المكان في منجز عبدالعزيز الفيصل.. من جغرافية الأدب  إلى الأدب السياحي

المكان في منجز عبدالعزيز الفيصل.. من جغرافية الأدب إلى الأدب السياحي

للمكان قيمته لدى الأدباء، وله مكانته عند النقاد والمؤلفين، فليس المكان جزءًا من التضاريس، والأشكال فحسب، بل هو عواطف وأخيلة؛ لذلك قال الفيلسوف الفرنسي (غاستون باشلار، 1962م) في كتابه «جماليات المكان»: «إن المكان الذي ينجذب نحوه الخيال، لا يمكن أن يبقى مكانًا لا مباليًا، ذا أبعادٍ هندسية وحسب، فهو مكان قد عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعي فقط، بل بكل ما في الخيال من تحيّز»(١) .

وانطلاقًا من هذا التصور سنتخذ من الأستاذ الدكتور عبدالعزيز بن محمد الفيصل أنموذجًا للبحث عما وراء المكان من خلال نقاط عدة:

رسالته المكانية في العلاقة بين الوطن والأدب

إن الحديث عن الوطن بوصفه موضوعًا علميًّا، وأدبيًّا ليس أمرًا غريبًا، أو جديدًا، وإنما هو أمر متجدد بتجدد الزمن، وهو كذلك أصل من أصول الحب والانتماء التي ترتكز عليها الهوية، وتتكئ عليها معاني الولاء. وقد طفحت كتب الأدب قديمًا بتكريس هذا المفهوم، وتعزيزه، فحب الوطن، وحب قيادته موضوع مهم من بين موضوعات الأدب، ولا سيما وهو مصدر خير للناس منذ قديم الأزمان. وهذا ما كان يسعى إلى غرسه العلم، والعلماء بدأب، بل كانت تحرص عليه كتب الأدب -قديمًا وحديثًا- في كثير من فروعها، وأشكالها، وأجناسها المختلفة.

ولقد أكبرتُ في أستاذي الدكتور عبدالعزيز الفيصل حب المكان، والانتماء إليه، وتعميق أصوله، والبحث عن جذوره، ولا سيما أن كثيرًا من الأماكن التي كان يعرض لها، ويتوقف عندها، كانت هنا في الجزيرة العربية، في مملكتنا الغالية. وكأن مؤلفاته تؤكد أهمية المكان، وأنه ليس كباقي الأمكنة، فمن هنا ولدت الحضارات، وتفتّقت البطولات، ونبعت القيَم، ونضحت الشيم، ما بين نجدٍ والحجاز، وما بين جنوبٍ وشمالٍ، وما بين سواحل الشرق، وشواطئ الغرب.

ولم يكن دَأَبُ الباحث الدكتور عبدالعزيز الفيصل هو التأريخ للمكان، أو رصد جغرافيته فحسب، بل الإشعار بقيمة المكان، وفرادته؛ لذلك انطلق من زاوية قلّ الحديث عنها إلى وقتنا هذا، وهي (جغرافية الأدب)، وكان اهتمامه بمواضع الجزيرة تحديدًا دليلًا واضحًا على حب وطنه، ورصد آثاره، والمرور بدياره، ورسم جغرافيته، والتشوق إلى مكانه، وزمانه، وخلانه.

تعزيز هوية المكان

لعل مما تميز به الدكتور عبدالعزيز الفيصل أنه من أوائل الذين عقدوا صلات بين الأدب وفروعه البينية، ومن ذلك ما تشي به مؤلفاته من عمق تاريخي، ونفس جغرافي، وملامح سياحية، ومعالم أثرية. فلم تكن العلوم في منازعها البينية مقتصرة على تواشج الإنساني والعلمي، أو الأدبي والفلسفي، بل وجدنا ذلك أيضًا في العلوم الإنسانية المتواصلة فيما بينها. فهناك علائق مهمة تجمع الأدب بالأنثروبولوجيا، والسوسيولوجيا، والإبستمولوجيا ونحوها، غير أن الجغرافيا الأدبية لم تحظَ -للأسف- بانتشار كبير، سوى ما كان عند حمد الجاسر، وعبدالله بن خميس -رحمهما الله- ونزر قليل من بعض البلدانيين.

وقد حظيتُ بشرف الدراسة على يديه، وكان كتابه «المعلقات العشر» من أحدث ما قرأته في شروح المعلقات. وزاد من قيمته الأدبية و(البينية) أنه كان يسترسل في أثناء المحاضرة حين يقف على مكان، أو يمر بجبل، أو موضع، فنعيش معه (بانوراما) المكان، وجمالياته. فكان حريصًا على أن يرسم الصورة الدقيقة للمكان، كحديثه لنا عن مسقط رأس الأعشى، و(عالية نجد)، وتفصيله الجميل لجبل (حَضَن) و(طويق) وغيرهما.

وكانت له رؤيته النقدية في استعراض المكان، وما آل إليه اليوم، كقوله عن الحيرة: «مدينة في جنوبي العراق، وهي قاعدة ملك النعمان، والحيرة اليوم (1421هـ) جزء من النجف…». وكنتُ ذات يوم أعلّق معه في المحاضرة، فلما مررنا بـ(طخفة) و(نفي) قال: «وطخفة هي المكان الذي حصلت فيه المعارك بين خالد بن الوليد، ومالك بن نويرة». كما كان مهتمًّا بالتحديد الجغرافي والإداري، كقوله عن (فيد): «قرية قديمة، وهي باقية على حالها في وقتنا الحاضر، وتقع شرقي جبل سلمى، منقطعة عنه، وهي تابعة اليوم لإمارة حائل في شمالي المملكة العربية السعودية، وتبعد عن حائل بأكثر من مئة ميل».

والحق أنني لم أجد من يتعرض للمكان بهذه الدقة، ويفصّل فيه تفصيل النقاد والجغرافيين والمؤرخين إلا نادرًا، حتى أولئك الذين تعمقوا في دراسة جماليات المكان اليوم في الحقل السردي هم في الحقيقة لم يصلوا إلى مثل هذا العمق(٢).

بواعث المكان ودوافعه

ذكر الدكتور علي الجماح في مقال له بعنوان: «جهود الدكتور عبد العزيز الفيصل في تحقيق الشعر العربي القديم» بعض المؤثرات والدوافع التي صنعت حب المكان، والتعلق به عند شيخنا الفيصل. فذكر أن كل إنسان تتشكَّل حياته وتوجهاته من خلال مؤثرات دينية وبيئية واجتماعية وثقافية، وأحسب أن الشغف الذي لازم الفيصل بالأماكن منذ نشأته كان له أثر كبير في بحثه عن الشعر الذي وردت فيه أسماء الأماكن، والوقوف عليها من خلال البحث عنها في كتب البلدان، والرحلة إليها حقيقة، ثم ما كان بعد ذلك من توجه لجمع شعر القبائل ودراسته، وقد قوى من هذا الشغف لديه أمور من أهمها:

أ. بيئته التي ولد فيها، وأحبها. ويؤكد ذلك قوله: «المكان في الجزيرة العربية يحل سويداء القلب، فهو باعث الشعر وجالب الرؤى وجامع التخييل، به يلتئم الشعر، وتتوارد الخواطر، فكأن شياطين الشعر تقطن بجانبه، وأرواح الأحبة تطير في سمائه، لقد مالت القلوب إلى سماعه، وطار الطيف إلى الحلول فيه، فما أعذب لفظه، وأحلى لحن حروفه، فكلماته نغمات تجلب السرور، وذكرياته تغمر بالفرح، والهناء، والحبور، أنطق القريب منه بالشعر الرقيق، وأوحى إلى البعيد عنه بمعاني الحب، فنُسجت الأشعار فيه بالوحي، وهامت الخيالات فيه بالسماع، فيا ليت شعري ما الذي أودع في المكان في الجزيرة العربية حتى يسحر الشعراء، ويضفي ظله على خيالاتهم فتجود بما لم يستطيعوا قوله في غيره».

ب. حبه للرحلة، وشغفه بالانتقال بين الآثار والأماكن التاريخية في نجد، وما ورد من تلك الأماكن في شعر القدماء. ويذكر الفيصل أنه سعى إلى «معرفة أماكن الشعراء والوقوف عليها استرشادًا بأشعارهم، وأشعار شعراء قبيلتهم، ثم معرفة الجبال والأودية، وما قال عنها الرواة القدامى، ثم الاستئناس بما ورد في معاجم البلدان القديمة». ويذكر زميله الدكتور محمد الربيع أنه في الوقت الذي تمر عليهم أسماء الأماكن في المعلقات وغيرها من دون اهتمام نجد أن الفيصل يحرص على معرفة تلك المواقع، والرحلة إليها، كما يذكر أن للفيصل في ذلك رحلة أسبوعية قصيرة، وأخرى صيفية أو شتوية طويلة.

ج. تنقله بعد تخرجه من كلية اللغة العربية. فقد عيّن في المدينة المنورة، ثم في الغاط، ثم بريدة، حتى كانت الرياض محطته الأخيرة. وهو في كل مكان يذهب إليه، يقف عند معالمه، وتشده تلك الهواية المتأصلة فيه إلى البحث عن المواقع التأريخية، وما ارتبط بها من أحداث، وما ورد فيها من شعر، ومن سكن فيها من القبائل(٣).

الإرهاص الأثري والسياحي

لقد رسم أستاذنا الدكتور عبدالعزيز الفيصل في منجزه العلمي، والأدبي، والنقدي بعض الخطوط المهمة لتفعيل البينية التي تجمع الأدب بفروع إنسانية ومعرفية أخرى. ولم يتوقف جهده عند الأثر التاريخي، أو الجغرافي، أو التراجمي، بل نراه يرهص لملامح سياحية، قد تفيد منها اليوم وزارة الثقافة بهيئاتها المتعددة. ولا غرو فالشعر إنما وُلِد أكثره، وتفتّق أجمله من هنا؛ من أرض المملكة العربية السعودية. وهنا يأتي الأثر الكبير الذي كان يرهص له أستاذنا الدكتور عبدالعزيز الفيصل عندما كان يرسم لنا تلك المسارات لشعراء عدة انطلقوا من مملكتنا الحبيبة.

ولعل مما يؤكد هذا الإرهاص الأثري والسياحي في منجز الأستاذ الدكتور عبدالعزيز الفيصل، ما أورده الدكتور الجماح نقلًا عنه في أحد كتبه. يقول: «كلّفتني هيئة السياحة بتحديد مسرح حرب داحس والغبراء، وأماكن زعماء الحرب وشعرائها، فخرجت إلى تلك الأماكن الواقعة بين جبل طمية وجبل قَطَن وبينهما النَّقْرة والحاجر، فحددت أماكن الزعماء والشعراء، ترشدني الجبال ورواية الرواة، فمشيت في الحاجر، ووقفت على مكان بيت زهير بن أبي سلمى، وزرت النقرة، والمسافة بين النقرة والحاجر في حدود ستين كيلًا»(٤).

وهذه المعرفة الدقيقة بالأماكن جعلته يقف عند بعض آراء الدارسين في العصر الحديث ممن شككوا في الشعر الجاهلي، ويفند آراءهم، ويرى أن الجهل بالأماكن المرتبطة بالشعر الجاهلي أوقع طه حسين في خطأ تمثّل في إنكاره الشعر المنسوب إلى القبائل اليمنية ومنها قبيلة كندة، ولم يعلم أن لكندة ثلاث ممالك في نجد في العصر الجاهلي هي مملكة أكيدر الكندي في شمالي نجد، وعاصمتها دومة الجندل، ومملكة حجر والد امرئ القيس في وسط نجد، ومقر الملك القنان، ومملكة القرية في جنوبي نجد، من القرن الثالث الميلادي إلى نهاية القرن الخامس وعاصمتها القرية، وهي التي نقبت عنها جامعة الملك سعود، وأطلق عليها الفاو، وهي قريبة من السليل في وادي الدواسر (٥) .

من تضاريس المكان إلى عمق الوطن

يمكن القول: إن أستاذنا القدير الدكتور عبدالعزيز بن محمد الفيصل ظل رائدًا أدبيًّا، ونقديًّا مهمًّا، من أهم الرواد الذين حملوا راية الاهتمام بالشأن الأدبي تأريخيًّا، وجغرافيًّا، وأثريًّا، وسياحيًّا، وهو ما يجعله رمزًا مهمًّا ومؤسِّسًا في هذا الميدان، وقمينًا بالاحتفاء والاعتناء.

لقد أصبح الأستاذ الدكتور عبدالعزيز الفيصل اسمًا مهمًّا في خريطة أدبنا السعودي والعربي، حريصًا على رسم الصور المكانية، والتضاريس البيئية، ونقلها من زمنها الغابر إلى وقتها الحاضر. وأحسب أن أستاذنا بات من الأعلام البارزين في هذا المجال، ليس على مستوى المملكة العربية السعودية، بل على مستوى الوطن العربي أيضًا. ولعل هذه الدراسة تفتح نافذة على منجز الأستاذ الدكتور عبدالعزيز الفيصل؛ لنطلّ من خلالها على ذلك الإرث الكبير الذي عكف عليه منذ عقود. وإنني من هنا أوصي زملائي الباحثين، والباحثات في مجال الأدب والنقد، أو المجالات المحاذية أن يطلعوا على هذه الأعمال الكبيرة التي قدمها أستاذنا القدير، فما زالت تحتاج إلى مزيد من العناية والدراسة.


هوامش:

(١) جماليات المكان، غاستون باشلار، ترجمة: غالب هلسا، ط/2، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت – لبنان، 1404هـ/1984م، ص31.

(٢) الأدب وملامح جغرافية، صبابة القول، الدكتور فهد البكر، جريدة الرياض، السبت 24 ذو القعدة، 1440هـ، 27 يوليو، 2019م، تحت هذا الرابط: https://www.alriyadh.com/1768275

(3) ينظر: جهود الدكتور عبدالعزيز الفيصل في تحقيق الشعر العربي القديم، الدكتور علي ناصر الجماح، جريدة الجزيرة، العدد 16929، الأحد 28 جمادى الأولى، 1440هـ، تحت هذا الرابط: https://www.al-jazirah.com/2019/20190203/mh1.htm

(4) السابق.

(5) ينظر: نفسه.