من البروج إلى العروج

من البروج إلى العروج

«عندما طارت طيور الأرواح المقدسة

من أغصان الشهود واجتازت

سماوات اليقين، لا يمکن العثور عليها

في البساتين القريبة…» 

لا ريب أن مشاهدة ذلك التطويف الذي تقوم به الطيور في الآفاق، ثم تَجمّعها في أسراب تختفي في طيات السحب كانت مثيرة لأقصى درجات الفضول الإنساني. كلما تشق الطيور عنان السماء بخافقيها، ثم تختفي عن نطاق الأبصار البشرية، تطير في أعقابها العقول على أجنحة الخيال لترسم ملامح عالم مفترض قد تدنو منه تلك الطيور، عالم يحل محل الوجهة الغامضة التي قد تبلغها على خارطة ترحالها المتعالي.

يتصاعد الفكر البشري في معراج السؤال، مأخوذًا بفضول جامح لمعرفة معنى الترحال الصاعد إلى المحل الأرفع، تواقًا إلى رحلة ارتقاء مجازية تمتد لأبعد مما يدركه البصر، فيبدأ في تشكيل خط سير شائك يفضي إلى هدف ناءٍ تحفّه المهالك. وتتبدَّى هذه الظاهرة الفكرية في فرع من الكتابة الأدبية العرفانية، يمكن تسميتها بـ«رسائل الطيور»، التي تتوسل الحالة الطيورية من خفة الحركة والصعود والحومان، ومن اللطف والرشاقة والرقة، لتربطها بالأرواح الشفيفة المتجردة، والسابحة في رحلة ارتقاء تقربها من الذات العليا.

لهذه الرسائل سياق قصصي يتابع مراحل الرحلة التصاعدية، وفيها تنطق الطيور بلسان البشر، وعلى الرغم من أن هذا المنحى الترميزي يربطها بقصص الحيوان الناطق الواردة في كتاب «كليلة ودمنة» مثلًا، فإن الحكاية المَثَلية التي تَرِد على ألسنة الحيوانات هناك غرضها الإخبار، والحجاج، وانعكاس الواقع المَعيش لتبيان قوة العقل وانتصاره على الغرائز. تأتي قصة «الحمامة المطوقة» في محضر التمثيل على تواصل إخوان الصفا وتعاونهم، وكيف أنهم يتعاضدون للخروج من كل مكروه؛ لذلك حين وقعت سيدة الحمام مع صواحبها في شبكة صعب التخلص من حبائلها، فإنهن يتعاونَّ على قلع الشبكة والعلو بها في الفضاء، ثم إنهن هبطن حيث الجرذ زيرك لطلب المساعدة، فيقوم بقرض العُـقد حتى تستطيع المطوّقة أن تنطلق وحمامها معها.

المسألة إذًا ليست إنطاق الطير، بل إنها ليست مجرد رحلة خروج من نطاق الأرض إلى فضاء السماوات، فما قام به أبو العلاء المعري في كتابه «رسالة الغفران»، الذي يصور رحلة إلى العالم الآخر مكتملة بالمحشر والنعيم والجحيم، لا علاقة له بالطيور أولًا، ثم إن فكرة اكتمال المسعى فيها تعلن نهاية الحياة وما آلت إليه الأرواح بعد الحساب الختامي، وكذلك يفعل دانتي في «الكوميديا الإلهية».

رحلة عجيبة مهلكة

وعلى مستوى آخر فإن «رسالة الطيور» للرازي تقترب من رسائل الطيور، ليس فقط في عنوانها، ولكن في طريقة تجمع الطيور، واختيارها مندوبًا، والطيران في رحلة عجيبة مهلكة، ثم الوصول إلى هدف منشود تتفكك عنده العقدة، ويحل بعدها الأمان والطمأنينة. في رسالة الرازي قصة عن طيور مظلومة تجتمع وتنتدب الببغاء متحدثًا عنها، ليطلب من سليمان الكبرياء أن يرفع عنهم الجور الذي حل عليهم بابتعاد ملك الطيور، عنقاء المُغرِب عنهم. تُبتعَثُ الحمامة إلى سليمان، فتمر بمراحل تميز رسائل الطيور حتى تبلّغ رسالتها، ثم يرسل سليمان الهدهد برسالة إلى عنقاء المغرب. يجتاز الهدهد سبعة أقاليم، وسبعة بحار، ويشاهد العجائب حتى يسلم الرسالة إلى عنقاء المُغْرِب، الذي يمتثل للأمر قائلًا: «سمعًا وطاعة، إنني أعمل وفق إشارات صاحب الجلالة سليمان الكبرياء»، ويعود ليرفع الظلم عن الطيور.

على الرغم من التوافق مع عناصر رسائل الطيور، فإن قصة الرازي لا تعدّ تجربة عرفانية تميز بها سالكو الطريق نحو الحضرة الإلهية، بل هي تمثيل رمزي يعبّر عن دفع الظلم عن الرعايا بهدف اجتماعي وسياسي. أما «رسالة الطير» لابن سينا فيتحدث فيها الراوي بلسانه الخاص، ويظهر بشخصه على هيئة طائر يحلِّق مع إخوان الحقيقة، فيقول: «بينما أنا في سربة طير». يسقط السرب في حبائل شرك تعلّق بأرجل الحمام وعاقَ حركتَها حتى استسلمت للهلاك واطمأنت للأقفاص. وكما جرت الأحداث في «الحمامة المطوقة»، فقد أتت إلى نجدتهم طيور أخرى في أرجلها بقايا الحبال، فرفعت من همتها وعالجوها وفتحت باب القفص. حين عادت إلى الطيران، مرت بالجبال الشواهق فارّةً من الأعداء حتى أوهنها النصب. فارتاحت في جنان مخضرّة، ثم تابعت رحلة الفرار حتى التقت طيورًا دلتها على مدينة الملك الأعظم الذي يكشف الضرَّ عن كل مظلوم، وفي حجرة الملك رفع لهم الحجاب فتعلقت به أفئدتها، وعبّرت له عن قضيتها، فأرسل معها رسولًا يميط عنها الأذى.

يقترب ابن سيناء من الفكرة التي تنشغل بها رسائل الطيور، وعلى الرغم من أن الفرار والتظلم هو الدافع لرحلة البحث المرحلية الصعبة، فإن رحاب الملك الأعظم والراحة النفسية التي وفرتها للاجئين إليها تضيف عنصرًا مختلفًا فالطيور تتكبد مشاقّ الطريق ووعورته لتعود للحياة وتسير على درب جديد، كما أن التصريح بأن الطائر بشري في القصة يعقد الارتباط الرمزي بين الطير والروح الإنسانية بوضوح. في نهاية القصة يعود الراوي ليقص على الناس ما جرى له، لكنه يظهر بشكله البشري هذه المرة، فتأتي ردة الفعل هادمة للخيال الذي شيّد القصة وتحوّلها إلى حالة من الاختلال العقلي، فالناس لم يصدقوه وقالوا له: «أراك مس عقلك مسٌّ أو ألمّ بك لمم، ولا والله ما طرت، ولكن طار عقلك، وما اقتنصت بل اقتنص لُبّك، أنَّى يطير البشر أو ينطق الطير؟».

الخلاص الجمعي الطائر

وفي نصٍّ مختصر حمل عنوان «رسالة الطير» أيضًا، تحدث أبو حامد الغزالي عن رحلة تقوم بها الطيور بعد اجتماعها مع الهدهد للبحث عن ملك لها، فيخبرها أن ضالتها المنشودة هي العنقاء، ملك الطيور المقيم في جبل بعيد، «وراء سبعة وديان وسبعة أنهار». وهكذا تنطلق الطيور وتبدأ رحلة الخلاص الجمعي الطائر، وتتكبد مشاق السفر المرحلي وهي مصممة على الوصول إلى العنقاء، رغم المخاطر ورغم هلاك بعضهم، «فهلك من كان من بلاد الحر في بلاد البرد. ومات من كان في بلاد البرد في بلاد الحر. وتصرفت فيهم الصواعق، وتحكمت عليهم العواصف، حتى خلصت منهم شرذمة قليلة إلى جزيرة الملك». إبان وصولها سألت عن ضالتها ومليكها المنشود، ففوجئت بأن لا عنقاء هناك، وأن جهدها لم يأت بالنتيجة المرجوّة، فأصابتها خيبة أمل شديدة، واحتارت في هذا اللغز العجيب.

ينتهي نص الغزالي عند المثول أمام الحضرة الإلهية، حيث لا سبيل إلى اليأس، وحيث كمال الغنى يوجب التعزز، وانكشاف النفس يحرر من الأوهام. نتيجة الرحلة الغزالية هي السفر داخل النفس والتحول الوجداني، فالمرء مهما طاف في الآفاق باحثًا عن الطمأنينة، فسيجدها كامنة في ذاته تحقيقًا لحكمة الفلسفة الأولى: «في باطنك تكمن الحقيقة». ويظهر أن رسالة الغزالي تشكل رحلة معراج سماوية تصل بالطيور، التي تجرّدت واشتاقت وتكبدت العناء، إلى الحضرة ذاتها عن طريق وسيط حكيم يتمثله الهدهد.

وتصل رسائل الطيور إلى ذروتها عند فريد الدين العطار، وهو ثالث أعلام التصوف الفارسي، بعد سنائي الغزنوي وجلال الدين الرومي، وذلك في منظومته الشعرية الصوفية المسماة، «منطق الطير». في قالب قصصي يحدثنا العطار عن اجتماع ثلاثين من الطيور تختار الهدهد العارف دليلًا لها ومرشدًا في رحلة تتجه صوب الطائر الأكمل، السيمرغ، وهو المعادل الفارسي للعنقاء في الأساطير العربية. في مراحل سفرها الشاق تمرُّ بوادي الطلب، ثم العشق، ثم المعرفة، ثم الاستغناء، ثم التوحيد، ثم الحيرة، وأخيرًا الفناء والبقاء، وحين تصل مطهّرة ومخلصة، يُكشف لها الحجاب الساتر لتكتشف أن السيمرغ ليس إلا انعكاسًا لصورتها.

الرمز بالطير عن النفس أو الروح، والاجتماع لبدء رحلة الارتقاء الروحي المرحلية الخطرة، ثم الوصول والإحساس بالبصيرة، هي عناصر أساسية في رسائل الطيور، إضافة إلى وجود المرشد للمريدين المسافرين، والسعي نحو غاية عليا منشودة، العنقاء وما ماثلها. وقد تختلف نهايات الرسائل، لكن نهاية العطار تبقى متفردة؛ لأنها تحقق فكرة المعراج الروحي المُخلّص من العلائق الدنيوية بشكل واضح ومباشر. في «منطق الطير» يظهر السفر الروحي كفكرة صوفية خالصة يكون فيها الطير رمزًا للمريد الشفاف، المُتخفّف بالمعاناة في دروب السالكين، منساقًا بقوة العشق الإلهي إلى مشهد الحضرة، ومشتاقًا إلى الفناء والانمحاء. في نهاية العطار، عند رؤية النور الإلهي، يدرك المريد معنى الانصهار الثنائي في الاتحاد الأسمى، حيث الوحدة هي عين الكثرة، والكثرة هي عين الوحدة.

* ‬عبهر‭ ‬العاشقين،‭ ‬روزبهان‭ ‬بقلي‭ ‬الشيرازي،‭ ‬تصحيح‭ ‬هنري‭ ‬کربين‭ ‬ومحمد‭ ‬معين،‭ ‬افست‭ ‬منشورات‭ ‬منوجهري،‭ ‬طهران‭ ‬1360‭ ‬ش،‭ ‬ص124‭.‬

طيور‭ ‬سليمان‭ ‬جلال‭ ‬الدين‭ ‬الرومي

فصاحة‭ ‬طيور‭ ‬البلاط‭ ‬مجرد‭ ‬أصداء
أين‭ ‬أحاديث‭ ‬طيور‭ ‬سليمان؟‭ ‬
كيف‭ ‬ستعرف‭ ‬أصواتهم،‭ ‬
وأنت‭ ‬لم‭ ‬ترَ‭ ‬سليمان‭ ‬لدقيقة‭ ‬واحدة؟
من‭ ‬أقصى‭ ‬الشرق‭ ‬إلى‭ ‬أقصى‭ ‬الغرب‭ ‬
تمتد‭ ‬أجنحة‭ ‬الطير‭ ‬الذي‭ ‬تهزهم‭ ‬نغماته‭.‬
من‭ ‬أعتاب‭ ‬عرش‭ ‬الرحمن‭ ‬إلى‭ ‬الأرض،
ومن‭ ‬الأرض‭ ‬حتى‭ ‬العرش‭ ‬المقدس
يتحرك‭ ‬في‭ ‬عظمة‭ ‬وكبرياء‭.‬
الطير‭ ‬بدون‭ ‬سليمان،‭ ‬هو‭ ‬خفاش‭ ‬يعشق‭ ‬الظلام،
تعرّف‭ ‬على‭ ‬سليمان،‭ ‬أيها‭ ‬الخفاش‭ ‬الوغد،
وإلا‭ ‬بقيت‭ ‬في‭ ‬كهفك‭ ‬للأبد‭.‬
تحرك‭ ‬شبرًا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه،‭ ‬وكالشبر‭ ‬ستصبح
مقياسًا‭ ‬معتمدًا
حتى‭ ‬لو‭ ‬أنك‭ ‬زحفت،‭ ‬أو‭ ‬عرجت‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الاتجاه،
فلسوف‭ ‬تتحرر‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬عرج‭ ‬أو‭ ‬كساح‭.‬

ترجمة‭: ‬ل‭ ‬ب‭. ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬مختارات‭ ‬الرومي؛
تحرير‭: ‬كبير‭ ‬هيلمينسكي

الرَّسِيلُ المُجنّح

الرَّسِيلُ المُجنّح

لمياء باعشن

لم يكن سليمان عليه السلام يبحث عن الهدهد بالتحديد عندما اكتشف غيابه، بل كان يتفقد الطير، أي جميع الطيور: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ [النمل: 20]. يمكننا أن نستخلص من هذا أن الهدهد في غيابه هذا لم يخرج إلى سبأ في المرة الأولى مُرسَلًا من سليمان، بل كان في رحلة طيران أذن له بها، فالطيور التي حشرها الله مع جنود سليمان لم تكن لتبقى من دون حراك لأن حشرها ليس تقييدًا لها، لكنها كانت تخرج لتطير حسب التكليف في نطاقات محددة، مسارًا وزمنًا. في قوله تعالى: وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [النمل: 17]، تبيان لتجميع هذه الكائنات عند سليمان، أي تحت إمرته، وليس أمام سليمان، أي تحت نظره طوال الوقت، لذلك فهو يتفقدها في أوقات تحتشد فيها دوريًّا.

ويظهر الدليل الآخر على تحرك الطيور وغيرها من الجنود بعيدًا من سليمان، ثم العودة إلى نطاق الحشر بقربه في الآيتين الخاصتين بسيدنا داود عليه السلام، وقد حُشرت له الطيور أيضًا: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سبأ: 10]، ثم، اصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ (19) [ص: 17-19]. إن الكلمة التي تتكرر هنا لتصف تحرك الطيور هي الإياب، فقد أمرها الله بأن تؤوب مع داود، ثم وصفها بأنها أوّابة، والإياب لا يتحقق إلا بالذهاب. كما هو الأمر مع داود، فإن طير سليمان يذهب ويعود، لكنه محكوم بنطاق طيران معين يرصده التقدير الزمني. ومما يدلل على ربط سليمان بين الزمن والمسافة هو ما ورد في الآية التي توضح انضباط حركة الريح المُسخَّرة له والزمن الذي تستغرقه جيئة وذهابًا: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ [سبأ: 12].

ولا بد أن هذه المقاربة بين الطيور الأوّابة، وبين داود الأوّاب، وكذلك سليمان: وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص: 30]، توضح الفكرة بشكل أعمق، ففي علاقة الإنسان بربه أيضًا خروج إلى الحياة الدنيا، وسعي في مناكبها، وانشغال بأمورها، ثم العودة المتوالية إلى ذكر الله، ورعاية تلك الصلات الروحانية معه عز وجل، وتدلل صيغة المبالغة، فعّال، على شدة انتظام وتيرة العودة والتلهف لها. من أجل ذلك فإن سليمان حين عُرض عليه «الصافنات الجياد»، انشغل بها حتى غابت الشمس من كثرة إعجابه وحبه لها، فتأخر عن موعد الإياب إلى ذكر الله، وغضب ثم عاتب نفسه قائلًا: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) [ص: 32-33].

الخروج عن طوق الطاعة

حين غاب الهدهد عن موعد الإياب غضب سليمان وأقسم ليوقعنَّ به أشدّ العقاب: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ [النمل: 21]. سبب هذا الغضب هو خروج الهدهد عن طوق الطاعة والالتزام بأمر سليمان، فهو من جنده وتحت مسؤوليته، وما وهبه الله من «ملك لا ينبغي لأحد» من بعده، يضعه في موقع المسؤولية عن كامل ذلك الملك. هذه مملكة عمل وإنتاج مستمر: اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا [سبأ: 13]، وهي في عهدة ملكها الذي يرعاها خوفًا من ملك الملوك الذي استخلفه فيها. أما واجب الشكر على النعمة فهو حسن استخدامها بالتيقظ، وإتقان العمل، والانضباط، وحسن الاستفادة من الموارد المتاحة، وتوزيع العمل بها بين الكائنات، كل فيما يناسبه.

وسواء كان المقصود بمنطق الطير منطوقه اللفظي، أو منطق نظام عقله الداخلي، أو نطاق أفقه الفكري الذي يتشكل فيه المعنى، فإن النطاق التحركي لطيران الطير المحكوم زمنًا ومسافة لا بد أن يشمله معنى عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ [النمل: 16]. كان الهدهد سيلاقي عقابه لغيابه عن موعد الإياب وتأخّره عن وقت التفقّد، وهذا يعني أن الزمن الذي تخطاه يتماثل مع الانحراف عن خط الطيران المعتاد إلى حيز فضائي أبعد، وكان عليه أن يبرر تلك المسافة الزائدة. وقدم الهدهد عذره بأنه، بخروجه عن دائرة الطيران المحسوبة زمنًا، فهو قد اطلع على أمر لا يعلمه سليمان نفسه، فَقَالَ: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ [النمل: 22]. ويبدو أن اختيار فعل الإحاطة بالشيء بدلًا من العلم به يتسق تمامًا مع فكرة تجاوز محيط دائرتها إلى خارجها، فالهدهد قد أحاط بالحالة السبئية التي لم تتضمنها دائرة معارف سليمان، لذلك فهو قد سيّج الحيّز السبئي بسياج الإدراك من جميع نواحيه، حتى صار النطاق المكاني داخل النطاق المعرفي، وأصبح نبأ الهدهد عنه يقينًا.

جاء الهدهد بخبر يدفع بسليمان إلى مهمته الأساسية كنبي مُرسل، ألا وهي التبليغ والدعوة إلى عبادة الله وحده لقوم يعبدون النار، فبعث الرسول رسيله بالكتاب إليهم مع الهدهد كي يثبت لسليمان صدق النبأ الذي جاء به إليه: قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [النمل: 27]. في هذه المرة تبدأ رحلة الطيران تنفيذًا لأمر مباشر من الملك سليمان لأحد جنده: اذْهَب بِّكِتَابِي هَٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ [النمل: 28]. كانت تلك مهمة الهدهد الرسمية، مراسلٌ ملكيٌّ يحمل كتابًا من ملك إلى ملكة، فمن غير الهدهد، ملك الطيور، تليق به هذه المهمة الخاصة؟ إن اختيار الهدهد بدلًا من الحمام الذي ارتبط بعملية الزجل يفسره هذا الوضع الملكي للهدهد الذي تشترك فيه كثير من الثقافات، وفي الروايات اليهودية يطلب الهدهد من سليمان تتويجه ملكًا للطيور بوضع تاج ذهبي على رأسه، فكان له ذلك، حتى أتعبه التاج، وعرّضه للطمع والسرقة، فردّه إلى سليمان الذي طلب من الله أن يعوّضه تاجًا من الريش الجميل.

وقد نتساءل عن سبب اختيار الهدهد لإرسال البريد في وجود جنود عند سليمان يستطيعون إحضار عرش بلقيس إليه في طرفة عين، لكن الأمر في البداية لم يكن يستلزم السرعة في حد ذاتها ولا الإبهار والتعجيز، ووصول الكتاب في طرفة عين دون وسيط قد يفزع المتلقين أو ينفرّهم. هذه المرحلة توجب التراسل المسالم الذي يطرح الدعوة إلى الإيمان بالله تعالى بلا ضغوط، والمعجزات لا تسبق عادة التبليغ العقلاني، وإنما تحضر فيما بعد لتعزز فحوى الخطاب التبليغي. من ناحية أخرى فالهدهد كان مكلفًا أيضًا بالمراقبة لما سيجري بعد تسليم الكتاب: ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ [النمل: 28]، لذلك فإن سليمان كان أعلم بمقدرات جنده، وأي منهم كان مناسبًا لأي وظيفة من خطته لدعوة ملكة سبأ وقومها إلى توحيد الله تعالى.

مهمة خاصة

لم يكن الهدهد هو الطير الوحيد الذي عُهد إليه بمهمة خاصة، فقد سبقه إلى ذلك الغراب الذي أرسله الله سبحانه وتعالى إلى قابيل بن آدم بعد أن قتل أخاه هابيل: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ [المائدة: 31]. حمل الغراب رسالة حركية لم تستلزم كلامًا ولا كتابة، كان الوضع القائم، أي جثة الأخ المقتول على الأرض، دافعًا للتفكير في كيفية مواراتها وسترها، وبمجرد وصول الغراب وقيامه بالنبش ربط قابيل الحركة بما يستوجب عليه فعله: قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة: 31].

في زمن لاحق، أوكل سيدنا نوح عليه السلام إلى الحمامة مهمة من نوع آخر. يُذكر في (العهد القديم) التوراتي أنه حين استوت الفلك على الجودي، أطلق نوح الحمامة في مهمة استكشافية، فكان عليها أن تستطلع المكان وتجد أي علامة تبين أن الطوفان قد انتهى، وأن الوقت قد حان للخروج. بعد أيام عادت الحمامة بغصن الزيتون في منقارها، فعرف سيدنا نوح ومن معه أن عقاب الله قد انتهى، وأن الأرض قد ابتلعت ماءها وأنبتت من جديد. ولو صدقت رواية العنكبوت والحمام المشهورة، فإن الدور الذي لعبته الحمامة بالتعشيش على مدخل الغار الذي اختبأ بداخله الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ووضعت بيضها، فهي قد قامت بحماية رسول الله وصاحبه من بطش الكفار. حمل الهدهد الكتاب وألقاه، ثم مكث ليراقب الأحداث التالية، أما الطير الأبابيل فقد حملت حجارة من سجّيل لتشارك بفاعلية وبسالة في معركة حربية حاسمة. أرسل الله سبحانه وتعالى الطير جنودًا في كتائب متوالية وهي تحمل ذخيرتها القاتلة بأظافيرها ومناقيرها، ثم تقذف بها من سماء المعركة على أصحاب الفيل المتجهين إلى بيت الله الحرام لتخريبه. كان على الطير التحليق، والإمساك بالذخيرة، والتصويب على الأهداف، ثم رمي الحجارة حتى جعلت الكائدين المفسدين كعصف مأكول. حين يصدر الأمر للطير بأن يذهب ويفعل، فذلك تكليف يتعدى الطيران الذي يميزه من غيره من المخلوقات، فمهامه دقيقة تستلزم مهارات أخرى كالقدرة على تحديد الاتجاهات، والقبض على المواد المنقولة بحرص شديد، والمحافظة على الجدول الزمني في الوصول، والمراقبة بعين فاحصة، وتحديد الهدف من علٍ والتصويب عليه، ورمي المواد في المكان المحدد. وربما فسرنا قدرات الطيور المذكورة في النصوص المقدسة على أنها حالات خاصة وأنها تتحرك بمراد الله تعالى، ولكننا نتعجب مما نراه من انتظام الطيور في أسراب تتبع قائدها وتهاجر في خطوط لا تخطئها في كل موسم من أمكنة معينة وإليها. كما نعرف أن الحمام، مثلًا، ظل يقوم بمهمته البريدية حتى وقت قريب، وقد خدم البشرية على مستوى الرسائل على مدى قرون، وخدم أيضًا على المستوى الحربي ونقل مع الرسائل القنابل وأجهزة التنصت. ومن أشهر الحمام العسكري الأميركي جي آي جو، الحاصل على ميدالية ديكن الشرفية لخدمته المميزة في الحرب العالمية الثانية.

على جناح اللغة

لمياء باعشن

من آية في كتاب الله الكريم ننطلق في تأمل معنى أن تكون هناك لغات لتحقيق التعارف بين المخلوقات على هذه الأرض التي هيأها الله لهم، وهيأهم لها. تظل فكرة التخاطب بين الإنسان وباقي الكائنات تنافي العقل ويقاومها التقبل، رغم أنها كانت دائمًا مُحرّكة للخيال ومُحفِّزة للتأمل العميق في إمكانياتها. وحين نقرأ في القرآن الكريم كيف انزاح حاجز التواصل بين الهدهد وسليمان عليه السلام، نُسلم بالأمر إيمانًا، ونُدرج المسألة تحت بند المعجزات لعجزنا عن فك أسرار الإزاحة. في الآية،(وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) [النمل: 16]، يأتي التصريح بالهبة الإلهية التي يختص بها الله من عباده من يشاء، هبة يحوّل بها الخالق ما ألفه الناس من ثبات لنواميس الطبيعة.

لكننا نلمس هذا التحويل في حياتنا اليومية ولا نتوقف عن التعلم والتأمل بداعي أن ما نراه هو معجزات يستعصي إدراك كنهها. فالله سبحانه وتعالى الذي بيده أن يغير خواص النار الحارقة، فتكون بإذنه بردًا وسلامًا، ويغير خواص الماء السائل ليكون كالطود العظيم، هو الذي يغير النسائم الرقيقة إلى عواصف هادرة، والنور الدافئ إلى نار حارقة، والماء الرقراق إلى أعاصير جبارة، هو الخالق الذي بيده أن يحوّل ما يشاء إلى نقيضه حتى إن نعمه تصبح نقمًا. وهذه الظواهر الطبيعية التي ندرسها ونتعلم أسرارها ليست إلا إخراج القانون من نظام الاعتيادية، ثم إعادته إلى مسيرته المعتادة، حتى يصير فرع التغير المناخي في حد ذاته قانونًا طبيعيًّا.

لم يؤتَ سليمان عليه السلام كل شيء، بل أوتي «من كل شيء»، فمع كثرة الهبات التي اختصه الله بها تظل أجزاء من كليات أكبر لا يعلمها إلا الله تعالى،﴿وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ﴾، [الأنبياء: 81]، كما أنه لم يؤتَ تلك الأجزاء وحده، وإلا لكان قال: «أوتيتُ»، فهو في جماعة لذلك يقول: (عُلِّمْنَا)، وربما كان ذلك من ضمن ميراث آل داود: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًاۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾  [سبأ: 13]. لذلك فإن هناك آيات توضح ما لداود عليه السلام من أفضال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا ۖ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ۖ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾ [سبأ: 10]، ﴿اصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ. إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ. وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ [ص: 17-20]. ثم هناك آيات تجمع بين داود وسليمان في تبيان الأفضال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا ۖ وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾  [النمل: 15]، ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ۚ﴾  [الأنبياء: 79]، كما أن هناك آيات ينفرد فيها سليمان بالتحديد وإن تشابهت الأفضال: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ [الأنبياء: 81]، ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ۖ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ۖ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ [سبأ: 12]، ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ [الأنبياء: 79]، ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ ۖ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ﴾ [الأنبياء: 80]. لكن في خلاصة الأمر هناك مسألة الميراث: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾، فربما كان علم «منطق الطير» من باب «فصل الخطاب» الذي انتقل من داود إلى سليمان من ضمن ما ورثه عنه.

قانون الخروج عن القانون

ما يهمنا من مسألة أن عمليتي التسخير والتعليم قد تكررتا مع داود وسليمان هو فكرة تكوين قانون الخروج عن القانون، ظاهرة تخرج من سياق الغرابة إلى الاعتياد، فيصبح تبدل السنن الكونية سنة كونية. في العملية الأولى، التسخير، تأخذ عناصر الطبيعة من جبال، وحديد، ورياح، وطيور، وجن أوامرها من الله تعالى بالانصياع لداود ولسليمان، وفي العملية الثانية، التعليم، تجري تهيئتهما وتفهيمهما ليتمكنا من الأخذ بزمام القوى والقدرات التي تملكها تلك العناصر المُسخَّرة. وفي حالة ﭶ ﭷ ﭸ لا بد أن نعي أن نبي الله سليمان قد بُـني فيه استعداد تواصلي مع كل الطير، لكننا لا نجد في القرآن سوى مثال الهدهد، في حين لا يقول سليمان عليه السلام: إنه أوتي منطق غير الطير من المخلوقات، غير أننا نجده ينقل لنا كلام النملة في آية ﴿حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ﴾.  [النمل: 18-19]. ولو كانت النملة نحلةً لقلنا: إن فئة الطائرين تشملها، لكنها حشرة تدب في الأرض، فهل هذه هي كلية الأشياء التي أوتي منها في الآية: ﴿عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾  أي من الطير وغيره؟

لا شك أن سليمان عليه السلام كان يتواصل مع كل شيء في ذات الوقت، كأنه في حالة من التزامن المفتوح على المعنى بعيدًا من عوائق اللغات وفواصلها التعبيرية. إذا لم يكن هناك تخصيص لطير معين أو لحيوان معين يستطيع أن يصل سليمان إلى تراكيبه اللغوية ليسمعها صوتيًّا، ويفهمها حروفيًّا وأسلوبيًّا، فكم من اللغات كان سيحتاج؟ هل كان سليمان يحادثها زقزقة وتغريدًا؟ وإن كان سليمان عليه السلام قد تعلم كل اللغات على الأرض، فهل تعلمت الطيور لغات البشر؟ حين يعود الهدهد من رحلته إلى سبأ، هل قال حرفيًّا بصوته جملة: ﴿وجئتك من سبأ بنبأ يقين﴾  [سبأ: 22]؟ سبأ اسم يُعيـِّن موقعًا على الأرض اتفق عليه الناس، فهل عرف الهدهد أسماء البلدان كما سماها البشر؟ ثم إن تفاصيل القصة التي نقلها عن الأوضاع في سبأ: المرأة الملكة التي «أُوتِيَتْ من كل شيء ولها عرش عظيم»، والناس الذين يعبدون الشمس ويسجدون لها، كلها يرتكز على تقدير وتحليل بشري يستلزم المعرفة بالتقسيم المجتمعي والطقوس الدينية.

ليست مجرد كلمات

إن كان منطق الطير هو لغة الطير، فاللغة ليست مجرد كلمات قائمة بذاتها، بل هي إشارات إلى معارف متفق عليها، والحمام الزاجل مثلًا يجري تدريبه لنقل الرسائل من مكان لآخر من دون تزويده بعناوين وأسماء لن تعني له شيئًا. اللغة تفقد قيمتها في غياب الإطار المرجعي لها فتصبح أصواتًا جوفاء لا تحيل إلى شيء، وعليه فإن التجربة المعيشية البشرية تتحكم في صياغة لغات البشر، وتظل مستغلقة على غيرهم من المخلوقات. في هذه الحالة، هل نطق الهدهد؟ وإذا لم ينطق، فما المقصود بمنطق الطير؟ هناك احتمال بأن يكون هو المنطوق، أي المتلفظ به صوتيًّا، وقد يكون ذلك النظام العقلي الداخلي (logic) الذي تتسق فيه الأفكار ثم تجد من الملفوظات ما يحمل معانيها إلى مستمع خارج عنه، كما قد يحيل إلى النطاق، أي الحيز الذي تتشكل فيه الفكرة والأفق الذي ينمو فيه المعنى.

تلقى الهدهد أمر الذهاب وأمر الإياب، ثم أُمر بحمل الكتاب: ﴿اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾ [النمل: 28]، فطار برسالة سليمان إلى ملكة سبأ يدعوها إلى عبادة الله وحده. وإن كان الهدهد قد ألقى الكتاب وتولى عنهم، أي أنه عاد إلى سليمان فهذا لا يثير الدهشة، لكنه بقي قريبًا منهم لينقل تفاصيل مَاذَا يَرْجِعُونَ لسليمان، ثم إنه هو الذي أبلغه برغبتها في إرسال هدية إليه، فغضب قائلًا:﴿أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ [النمل: 36]، فهذا أمر مثير للغاية. ليس من الواضح إن كانت الهدية قد وصلت سليمان مع مراسيل من سبأ فخاطبهم بقوله: ﴿ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾،  [النمل: 37]، أم إنه كان يبعث الهدهد إليهم مرة ثالثة. في كل الأحوال، كانت قدرات الهدهد في هذه المهمة هي التي على المحك، فهو قد تلقى الأمر من سليمان بمنطق ما، ثم ألقى الكتاب، لكنه ظل مراقبًا لما يجري، حيث إنه كان مكلفًا في هذه المرة بنقل الأحداث والأقوال، فكيف فهم كلام الملكة وهي تقرأ رسالة لا بد أنها كُـتبت بالآرامية أو السبئية، وسليمان في بيت المقدس ولغته السُّريانية أو العبرية، وكيف فهم كلامها وهي تشاور ملأها، ثم وهي تقترح إرسال هدية لم يرها؟ إن كان التواصل بين سليمان والهدهد يدور بلغة بشرية أو طيرية، فهذه الزيارة لسبأ لا تتوافق مع شروط التواصل، وهو ما يستوجب إعادة التأمل في معنى «منطق الطير».

يتخاطب سليمان مع قومه بلغتهم، ثم يخاطب الطير بلغته، ثم يكاتب ملكة سبأ بلغتها، وهو حين يطلب من الحضور في مجلسه أن يأتوه بعرشها، يقول:﴿عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ ۖ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ [النمل: 39]، ويقول من بعده مخلوق لا تتأكد لنا بشريته ولا نعرف عنه شيئًا سوى أن «عنده علمًا من الكتاب»:  ﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ [النمل: 40]، إضافة إلى سماعه وفهمه حديث النملة. يتبين لنا إذًا أن المَلَكة الذهنية التي تعلمها سليمان من رب العالمين تشمل الطير وغير الطير، وهي قدرة الانفتاح الشامل على العقول والتخاطر معها بطريقة فوق لغوية، طريقة قراءة الانطباعات داخل الأذهان من دون الاصطدام بحواجز اللغات وتراكيبها وأبنيتها.