صديق محمد واصل.. تجريب جسور تحت مظلة التدوير

صديق محمد واصل.. تجريب جسور تحت مظلة التدوير

يعتمد الفنان التشكيلي السعودي صديق محمد واصل في إنجاز أعماله الفنية التشكيلية – التطبيقية، الفراغية- المجسمة، واللوحات- النافرة المسندية، على عدد من الخامات، من بينها: المعادن، والخردة، والألوان، مستخدمًا القص والجمع بوساطة اللحام، أو التلصيق (الكولاج) إضافة إلى الألوان والريشة، وهو ما يجعل أجناسًا مختلفة من الفنون التشكيلية والتطبيقية تأوي إلى عمله، يصعب معها تصنيفه ضمن النحت، أو التصوير، أو الزجاج المعشق، أو تدوير النفايات في الفن، وقد برزت هذه الخاصية بشكل واضح، في اللوحات المسندية التي يجمع فيها بين المعادن والألوان بأكثر من صيغة وأسلوب.

الفنان صديق محمد واصل من مواليد عام 1973م. يحمل شهادة بكالوريوس علوم، ثم شهادة دراسة عليا، وهو عضو بأمانة نادي الفنون التشكيلية، وعضو جمعية فناني مكة، وبيت التشكيليين بجدة، وجمعية الفنون التشكيلية في كل من البحرين وعُمان. أول معارضه الشخصية أقامه في محترف الفنون بجدة، وله مشاركات عدة في المعارض الفنية الجماعية السعودية الداخلية والخارجية، وقد حصلت أعماله على جوائز وميداليات عدة ومراكز متقدمة في المسابقات والمعارض الجامعية، إضافة إلى حصوله على براءات تقدير عديدة.

يسعى الفنان صديق محمد واصل في تجربته الفنية إلى تأكيد المقولة التي شاعت مع الدادائيين والمفاهيميين والطليعيين وما بعدهم، التي تؤكد انهيار الحدود بين تقانات العمل الفني التشكيلي، بحيث دخل الرسم على النحت، والتصوير على الحفر، والصورة الضوئية على أجناس الفنون التشكيلية كافة، ثم دخول هذه الفنون مجتمعة على فنون بصرية أخرى، بهدف إغناء وسائط تعبيرها، ثم قيام ظاهرة تدوير النفايات الطبيعية والصناعية، في استنهاض أعمال فنية جديدة في شكلها وأهدافها وقيمها.

تعدد وسائط التعبير

منذ البدايات الأولى لتجربته الفنية، اشتغل الفنان واصل على هذا التوجه، فأنجز لوحات مسندية من مواد وخامات مختلفة، من بينها: قضبان الحديد، وألواح الصاج والألوان، بأكثر من صياغة وأسلوب وتقنية، كأن يحدد عناصر لوحته بقضبان الحديد، ثم يملأ المساحات التي شكلها بالألوان (كما في تقنية المينا) أو بتعبير آخر: يرسم عناصر اللوحة بقضبان الحديد، ثم يلونها، وهذه العملية لا تقتصر على الأشكال المجردة، وإنما تطول المشخصات كالهيئة الإنسانية، أو بعض أجزاء منها، حيث يقوم بتثبيتها في ركن من أركان اللوحة، لتبدو بعدها كأنها لوحة نحت نافر، منجزة بالحديد والألوان، تتماهى فيها خصائص الرسم والتصوير والنحت والحرفة، وفق معالجتين اثنتين: الأولى يتعمد فيها وضع تصور سابق لعناصر اللوحة وتكوينها، ثم ينجزها بطريقة القص والتجميع والتثبيت بوساطة اللحام أو التلصيق. والثانية يوظف فيها خردة ومخلفات صناعية، إلى جانب القضبان، لاستنهاض عمارة اللوحة التي يُضيف إليها الألوان بعد الانتهاء من عملية البناء.

العملية نفسها، تتكرر في الأعمال الفراغية المجسمة التي يبنيها من القضبان وصفائح الصاج، أو من الاثنتين معًا، ومن قطع الخردة والمسامير وما تلفظه الصناعات والآلات من قطع استهلكت أو أعطبت وتحولت إلى نفايات، ولكي يُوحد ألوانها، يقوم بطلائها أو أكسدتها أو تركها للزمن ليقوم بهذه المهمة.

تكوينات حرة وقيم فنية متفاوتة

لا يتعمد الفنان صديق محمد واصل في تشكيلاته الفراغية، تقديم حالات مشخصة، تشير إلى هيئة إنسانية، أو حيوانية، أو طبيعية، وإنما يترك العنان ليده لتستنهض ما يريد من التكوينات التي لا ترمز لأشياء محددة، أو تعبر عن فكرة واضحة ومقروءة، وإنما هي عبارة عن أشكال مبسطة وعفوية تارة، ومعقدة وكثيفة العناصر تارة أخرى، لكنها في الحالتين، عفوية وتلقائية وغير مدروسة في بعديها التشكيلي البنائي والتعبيري الدلالي. هذه السمة أو الخاصية، تنسحب على اللوحات المسندية والتكوينات الفراغية، وهو ما يجعل نتائجها شديدة التباين كسوية فنية، وكقيمة تشكيلية وتعبيرية.

من المؤكد أن البحث الدائم عن وسائل تعبير جديدة، والجمع بين أكثر من مادة وخامة وتقنية في إنجاز العمل الفني، طموح مشروع لكل فنان، ما دامت الغاية منه إغناء الحالة التشكيلية، وحاصل تحصيل لها، الحالة التعبيرية القادرة على وضع المتلقي في أقصى حالة ممكنة من التأثر والتفاعل مع ما يُشاهد، وربما هذا ما أراد الوصول إليه الفنان واصل، عندما لجأ إلى استخدام القضبان الحديدية، وبقايا الآلات والخردة والصفائح والمسامير… وغير ذلك من النفايات الصناعية، في تشكيل سطح لوحاته المسندية، وكُتَله الفراغية التي تتماهى فيها العناصر التشخيصية المختزلة والمُبسطة كنسب ومعالجة، والعناصر المجردة التي أراد الفنان من خلالها، تأكيد حالة تعبيرية إنسانية محددة، وإبرازها تصريحًا وتلميحًا وترميزًا، لكن النجاح يجافيه في معظمها، خصوصًا عندما يسهب في حشد العناصر والألوان في منجزه الفني، ويترك لخطوطه وقضبانه حرية الحركة في الاتجاهات كافة، وبشيء من التنوع غير المدروس، لا في إيقاعه الشكلي، ولا في إيحاءاته ودلالاته، وهو الأمر الذي يؤدي إلى خلق حالة تشكيلية صاخبة الأشكال والألوان، تستفز بصر المتلقي وتُنفره منها، لكثرة ما تحمل من شغب، بدل أن تقوم باستدراجه وجذبه إليها، ومحاورة بصيرته بالمعاني والأفكار التي تحملها.

بدايات واعدة

من جانب آخر، تفتقد أعمال الفنان واصل التي شكلت مرحلة انطلاق تجربته الفنية، إلى الوحدة في المعالجة، والتوافق في الخامات والمواد، ما يؤكد أنه ينفذ أعماله، بكثير من التلقائية غير الخاضعة لأي نوع من التشذيب والدراسة والتنظيم، وهذه الضوابط الثلاثة، يمكن أن تأخذ طريقها إلى معمار العمل الفني، من دون تعمد أو قصد من جانب أي فنان، بعد الخبرة الطويلة، والممارسة المستمرة، وبشكل عفوي، وهو ما لم يتوافر للفنان محمد واصل، في بداية دخوله عوالم الفن التشكيلي، لكن أعماله الأخيرة حقق فيها كثيرًا من هذه المقومات، فبدت أكثر تنظيمًا وتوافقًا ودراسة.

مثال ذلك عمله الذي نفذه من كتل مصمتة من الصاج، تموضعت في قاعدة العمل والكتلة التي يحملها الشخص فوق رأسه، بينما نفذ الشخص من المسامير والبراغي والقضبان الصغيرة المقصوصة والملحومة. واللوحة النافرة التي حطم فيها هندسية إطارها، بإضافة أجنحة لها من المعدن ترد على الشخص الموجود داخلها تقنية ولونًا ومعالجةً. ولوحة أخرى نافرة كبيرة الحجم، نوع في أحجامها وأشكال الخردة التي استعملها في تشكيلها، بحيث وازن بين السطوح والكتل المبسطة والحاشدة بالعناصر.

بعدها انتقل الفنان واصل، لاستخدام الكراسي وإضافة الإنسان إليها. ثم أدخل الشبك، والعلب الفارغة الملونة، وأشياء أخرى بنى فيها لوحات جدارية حاشدة بالعناصر والألوان. ثم زاوج بين الحديد والخردة ومواد صنعية وطبيعية (بلاستيك، خشب، عجلات دراجة، رُمانات، مسننات صناعية) وفي أغلب هذه الأعمال، ظل مسكونًا بهاجس التجريب المفتوح والعفوي، مستعينًا بحشد كبير من العناصر تارةً، وتارة أخرى، يقصر العمل على عنصرين اثنين (قطعة خشب ويد، قطعة خشب وأسلاك) كما جمع بين عناصر مصنوعة: إبريق معدني، أو متوازي مستطيلات يحيطه بالخردة، ويشير في واجهته إلى ملامح وجه إنساني. هذا العمل تحديدًا، وبقليل من إعادة تنظيمه وتخفيف عناصره، يمكن أن يتحول إلى نصب تذكاري يزين إحدى الساحات والدوارات.

لا شك أن تجربة الفنان صديق محمد واصل ثرية ومجتهدة وذات شخصية متميزة، لكنها لا تزال متأرجحة السوية الفنية والتعبيرية، وهو ما يستدعي منه الوقوف مطولًا عند العناصر التي يستخدمها في تنفيذها، ودراسة مدى توافقها، والتقليل ما أمكن منها، وتأكيد التكوينات الفراغية المتماسكة والمتوازنة والسليمة الارتكاز، وتوافقها كتلةً وفراغًا، إضافة إلى الحركة المدروسة في واجهات العمل الفني الفراغي الست، والاهتمام والتركيز على الحالة التعبيرية العامة للعمل الفني الذي ينداح من بين أصابعه، سواء انضوى في لوحات نحت نافرة، أو غائرة، أو مسطحة، أو نهض في عمارة تكوين كامل التجسيم يجب أن يكون: مدروس الحركة من واجهاته الست، متوازن الارتكاز ومستقرًّا، مترابط العناصر والكُتَل، متناغم الألوان والملامس (التكنيك)، ومتوافقًا مع الفراغ المحيط به.