القاضي البيضاوي.. غُربة «المثقف» الدخيل

القاضي البيضاوي.. غُربة «المثقف» الدخيل

تُروى عن القاضي البيضاوي (685هـ) حكايةٌ لا تفتأ الترجمات له عن ذكرها، وهي تنطوي -في نظرنا- على مؤشرات رمزية تكتسي وجوهًا من التأويل تحملنا على مشروعية التفكير إبستمولوجيًّا في نص البيضاوي من حيث شروطُ إنتاجه واقتضاءاتُ تلقيه في ضوء العلاقة الجدلية بين المعرفة والسلطة في صيغتها الإشكالية، وبين علاقة المثقف الدخيل بسلطة النسق الثقافي العربي في بُعدها الإجرائي.

متن الحكاية(١)

ذكر التاج السبكي في الطبقات الكبرى أن البيضاوي لما صُرف عن قضاء «شيراز» «رحل إلى «تبريز» وصادف دخولُه إليها مجلسَ درس لبعض الفضلاء، فجلس في أخريات القوم حيث لم يَعلم به أحد فذكر المُدرِّس نكتة زعم أن أحدًا من الحاضرين لا يقدر على جوابها، وطلب من القوم حلَّها والجواب عنها، فإن لم يَقدروا فالحل فقط فإن لم يقدروا فإعادتها». «فشرع البيضاوي في الجواب فقال: لا أسمع حتى أعلم أنك فهمت، فخيَّره بين إعادتها بلفظها أو معناها، فبُهت المدرِّس فقال: أعِدْها بلفظها فأعادها ثم حلها وبيَّن أن في ترتيبه إياها خَللًا، ثم أجاب عنها، وقابلها في الحال بمثلها ودعا المدرّسَ إلى حلها، فتعذر عليه ذلك». «وكان الوزير حاضرًا فأقامه من مجلسه، وأدناه إلى جانبه وسأله من أنت؟ فأخبره أنه البيضاوي وأنه جاء في طلب القضاء بـ«شيراز»، فأكرمه، وخَلَع عليه في يومه، وَرَدَّه».

عتبة: لكل مفسر حكاية

تعتني الحكاية على مستوى منطوقها بنسق التفكير لدى البيضاوي؛ فتقدم هذا الأخير بوصفه شخصية معرفية تمتلك نبوغًا استثنائيًّا عزَّ قبيله في مرحلته التاريخية، بينما تصمت الحكاية عن النسق الإنتاجي له الذي تَفرَّد بِسِمَتَيْنِ بارزتيْنِ هما: التلخيص والتحشية. سنحاول في الوهلة الأولى النفاذ إلى منطوق الحكاية انطلاقًا من عناصرها الفاعلة التي حددناها في ثلاثة عناصر هي: فضاء المجلس ورموزه وقواعد اشتغاله. أما في الوهلة الثانية فسنسعى، بخصوص منطقة المصموت، إلى بناء تأويل نستند فيه إلى نص البيضاوي من أجل تعميق الفهم حول سِمَتَيْهِ المذكورتين آنفًا والتساؤلِ كذلك حول مشروعية انتسابه كنص إلى أرومة كتب التفسير واتصال صاحبه بعشيرة المفسرين.

1- منطوق الحكاية: نسق التفكير

1-1- فضاء المجلس: فضاء الاعتراف والتفويض

يبدو أن فكرة «المجالس» الثقافية غالبًا ما اتخذت قديمًا فضاء لمراقبة الأنساق الدخيلة ومعاقبة روادها رمزيًّا عبر طقس المناظرة أو واقعة الدرس، كما شكلت كذلك قوة اقتراحية تمتلك صلاحية الاعتراف بالمثقف الدخيل عن طريق محاولة تطهيره داخل فضاء المجلس من غيريته وغربته اللتين يُكشف عنهما إعْناتِيا من خلال إلباسه جنحة الخطأ المعرفي (سيبويه) أو القذف في فصاحته بحجة العي اللساني (واصل بن عطاء)، حتى إذا ما فُوِّض لهذا المثقف الدخيل مهمة الإنتاج باللسان والمتخيل العربيين معرفة معينة حاكه ذلك في نفسه واستعظمه وهيأ له العدة اللازمة للبرهنة على مؤهلاته وشرعية الانتماء إلى النسق باستحقاق. كما عُدّ المجلس أيضًا وسيلة سانحة لإعادة بناء مفهوم السلطة عبر تقوية دعائم مؤسساتها خطابيًّا، وهو ما نستبينه من خلال رعايتها الدائمة لفكرة المجالس الثقافية والإشراف المباشر عليها.

على هذا الأساس سعت حكايتنا هاته التي احتفت بذكر مكان المجلس دون زمانه، إلى تقديم شخصية القاضي البيضاوي بوصفِهِ نموذجًا للمثقف الدخيل الذي استوعب لعبة الصراع بين أنساق الهيمنة وما وفره له رموزها من تجارب، ليؤسس خطابًا مضادًّا يزاوج بين النقد الفكري والمعارضة السياسية، ويراعي في الآن ذاته مقتضيات السياق الثقافي دَرْءًا لأي إضرار قد يفوِّت على البيضاوي فرصة الترقي اجتماعيًّا من خلال حرصه على تولي منصب القضاء.

1-2- رموز فضاء المجلس في الحكاية:

يضم فضاء مجلس الحكاية صنفيْنِ من الشخصيات تتراتب وفق سلمية تقويمية تقوم على التمييز والتصنيف والعزل: أولاها مركزية ممثلة في المدرِّس والوزير، وثانيها هامشية تتجسد في الجمهور الموزع نفسِه بين فئة المركز (الفضلاء) وفئة الهامش (القوم) وأما ثالث الشخصيات، محددة في البيضاوي، فتُراوِح بين الهامش والمركز تبعًا لسياق التحاور.

أ- المدرِّس: رمز السلطة الثقافية الرسمية وواجهتها التي تحتكر سلعة القول بدل الكلام، وتنتج شبه معرفة قائمة على الإلغاز بهدف التعجيز (زعم أن أحد الحاضرين لا يقدر على جوابها)، وهو ما يُضفي عليها مُسوح التعالي والإطلاق وإن خلت من أي إحالة (عدم معلومية فحوى النكتة/ المسألة) أو ضابط منطقي يجنبها الخلل أو أفق تدبر وتأويل (سكوت الجمهور)؛ إنها «معرفة» تروم التحكم في الإدراك من أجل صناعة مخيال جمعي يُبنى على تكريس الحقائق عن طريق فِعْلَيِ الإعادة والجواب اللذيْنِ دعا إليهما المدرس مرتين: مرة مع القوم «فإن لم يقدر فإعادتها»، «لا يقدر على جوابها» «والجواب عنها»، ومرة ردًّا على سؤال البيضاوي «وقال: أعدها بلفظها»، كما زكاه البيضاوي نفسُه مرتين: سؤالًا «فخيره بين إعادتها بلفظها أو بمعناها» وفعلًا «فأعادها» وشروعًا في الجواب وحلًّا. وتتجلى حقيقة الفعلين معًا في استهدافهما تربية مَلَكَة الحفظ من أجل مقاومة النسيان الحضاري، وترسيخ المعيارية على حساب تنشيط السؤال الموجب لعملية الفهم المفضية إلى التأويل، الذي يُهدّد ثبات الأنساق واستمراريةَ فاعليتها السلطوية.

ب- الوزير: تختزل الحكاية هذه الشخصية في دورين:

• دور الرقابة لفضاء المجلس وأشخاصه والسؤال عن هويتهم «من أنت؟»، من دون الاعتناء بمقام الدرس وظروف التلقي؛ لأنهما يعيدان إنتاج البنية الثقافية نفسها التي لا تبرح دائرتَيِ: الجواب المُعَدّ سلفًا أو إعادة المسألة.

• ودور توزيع المنح وتولي فعل الإكرام الذي تفصح السلطة من خلاله عن وجهها الإيجابي المعبر عن موقف التقدير للآخر عبر إشراكه في تقاسم الخطاب، وتخفي وجهها المقابل القائم على احتواء المثقف عبر ترضية أطماعه طمعًا في إصماته أو الكلام باسم ولي إنعامه «فأقامه الوزير من مجلسه وأدناه إلى جانبه».

ت- البيضاوي: تتكاثف عناصر الحكاية، في الواقع، لا من أجل تأكيد ألمعية البيضاوي ونبوغ شخصه، ولكن لتأكيد رمزيته كمثقف دخيل انتزع اعتراف المؤسسة الثقافية عبر تقنيتيْنِ:

أولاهما: الهزء من رمز المدرس والتمرد على سلطته المتعالية في موضعين: الأول؛ عندما شرع في الجواب دون إذن منه، والثاني؛ حينما خطّأه وأعجزه بمسألة أخرى. وقد كان البيضاوي في كلا الموضعين يتقصد إرباكَ المدرس واستضعافه وإحراجَه أمام السلطة المحتضنة له.

ثانيهما: زحزحة المدرس من موقعه بوصفِهِ مَعبرًا إستراتيجيًّا إلى سُدَّة الوزير، وذلك عن طريق تسويق البيضاوي باحترافية لرأسماله الرمزي داخل فضاء المجلس، بعدما أدرك أنه فضاء تتواطأ عناصره على صناعة الفراغ وترويج اللامعنى.

بهاتين التقنيتين يكون البيضاوي قد أفلح في تحقيق أمرين:

أحدهما؛ تتويج دخوله إلى تبريز بكسب رهان الانحياز إلى السلطة الرسمية من خلال قبوله فعل الدخول وتوشيح الوزير له بخِلعة القضاء بشيراز؛ وهو المنصب الذي استبد بنفسية البيضاوي بعد محنة العزل عنه في السابق.

والآخر؛ التأكيد لوجه من أوجه نسق تفكيره المتمثل في مقدرته الذاكراتية على الحفظ والاختزال.

2- نسق قواعد اشتغال فضاء المجلس في الحكاية:

تتأطر الحكاية بنسقين من القواعد: نسق لغوي وآخر سيميولوجي.

أ- النسق اللغوي: تجلى في فعل الكلام الذي أَسندتِ الحكايةُ إدارته من الناحية التواصلية بنوع من التوجيه إلى البيضاوي؛ بصفة الكلام سلعة ستُخرِج هذا الأخير من موقع الهامش (أخريات القوم) موقعِ الغربة إلى مركزه (إدناؤه من الوزير) موقع الألفة، وسيترقى بواسطته اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا (منصب القضاء).

ب- النسق السيميولوجي: تركز الحكاية على حركة الجسد داخل الفضاء في علاقته ببعد المسافة؛ فليس غريبًا أن يدخل البيضاوي خِفية عن أنظار الجلساء (بُعْد)، ولا أن يتحرك أفقيًّا بإشارة من الوزير ليدنو منه وإليه (تضييق المسافة/قُرب)، ولا أن يُرد إلى موطنه الأصلي بعدما هيأت له السلطة لباسها على مَقاسه (بعد) فكان دخوله في ثوب وخروجه في آخر، لنعلم أن العمق الحقيقي للحكاية هو الاختفاء استعدادًا للتماهي مع السلطة وليس الوجود؛ إذ وجوده عارض تبعًا لمقتضيات المنفعة (جئت في طلب القضاء).

3- مصموت الحكاية: من غربة الفضاء إلى غرابة النص

يمكن القول بلغة أهل السرد: إن الحكاية تبني متخيلها للمثقف الدخيل في صورة بطل مناضل في صيغته المثلى (انبهات المدرس) يَعبر الفضاءات كما الأمكنة؛ ليتولى مهمة تكسير صنمية النموذج أو هزمه أو التشويش عليه، ليتحول البطل بعد ذلك، بشكل واعٍ أو لا واعٍ، إلى أداة إقماعية في صيغتها القصوى لا تتحرك هي نفسها خارج سلطة النموذج المؤطِّرة، هذه المرة، للنصوص والخطابات.

فإذا كان البيضاوي قد هزم سلطة المدرس شفاهيًّا وأطاح به في مجلس الفضلاء بوصفه رمزًا للعقل اللامنسجم؛ أي رمزًا للنسق المختل، فإنه سعى إلى التشويش على سلطة المفسر من خلال نص الكشاف للزمخشري باعتبار هذا الأخير ذاتًا ترمز إلى العقل المنسجم ذي النسق المتين الذي يهدد -حسب مخيال المؤسسة الثقافية- سلامتها العقدية. فما تلخيص البيضاوي وما التحشية عليه سوى دليل على عملية التشويش تلك كما شُوِّش على نص «أنوار التنزيل» نفسه بتحشيات كثيرة حتى أُنزل منزلة النص المقدس ومَحَلّ غرابة تستهوي أفئدة القارئين.

3-1- نص «الأنوار» نص مُراقب:

تراهن الثقافة على سلطة النص في تعطيل أفق القراءة أو تحويره؛ فتتولى من أجل ذلك إنتاج نصوص مركزية تتمتع بقيمة فريدة تجعلها مصدر توليد وإمداد، وتعيد إنتاجها بواسطة نوعين من النصوص ذات الطابع الاستمدادي: نص محيطي يلعب «عن طريق الشرح والتعليق دور التمنيع والوقاية بواسطة الحد من قوة الأفكار، وانتقاء الآراء اعتمادًا على تقنيتي الترويض والتوجيه»(2)، ونص تمديدي يستند آلية التدعيم من أجل الدفع بمقدمات النص المركزي وتحقيق تراكم نوعيّ على صعيد مشروعه الفكري.

ينتمي نص البيضاوي إلى فصيلة النصوص المحيطية، الذي يكرس لحالة العداء حيال نص «الكشاف» بعدما اقتنعت بخطورته كنص تفسيري مركزي يبسط مردوديته المعرفية على مستوى نسق التصور الفكري ومنهج التحليل؛ لذلك انبرى نص «الأنوار» لمراقبته عن طريق افتكاك مدلوله على حساب داله بواسطة آلية التلخيص بوصفها آلية سلطوية في بعدها الإبستمولوجي، يتراجع فيها منطق التأويل لانشغال الملخص بالتقليص الكمي بواسطة إجراءَيِ الحذف (على مستوى المدلول) والتعديل (على مستوى الدالّ) بدعوى التشذيب والتقليل من المشكلات التي تعترض القارئ وترويض العويص من أجل تشجيع عملية الإقبال والاستهلاك، وهذه كلها مبررات يدفع بها الملخص لإضفاء الحجية على منتجه.

بالتأكيد، إن نص البيضاوي وهو يراقب نص الكشاف كان يتحرك وفق إستراتيجية تتغيا وضع صياغة نموذجية تبعًا لإملاءات التصور الأشعري للعالم ، تقوم من جهة على ملاحظة مدى تطابق نص الكشاف مع القيم العقدية، وتقوم من جهة أخرى على إعادة تأطيره عن طريق تعطيل أفكاره الحيوية وترويج العادي منها وفق طرق تنظيم وتوزيع صارمة.

من المفارقة الطبيعية أن نص البيضاوي وهو يؤدي دوره الرقابي بتفويض من المؤسسة الثقافية وترسيم من السلطة السياسية، لم يَقْوَ على التخفيف من سطوة نص الكشاف (خطبة الأنوار) بدليل احتياجه إلى تعزيز المحاصرة والضبط عن طريق توليد نصوص التحشية، التي أعدُّها أحد مظاهر المباركة والتزكية لفعل المراقبة التي تجرأ عليها نص الأنوار، هذه المباركة التي تجسدت من الناحية السيميولوجية في طريقة تموضعها عتباتيًّا على أرباض المتن في إشارة إلى دلالة الحف والاحتفاء، وإضفاء ميسم القداسة على النص المحشَّى وإنزاله منزلة النص المركزي.

يبقى نص الحكاية الذي تواترت روايته عن القاضي البيضاوي نصًّا رسميًّا إشهاريًّا، يرمز منطوقه ومصموته إلى حالة المثقف الدخيل المغترب فضاءً وإنتاجًا؛ على اعتبار أن حركتي الجسد والعقل لا تتمان إلا تحت وصاية سلطة يتجاوب معها قولًا وفعلًا، ويتعارض مع ما ينافسها على مستوى احتكار السلطة واحتكار ما يمثل أدوات صنع الوعي وتحديث الذاكرة.


هوامش:

(١) حاجي خليفة، كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، دار إحياء التراث العربي- بيروت، د.ط، د.ت، ج1/ص:186.187.

(٢) محمد رقيد: النظرية العاملية السيبويهية: حدود القراءة، أطروحة الدكتوراه، 2001-2002م، ص: 27.

(٣) نصر حامد: النص والسلطة والحقيقة: إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة، المركز الثقافي العربي-المغرب، ط5/2006م، ص: 19.