على طريق الحلم بعوالمَ مغايرة تعبيرات شبابية تتفق في رفضها وتمردها وفي وسائل تعبيرها عن هذا الرفض

على طريق الحلم بعوالمَ مغايرة

تعبيرات شبابية تتفق في رفضها وتمردها وفي وسائل تعبيرها عن هذا الرفض

على امتداد الخمسين سنة الماضية، وعلى اتساع مجتمعات متباينة، كان الاهتمام عريضًا ومتواترًا بما يُعرف في العادة تحت تسمية «تعبيرات شبابية»، تلك التي تهمّ على الأخص شباب الفئة العمرية ما بين 16 و25 عامًا. وقد امتدّ ذلك الاهتمام من التناول الإعلامي والتحليل الثقافي إلى الخطاب السياسي والمعالجة العلمية الإنسانية والاجتماعية. وعلى العموم، شملت المطارحات الخصائص المظهرية للشباب على ما تُظهرها أجساد الاستعراض التي يسكنون، وتمثلاتهم للحياة على ما تُترجمه الممارسات الثقافية التي يبتدعون، وعلاقاتهم ببيئاتهم الاجتماعية على ما تجسّده حركاتهم في أفضية العَيْشِ.

ولئن صار من المعهود القول: إن أبْكَرَ مصادر هذه التعبيرات وُلدت في ضواحي مدن الولايات المتحدة الأميركية الفقيرة السوداء، فإن انتشارها على امتداد العالم كان على وقع ولاداتها المتجدّدة المتكاثرة. وعلى الرغم مما يشيع من أن هذه التعبيرات الشبابية تعبّر عن ثقافة شبابية عالمية/ مُعَولمة واحدة، فإنّ منها نُسَخًا متعدّدة تجمع ما بين بعض السمات المشتركة وصيغ عدة متباينة تضفي عليها صبغات ثقافية مخصوصة، قومية وإثنية وطبقية، ومناطقية، وجندرية، وعُمُريّة مُزَرْكَشَة.

فليس الهيب هوب الأميركي الأسود الفقير النسائي/ النسوي هو ذاته الهيب هوب الكوريّ الذكوريّ ومُكوّنه الأساس K-Pop. كما أن الراب الهندي (desi hip hop) ليس مثيلًا لراب الضواحي الباريسية ذات الكثافة المغاربية، المختلف أيضًا عن راب شباب الأحياء اللندنية «المُسلم»، مُوَزّعًا على أصوله الأفريقية والآسيوية (شبه) الهندية. وليس غرافيتي ضواحي العاصمة التونسية المتمرّد مماثلًا لغرافيتي شوارع طهران الحائز اعترافًا رسميًّا، ولا هو مماثل لغرافيتي الشباب المتعاطف مع جيش زاباتيستا للتحرير الوطني في شياباس المكسيكية. وليست ثقافة مجموعات ألتراس الدار البيضاء هي ذاتها ثقافة ألتراس نادي نابولي الإيطالي، كما أن فنون الشارع القاهرية أو البيروتية ليست هي ذاتها فنون الشارع في كيب تاون.

مطالبة بالعدالة والإنصاف

في العادة، يُتّفق على القول: إنّ أصول هذه التعبيرات في أصولها الأميركية السوداء تعود إلى جذور أفريقية تبلغ أزمنة ما قبل التهجير القسري نحو العالم الجديد الذي ولّده غزو أميركا، لتمتد نحو جامايكا الريغي والراستفاريا. ولكن، تَظهر في بعض الأمثلة السابق ذكرها سماتُ الآثار المتراكبة لثقافات محلّية ذات مكوّنات تراثية دينية وغير دينية، مثل الموسيقية أو التشكيلية، ولمعطياتٍ سياقيّة سياسيّة واجتماعيّة، ولذهنيّاتٍ ذات جَوَلان شبه كونيّ. وعلى الرغم من هذا التنوع فإنه يمكن القول: إن ثمّةَ جَامِعًا بين مختلف هذه التعبيرات الشبابية.

ليس يقتصر ذلك الجامع على ما يُتفق عليه على العموم من أنها تعبيرات احتجاجية سياسية دائمة الوقوف على شفا ثورة تغييرية شبابية لا سلطوية، ولا حتى على التشكك في قدرة حامليها على تحويل شغفهم بالاعتراض وحقّهم فيه إلى إنجازٍ فعليٍّ حتى في مستوى إنتاج مدارس فنية جديدة. في ما يزيد على هاتين النقطتين، يمكن اختصار الجامع بين هذه التعبيرات الشبابية في أنها أسلوبُ حياةٍ، وجغرافيا ثقافيّةٌ مُبْتَدَعَةٌ، وتشكيلٌ إِرْهَاصِيٌّ لمُستقبَلاتٍ مُمكِنةٍ.

يبدو لي أوّلًا، أن الاقتصار على القول: إن هذه التعبيرات الشبابية هي من جهة احتجاجية ضد الحرمان الاقتصادي والتهميش الاجتماعي والإقصاء السياسي، ومن جهة ثانية مُطالِبَةٌ بتوزيع أعدل للموارد وباعتراف أكثر إنصافًا بالمجموعات الاجتماعية، لا يستغرقُ كامل عُمقها التاريخيّ الاجتماعيّ.

إن مختلف الإستراتيجيات المظهرية التي تشكّل أول ما يظهر من هذه التعبيرات هي في العمق إشارة إلى اختراع أسلوبٍ في الحياة مُنْشَقٍّ عن أنماط العيش القائمة. فعلى خلاف ما كان على الدوام من تركيز الشباب على تغيير مبرمج للعلاقات السياسية والاجتماعية حتى منعرج حركات ستينيات القرن العشرين الشبابية، ليست تنتظر هذه التعبيرات خروج «منظّرين» ينطقون باسمها على أنها حركة بالمعنى التقليدي للكلمة.

من منظور سياسي أيديولوجي هي أقرب إلى اللاحركة، تتمكّن كلّما قامت من ابتداع حياة جديدة، في الآن والهنا اللذين تَخترِعُهما. حياة الفاعلين الاجتماعيين التي تقوم على هذه التعبيرات، تتشكل من علاقات مقطوعة مع كلّ ما اعتِيدَ عدُّه رؤوسَ أموالٍ اقتصادية وغير اقتصادية، لا من حيث تملّكها فحسب، بل من حيث استثمارها وتوليد عوائدها وإعادة استثمارها.

وعلى ذلك يكون أسلوب الحياة، هذا وهو يُبْتَدَعُ على غير مثال، بَانِيًا لهويّات فردية وجماعية مُنشقَّة حدّ إدارة ظهورها للقائم من المجتمعات ببُناها ومؤسّساتها وقِيَمها وكيفيّات إدارة شؤونها، في كل مجالات ممارسة السُّلطة والسيطرة والهيمنة. ولأنها أسلوب حياة لا تنفكُّ لُحْمَتُهُ وسَدَاهُ يُنْسَجانِ ليَنْفَكّا فَيُنْسَجَا منْ جَديد، فإنه ينوس ما بين الاستقلالية التعبيرية والمادية والاحتواء، إما ضمن الشعبويات السياسية المتصاعدة أو ضمن آحادية التسويقيّ الرأسمالي المُعَوْلَمِ.

كما يبدو لي، ثانيًا، أن اختزال كل التمرّدات الاحتجاجية الشبابية في هذه التعبيرات يُعْمِي على خصائصها السوسيولوجية الأكثر تمييزًا لها من غيرها من التعبيرات الشبابية المُجَايلة لها. يُفيد تفحّص تلك الخصائص أنّها على الأغلب تعبيراتٌ ذات رسوخٍ لدى اليافعين والشباب المبكّر، ومُذَكَّرةٌ، وحَضَريّة، وذات وشائج قويّة مع الشرائح الدنيا من الطبقات الوسطى فما دُون، وذات الحساسيّة العالية تجاه تشكيلات الخطابات والعلامات والرموز الثقافية. كلّ خصائص التعبيرات الشبابية هذه، تمكّن الشباب الحامل لها من قدرة على الحَرَكة مُمَيَّزة في الفضاء الاجتماعي في معناه الجغرافي الفيزيائي.

لكن، وفي سياق مزيد من تدقيق الخصائص السوسيولوجية للفاعلين الاجتماعيين الذين بهم نهتمُّ، يجدر تأكيد أن عُمْق جغرافيا حركتهم يَبْنِي أطْلَسًا ثَقَافِيًّا مبتدَعًا للفضاء الحضري- المديني الذي يحتضنهم. ميزة ذلك الأطلس أنّه مبنيٌّ على إعادة توزيع مربعات الحركة ومجالات الممارسة وأفضية العيش بين الفئات الاجتماعية المختلفة بحيث تغدو الجُدران مَحَامِلَ، والساحاتُ أرْكاحًا، والمباني المهجورةُ أرْوِقةً، وجسورُ الطُّرقات لوحاتِ إعلان وجودٍ.

تلك جغرافيا ثقافية تُراجع وجوهَ الفضاء الحضري لتُعيد تشكيلها، وتحوّر منطق اشتغال الحق في المدينة، ولذلك هي جغرافيا متمرّدة على ما يُوزّع من ذلك الحق على الأفراد والمجموعات والشرائح، والفئات الجندرية، والعُمرية، والاجتماعية؛ لتراجع الأنصبة والمنابات فتهزّ المنازل والمقامات.

في مواجهة التوحش

ويبدو لي أخيرًا، أن هذه التعبيرات الشبابية، بلا حركة أسلوب الحياة المنشقّ الموزع على تضاريس جغرافيته الثقافية الحضرية، تحمل علاماتٍ تُنْبِئُ عن العوالم المستقبلية الممكنة. سيميولوجيا تلك العلامات تُحيل إلى بَشَرِيّة تُكَابِدُ من أجل التواؤم مع لا يقين التغير الاجتماعي الجارف، وتعالج اللايقين السائد والخوف المعمّم، وتعاند معوقات الحياة في مجتمعات تحقق المخاطر واستشراء الجوائح التي نعيش.

ومن وراء كل ذلك، يبدو الاختراعُ طريقَ شباب هذه التعبيرات الثقافية المنشقّة لا نحو ابتداع ثقافة فرعيّة متمرّدة كما اعتِيدَ القول فحسبُ، بل نحو إعلان ما سوف يكون. في هذه التعبيرات اشتغال مِخْيَاليٌّ يرسم إرهاصات ملامح اللاحِقِ على صيغة جَمع الجمع: مستقبلاتٌ ممكنة ضمن نظرة أَكْوَانِيَّة تعدّدية التنوّع تُجِيبُ على حتميّة المستقبل الرأسمالي الليبرالي الموغل في آحاديّة التوحّش الإمبراطوري.

ليست المكونات الثلاثة لجامع التعبيرات الشبابية كما عرضناها غريبة عن المجتمعات العربية التي انضمّت شبيبتُها إلى تياراتها المتنوعة على قاعدة التبنّي والابتداع السارية لدى شبيبة المجتمعات الأخرى. وحسب ما جردت الدراساتُ العلمية الإنسانية والاجتماعية من خصائص هذه التعبيرات كما تجلّت في المجتمعات العربية خلال العشريتين الماضيتين على الأخص، يبدو لي غيرَ ثابتٍ ذلك الربطُ بين تاريخ انضمام الشبيبة العربية إلى تيارات هذه التعبيرات من جهة وثورات 2010-2011م العربية من جهة ثانية.

بدلًا من هذا الربط، يبدو لي أن ما هو جدير بالتمحيص هو فرضية أن تكون التعبيرات الشبابية -على ما تبنتها الشبيبة العربية- دليلًا إضافيًّا آخر، على أن الصلوحية التاريخيّة الاجتماعيّة للدول العربية ما بعد الاستعمارية وما أوقعته من ترتيبات ثقافية-اجتماعية قد انقضت. ولهذا السبب، كما أفترض، هي مجتمعات لم تنفكَّ عن شهود موجات الجيشان الاجتماعي الساخط على امتداد العشرية الماضية.