ميشال فوكو كما أتخيّلُهُ

ميشال فوكو كما أتخيّلُهُ

كنتُ قبل سنوات عديدة، أوّلَ ما اصطدمتُ بعنوان هذا الكتاب «فوكو، كما أتخيّلهُ»(١)، أشبهَ بمن تلقّى وخزةَ مُستفِزّ، ليس يملكُ إزاءَها سوى أن يردّ بمثلها؛ وهل يملكُ المرءُ إلا أن يتخيل الآخرين؟ فإذا كان النفاذُ إلى هؤلاء الآخرين قد حدثَ حصْرًا في اللغة والنصوص (كما هو حال بلانشو وفوكو هنا)، فإنه لا مجال لغير الحديث عن سردية مُتخيَّلة، إنما هي بَيْذاتيّةٌ Intersubjectivité نقيمُ فيها مع من ننظرُ فيهم ونتأولهم.

مُوريس بلانْشُو

ما منزلة هذه الكلمات من كتاب موريس بلانشو هذا؟ إنه سؤال حرٌّ مفتوح لقراءة كل ذات على حدة. بقي أن نستدرك قُدُمًا إلى الوراء، سائلين بلسان قارئ مُفترَض: مَنْ موريس بلانشو؟ ومَنْ فوكو بلانْشُو أو فوكو مُوريس، أي هذه الذات التي تتشكّل في لقاء قارئ بمؤلف أو مُتأوِّلٍ بأثَر، فتصير كليْهما معًا؟ وأيّ أفق يفتحه هذا اللقاء يا ترى؟ تلك قصة أصلها مُتجذر في هذه الفصول الثلاثة الأولى من الكتاب التي نعرضُها هنا وامتدادُها كائنٌ في قراءاتٍ مُقبِلة هي بمنزلة الوعد الممكن دومًا.

تُعرّفُ صفحاتُ المواقع والمجلات السيد موريس بلانشو بصفته روائيًّا، ناقدًا أدبيًّا وفيلسوفًا. ولكن، في نُدرة «المعطيات» التي يعرضها هو نفسُه عن حياته وسيرته، حاولتُ التفتيش في مقدمات كتبه وخواتيمها. فوجدتُ خواءً أكبر من ذاك الذي انطلقتُ منه. وفي المناسبات القليلة التي عثرتُ فيها على ما يُشير إليه بالاسم، كانت هذه الكلمات القليلة كنزي اليتيم: «موريس بلانشو، روائي وناقد 1907م. حياته منذورةٌ كليًّا للأدب والصمت الذي يخصّه» (مفتتح كتاب «الكتاب المُقبِل»، غاليمار، 1959م)؛ «موريس بلانشو (1907-2003م)، كان روائيًّا وناقدًا. كانت حياتُه منذورة للأدب والصمت الذي يخصّه» (مفتتح كتاب «الفضاء الأدبيّ»، غاليمار، طبعة 2007م).

أليس يُسمع في ظلال هذه الجملة صوتُ كاتب طالما اتهم به بلانشو؟ أقصدُ كافكا وعبارته التي نظر فيها موريس كتابةً لأكثر من مرّة: «لستُ سوى أدبٍ. ولا أستطيعُ -كما لا أريدُ- أن أكون أيّ شيء آخر». ماذا يُضيف إليه إذن؟ لا شيء سوى بقعة صمتٍ هائلة ظلّت تكبرُ دومًا مع الأدب الذي يُنتِجه لتشكّل بياضًا بيوغرافيًّا عظيمًا، إنما هو في بعض نفسه إصبعٌ أخرى تشير إلى الذوات العديدة التي أبدعها من نفسه، وشتّتها في صفحاتِ كتبه وأقنعةِ أولئك الذين قرأ/ كتب في أدبهم وفلسفاتهم.

مِنْ هذا الصمت الذي يخصه وفي غيابِ أي لقاء جسدي تقريبًا، ينظُر بلانشو في كتابات فوكو -أيًّا كان تصنيفُها الممكنُ- ويُشير فيها إلى ما يستدعي التوقف عنده بصفته أفقَ نقدٍ لهذه الكتابات وتنسيبٍ لسلطتها التي هيمنت على المحتفلين بفلسفة فوكو، من دون أن يتجذر في احتفال آرائهم بعض تريُّث وتدبُّر هو عدة السائر في ظلال الأفكار ووَعْرِها ومشقاتها. لقد صدر هذا الكتاب سنة 1986م، أي تاليًا لوفاة فوكو بأربع سنواتٍ. ولعله على الرغم من الإحراجات التي قد يضيفُها إلى سجل الفيلسوف الخلافي يكون «مُعيدًا له (…) قدرتَه على الجذب، ومُنبّهًا إلى الفراغ الذي كان من المفترض أن يحتله».

المترجم

بضعُ كلماتٍ شخصية

لقد ظللتُ تحديدًا، وعلى امتدادِ السنوات، دون صلاتٍ شخصية تربطُني بميشال فوكو. لم ألتقِ به قط، سوى مرة واحدة في ساحة السوربون، خلال أحداث مايو 68، في شهر يونيو ربما أو يوليو (ولكن قيل لي: إنه لم يكن هناك)، حيث وجّهتُ له بعض الكلمات. وقد كان هو نفسه يجهل هوية مُحدِّثه (مهما يكن ما يقولُه القادحون في أحداث مايو، فقد كان ذلك زمنًا جميلًا، يستطيع فيه كل شخص أن يبادر الآخر بالكلام حتى ولو مجهولًا، على نحو غير شخصي، وبصفته إنسانًا من بين البشر، مُرحّبًا به دون أيّ مُبرّرٍ سوى كونِه إنسانًا آخر).

صحيحٌ أنّني ظللتُ أهتفُ مرارًا، خلال هذه الأحداث الاستثنائية: «ولكن، لماذا يغيبُ فوكو؟»، مُعيدًا له، على ذلك النحو، قدرتَه على الجذب، ومُنبّهًا إلى الفراغ الذي كان من المفترض أن يحتله. وكانت الإجابة التي أتلقاها بعضُ ملحوظاتٍ غير مقنعة: «إنه متحفّظٌ بعض الشيء»، أو «إنه خارجَ البلاد». ولكن العديد من الأجانب على وجه الخصوص، بما في ذلك اليابانيون البعيدون، كانوا حاضرين هناك. إنه، على هذا النحو ربما، قد افتقد أحدُنا الآخر.

ومع ذلك، فقد سُلِّمتُ كتابَهُ الأول الذي حقّق له الشهرة، عندما لم يكن ذاك النصُّ سوى مخطوطٍ يكادُ يفتقر إلى اسم مؤلف. لقد كان في حوزة روجيه كايْوَا. وهو من ظل يقترحه على كثيرين من جماعتنا. وأذكر هنا بدور كايْوَا هذا؛ لأنه فيما يبدو لي قد ظل مُتجاهَلًا. لم يكن كايْوَا نفسُه مُزكّى، على نحو دائم، من جانب المختصين الرسميين. فقد أفرط في الاهتمام بكثير من الأشياء. وبوصفه محافظًا، مُبتكِرًا، ودائم الإفراد إلى حدٍّ ما، لم يتوصل إلى الدخول في مجتمع أولئكَ المالكين لمعرفة مُعترَف بها.

وفي نهايةِ المطاف، صاغَ لنفسه أسلوبًا فصيحًا جدًّا، إلى حد المغالاة أحيانًا، ودرجة الاعتقاد بكونه منذُورًا للحراسة -حراسة شرسة- لمواضعات اللسان الفرنسي. وقد جعلهُ أسلوبُ فوكو ببهائه ودقته -وهما ميزتان متناقضتان فيما يبدو- في حالة ارتباكٍ. لم يكن مُتيقنًا ما إذا لم يكن الأسلوب الباروكي العظيمُ يدمر المعرفة المفرَدة التي تُحرجهُ مستوياتُها المتعددة، الفلسفية والاجتماعية والتاريخية، وتثير حماسته في الآن ذاته. ربما كان يرى في فوكو أناهُ الأخرى التي قد تسرق منه ميراثه. لا أحد يحب أن يتعرف إلى نفسه، غريبًا، في مرآةٍ، حيثُ لا يتبينُ صِنْوهُ، وإنما ذاك الذي كان ليرغبُ في أن يكونهُ.

لقد عيَّنَ كتابُ فوكو الأولُ إذن (ولنسلّم بكونه الكتابَ الأول) علاقاتٍ مع الأدب، وجبَ فيما بعدُ إصلاحُها. وقد شكّلت كلمة «جنون» مصدرًا لأكثر من لَبْسٍ. لم يكنْ فوكو يعالجُ الجنون، إلا على نحو غير مباشر. بل عالج بالأحرى سلطة الإقصاء هذه التي أُحِلّت، لحسن الحظ أو سوئه، محل تنفيذٍ بواسطة مجرد مرسوم إداري، وهو الأمرُ الذي يمثل قرارًا يدفعُ، من خلال تقسيمه المجتمعَ لا إلى أخيار وأشرار، وإنما إلى عقلانيين ولا عقلانيين -إلى التعرف إلى شوائب العقل والعلاقات المُلتبسة التي كانت السلطةُ -وهي في هذه الحالة سلطةٌ سياديةٌ- تعتزمُ إقامتها مع ما هو الأكثرُ قسمةً، مع الإيهام في الآن نفسه بأنه لن يكون من اليسير عليها أن تحكُمَ دون تشريك. إن المهم في الحقيقة هو التشريكُ. المهم، هو الإقصاء، وليس ما نُقصِيه أو نتشاركُه. وفي نهاية المطاف، كم هو غريبٌ أن يقلب التاريخَ مرسومٌ بسيطٌ، بدل أن تفعل ذلك المعاركُ العظيمةُ أو النزاعاتُ المَلَكية الكبرى.

ومن ناحية أخرى، فإن هذا التشريكَ الذي لا يكونُ بأي حال من الأحوال عملًا شريرًا، مُوجَّهًا لمعاقبة أشخاص خطيرين؛ لأنهم غير اجتماعيين على نحو قطعي (عاطلون، فقراء، فاسقُون، أدْناسٌ، غُلاةٌ، وأخيرًا ذوو الرؤوس الخاوية أو المجانين) يجب عليه، بواسطة غموضٍ رهيبٍ، أن يضعهم في الحسبان، من خلال توفير الرعاية الصحية لهم والطعام. أن تمنع المرضى من أن يموتوا في الشوارع، والفقراءَ من أن يُصبحوا مجرمين في صراعهم من أجل البقاء، والأدْناس من تشويه التُّقاة عبر تقديم عروضٍ للآدابِ الفاسدة وفتح شهيتهم لها، هذا ما ليس جديرًا بالكراهية وما يسِمُ تطورًا، أي نقطةَ انطلاق تحوّلٍ يرى فيه المعلمون الجيدون امتيازًا.

على هذا النحو، عالج فوكو منذُ كتابه الأول إشكالاتٍ طالما كانت تنتمي إلى الفلسفة (العقل، اللاعقل). ولكنه يعالجها من خلال التاريخ وعلم الاجتماع، مُشدِّدًا في التاريخ على نوع من الانقطاع (حدثٌ صغير يغير كثيرًا)، من دون أن يجعل من هذا الانقطاع قطيعةً (يسبقُ المجذومون المجانين. وإنه في المحلات -محلات مادية وروحية في الآن ذاته- المتروكة فارغة من جانب المجذومين المُختَفين، قد تشكّلت ملاجئُ مُفرَدين آخرين. وعلى النحو ذاته، تستمرُّ ضرورة الإقصاء في أشكال مفاجئة، سوف تُظهرُها حينًا وتحجبُها حينًا آخر).

رجل في خطر

ينبغي أن نتساءل لماذا حافظت كلمةُ «جنون»، حتى لدى فوكو، على قوة استفهام كبيرة. في مناسبتيْنِ على الأقل، عابَ فوكو على نفسه استسلامَهُ لسِحر فكرة أن هناك عمقًا للجنون، وأن الجنون بإمكانه أن يبني تجربةً أساسية تقعُ خارج التاريخ، كان الشعراءُ (الفنانون) -ويمكنهم أن يظلوا- بالنسبة إليها بمنزلة الشهود، الضحايا والأبطال. إذا كان ذلك خطأ، فقد أفادهُ، بقدر ما استوْعَى بواسطته (وبواسطة نيتشه) ذوقَه الفقير إزاء مفهوم العمق. كما أنه قد لاحق، على النحو ذاته، في الخطابات المعانيَ المخفية والأسرار الساحرة، أي بعبارة أخرى أعماق المعنى المزدوجة والثلاثية التي لا يُبلَغُ مداها حقيقةً إلا من خلال إقصاء المعنى نفسِه، وكذا لاحقَ في الكلماتِ المدلولَ وُصولًا إلى الدالّ.

سأقول عند هذا الموضع: إن فوكو الذي أعلنَ نفسهُ، ذات يوم، من باب التحدي «متفائلًا سعيدًا» كان رجلًا في خطر. وقد كان يملكُ، من دون التباهي بذلك، حسًّا مرهفًا بالمخاطر التي نكون مُعرَّضين لها، طارِحًا الأسئلة حتى يتمكّن من معرفة تلك الأكثر تهديدًا منها وغيرَها مما يمكنُ إرجاؤه. من هنا تتأتّى عنده أهمية متصوّر الإستراتيجيا. ومن هنا، توصّل إلى التلاعب بفكرة أنه كان بإمكانه، لو كان الحظُّ قد قرّر ذلك، أن يصير شخصيةً رسمية (مستشارًا سياسيًّا)، وكاتبًا كذلك -وهو مصطلحٌ طالما رفضه بشيء من الشدة والصراحة- أو فيلسوفًا أو عاملًا من دون توصيف؛ إذن لا أعرفُ ماذا أو لا أعرفُ من.

على أيّة حال، رجلًا بصدد السير، مُنعزلًا، سرّيًّا، وبسبب من ذلك، يرتابُ في حظوات الجوّانيّة، يرفضُ فخاخ الذاتية، باحثًا أين يكونُ خطابُ سطحٍ مُمكنًا وكيف ذلك، مُمَرْئِيًا، ولكن من دون سراب، ليس غريبًا، مثلما حسبْناهُ، باحثًا عن الحقيقة، ولكن مُتيحًا النظر (على نحو متأخر) في مخاطر هذا البحث، وكذلك العلاقاتِ الغامضة التي تَصِلهُ بمختلِف عُدَدِ السُّلطة.

وداعُ البنيويّة

هناك كتابان على الأقل، أحدهُما يبدو نخبويًّا والآخر عبقريًّا، بسيطًا ومُبهجًا، وكلاهُما ذو مظهر برمجي، يبدُوان كأنهما يفتحان المقبِل على معرفة جديدة، فيما هما في الواقع شبيهان بعهديْنِ تتسجلُ فيهما وعودٌ لن تتحقّق مُطلقًا، لا بسبب الإهمال أو غياب الاقتدار، وإنما لأنه لا وجود ربما لأي إنجازٍ آخر سوى وعدهما نفسِه، وأنه من خلال صياغتهما يبلغُ فوكو أقصى الغاية التي تتعلق بهما. إنه على هذا النحو عامةً يُصفّي حساباته، ثم يلتفتُ نحو آفاق أخرى، من دون أن يخون مع ذلك اقتضاءاته، ولكن مقنّعًا إياها بازدراء ظاهري. إن فوكو الذي يكتبُ بغزارة هو كائنٌ صامتٌ، إضافة إلى كونه شرسًا في الحفاظ على الصمت عندما يطلبُ منه السائلون اللطفاءُ أو الغِلاظُ أن يشرح نفسه (هناك مع ذلك بعضُ استثناءات).

يعيّنُ كلٌّ من «أركيولوجيا المعرفة»  و«نظام الخطاب»  المرحلة -نهاية المرحلة- التي ادّعى فيها فوكو -بصفته الكاتب الذي كانَهُ- كشْفَ مُمارساتٍ خطابيّة تكادُ تكون محضةً، بالمعنى الذي لا تُحيلُ وفقه إلّا على ذاتها وقواعدِ تكوُّنها ونقطة ارتكازها، رغم افتقارها إلى أصل، ونجْمِها، رغم افتقارها إلى مؤلّف، وفكّ شفرات لن تكشف أيّ شيء مخفي؛ شهودٌ ليس لديهم ما يُقال غير الذي كان قد قيل. كتابات متمرّدة تصلح لكلّ تعليق (آه، يا لَرُعْب فوكو إزاء التعليق)؛ مجالات قائمةٌ بذاتها، لكنها ليست مستقلة تمامًا ولا ثابتة، بما أنها تتحول بلا توقف، مثل الذرّات تكونُ في الآن ذاته مفردةً وكثيرة، في حال سلمنا أن هناك كثراتٍ لا ترجع إلى أي وحدة.

لكن سيُقال: إنّ فوكو، في هذه المغامرة التي تلعبُ فيها اللسانياتُ دورَها، لا يفعل شيئًا آخر -باعتماد مقاصد تخصّه- سوى ملاحقة آمال بنيوية تكادُ تكون راحلةً. كان ينبغي البحثُ (لكنني في موقع غير ملائم لمثل هذا البحث؛ إذ أستعرفُ أنني حتى الآن لم أتلفظ قط -لا من أجل المصادقة ولا من أجل الدحض- باسم هذا المجال الزائل، على الرغم من الصداقة التي أكنّها لبعض أعلامه) عن السبب الذي يجعلُ فوكو، المتفوق دومًا على انشغافاته، يغضبُ حقًّا عندما يُتَظاهَرُ بإرْكابه متنَ هذه السفينة التي يقودُها سلَفًا قَبَاطِنةٌ لامعون. إن أسباب ذلك كثيرةٌ. وأبسطُها (إذا جاز لنا القولُ) أنّه ظل يَستشعِرُ في البنيوية شُبهة ترانسندنتاليّة.

إذْ ما القولُ إذن في هذه القوانين الشكلية التي من المفترض أنها تحكمُ كل علم، بينما تظل غريبة عن تقلبات التاريخ التي يعتمدُ عليها في المقابل ظهورُها واختفاؤُها؟ إنه مزيجٌ عكِرٌ مما قبلٍ تاريخي وما قبلٍ شكلي. فلنتذكر معًا تلك الجملة الانتقامية في «أركيولوجيا المعرفة». فهي تستأهلُ ذلك: «لا شيء إذن سيكون أكثر إمتاعًا، ولكنْ أكثر مُجانَبةً للدقة، من تصور هذا الماقبلِ التاريخي بوصفه ما قبْلًا شكليًّا، سوف يكونُ إضافة إلى ذلك مُزوَّدًا بتاريخٍ، وهو صورةٌ كبيرة جامدةٌ سوف تنجُم ذات يوم من الأيام، وسوف تفرضُ على فكر البشر استبدادًا لن يتمكن أحدٌ من الإفلات منه، ثم تختفي فجأة في كسوفٍ لن يمنحه أيُّ حدث أيَّ إغماء ترانسندنتاليّ مُسبَق؛ لعبة أشكال بارقة.

ليس الماقبلُ الشكليُّ والماقبلُ التاريخيُّ من المستوى نفسه أو الطبيعة ذاتها. إذا كانا يتقاطعان؛ فذلك لأنهما يشغلان بُعديْنِ مختلفين. ولنتذكر كذلك الحوار الختامي للكتاب نفسه حيث يتواجهُ الميشالان في مبارزة قاتلة ليس يُعرَفُ فيها من الذي يتلقى الضربة القاضية. «طيلة صفحات هذا الكتاب -يقول أحدهما- وأنت تحاول، قدر المستطاع أن تنأى بنفسك عن البنيوية…». وإجابة الآخر -وهي مهمة- «لم أنكر التاريخ (فيما تبدو البنيوية متسمةً باتخاذ تجاهُله ملمحًا أساسيًّا)، بل قمتُ بـتعليق المقولة العامة والخاوية للتبدُّل من أجل أن أُظهِر تحولاتٍ ذات مُستويات مختلفة. إنني أرفضُ طِرازًا أحاديًّا للتزمين.

لماذا هذا الخصامُ اللاذعُ وغيرُ المُجدي ربما (بالنسبة إلى أولئك الذين لا يرون فيه أي رهان على الأقل)؟ لأن المُؤرشف الذي يريدُ فوكو أن يكونَهُ والبنيوي الذي لا يريدُ أن يكونه، يقبلان كلاهما (على نحو مؤقت) ألا يبدو عليهما الاشتغالُ إلا لصالح اللغة الوحيدة (أو الخطاب) الذي يزعم الفلاسفةُ واللسانيون والأنثروبولوجيون ونقادُ الأدب استخلاصه من القوانين الشكلية (ومن ثَمّ اللاتاريخية)، مع إحلال ترانسندنتاليّة فاسدة، في الآن ذاته، سوف يذكّرنا بها هايدغر في جملتين مفرطتين في البساطة: يجبُ ألّا تُؤسَّس اللغة؛ لأنها هي التي تُؤسِّس.


الهوامش:

(١) كتابٌ شهيرٌ لفوكو صدر سنة 1969م عن دار غاليمار الفرنسيّة، نُشير إلى ترجمته العربية، التي اعتمدت تعريب لفظة أركيولوجيا بـحفريّات: ميشال فوكو، حفريّات المعرفة، ترجمة سالم يفوت، المركز الثقافي العربي، بيروت- لبنان.

(٢) درسُ ميشال فوكو الافتتاحي في الكولاج دو فرانس، قدمه في الثاني من ديسمبر 1970م، ثم نشر في الرابع والعشرين من فيفري/ فبراير 1971م.