«خطف الحبيب» لطالب الرفاعي تحرير الذات وإثارة القضايا الجمعية

«خطف الحبيب» لطالب الرفاعي

تحرير الذات وإثارة القضايا الجمعية

يكتسب الفن الروائي حضوره وأهميته، وسط الأنساق الإبداعية المعاصرة والموروثة المطروحة على الساحة الخليجية والعربية، بقدرته على الإدهاش والتأثير في الذائقة الجمالية، جنبًا إلى جنب مع ممارسة دور ملموس على الأرض؛ يتجسد في إنجاز حراكٍ شعبي فعّال، وإيجاد سبل حقيقية للخلاص من الركود والجمود، والسعي إلى حل الأزمات المصيرية، ووضع اليد على بوصلة الاتجاهات ومفاتيح التغيير.

تحت مظلة هذا التوازن الدقيق، بين القيم الجمالية الخالصة من جهة، والجوانب التوظيفية للأدب الكاشف من جهة أخرى، تأتي رواية «خطف الحبيب» للكاتب الكويتي طالب الرفاعي (63 عامًا)، الصادرة في العام الجاري 2021م عن 15 دار نشر عربية في وقت واحد، منها «الدار المصرية اللبنانية» (القاهرة)، و«الآن ناشرون وموزّعون» (عمّان).

تنطلق الرواية، التي تستغرق 337 صفحة، من الخاص العائلي (أسرة صغيرة) لتنفتح مباشرة على العام (المجتمع الكويتي)، والشأن العربي كليًّا، وصولًا إلى الوضع الإنساني الأشمل والمشكلات البشرية المتشعبة. وتعالج في فصولها، التي يسردها الأبطال بالتناوب بضمير المتكلم، تشرذمات «الأنا» وتناقضاتها، بغية تعريتها في مرآة الصراحة والمكاشفة، وإعادة فهمها، وتحريرها من أثقالها. كما تتخذ الرواية من حركة شخوصها، وحواراتهم الدائرة، وصراعاتهم المتنامية، ومصايرهم المتفاوتة، مجالًا خصيبًا لتناول قضايا كثيرة وجريئة وصادمة تعكس تفاصيل المعاناة الجمعية في الكويت والمنطقة العربية والعالم بأسره.

رثاء للعمر الضائع

تتقصّى الرواية بعمق أحوال أسرة كويتية، على رأسها رجل أعمال ستيني بالغ الثراء، هو «يعقوب الشراع»، رئيس مجلس إدارة واحدة من كبريات شركات التجارة العامة والمقاولات، الذي تصل العلاقة بينه وبين زوجته «شيخة» (ذات الاسم الدالّ) إلى ذروة البرودة والروتينية والفتور وتبلد المشاعر وشيخوخة الروح والجسد في آنٍ: «أتمدد في الصالة، يستشعر الظلامُ وجودي، فيحيط بي مصطحبًا أطياف ذكرياتنا: قرابة أربعين سنة مرّت على زواجنا. كبرتْ هي، مع أنها تحاول جاهدة المحافظة على طراوة جسدها، لكن رياح الزمن المغبرة هبّت عليه، فخدشت نضارة وجهها، وبريق عينيها، وسوّت منحنيات جسدها».

في دائرة الأسرة ذاتها، هناك الابن «أحمد»، الذي يسقط ضحية انشغالات عائلته عنه، فتستقطبه الجماعات المتطرفة منذ صغره، إلى أن تتمكن من استلابه تمامًا من عناية أهله، فينضم إلى إحدى الجماعات الجهادية، وينخرط في الأعمال الإرهابية التي تتردد أنباؤها بين الحين والحين، وهو ما يعمّق مأساة الأب، المنفصم إكلينيكيًّا عن زوجته: «نتف أخبارٍ تصلني عنه؛ مجاهد ضمن جماعة إسلامية تقاتل في سورية! منذ صغره كان الأحب إلى قلبي، تسكرُ روحي حين أحتضنه ونتصارع معًا. أدغدغه في خاصرته وفخذه، فيعلو صوت ضحكاته الحلوة».

طالب الرفاعي

ومن مآسي الأسرة كذلك، التي تفقد ابنها الإرهابي قتيلًا في النهاية، تعرض إحدى بنات الأسرة للطلاق بسبب عنف زوجها، وعودتها إلى بيت أبيها يعقوب، وهو ما يشير إلى معادل للطلاق الآخر «المعنوي»، بين رجل الأعمال وزوجته، والعنف «النفسي» الذي يمارسه الأب تجاه الأم «زوجته» بتجاهله الدائم لها، وعدم حرصه على أن تحظى هذه الشريكة بأي معنى من معاني المشاركة: «سنوات كثيرة مرّت على عِشرتنا! ألِفَ كل منا الآخر حتى اعتاد هيئته بنظرته ووجوده وأنفاسه وطريقة ومكان جلوسه وحركته. كبرنا ومعنا شاخت وترهّلت وتعِبت علاقتنا. أعترف بأنني وحدي خططتُ ورسمتُ طريق عيشنا. أنا لأعمالي وصفقاتي وأرصدتي وسفري، وهي لرعاية أبنائنا وتدبير شؤون البيت. بتوافق صامت، انصرفتُ أنا لانشغالاتي، وقبلتْ هي راضية ومتفهمة طبيعة عملي».

ويأتي الحدث الفجائي الذي يستثير هذه المنظومة البائسة كلها، وهو افتتان رجل الأعمال بالموظفة الإيرانية الجميلة «فرناز»، التي تعمل في إحدى شركاته، هكذا من دون سبب مقنع، فهي فقيرة، وصغيرة في السن (من عمر ابنته)، لكنّ القدر يلعب لعبته ليضعها في مواجهته كمغامرة لا تليق بشيخ كبير، لكنها تروق له، فيقدم عليها بكل ما أوتي من قوة، وما وقر في صدره من نزق وجنون «منذ لمحتُ فرناز، السؤال يتكرر: ماذا يكمن وراء لهفتي وانجذابي إليها؟!».

ومن خلال هذا العشق السريع الاشتعال («خطف الحبيب»، كما يقول العنوان)، تتجرد كل الذوات من أقنعتها، فرجل الأعمال يعقوب يكتشف أن عمره فات، وأن علاقته بزوجته «شيخة» منتهية، وأنه أضاع سنوات حياته في العمل مهملًا نفسه وزوجته وأبناءه. والأم بدورها، تستشعر الخطر، وتجد زوجها على شفا الضياع، لكنه في الحقيقة ضائع أصلًا، سواء ظهرت هذه الفتاة في حياته أم لم تظهر. أما الفتاة الإيرانية، فتجد في العجوز الثري طوق نجاة من ذهب يكفي لانتشالها من آلامها وإحباطاتها، لكنه طوق ناري في الآن ذاته حول رقبتها، يمحو أحلامها ورغبتها في الارتباط بشاب فتيّ، يحبها وتحبه، مثلما كانت تتمنى.

على هذه الجبهات كلها؛ في الكويت حيث أفراد الأسرة، وفي سوريا والعراق حيث الابن المتطرف وجماعته المسلّحة، وفي إيران حيث عائلة الفتاة الصغيرة، ومن خلال الحكي التبادلي على ألسنة جميع الأبطال، واحدًا تلو الآخر، تمضي الرواية في نسج مشاهدها المتشابكة.

وتتيح هذه الأحداث والمواقف واللقطات المشغولة بعناية استعراض أبجديات الفن الروائي بكل ما تتضمنه من حركة وتصوير وإمتاع وتشويق ومهارات في بناء الحبكة المترابطة واستخدام اللغة المرنة الطيّعة في السرد والحوار، وما إلى ذلك من مفردات وعناصر وآليات، وهو الأمر الذي يجعل هذه الجماليات غاية في حدّ ذاتها للقارئ الذي يقصد فنًّا رائقًا في الأساس: «يتراءى لي الآن كأن زواجنا كان رحلة في سيارة مريحة فى طريق صحراوي، لا يظهر على جانبيه إلا مشهد واحد، مما جلب الملل والنعاس إلى قلبينا. لدينا ولدان وابنتان. يؤلمني أن غصنًا من شجرة بيتي قد انقطع، وهو الآن في مهب الريح، يقاتل وقد وضع حياته على كفه!».

من الفرد إلى الإنسان

على صعيد آخر، فإن الرواية بأحداثها وتفاصيلها منغمسة انغماسًا كليًّا في فتح كل مآسيها المتعلقة بأشخاصها القليلين على الوجع المجتمعي والجراح العربية، فشقاء الأسرة الجافّة هو سقوط للرأسمالية المُتخلّية عن مُثُلها العليا وقِيَمها الروحية، والمشكلات الفردية التي يعانيها أفراد الأسرة هي وجوه للخلل الجماعي، بكل ما يحتويه الواقع العربي من بطالة، وطبقية، وسوء توزيع الثروات، وغياب للعدالة الاجتماعية، وتفسخ أسري، وانتهاك لحقوق المرأة، وتغييب للوازع الديني، وانتشار للعنف والدموية والأفكار الهدّامة والتيارات المتطرفة، إلى آخر هذه القضايا التي تناقشها الرواية بجرأة وعمق تحت مظلة الانتقاد الهادف؛ بغرض رأب الصدع، والعمل على تقويم الأخطاء وتجاوزها: «خلال الفترة الأخيرة كرهتُ مطالعة الجرائد؛ لا شيء سوى أخبار محلية مُحبِطة، فسادٌ يفرّخ فسادًا، وحكومة تذهب وأخرى تأتي، واقتتال أبناء الوطن الواحد، وهجمات إرهابية تجتاح العالم. فكرة مزعجة احتلت ظني: سأفتح الجريدة يومًا، وأرى صورة ولدي أحمد بزيّه الأفغاني وكنيته الجديدة: أبو الفتح الكويتي!».

وتتقصى الرواية كذلك مشكلات وأمورًا سلبية تتعلق بقوانين العمل في الكويت والدول العربية، وقضايا العمالة الوافدة من خلال شخصية الفتاة الإيرانية التي تعمل موظفة وتتعرض للتهديد، وكذلك شؤون التجنيس، وتعدد الزوجات، والعنوسة، واغتراب الإنسان داخل ذاته، الذي لا يقل شراسة عن الابتعاد من الوطن، وغيرها.

وثمة لمحات فكرية وفلسفية أيضًا تقود إليها القراءة المتعمقة للرواية، بما تحويه من دلالات وتأويلات وإحالات وإشارات، فالحالة الأسرية المتجمّدة التي تصوّرها الرواية هي وجه من وجوه المادية المهيمنة على الحياة، حيث تحوّلت الجلسات العائلية إلى أوقات للصمت والبرودة والعزلة والشتات، فيما يتبدد العمر في اللهاث والتنقل من صفقة إلى أخرى، ومزاد إلى آخر، وسفر وراء سفر.

ومع كل مكسب مالي هشّ، يتكبد الرابحون الوهميون خسائر جوهرية أعظم، لكنهم يكتشفونها متأخرًا بعد فوات الأوان. وتأتي النهاية المأساوية بمصرع الابن أحمد، لتؤكد أن احتضان الأب المتأخر له لا يفيد بشيء، حيث إن السن الحرجة هي التي كانت أولى بالرعاية والاهتمام؛ للحماية من براثن الجماعات المتطرفة التي تعرف كيف تدس السم في العسل، وتستقطب الناشئة، وتشحن عقولهم بالأفكار الظلامية.