ماضٍ باستمرار، حاضر متجدد لا يكفّ عن التغير والتحول. هل هذا تفسير؟ ربما.

وهناك تساؤلات موصولة بما راهن عليه تيار «الزنوجة»، ورهاناته كثيرة مقرونة بقضايا متنوعة، أكثرها وضوحًا ارتبط بملابسات متعينة، وتحدّد بسياق تاريخي بعينه (حقبة التحرر من الاستعمار)، وبعضها أو قليلها اتصل بقضايا عابرة للتواريخ (مقاومة التمييز). ووضع هذه الملحوظة، حول التركيز على قضايا أكثر من أخرى، يمكن أن يتيح فرصة لالتقاط صورة ظاهرة الملامح، إلى حد ما، حول ما يمكن أن يبقى من هذه التجربة وما يمكن أن يتراجع.. ما يمكن أن ينجح في الاستجابة والتكيف ومواكبة تغيرات العالم اللاهثة، وما يمكن أن يتقلص، وربما يمكن أن يتلاشى ويندثر. وإذا شئنا أن نتجول في هذا الحقل الدلالي نفسه، غير البعيد من مفاهيم «التطور» القديمة، فسوف نرى النتاج الأدبي للزنوجة يبدو كأنه قد خضع لما يشبه نوعًا من «الانتخاب الطبيعي».. هل هذا تفسير؟ ربما.

ومن هذه التساؤلات ما يرتبط بالانحسار النسبي للشعر، في العقود الأخيرة أيضًا، أمام الصعود السردي في الأدب (إذا سلمنا بهذا، فتلك قضية متشعبة الجوانب، وفي أحد التصورات: تراجع الشعر على مستوى تلقيه، ولكنه امتد واتسع خلال تمثّل روحه وجمالياته في كل الأنواع الأدبية والفنية الأخرى، بما فيها فن السينما). وإذا لاحظنا أن «الزنوجة» ارتبطت بالشعر بدرجة أكبر من ارتباطها بالأنواع الأدبية الأخرى (هناك عدد من الروائيين وكُتاب المسرح اتصلوا بالزنوجة، في زمن صعودها وما بعده.. ولكن إسهاماتهم في صياغة معالمها لم تكن بقدر إسهامات شعرائها. وأكثر من هذا، ووجهت الزنوجة ببعض الاعتراضات من روائيين منهم وول سوينكا).. إذا لاحظنا ذلك فهل يمكن أن يعد هذا تفسيرًا؟ ربما.

إيميه سيزار

وهناك تساؤلات حول القران الذي عقد، طول الوقت، كزواج كاثوليكي، بين «الزنوجة» والسياسة، أو بين «الزنوجة» والأيديولوجيا، بما جعلها تخضع لما تخضع له السياسة من تحولات وتقلبات، وتواجه ما تواجهه علاقة الأدب بالأيديولوجيا من قضايا شائكة. وإذا سلّمنا بالطرح الذي بلوره ألتوسير حول أن «الأدب فاضح للأيديولوجيا»، نكون قد سلمنا بشيء مما قاد الزنوجة إلى ما قادها إليه. هل هذا تفسير؟ ربما.

وهناك تساؤلات حول التمثيل العربي في ظاهرة الزنوجة. وباتفاق عدد كبير من النقاد يعدّ محمد الفيتوري أحد أعمدة هذا التمثيل. وبغض النظر عن التقييم الذي يرصد فجوة ما، في عدم الاهتمام العربي بقدر كافٍ، في حقبة ما، بالأدب الإفريقي وبالتلاقي معه، يمكن أن تكون تجربة الفيتوري استثناءً. لقد تقاطع مشروع الفيتوري مع تجربة «الزنوجة»، خلال أعمال عدة له، مثل ديوانه «أغاني إفريقيا» و«اذكريني يا إفريقيا»، ومسرحيته الشعرية «أحزان إفريقياـ سولارا». وقد كتب حول هذا التقاطع نقاد كثيرون، منهم الأستاذ الدكتور محمد السرغيني، والأستاذ محمود أمين العالم، والأستاذ بنعيسى بوحمالة. وقد أشار الأستاذ بوحمالة في كتابه «النزعة الزنجية في الشعر المعاصر» إلى أن «الزنوجة» بالنسبة للفيتوري «ليست إلا انتماءً إثنيًّا لا أيديولوجيًّا». وطبعًا، كما نعرف، لم تقف رحلة الفيتوري عند هذا الانتماء ولا عند حدود «الزنوجة». تداخلت في مراحل عدة من هذه الرحلة معالم مرتبطة بالغنائية الرومانتيكية، وبـ «الصوفية»، وبـالقومية العربية في صيغتها الناصرية (التي سوف تشهد انكسارًا كبيرًا)، فضلًا عن عناصر من الوجودية واليسارية، وهذا كله يجعل تجربة الفيتوري تفيض عن حدود «الزنوجة» وتتدفق وتمضي أحيانًا بعيدًا منها، في هذه الوجهة أو تلك.. هل هذا تفسير؟ ربما.

ليست هذه التساؤلات، وطبعًا هناك غيرها كثير، على سبيل التقنّع الذي يخفي تحته زعمًا بامتلاك إجابات. هي تساؤلات حقيقية مطروحة على التصور اليقيني الذي رأى أن «الزنوجة كانت تنهل من نبع مؤقت». فاليقين في هذه العبارة لا يكفي لإغلاق باب المداولة قبل إصدار حكم نهائي مطمئن حول صعود حركة الزنوجة وحول مآلها الأخير.

«الشر والوجود» لفيصل دراج.. نص على نصوص نجيب محفوظ

«الشر والوجود» لفيصل دراج.. نص على نصوص نجيب محفوظ

على كثرة ما كتب عن أعمال نجيب محفوظ من كتابات نقدية متنوعة، نشرت في عقود ممتدة، لا تزال هذه الأعمال مطروحة للتأمل والدرس. أُنجز عن هذه الأعمال عددٌ هائلٌ من المقالات (منذ أربعينيات القرن الماضي حتى الآن)، وصدرت عنها عشرات من الكتب، منذ كتاب الأب جاك جومييه المبكر «ثلاثية نجيب محفوظ» الذي صدر بالفرنسية في نهايات الخمسينيات وتناول فيه رواية «الثلاثية»، بعد نشرها بسنوات قليلة، كما قدّمت هذه الأعمال موضوعات لعدد كبير جدًّا من الأطروحات الجامعية. ومع ذلك كله، لا تزال هذه الأعمال تمثّل غواية للنقاد والدارسين؛ وذلك بسبب تعدد إمكانيات قراءاتها من زوايا مختلفة، وصياغاتها الغنية متعددة الطبقات والأغوار التي تسمح بمقاربات متنوعة لها.

ويقدم كتاب الدكتور فيصل دراج «الشر والوجودـ فلسفة نجيب محفوظ الروائية»، الذي صدر مؤخرًا في القاهرة (عن الدار المصرية اللبنانية)، إضافة نوعية كبيرة القيمة لكل القراءات النقدية السابقة حول عالم محفوظ، على كثرتها. هو كتاب من «الكتب الخلاصات»، ليس فقط لأنه تتويج وبلورة لرحلة طويلة من انشغال الدكتور فيصل دراج بعالم محفوظ، كتب فيها الكثير عن أعماله، وإنما أيضًا لأن هذا الكتاب يتأمل، في بناء متكامل، تلك الأعمال من منظور يرنو إلى أعماقها الموصولة بأبعاد فلسفية انطلق منها محفوظ، وأسّس على التحاور معها رؤاه الخاصة. يطل فيصل دراج على نصوص محفوظ، في امتدادها عبر مسيرة طويلة، ويلتقط منها ملامح جوهرية، كما يحلل هذه النصوص في علاقتها بما تتصادى معه، على مستويات أدبية وفكرية متنوعة، من كتابات سبقتها، وأخرى زامَنتها، في الثقافة العربية والإنسانية.

في تقديمه للكتاب، تحت عنوان «المتعدد الذي لا يكفّ عن التجدد»، يشير الدكتور فيصل دراج إلى معالم بلورتها رحلة محفوظ فيما بين روايته الأولى «عبث الأقدار» وروايته الأخيرة «قشتمر» وبعدها نصوصه القصيرة «أصداء السيرة الذاتية». أنجز محفوظ في هذه الرحلة، بتعبير دراج، «علم جمال الحقيقة وملحمة الشغف الكتابي النبيل». وبعد التقديم يتناول أعمال محفوظ في أقسام عدة، منظّمة ومعنونة بعناوين رئيسة: «مدخل إلى قراءة نجيب محفوظ»، «الثلاثية: الزمن والشر وعتمة الوجود.. العالم الإنساني بين الزمن والموت»، «التداعي بين محفوظ وغيره»، «معنى الوجود بين روايتين»، «رواية الفرد المغترب»، «الشر والرواية والفلسفة»، «الشر والفلسفة».

التصورات الفلسفية، المشار إليها في العنوان الفرعي للكتاب، مبثوثة في الكتاب على امتداد صفحاته، مقرونة بطيف واسع من أفكار فلاسفة يشملهم تاريخ طويل: سقراط وأرسطو وأفلاطون وسبينوزا وكيركيغارد وهيغل وشليجل ونيتشه… إلخ. ولكن الكتاب لا يقف عند حدود تقصّي حضور أفكار هؤلاء في نصوص كاتب تصادتْ تصوراته وتحاورت مع هذه الأفكار، بل يقدم قراءة نقدية جميلة بامتياز، تقارب تلك النصوص مقاربة متعددة الأبعاد، وتستكشف فيها فلسفتها الخاصة. البعد الفلسفي يقدم لهذه القراءة عمقًا واضحًا من حيث الوقوف عند قضايا مراودة، لم تتوقف قط معالجاتها في تاريخ الأدب والفلسفة معًا: الوجود، الشر، السلطة، الزمن، الموت.. إلى آخره، لكن القراءة تتدفق أيضًا في وجهات حرّة لا تقل أهمية.

ضد المنهج التقليدي

تتأسس القراءة على إلمام واسع بالمناهج النقدية الحديثة، وتقف من بعضها موقف المساءلة، وفي هذه الوجهة يطيح الدكتور دراج بالتعليمات الصماء التي يمليها بعض المناهج. من ذلك، مثلًا، وصله بين نصوص محفوظ الأدبية من جهة، وما قاله من جهة أخرى في بعض أحاديثه، وبخاصة ما ورد في كتابين لجمال الغيطاني: «نجيب محفوظ يتذكر» و«المجالس المحفوظية»، وربما كان من الممكن أن يضاف إليهما كتاب رجاء النقاش المهم «نجيب محفوظ- صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته». وبذلك يجاوز الدكتور فيصل دراج ما يحيط، تقليديًّا، بالتعليمات الآمنة المبذولة حول ضرورة الفصل بين ما يكتبه الكاتب من نصوص أدبية وما يقوله خارجها، أو ما يحيط، مدرسيًّا، بضرورة الفصل بين «المقاصد الواعية» والمقاصد غير الواعية للكاتب.

أيضًا، في منحى التحرر المنهجي، يستند الكتاب إلى توثيق لمراجع ومصادر كثيرة، كتبت في أصولها بلغات عدة، وتُرجم بعضها إلى الفرنسية والإنجليزية والعربية، وقد قرأها دراج بهذه اللغات جميعًا، ووضع ثبتًا لها في نهاية كل قسم من أقسام الكتاب، وهو ما يخايل بنزعة «أكاديمية» ما. ولكن الكتاب، مع هذا، بعيد تمامًا من الكتابات الأكاديمية التقليدية المقيدة التي تتحرك غالبًا في مساحات محدودة.

تمثيلات محفوظ

تمثيلات أعمال محفوظ في الكتاب مختارة وموظّفة بعناية في مسارات محكمة يستدعيها تحليل القضايا المطروحة بهذه الأعمال. والتقسيم الأساسي والفرعي، في بناء الكتاب، ينطلقان من هذه القضايا أيضًا. في القسم الأول، حول عالم محفوظ، بعناوينه الفرعية حول «السلطة» و«المصادفة» و«المفارقة» و«القناع»، يتحقق الحضور الأكبر لأعمال مثل «عبث الأقدار» و«القاهرة الجديدة» و«يوم قتل الزعيم» و«حكايات حارتنا» و«حضرة المحترم» ومجموعة «الشيطان يعظ»، وهي أعمال كتبت في تواريخ مختلفة، واختيارها مرتبط بمدى حضور القضايا التي تعدّ محاور للاهتمام فيها.

والأمر نفسه قائم في أقسام الكتاب الأخرى: في القسم الثاني، حول الزمن والشرّ وعتمة الوجود، تشغل «الثلاثية» مركز التحليل. وفي القسم الثالث، حول التداعي بين محفوظ وغيره، يتوجه التحليل وجهة مقارنة، بين نصوص لمحفوظ وأخرى لديستويفسكي وتوماس مان وبلزاك، وفي القسم الرابع، حول معنى الوجود، يتركز التحليل على روايتي محفوظ «أولاد حارتنا» و«الحرافيش»، وفي القسم الخامس، حول الفرد المغترب، تمثيلات من روايات محفوظ التي كتبها في الستينيات، والتفّت حول شخصيات محورية تواجه ألوانًا من الاغتراب: «اللص والكلاب» و«الطريق» و«ثرثرة فوق النيل».. أما القسمان الأخيران، حول الشرّ والرواية والفلسفة، ثم الشر والوجود، فتغلب عليهما العناية بالأبعاد والتصورات الإجمالية أكثر من الاهتمام بتفاصيل النص الأدبي التي توقف عندها من قبل، في الأقسام السابقة.

عن قضايا الوجود

من بين القضايا التي يحللها الكتاب في أعمال محفوظ تلوح قضية «الشر والوجود» قضية مهيمنة، يتقصاها الكتاب في عدد من هذه الأعمال، ويستكشف أبعادها في مظان متعددة خارجها. في «الثلاثية»، مثلًا، يرى دراج أن محفوظ «قرأ في رواية الأجيال سطوة الزمن (…) وقرأ فيها تعددية إنسانية متنوعة الطبائع. ففي كل إنسان حكاية، تسرد مآله، ولكل حكاية إنسانها المعطوب». ويتوقف في الرواية نفسها عند ظواهر المرض والموت وعنف الزمن، ويخلص إلى أنه «إذا كان هناك شرّ إنساني، واضح المصدر والأداة، فهناك أيضًا شر غامض الأصول، يأتي بلا توقع، ويعبث كما يريد، ويخلف وراءه حطامًا لا سبيل إلى إصلاحه». وفي قراءة «اللص والكلاب» يتتبع دراج ما يسميه «الشر العاري»، «في وجهه السلطوي، وتغيّر حال الإنسان دون أن يرتكب إثمًا ولا معصية»، خالصًا إلى أن فن محفوظ الروائي يقوم، فيما يقوم، على «الكشف عن شر الوجود». وهكذا في قراءات أعمال عدة لمحفوظ يخلص دراج إلى أن محفوظ «أكّد الشر مركز كتابته الروائية»، وأنه قد «أنجز الشر كمقولة فنية».

هذا الاستخلاص مشيّد على تقصٍّ عميق، هو حوار بين رؤية دراج ورؤية محفوظ. وفي ثنايا هذا الحوار يذهب دراج إلى القول بما يراه نوعًا ملتبسًا من التشاؤم تنطوي عليه رؤية محفوظ، وهو قول قابل في قراءة أخرى للتساؤل. ترديدات هذا القول مبثوثة في غير موضع في الكتاب: «احتفظت بصيرته [محفوظ] ببعدين ثابتين: نظرًا متشائمًا إلى العالم والوجود، وكراهية للسلطة لم تغيّرها الأقدار»، «أعلن محفوظ بإلغاء الأصل القديم عن بصيرة عنيفة التشاؤم»، «وطّد محفوظ في ملحمة الحرافيش نظرًا ثابت التشاؤم»… إلخ. ودعمًا لهذا القول، وإزاحة لالتباسه، يسوق دراج على لسان محفوظ، من خارج نصوصه الأدبية، عبارة غير محددة السياق: «أنا أميل بطبعي إلى الكآبة»!

وجه التساؤل، حول هذا القول، مبعثه أن نصوص محفوظ نفسها تحتمل تأويلات يمكن أن تمضي بها في وجهة مغايرة، ومن أمثلة ذلك الصفحات الأخيرة المتفائلة في رواية «الحرافيش» التي تبتعث النهايات السعيدة وتومئ إلى مستقبل أكثر عدلًا وجمالًا. والاحتكام إلى عبارة قالها نجيب محفوظ خارج نصوصه مواجَه باحتكام إلى عبارات أخرى أكثر تردادًا قالها محفوظ غير مرة، بتنويعات شتى، تؤكد أنه «لا يملك ترف اليأس».

وفي عبارات محفوظ الواضحة، في خطاب تسلم جائزة نوبل، ما يغني عن كثير من الجدال حول تصوره للشر والتشاؤم وتصوره لنقيض كل منهما: «رغم كل ما يجرى حولنا [يقصد البشر جميعًا] فإننى ملتزم بالتفاؤل حتى النهاية.. لا أقول مع الفيلسوف (كانت): إن الخير سينتصر فى العالم الآخر، فإنه يحرز نصرًا كل يوم، بل لعل الشر أضعف مما نتصور بكثير، وأمامنا الدليل الذى لا يُجحد، فلولا النصر الغالب للخير ما استطاعت شراذم من البشر الهائمة على وجهها، عرضة للوحوش والحشرات والكوارث الطبيعية والأوبئة والخوف والأنانية، أقول لولا النصر الغالب للخير ما استطاعت البشرية أن تنمو وتتكاثر وتكوّن الأمم وتكتشف وتبدع وتخترع وتغزو الفضاء وتعلن حقوق الإنسان، غاية ما في الأمر أن الشر عربيد ذو صخب ومرتفع الصوت، وأن الإنسان يتذكر ما يؤلمه أكثر مما يسره».

قضايا جمالية

بجانب القضايا الفلسفية والفكرية والاجتماعية والسياسية التي يحللها الكتاب بعمق، يتوقف أيضًا عند قضايا جمالية موصولة بمغامرة نجيب محفوظ الإبداعية التي ظلت محكومة بنزوع التجدد في مسيرته الطويلة المتنوعة. من هذه القضايا تلك الوقفة عند «الشكل الفني» لرواية «ملحمة الحرافيش» التي تعيد، ابتداء من عنوانها، طرح السجال حول العلاقة بين الرواية والملحمة، وهو السجال الذي أسهم فيه فلاسفة ونقاد كثيرون، وكان عنوانًا لكتابين شهيرين لجورج لوكاتش وكوزينوف. يشير دراج إلى تصور لوسيان غولدمان حول العلاقة بين الرواية والملحمة، وينتهي إلى خصوصية هذه العلاقة في رواية محفوظ: «قد يرى البعض في الشكل الفني لملحمة الحرافيش أثرًا لتصور ماضويّ، وهو كلام شحيح المعنى؛ ذلك أن محفوظ يشتق الشكل من وظيفته الاجتماعية»، ويخلص إلى أن «القراءة النافذة للنص تكشف عن تحول محفوظي أساسي: مضى زمن الملحمة، أعقبه زمن الرواية، ذلك الجنس الأدبي الحديث المرن متعدد الأشكال، الذي تستضيفه موائد متعددة ويحتفظ بخصوصيته».

هذا كتاب كبير القيمة، محتشدة كتابته بالمعرفة والبصيرة، وبذائقة مدرّبة، وبقدرة على اقتناص الدلالة الجوهرية في نصوص كاتب متعددة الدلالات. وميزات هذا الكتاب كثيرة، صعبة الإحصاء. فمع عمق تحليل أعمال نجيب محفوظ واستكشاف ما يصل بينها وبين الأفكار الفلسفية، ورؤية هذه الأعمال في ترابطها، واستكشاف الوشائج الممتدة بينها وبين أعمال أدبية أخرى، وربطها بالسياقات التي أحاطت بها.. مع هذا كله، وغيره كثير، هناك هذه الكتابة الجميلة الآسرة، التي تشيد نصًّا جميلًا على نصوص محفوظ مشهودة الجمال، والتي تنفي المسافة التقليدية المكرّسة التي كثيرًا ما سعت إلى التمييز بين النص الأدبي والنص النقدي.

تحولات الشعر العربي.. نظرة طائر على المقاربات النقدية

تحولات الشعر العربي.. نظرة طائر على المقاربات النقدية

«تحولات القصيدة العربية» موضوع مفتوح على قضايا كثيرة ومتنوعة، أحاطت وتحيط بالمغامرة الإبداعية المتجددة للشعر العربي، الحديث والمعاصر بوجه خاص، وبأبعاد هذه المغامرة إبداعيًّا، داخل النص الشعري، وبالروابط التي تصل هذه الأبعاد بتحولات ماثلة خارج الشعر… وقد مثّل هذا الموضوع، مدخلًا محوريًّا لكثير من التناولات والدراسات النقدية التي قاربته من زوايا عدة؛ جمالية وثقافية ولغوية واجتماعية وسياسية بل تقنية.. طرحت العديد من معالمه وقضاياه وأسئلته، وبلورت اجتهادات قيّمة في تحليل هذه المعالم والقضايا، وأيضًا في الإجابات عن هذه الأسئلة.

والملحوظة الأوّلية حول هذه المقاربات أنها قد احتفت بقيمة «التحول» في الشعر العربي الحديث والمعاصر احتفاء متباين المداخل. لاح هذا الاحتفاء بهذه القيمة على مستوى حرفي أحيانًا، ابتداء من حضور مفردة «التحول» في عناوين بعض هذه المقاربات والدراسات، وفي أحيان أخرى تراءت مفردات وتصنيفات وتوصيفات قريبة من دلالات هذه المفردة؛ وفي هذا المنحى نجد مقاربات ودراسات عنيت بمسارات مصاحبة أو ملازمة لتحول في الشعر، مثل «التجريب»، أو «الحداثة»، أو «قصيدة النثر». ومن جانب آخر، تباينت هذه المقاربات والدراسات على مستوى «تواريخها» و«توجهاتها العامة»، فكان منها مقاربات مبكرة وتأسيسية وإجمالية الطابع، وأخرى موازية زمنيًّا، تتابع وتواكب وتلاحق تجارب محددة بعينها في حركة الشعر وتحولاته.

مقاربات تأسيسية

من هذه المقاربات كتاب الدكتور إحسان عباس «اتجاهات الشعر العربي المعاصر». وعلى الرغم من أن هذا الكتاب يُعنَى أساسًا برصد اتجاهات الشعر العربي في القرن العشرين، فإنه ينطلق من نظرة تاريخية، تتمثل في الاحتفاء بمعنى التغير أو التطور أو التحول الذي صاغ هذه الاتجاهات.

ومن هذه المقاربات ما يرتبط بتصورات أدونيس. وطبعًا هناك احتفاؤه المبكر بقيمة «التحول»، وهذا الاحتفاء مبثوث في كثير من دراساته المعروفة (ومنها: «الثابت والمتحول، بحث في الاتّباع والإبداع عند العرب»، و«زمن الشعر»)، ومنها كتابه «الشعرية العربية»، الذي ينبني على أربعة فصول، هي تمثيلات لحركة الشعر العربي، في تاريخه الممتد، وتختزل مسيرة انتقالاته أو تحولاته التي يجملها في مراحل أربع: «الشعرية والشفوية الجاهلية»، «الشعرية والفضاء القرآني»، «الشعرية والفكر»، «الشعرية والحداثة». عن المرحلة الأولى يقول باختصار: «ولد الشعر نشيدًا»، وفي الانتقال الثاني يتوقف عند ما أحدثه النص القرآني من تحولات معرفية وتعبيرية طالت الشعر فيما طالت. وفي الانتقال الثالث يحلل ثنائية الفكر والشعر، ويرى أن «ما نفتقده في النظرية نراه في النص الإبداعي»، وفي الانتقال الرابع يرصد شعرية الحداثة العربية في سياقها التاريخي، اجتماعيًّا وثقافيًّا وسياسيًّا، منذ القرن الثامن الميلادي (الثاني الهجري)، ويرى أنها تتجاوز حدود الشعر، وينتهي إلى أنها ظلت، لقرون عدة، تيارًا مستمرًّا، يقوى أحيانًا ويتراجع أحيانًا.

وفي كتابه «تحولات الشعرية العربية» -لنلحظ العنوان- للدكتور صلاح فضل، يطرح ابتداءً من مقدمته «خارطة للتحولات» التي اقترنت بمسار الشعر العربي خلال القرن العشرين، ويرصد ظواهر مهمة في هذه التحولات؛ منها «سرعة الإيقاع» («اشتعال أربع ثورات شعرية متتالية في مسافة قصيرة تاريخيًّا)، ومنها «تحول الوظائف» (الاجتماعية والجمالية التي يقوم بها الشاعر)، ومنها «حركية التنافس» (بين الشعر كنوع أدبي والأنواع الأدبية والإبداعية الأخرى)، ومنها «الحداثة ومستقبل الشعر» (حيث أخذت الحداثة تمعن في تسريع إيقاع تحولات الشعر المفاجئة للجمهور).

من هذه المقاربات أيضًا كتاب الدكتور جابر عصفور «تحولات شعرية» -لنلحظ العنوان أيضًا- الذي كان تطويرًا لكتاب سابق له صدر تحت عنوان: «ذاكرة الشعر». ويقف الكتاب في مقدمته عند دلالات الاتّباع ومحفوظات الذاكرة في النظرة القديمة لمفهوم الشعر العربي (التي لا تختلف عن فهم الشعر في ثقافات الأمم الأخرى)، وعند خيال الشاعر وذاكرته في مواجهة خيال الناقد وذاكرته، وانحياز الذاكرة النقدية إلى «الذاتية» في تاريخ مبكر انقضى عصره مع «الهشاشة العاطفية التي انحدرت إليها الرومانتيكية». كما يتوقف، في سياق رصد التحولات، عند «زمن الموضوعية الآلية» ثم «الموضوعية النسبية» التي أصبحت تغلب على التيارات النقدية التي تتعامل مع الشعر وترصد تحولاته «في زمننا».

ومن هذه المقاربات كتاب جمال الدين بن شيخ «الشعرية العربية». ويتتبع الكتاب مسيرة الشعر العربي منذ العصر الجاهلي حتى القرن العشرين، ويهتم بتشكيلات الخطاب النقدي للشعر وتحولاته في هذا الزمن الطويل، وصلة هذه التحولات بتحولات خارج الشعر وخارج النقد.

التحولات والحداثة

بقطع النظر عن القضايا التي تحيط بمفهوم «الحداثة» وإشكالات نقله من سياقه الغربي إلى السياق العربي، وتجاهل الشروط الاجتماعية والثقافية والفلسفية والسياسية والحضرية التي تأسس عليها في الغرب، ولم تتحقق عربيًّا بعد.. فهناك دراسات كثيرة عنيت بدلالات التحول في الشعر العربي، وفي نقده أيضًا، من مدخل الحداثة.

من هذه الدراسات كتاب دكتور كمال خير بك «حركية الحداثة في الشعر العربي المعاصر ـ دراسة حول الإطار الاجتماعي ـ الثقافي للاتجاهات والبنى الأدبية). يتأسس الكتاب على مدخل يصل بين تطور الشعر العربي الحديث منذ «اليقظة» (النهضة ومجموع الظروف والملابسات الاجتماعية والثقافية، ويشير إلى «تحول عميق في الاختيار الفكري والروحي والإبداعي لقسم كبير من الإنتلجنسيا العربية».

ومن هذه الدراسات دراسة الدكتور محمد عبدالمطلب «بناء الأسلوب في شعر الحداثة- التكوين البديعي» ويتوقف فيها عند ظواهر «جديدة» في شعر الحداثة، منها ظاهرة «تعدد الأزمنة»؛ «فللوجود زمنه، وللشاعر زمنه، ولنصه الشعري زمنه أيضًا»، وبهذه الثلاثية «استطاع شاعر الحداثة أن يتخلص من قيد وجودي (…) وخلق لنفسه أزمانًا تحقق له الخلاص والتحرر».

ومن هذه الدراسات دراسة خيرة حمر العين «جدل الحداثة في نقد الشعر العربي»، ويناقش فيها الناقد إشكالات المفهوم ـ الحداثة ـ وتداخلاته، قبل أن يتوقف عند «تجليات الحداثة في الوعي العربي»، و«خطاب الحداثة»، و«سيمياء التشاكل».. والدراسة، بوجه عام، تُعنَى بنقد الشعر أكثر مما تعنى بالشعر نفسه.

التحولات والتجريب

ومن المقاربات التي اختارت تناول تحولات الشعر العربي من خلال مدخل التجريب، كتاب دكتور محمود الضبع «غواية التجريب ـ حركة الشعرية العربية في مطلع الألفية الثالثة». ويبدأ الكتاب من احتفاء واضح بقيمة التحول: «تشهد الألفية الثالثة تحولات جذرية في كثير من مناحي الحياة، وفي إعادة صياغة عديد من المفاهيم»، ويشير إلى أهمية قراءة مشهد الشعر العربي اليوم قراءة بانورامية، يفرض ذلك «ما تشهده الشعرية العربية من تحولات بدأت ملامحها في الظهور وإن لم تكن قد استقرت وبانت معالمها».

التحولات وقصيدة النثر

وهناك دراسات كثيرة احتفت بتقصي بعض أبعاد التحول في الشعر العربي خلال الاهتمام بقصيدة النثر. من هذه الدراسات كتاب إيمان الناصر «قصيدة النثر العربية- التغاير والاختلاف»، الذي يبدأ بعبارات دالة وأحكام قاطعة، وتقريبًا حماسية الطابع: «تعدّ قصيدة النثر واحدة من أعظم سمات التحول في تاريخ الأدب الحديث، فقد استطاعت أن تحدث قطيعة ذوقيّة تحولت بفضلها من الإنشادية والحماسة إلى فاعلية الخلق والابتكار». ومن هذه الدراسات أيضًا كتاب الدكتور محمود الضبع «قصيدة النثر وتحولات الشعرية العربية»، لنلحظ العنوان أيضًا. ويهتم في مقدمته بالتصورات المتعددة حول حركة الأنواع الأدبية.

نظرة إجمالية – تساؤلات وملحوظات

هذه الوفرة (وغيرها كثير) من المقاربات النقدية والدراسات الأكاديمية، التي عنيت بتقصي أبعاد التحولات في الشعر العربي، وانطلقت من اتخاذ هذه التحولات محورًا أساسًا لتناولاتها.. تشير، فيما تشير، إلى أن هذه التحولات تمثل ظاهرة كبيرة حاضرة بوضوح في مسيرة الشعر العربي، وإلى أن أبعادها وجوانبها مشهودة وملحوظة، وإلى أنها استدعت وتستدعي التناول من زوايا شتى، وتتطلب النظر وإعادة النظر فيها.

ومع هذه الإطلالة الخاطفة على هذه التمثيلات من المقاربات النقدية لظاهرة التحول في الشعر العربي، يمكن الإشارة إلى بعض القضايا والتساؤلات على نحو إجمالي:

من هذه القضايا والتساؤلات ما يرتبط بما تقدمه هذه المقاربات من تراكم معرفي وتواصل منهجي: ما الذي يجمع بين هذه المقاربات… ما الذي يفرّق أو يمايز بينها؟ كيف يمكن أن تتضافر استخلاصاتها الأساسية في طرح أو في مشروع متكامل، ممنهج ومنظم؟

ما موقع أحكام القيمة الجمالية، على مستوى التلقي، في هذه المقاربات… إلى أي حد اهتمت هذه المقاربات بأشكال التلقي التي تجاوز حدود تحليل ممكناته داخل النص الشعري إلى عمليات التلقي الفعلي للشعر، أي بين دوائر المتلقين للشعر، وإلى أي حد اقترنت هذه التحولات بقيم جمالية جديدة نجحت بالفعل في أن تنتزع مساحات متجددة لتبنيها بين عموم قراء الشعر الذين يجاوزون دوائر النخب المختارة؟

كيف يمكن النظر إلى تحولات الشعر العربي من منظور يحتفي بمعنى «المسيرة الممتدة»، والنأي عن تصورات «القطيعة» التي كانت ولا تزال تمثل عقبة كبيرة في النظر إلى التاريخ العربي كله، الأدبي وغير الأدبي. القطيعة الكاملة، مفهوميًّا، قد تكون وهمًا من الأوهام؛ والنظرة إلى تجربة جديدة على أنها مبتورة الصلة بما سبقها من تجارب قد تكون نظرة «مضلَّلة» و«مضلِّلة» (بتشديد اللام وفتحها، ثم بتشديدها وكسرها).. فكل تجربة موصولة بالضرورة بالتجارب السابقة عليها، حتى بالاختلاف عن هذه التجارب… فأن تختلف عن، أو مع، شيء ما… فهذا يعني أنه حاضر حتى في اختلافك عنه أو معه.

ما أبعاد ظاهرة التحول في أشعار العاميات العربية (وهي لا تتهدد العربية الفصحى في تصوراتنا التي قد تحتمل الصواب)؟ أليست هناك حاجة لاستكشاف أبعاد هذه الظاهرة في هذا القطاع المهم من الشعر، الذي عرف تحولات كبيرة مشهودة لنا جميعًا؟ أغلب شعر العامية غائب عن هذه المقاربات، سوى بعض إشارات هامشية محدودة، متناثرة، هنا وهناك.

ألا يحتاج تناول تحولات الشعر العربي إلى دراسة بينية تصل بين مسارات عدة: علم اجتماع الأدب، من جهة، والتلقي من جهة ثانية، والنقد الأدبي من جهة ثالثة؟

فالحاجة ماثلة، الآن بوجه خاص، إلى تعرف موقع الشعر العربي وتحولاته على خريطة الإبداعات الأدبية وغير الأدبية، من حيث استكشاف الدوائر التي تحرص على تلقيه، وذائقتها واهتماماتها، واحتياجها للشعر وما يقوم به من أدوار في حياتها… أي أن الحاجة لا تزال قائمة للتعرف إلى الصلات بين تحولات القصيدة أو تحولات الشعر، من جهة، وتحولات المجتمع، ثقافيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا وحضاريًّا، من جهة أخرى… وبمعنى آخر؛ فالسؤال مطروح لا يزال: هل تحولات الشعر هي محض تجسيدات للنزوع إلى التجريب والمغامرة والتجديد من المبدعين والمبدعات فحسب، أم إنها أيضًا، وابتداء، استجابة لاقتراحات يستدعيها، وأحيانًا يفرضها، الواقع الثقافي والاجتماعي… إلخ. هناك من بين هذه المقاربات ما سار قليلًا على هذا السبيل، لكن السبيل كله لا يزال طويلًا ممتدًّا.


هوامش:

– حاجي خليفة، كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، دار إحياء التراث العربي- بيروت، د.ط، د.ت، ج1/ص:186.187.

– محمد رقيد: النظرية العاملية السيبويهية: حدود القراءة، أطروحة الدكتوراه، 2001-2002م، ص: 27.

– نصر حامد: النص والسلطة والحقيقة: إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة، المركز الثقافي العربي-المغرب، ط5/2006م، ص: 19.