شباك صغير يطل بشوق على العرزال البعيد

شباك صغير يطل بشوق على العرزال البعيد

حدث ذلك منذ زمن بعيد، يوم كنت أبتعد عن مجلس والديّ هربًا من نشرات الأخبار التي لا تجلب لنا إلا ويلات الحروب والموت والقتل، فأجلس على الشباك الذي يطل على التلة البعيدة… التلة التي اتخذها ملجأ له هربًا من ضجيج الأسرة وأعمال الأرض… أراقبه يوميًّا كيف يضع عيدان القصب فوق بعضه بطريقة مذهلة… ذلك القصب الذي شكل مع مرور الوقت عرزالًا له.

كانت الأخشاب صديقه المفضل، فما إن فرغ من بناء عرزاله حتى بدأ بتدوير الخشب وتقويرها، أراقبها كيف تتحول بيده يومًا بعد يوم إلى آلة عجيبة ثم يوصل فيها بعض الأسلاك… وبدأت أصوات تلك الآلة الوصول لأذني… ولا أعرف كيف بدأ يأخذ كل وقتي وتفكيري… ساعات وأنا أجلس على الشباك أستمتع بصوت آلته وأحلم بمحادثته.

كان يعرف بوجودي، أو هكذا شُبّه لي، فينتظر وقوفي على الشباك ليبدأ العزف.

وأخيرًا قررت كسر صمتي والتحدث معه… وأصبح ذلك العرزال ملاذنا الوحيد من عيون الناس الفضولية التي قد توصل الخبر لوالديّ، أو لوالديه.

في ذلك العرزال تعرفت لأول مرة على كتب خارج المنهاج المدرسي الممل، وقرأت أولى أبجديات الحب والحياة… في ذلك المكان عرفت أن للمرأة حقوقًا وللإنسان كذلك… تعرفت على باولو كويليو وميلان كونديرا، وسمعت معزوفات لكبار الموسيقيين في العالم. ولم تنفع كل محاولات العائلة إبعادي منه، وقفلهم باب البيت عليّ، وذهابهم في أول مرة في حياتهم إلى المشايخ ليكتبوا لي «رقيات» فقد ظنوا أن عفريتًا سكنني بعد أن بدأت أتكلم بأفكار لا تقبلها عراقة العائلة.

يوم قرر أبي الرحيل للمدينة بحجة جامعة أختي، والدور عليّ، ذهبت إليه ليلًا، لكن والده سبقني في الوصول إليه فاختبأت.

كان يجلس يدندن بعض الموسيقا حين أتاه بغتة وانتزع العود من يده وضربه به وهو يصرخ: «هذه هي الدراسة التي تمضي وقتك بها، لهذا تركتنا لشغل الأرض أنا وإخوتك لتلهو وتتسلى»… وعندما التفت ليحمي وجهه من ضربة انكسر العود على ظهره، وفي هذه اللحظة رآني.

في تلك الليلة اختفى… رحل… ولم يعد له أي أثر.

رحل وتركني في صراع لا ينتهي مع «زوربا» الذي أنصفنا نحن النساء وما زال حتى الآن يتفاخر بذلك ويمننا لأجله… تركني أتوه في عوالم «باولو كويليو»، وأوافق «كونديرا» وأختلف مع ستالين وحيدة… تركني أبحث عنه بين النوتات الموسيقية وعلى مسارح المدن التي زرتها.

نعم لقد تغيرت بي الأحوال… سافرت وأكملت دراستي وتزوجت أجنبي وأنجبت وحاضرت في الجامعات الخارجية، لكن ظلت صورته والعود المكسور على ظهره لا تفارق خيالي.

لحد الآن وبعد مرور كل تلك السنين، وكلما قمت بثورة لأجل حق لي يوأد يوميًّا أرى إعجابه وتواطؤه الخفي، لحد الآن وكلما زرت القرية أدخل لبيتنا القديم وأقف على نفس الشباك أراقب العرزال الذي تغيرتْ ملامحُه وأُضيفَ عليه شيءٌ من القداسة أفكر: كيف تغيرت أحواله.

أتذكره يصنع عوده بنفسه وتصل لأذني أصداء موسيقاه يوم كان يجبر الأخشاب على الانحناء بطريقة لا يجيدها إلا هو، وتنطق الأوتار بين يديه بلغة لا يتقنها سواه، وتطرب هي نفسها لها… أحاول استحضار ملامحه التي غابت عن ذاكرتي بحكم السنين الطويلة التي لا يمكن لها أن تغيب أبدًا، أنظر لذلك الشباك، فأرى فتاة بجدائل طويلة كانت يومًا ما أنا تراقب شابًّا وسيمًا يبني عرزالًا ويصنع عودًا، فأبتسم… أرحل بصمت… هاربة من الضجيج الذي يثيره ذلك الأب المتدين محني الظهر، الذي يرفض تعلم ابنه الشاب الموسيقا.