هل انتهى عصر الرواية الورقية؟

هل انتهى عصر الرواية الورقية؟

إن أبسط تعريف للكتاب الرقمي نعثر عليه في الموسوعة الحرة ويكيبيديا هو «الكتاب المنشور بصيغة رقمية والمتاح في شكل ملفات يمكن تحميلها وتخزينها لكي تقرأ على الشاشة، سواء كانت شاشة الحاسوب الشخصي أو الهاتف النقال أو اللوحة الرقمية أو غيرها من وسائل التلقي الرقمية».

أما الأدب الرقمي أو الإلكتروني بشكل عام، فينطوي على مختلف الأشكال الأدبية التي تأثرت بالتقنية أو الثقافة الرقمية، والتي جرى إنتاجها بوساطة حواسيب أو أي معدات تستعمل تطبيقات وتتخذ أشكالًا رقمية مختلفة تبدأ من الكتاب الرقمي بحصر المعنى، وتتسع لتشمل جميع الأشكال المادية للإنتاج الأدبي التي لها صلة بالثقافة الرقمية والمستفيدة من التقنيات الإلكترونية كالإنترنت وغيرهما.

غير أنه وجب ألا نُدخل في نطاق الأدب الإلكتروني تلك المؤلفات التي طُبِعَت ورقيًّا قبل إخضاعها للرقمنة؛ إذ لا بد أن يجري إنجازها أصلًا بمساعدة الحاسوب وتكون معدة للقراءة على الشاشة، أي أن تكون (هجينة) بطبيعتها لاستعمالها مكونات عدة كالفِلْم وألعاب الفيديو وسواهما من الفنون البصرية المعروفة. وهو ما يجعل الأدب الإلكتروني يفترض في كُتّابه وقرّائه التوافر على معارف وكفاءات متعددة المصادر؛ ليستوعبوا الإستراتيجية الرقمية ويعرفوا حدودها.

من هنا توصف الرواية الرقمية عن حق بكونها ظاهرة ثقافية أنجبتها المرحلة الرقمية وجعلتها وسيلة للتعبير عن متخيل جديد لم يعد يؤمن بالحدود بين الأدب والواقع، كما يتغير في نطاقه المفهوم الاعتيادي للمؤلف والقارئ معًا.

ولعل من جملة التحولات التي تعترض الانتقال من الورقي إلى الرقمي ما يأتي:

أولًا- مسألة العادات القرائية التي ينبغي تغييرها لصالح عادات جديدة تتوافق مع اشتراطات قارئ جديد وأساليب تلقٍّ مختلفة.

ثانيًا- بفضل مفهوم (النص المتفاعل) الذي اختاره الكتاب الرقمي وسيطًا في القراءة يقطع كل صلة له بالورق والورقي، ويقدم نفسه كطريقة مبتكرة في التلقي.

ثالثًا- لتسهيل مهمة متلقي الكتاب الرقمي يحرص هذا الأخير على تقديم مادته بأيسر السبل، وبخاصة أسهل طريقة لتوقع ما سيأتي من الأفكار والصور والأحداث، وهكذا يحصل التفاعل مع الوثيقة التي توضع رهن إشارة المتلقي ويتاح له الإبحار بين أطرافها.

رابعًا- بهذا الأسلوب يتمكن المتلقي إياه، مستفيدًا من مجرد تغطية الإنترنت، أو من الإمكانية التي تُتيحها له مواقع الويب، من الاطلاع على ما يشاء من المؤلفات الإلكترونية طالما تقع خارج دائرة حقوق الملكية الرقمية (DRM).

الآن نصل إلى تعريف الرواية الرقمية بأنها متوالية من المقاطع السردية التي تأتي مصحوبة بمؤثثات سمعية وبصرية تؤدي جميعها إلى الإخبار بمضمون القصة ومدلولها. وكانت التجارب الروائية (الورقية) الأولى قد ظهرت للوجود في أواسط القرن السادس عشر مع الكاتب الإسباني سيرفانتس بنص مثير للجدل من الناحية الأجناسية هو «دون كيخوت دولامانشا»، وتلتها جملة من المحاولات العالمية في فرنسا وروسيا وألمانيا وإنجلترا وغيرها، وما إن هلَّ القرن العشرون حتى كان هذا الجنس الأدبي، قد نال أوراق اعتماده وصار مقروءًا في جميع بقاع العالم بتأثير من حركة الترجمة وتطور تقنيات الطبع وآليات التوزيع. وفي جميع هذه الحقب أمكن للفن الروائي أن يندرج في اتجاهات، ويتوزع إلى أساليب وتعبيرات لاقت هذا القدر أو ذاك من الاستحسان والرواج، ووجدت مَن يتحمس لها من بين جماهير القراء؛ كالرواية الرومانسية، والتاريخية، والواقعية، والبوليسية، والرواية الجديدة في فرنسا، ورواية الواقعية السحرية في أميركا اللاتينية… إلخ.

الرواية التفاعلية وبداية التحول

ويعود أول لقاء للرواية بالتقنية البصرية إلى بداية القرن الماضي عندما صار واردًا تحويل الروايات إلى سيناريوهات تُقدم على شاشات السينما، وفيما بعد الأربعينيات كأفلام ومسلسلات على شاشة التلفزة. غير أن التحول الانقلابي جاء بعد الثمانينيات عندما صار من الممكن قراءة متون الروايات بمختلف لغاتها واتجاهاتها على شاشة الحاسوب أو الهواتف النقالة أو اللوحات الرقمية… إلخ، وبفعل ذلك أصبح هذا الجنس الأدبي يعيش شبابًا جديدًا، ويستقطب مزيدًا من فئات قرائه ذات الأعداد الهائلة. كل ذلك والرواية تظل محافظة على كامل قيمتها الفكرية والجمالية.

ومن هنا يصير من المعلوم أن الرواية كانت آخرَ المتأثرين بالعصر الرقمي، وأبطأَ المنخرطين في المضمار الإلكتروني، وأسباب ذلك أكثر من واضحة: فكيف يستقيم وجود رواية تعتمد الواقع في عالم رقمي؟ يعني غير واقعي؟ وهل يصبح حقيقةً التجلي الإلكتروني للواقع؟ بمعنى هل يحصل تفاعل بينهما على مستوى التعبير والتلقي؟ وماذا عن الصراع الذي لم يتحول بعد إلى حوار بين المرحلة الرقمية والمرحلة الورقية؟ بين التعبير الأدبي والتعبير التفاعلي؟

قد كان هذا النص الجديد يُعرف بأسماء عدة؛ منها النص المتفرع أو المتشعب أو النص المرجعي الفائق… وجميعها تدل على صيغ تختلط فيها الكتابة والصور والأصوات ومكونات أخرى على شاشة الحاسوب.. وكل قارئ، أي كل مستخدم، لهذا النص يختار طريقة تلقيه سواء أكانت تسلسلية أو تعاقبية أو تفاعلية. هكذا تستخدم الرواية التفاعلية خصائص النص المتفرع، وتختار إمكانية المزج بين الأدوات الكتابية والصورية والصوتية والحركية… إلخ، وهي بذلك تسجل مغادرتها الخطيةَ في عرض الأحداث ذات البعد اللفظي المحدود، ومعانقة تعددية الصوت والصورة بالاعتماد على الوسيط الرقمي تحديدًا.

إن عمر الرواية التفاعلية إياها في منتهى القصر بمقياس الأجناس الأدبية، فأول نموذج لهذه الرواية لم يظهر سوى سنة 1986م لصاحبها ميشيل جويس تحت عنوان «الظهيرة». وأول رواية عربية تفاعلية ظهرت سنة 2001م لصاحبها محمد سناجلة بعنوان «ظلال الواحد».

أما هذه الرواية الأخيرة فإنها تصور بطلها الافتراضي وهو يعيش في واقع افتراضي ضمن سياق واقعية رقمية، تتابع انتقال الإنسان في نزوحه من الواقعية إلى الافتراضية. وعمليًّا تتناول المجتمع الرقمي الموجود في ذاكرة الإنسان الافتراضي والمتشكل عبر شبكة الإنترنت وتقنية (لانكس) المستعملة في بناء صفحات الويب. إن استبدال الوسيط الإلكتروني الذي تقوم به الرواية التفاعلية بالوسيط الكتابي الاعتيادي يمكن تأويله بأنه هروب إلى الافتراضي وتخلٍّ عن مسؤولية الأدب القائمة في أصل وجوده.

أما المغربي عبدالواحد ستيتو صاحب رواية «المتشرد» المنشورة على الفيسبوك، فتمثل رهان جمالية الأدبي/ الرقمي عندما تستعمل تقنية النص داخل النص، وتعيد إنتاج التوازن بين الكتابي المسموع والمرئي.

استعصاء القطيعة

أما محور التاريخ الأدبي، فيصعب الحديث المبكر عن شعرية أو نظرية داخلية للأدب الرقمي لغياب التراكم المطلوب بصدد علاقة الأدب بالحاسوب التي هي علاقة طارئة وغير وطيدة وأدواتية إذا شئنا الدقة. لكن المؤكد في الوقت الراهن أن عصر الرواية الورقية لم ينته بعد، وأن الكثيرين الذين بشروا بنهايتها إنما كانوا واقعين تحت تأثير استبدال الكائن بالممكن.

وبالمناسبة هناك فكرة سوسيولوجية متقادمة ترسخت مع مرور الوقت في نطاق التاريخ الأدبي وهي واقع أن لكل عصر من العصور أجناسه الأدبية المناسبة للتعبير عنه، فقد عبرت الملحمة عن العصر الإغريقي، ومثلت المعلقات العصر الجاهلي، والتراجيديا عصر النهضة، والرواية العصر الحديث… إلخ، وإذا أمكن ملاحظة أن كثيرًا من الأنواع الأدبية تتجاوز عصرها لترتبط بعصور تالية على نشأتها فلأنه لم توجد قطائع وحدود صارمة في مسألة ارتياد الأجناس للعصور، فقد واصلت الملحمة حياتها حتى كتب ميلتون ملحمته «الفردوس المفقود» في القرن الثامن عشر، واستلهم شوقي والبارودي الشعر الجاهلي في نهاية القرن التاسع عشر، وظلت التراجيديا حية تسعى عبر العصور حتى أبدع في نطاقها شكسبير (ق16) وراسين وكورناي (ق17) وهكذا إلى يومنا هذا. وأخيرًا فبعد أن ظهرت الرواية مع سيرفانتيس في نهاية العصور الوسطى.. ودعمت ركائزها قبيل القرن العشرين مع الروائيين الروس وأخذت أوراق اعتمادها في أوربا في القرنين الأخيرين.. ها هي ذي تواصل الحياة بكل اقتدار حتى قيل: إننا نعيش عصر الرواية. يدلنا ذلك كله على أن القول بانتهاء عصر الرواية الورقية وبداية عصرها الرقمي قول غير مترابط ولا مبرر أو مقنع.

لقد احتضرت الملحمة، وهي الجنس المتوج في العصور القديمة، ما يزيد على ألفي سنة قبل أن تُسلس قيادها في العصور الحديثة وتفسح المجال عن غير طيب خاطر للنوفيلا، ثم للرواية بحصر المعنى، فكيف نرغب في أن يُجهَزَ عليها الآن في عقد أو عقدين من الزمن الرقمي؟ إن هذا الطموح المراد إقراره هو تعبير عن رغبة أكثر منه صيرورة منطقية قابلة للتحقق على أرض الواقع.

وأخيرًا، يمكن للرواية أن تقبل باستضافة العُدة الرقمية بوصفها حقًّا حمله لنا عصر المعلومات فيما حمله من مستجدات ومستحدثات. غير أن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال أن نفرط في نوع إبداعي ورثناه عن الأسلاف وانتقل إلينا جيلًا بعد جيل. كل ذلك بجرة قلم، أو لنقل حتى نبقى ضمن السياق الرقمي: بنقرة فأرة.