القصيدة الإيروتيكية وأوهام التمثيل الشعري

القصيدة الإيروتيكية وأوهام التمثيل الشعري

التسمية قد تكون مأزقًا أو فخًّا، أو مجالًا ينفتح على مقاربات تستدعي وعيًا بمفارقة إشكالية التسمية والفخ الثقافي، وبقدر ما أن فخاخ الثقافة العربية كبيرة ومثيرة للجدل والسجال، بدءًا من فخ المفهوم وفخ المصطلح، إلى فخ التأويل، فإن أخطرها يظل قرينًا بما تقترحه تلك «التسمية» من خلافات تمتد من الاجتماعي والسياسي والنفسي إلى الديني؛ إذ تتحول التسميات الثقافية إلى رافعات تجرّ معها المفهوم والمصطلح والتأويل، إلى تعقيدات الصراع الذي تواجه تداعياته ثقافتنا العربية، على مستوى أزمات الخطاب والهوية والحرية والعلاقة مع الآخر، أو على مستوى المؤسسات والبنى التحتية وكل ما يتعلق بتشوهات الصناعة الثقافية.

كتابة النص الإيروتيكي، قد تبدو توصيفًا لظاهرة، أو مقولة لقضية نقدية، أو حتى تسويغًا لنمط من كتابةٍ تفيد الجنس، وإباحة اللذة، أو حتى التمثيل البورنوغرافي، لكني أجدها مجرد تسمية، لا تقعيد منهجيًّا لها، لكنها مع ذلك تحتاج إلى معاينة نقدية دقيقة؛ لأن ربط هذه التسمية بالمفهوم وتحويلها إلى جزء من إجراءات النقد النسوي سيكون متعسفًا، ولا سيما وأن أغلب المفاهيم وافدة ومترجمة، ومنقولة من فضاء استعمالي إلى آخر، وتعاني «الهجرةَ الإشكاليةَ» كما يقول الناقد السعودي سعد البازعي، وهو ما يمكن أن يخلّ بدقتها الوظيفية والعلمية، وبطريقة استخدامها النقدي؛ لذا وجدت أن تحديدها بموضوع التسمية وإحالاتها النفسية، هي ما يُبعدني من الخلط في الاستعمالات والقراءات، وفي التآويل، وفي النظر إلى مثل هذه الكتابة، بعيدًا من أي قسر أو تلفيق، على الرغم من أن مثل هذه الكتابة ليست بريئة في أطروحاتها، وفي نماذجها؛ لأنها تستفز قارئها، عبر ما تلامسه من عقده الجنسية، وما تجسّه من منظومة استعاراته ومجازاته، ونظرته للجنس بشكل عام؛ إذ يكون النظر إلى الجنس بوصفه تمثيلًا لغويًّا، مجالًا، أو خرقًا للتابو الثقافي، دافعًا لوضع التسمية في سياقها التاريخي، وفي إطار مجالها النقدي حتى الاجتماعي، فشعرية الجسد ليست بعيدة من ذاكرة القصيدة العربية، وتاريخ «القيان» الجواري المغنيات يحمل معه، صورًا كثيرة، برزت فيها أسماء معروفة، وقصائد ذات شفرات وإحالات جنسية تغمر ليالي الأنس والمغاني، لكن ما يميزها كجزء من الفضاء العام، إنها تعود إلى أسماء شعراء، وليس شواعر، على الرغم من أن بعض القيان قد تفنَّن بتأليف بعضها، لكن الاعتراف بذلك ظل متواريًا خلف مظاهر الممنوع السياسي والاجتماعي في بيوتات الخلفاء والأمراء وأتباعهم.

«نسوية» الشعر وأجناسيته، ظل قرينًا بموضوعات محددة، بين الرثاء، والمدح، فـ«أم جندب» زوج امرئ القيس لا يعرف عنها سوى حكمها الشعرية، والخنساء هي شاعرة الرثاء، ولم يُذكر عنها شيء آخر، لكن ذلك لم يمنع من قراءة «الشعر النسوي» بعيدًا من تحولات الشعرية العربية ذاتها، ومن طبيعة متغيراتها السياسية والاجتماعية، وعلاقة الظاهرة الشعرية بالبيئة النفسية والاجتماعية والدينية، فنجد عددًا آخر من الشواعر قد كتبن القصيدة الحسية، أو قصيدة الحب ذات الإيحاءات الجنسية والصوفية، وبقدر ما في هذه القصائد من بوح وتجلٍّ، ومن إثارة، وأحيانًا من تعمية لاسم مؤلفها، إلا أنها انمازت بجدتها الشعرية، وبمتانة لغتها وحيوية أسلوبها، بدءًا من قصائد تماضر بنت الشريد ورابعة العدوية وليلى العامرية وليلى الأخيلية وعلية بنت المهدي، وحفصة بنت الحاج المعروفة بالركونية، ومهجة الغرناطية، وصولًا إلى مي زيادة، وسعاد الصباح، ولميعة عباس عمارة، وجمانة حداد، ويسرى البيطار، ولمياء المقدم، وريم قيس كبة، وأمل الجبوري وغيرهن.

جمانة حداد وكتابة النص الفائق

جمانة حداد

قد تبدو قصيدة جمانة حداد، ذات المزاج والتشكيل الحسي، أكثر تمثيلًا لموضوعة الإيروتيك الشعري، والأكثر جرأة في التعبير عنه، بوصفها جزءًا من خطاب قصدي، أو بوصفها رؤية تكشف عن وعي حاد بالجسد، وعن مقاربة أسئلته الأنطولوجية، وأسئلته النرجسية أيضًا؛ إذ هو جوهر الكينونة والهوية واللذة، وهذا ما يعني الرغبة في نزع الغموض والتعالي عنه، وليكون الاشتهاء جزءًا من الوعي، ومن علاقته الفاعلة بالحياة، عبر ما يصنعه الحب/ الجنس من إشباع، وعبر تحويل الإغواء إلى لعبة لسانية في المفارقة، وفي تضاد للاحتواء والهيمنة، حيث يحضر الجسد، لا بوصفه استيهامًا، بل هو عالم يختزل الحياة في المعنى والوجود والشهوة والفكرة، وربما لمواجهة الإرث والأثر الذكوري، الذي استغرق القصيدة العربية والسلطة العربية، حتى الحكاية العربية؛ إذ ما زالت كتابة المرأة بوحًا قريبًا من السرية، وما يكتبه الرجل اعترافًا، وعلى الرغم من تقاطع بعضه مع الأعراف، لكنه لا يشكّل مأزقًا للرجل بوصفه جزءًا من المركزية المهيمنة.

يمكن توصيف ما تكتبه جمانة بأنه تجاوز للبوح، وللاعتراف، واستدعاء لما قد يكون الأقرب لكتابة النص الأَنَوِيّ؛ إذ تتجاوز الشاعرة عبره عقدة الذات المنكسرة، والمختبئة، الذات المرآوية التي تعيش عقدة العزلة والسرير، والذاكرة، وباتجاه أن تكتب نصًّا آخر، يضع العالم أمامها بوصفه لعبة في المواجهة، أو نصًّا قابلًا للاختلاف والمساءلة والكشف والحب والمشاركة، وتدوين السيرة.

«أنا عيون العائلة عليّ،/ حدقات الأب والجد والعمة والخالة/ الستائر تنزاح والستائر في الوراء والجدران في الوراء/ وأنا التي لا اسم ولا يد لكل ما هو وراء/ أنا التوقعات المرجوة مني./ الأحلام المجهضة الفراغات المعلقة./ تمائم حول عنقي/ وأنا المعطف الأحمر الضيق كلما ارتديته بكيت/ أنا كل ضيف لا يزال يبكيني./ أنا الثقب الحزين في جوارب معلمتي/ لا يزال يحدق إليَّ كعتاب هابيل في ضمائري/ أنا جدول الضرب ولم أتقنه حتى الساعة/ أنا الاثنان المجموعهما واحد/ دائمًا واحد./ أنا كرهي للتاريخ للجبر والفيزياء».

الجرأة العالية، والنثرية المتدفقة في قصائد حداد، تكشف عن وعي عميق بفلسفة الجسد، وبعلاقة الأنثى بالذكر، على المستوى الرمزي، أو على المستوى الجنسي وليس الجندري؛ إذ كثيرًا ما يتحول موضوع الجندر إلى مجال إيهامي لتذويب الخصوصيات الحسية في تلك العلاقة، فالشاعرة تجد في الحب عالمًا مشبوكًا بالرغبات، وبهواجس الحاجة إلى الحب، بوصفه إشباعًا، وتعبيرًا عن هوية الأنثى، عبر هوية جسدها، وشهوتها، والانخراط في تمثيل هذه الهوية عبر الإباحة عن التفاصيل، عن المزاج، عن الأنثى في لحظة وجودها العاشقة، وليس في لحظتها المرآوية النفسية والمخبوءة تحت أقنعة، أرادت الشاعرة نزعها، وتعرية لغتها لتكون أكثر توهجًا وفضحًا وتعبيرًا عن سرائر الجسد وخباياه العاطفية والجنسية.

الهروب إلى الإيروتيك

قصيدة الإيروتيك تحولت إلى ظاهرة اجتماعية أكثر من كونها شعرية، وباتت بعض منابرنا الثقافية تتسع لنشرها، تحت أقنعة متعددة، على الرغم من أن بعضها وجدت في هذه الكتابة تمردًا، فأخذت حجمًا يتجاوز حدوده، وتوصيفاته، ولا سيما في منابر النشر الإلكتروني، وبعض المجلات الاجتماعية؛ إذ تحضر قصيدة التشفير الإيروتيكي، عبر حمولات استعارية، يشتبك فيها الإيحاء الجنسي، مع صور وبنى تعبيرية تستكنه شغف الجسد، ورغباته العارمة، وتستدعي الحبيب بوصفه لحظة إشباع غائبة، وبعضها يتكئ على تجارب شعرية تقليدية مثل نزار قباني.

وبقدر ما تستدعي هذه الظاهرة مقاربة نفسية واجتماعية، حتى أنثروبولوجية، فإنها تستدعي مقاربة نقدية، للكشف عن مرجعياتها، وعن تركيبها النفسي واللغوي، وعن علاقتها بالأجناسية الشعرية في أسئلتها وتحولاتها، ومدى علاقتها كنمط كتابي له فضاءاته، وجمهوره، بفواعل الحكم النقدي، في توصيفه، وفي اشتغاله اللغوي والأسلوبي.

هذه القصيدة، تتحول إلى «قصيدة شيئية»؛ لأنها تجد في تفاصيل الجسد، وفي استعاراته المكشوفة، إشارات، لتشكيل صور، وإيحاءات تعتمد الإثارة، وتقشير الاستعارات القديمة، والانفتاح على فضاء استعاري مفارق، وأكثر تمثيلًا، ولا أقول أكثر مباشرة، وباتجاه أن تكون تسمية «القصيدة الإيروتيكية» هي قصيدة مفارقة بامتياز، وأن دوافعها النفسية واللغوية تقوم على «تشحين» الجسد الأنثوي، وتجاوز عقدته في الاعتراف والبوح؛ إذ لا تُكتب تلك القصيدة إلا بوصفها بوحًا أو اعترافًا، أو بوصفها ذات مرجعيات يدخل فيها الإيروسي الطقوسي، والإيروسي الأسطوري، والإيروسي النفسي.

هذا التداخل في الإحالات الإيروسية تحوّل إلى فضاء رخو، وإلى مساحة لا حدود لها؛ إذ يكون اتساعها باتساع المنابر، وبسهولة النشر، على مستوى العالم الرقمي، أو على مستوى ضعف مؤسسات ودور النشر التي باتت تنظر للكتاب نظرة تجارية خالصة، فنقرأ قصائد هنا أو هناك، ولشواعر متعددات في التجربة والخبرة والمهارة، والمستوى الفني، لكنها أضحت ظاهرة، وهو ما يجعلها مدعاة للنقاش، وللدراسة، بعيدًا من أوهام وأمراض النقدية النسوية وأطروحات ما بعد النسوية ونقودها، وعلاقة ذلك بمركزية الفحولة، الذي هو شأنٌ له مجال معروف في الدراسات الثقافية، ولكي لا يختلط الأمر، فإن مقاربة هذا الموضوع الإشكالي، يرتبط بالنقد، مثلما يرتبط بالاجتماع، وبأزمات الحرية والسلطة، وبهموم الجسد العربي الذي ما زال جسدًا يتوهم الثورة، والاحتجاج، والتمرد، وأحسب أن الذهاب إلى الإيروس قد يكون نظيرًا تعويضيًّا لإعطاء الجسد شغفه في التعبير عن تلك الأوهام، فاللغة رغم منظومتها الاتصالية والتواصلية، فإنها يمكن أن تكون بيتًا للأوهام الكبرى، تلك التي تتسع فيها العبارة لتبدو تعويضًا متعاليًا عن الرغبة.

الكتابة الإيروسية والمغامرة

من الصعب عزل الكتابة الثقافية، والشعرية بشكل خاص عن كونها مغامرة، وأن الوعي بها يمنح هذه المغامرة طاقة البحث عن المقموع، والممنوع؛ إذ تتقوض الكتابة بمعناها الغراموتولوجي لتبدو وجودًا يبحث عن اكتماله، أو ترويضًا عبر اللغة والجنس لمواجهة التوحش الذي ساكنه إنكيدو، فهو مجالٌ أو عشٌّ، وأحسب أن هذه التوصيفات ستبدو أكثر حضورًا وتمثيلًا في الشعر، بوصفه فضاء غامرًا ومفتوحًا للاستعارات والمجازات، ولنزع الأغطية «العائلية» عن اللغة، ولتكون لعبة تعريتها إعلانًا عن بدء الكينونة، وتمردًا أو موقفًا وإشهارًا ولعبًا في تابو التفاصيل التي ورثت المُحرّم والخطأ والعزل.

لا أسمّي نزوع، أو نزوح بعض الشواعر إلى التشفير الإيروسي، وجهًا آخر لكتابة نص الغواية، بقدر ما أجدها اندفاعًا نفسيًّا وإيهاميًّا إلى ما يشبه الاحتجاج؛ إذ يحضر الجسد المقصي بوصفه خطابًا، ولتنفتح استعاراته عبر استدعاء ثيمة التشهي، وعبر وضعها في سياق تعبيري، له ذاكرة غائرة، عميقة ومفتوحة على مخزونٍ بلاغي كبير، هو ذاته مخزون الكبت والشوق والشغف في السرديات العربية وفي حكاياتها الكبيرة.

وبقدر ما تصطنع هذه الكتابة إثارتها التعبيرية، وقوتها في اصطناع المجاز، وتوظيف الاستعارة والصورة، في الجملة والبنية، قد تحولت عند بعض إلى نوع من الميوعة والخفة، وإلى تعطيب اللغة عبر السذاجة والمباشرة، وتجريد القصيدة من سحر أنوثتها، ودفعها إلى ما يشبه «العهر اللغوي»، فالحب والشوق اختباءان استعاريان ساحران، لهما طاقتهما في المراوغة، وفي استدعاء المحبوب، مثلما هما قرينان بثنائية الاعتراف والبوح؛ إذ يتحولان إلى نشيد للجسد، وإلى رؤية تتصل بالوجدان، وبحساسية ما تحمله اللغة من ذاكرة قابلة للتفجّر والسيولة.

تسمية الكتابة الإيروتيكية، قد تساعدني على تطهير ما هو مفهومي، وعلى تظهير القصيدة بوصفها خاضعة لتوصيف معين، ولأن تكون قابلة لقراءات متعددة، حيث المعنى وإحالاته، وحيث إغواء التلذذ، عبر تسلل «مفردات» أو «صور» عن الحب والجسد والحبيب إلى فضائها، ليس لخرق الميثاق الشعري الخجول، بل لمواجهة العجز والموت والإخصاء، وربما لفك لغزية الجسد ذاته؛ إذ يمنحها التوهج والدفء والبهجة، والإشراق، وربما الأسطورة، أي التجوهر حول أسطرة الجسد، وحول رهاناته الفائقة في الإشباع، وفي التمثيل الشعري والحسي، وكلاهما عنصران مهمان في توصيف تلك القصيدة، وفي بيان مدى جدتها وفاعلية رؤيتها، وفي تعاطيها العلمي والمعرفي مع مهيمنات قارة في المجتمع، مثل المسكوت عنه، والمقموع.

قصيدة الإيروتيك، أو القصيدة الحسية، ليست سهلة أو ساذجة، بل هي قصيدة ماكرة، ونافرة، لها فضاءاتها المفتوحة، ولها اشتغالاتها في التوظيف الرمزي والدلالي، والبناء الصوري؛ إذ يمكن لهذه القصيدة أن تحوّل وجودها إلى مساحة تعبيرية، وإلى قاموس، وإلى رؤى عميقة يعتلج فيها الجسد، وتُستنفر فيها اللغة؛ للإفصاح عن غواية الغائب واستعارة المُشتهى، لكنها تبقى رهينة بقدرة هذه الشاعرة أو تلك، على حُسن توظيفها في مساحة الاشتغال الشعري، وفي إعطاء مفاهيم الأنوثة، والشغف والرغبة أثرها في بنية القصيدة، بعيدًا من الانفعال الساذج، الذي يقسر الصورة الشعرية في التكرار والمباشرة وفي تحويل القصيدة ذاتها إلى خطاب للاهتياج الجنسي، وإلى خداع الرؤية، وتشوش تقانة التصوير، وطاقته في التوظيف التشكيلي والتعبيري.

ما نقرؤه -للأسف- عند بعض من شواعرنا، يكشف عن تجارب غير ناضجة، وعن توليفات شعرية مفتعلة، مركزها الجسد البوحي، والاستعارات البسيطة التي لا تكشف عن مهارة في البناء الشعري، بل إن هناك من تجتهد في دفع الكلام عن الجسد، وكأنه نوع من الاكتفاء الاستعراضي الذي يشبه «الستربتيز اللغوي»، وأن فكرة استدعاء المحبوب تتحول إلى لعبة في عرض الغواية، أو في استيهام الفتشية، وبقدر ما تبدو هذه الاجتهادات أو الرهانات مثيرة ومحرضة على قراءتها، فإنها تظل عابرة، لا تترك أثرًا، ولا تؤشر حضورًا، بقدر ما تحضر بوصفها نوعًا من الكتابة البورنوغرافية، بدلالتها الجنسية وليست الشعرية.