«موت منظم» لأحمد مجدي همام حوارية الماضي والحاضر وفن تقشير الذوات

«موت منظم» لأحمد مجدي همام

حوارية الماضي والحاضر وفن تقشير الذوات

أحمد مجدي همام

يقف القاص والروائي المصري أحمد مجدي همام، في روايته «موت منظم»، الصادرة مؤخرًا؛ عن دار هاشيت أنطوانيت في بيروت؛ على حافة موضوع القهر والاستبداد المجتمعي للأقليات العرقية والدينية. بين يوميات عبد الرحمن، التي تبدأ من ديسمبر 2015م حتى ديسمبر 2016م، ويوميات ماجدة، غير معلومة التاريخ، ننتقل من خاص حياة السيدة المضطهدة بسبب اختلافها العرقي والديني، إلى العام عن اضطهاد الأرمن وتعذيبهم ومطاردتهم في البلاد التي فروا إليها، من خلال جد ماجدة، آرام سيمونيان، ومذكراته التي ترافقنا بين حين وآخر داخل الرواية.

«كانت ثورة أبو سيد، وأم سيد مستمرة، ومشروع إمبراطوريتهما الصغيرة يتوسع. الكشك احتضن عن يمينه سبرتاية شاي تحولت في أيام قليلة إلى نصبة ومجموعة من الكراسي الرخيصة، وعن يساره استضاف الإمبراطور عربة معدنية لتجهيز الساندوتشات».

تشير ماجدة في يومياتها أنها لمست تغيرات في مجتمع حيها الصغير من بعد 30 يونيو، وشبهت ظهور «أبو سيد» وزوجته كطبقة اجتماعية طفيلية، لا يحكمها نظام، ولا تُقِيم اعتبارات أو حدودًا شخصيةً بينها وبين الآخرين، بالثورة الصغيرة الأرضية. وهذا ما تؤكده يوميات عبدالرحمن أيضًا، حيث تصبح أسرة أبي سيد مجرد نموذج لشريحة اجتماعية، لا تقبل بالعيش مع من يختلف معها، بل تسعى طوال الوقت لممارسة القوة لفرض ثقافتها، وأسلوب حياتها على من حولها، من خلال إزالة الحدود الخاصة. تقول ماجدة: «رجعت مرة من أرمينيا لأجد باب الشقة مكسورًا ومقفولًا بترباس لا أملك له مفتاحًا، أم سيد صعدت ورائي وشرحت أن أرضية الشقة نشعت بالمياه عليهم، فاضطروا إلى كسر الباب، ونزحوا الماء، وأحكموا إغلاق المحابس والصنابير، ثم ركبوا قفلًا بديلًا من الذي كسروه».

أسلوب اليوميات

تنهض بنية الرواية على أسلوب اليوميات والمذكرات، موزعة على صوتين رئيسين: يوميات الصحفي الشاب عبدالرحمن. ويوميات السيدة الأرمينية ماجدة سيمونيان. وكلا الصوتين يهتم بسرد وتحليل الحاضر حسب وجهة نظره وأدواته. فعبدالرحمن، صحفي، فضولي، متطفل، يمتلك من الكياسة ما يمكنه من اقتحام الآخرين ودس أنفه في تفاصيل حياتهم، ولديه ولع بالتوثيق والسرد المعلوماتي، وطرح افتراضات قد تبدو ساذجة أحيانًا. أما ماجدة فهي وحيدة تشعر طوال الوقت أن العالم كله مشغول بالتآمر عليها وإزعاجها، بسبب اختلافها العرقي والديني، فهي تنحدر من أصول أرمينية، وتخلط ما عايشه الأرمنيون من اضطهاد عام في الماضي، بما تعانيه في الحاضر، وسط «أم سيد» وزوجها وجماعة من الرعاع على حد وصفها.

يضيف أحمد مجدي همام، في رواية «موت منظم» لتقنية اليوميات تماسكًا دراميًّا غير معتاد عند كتاب هذه التقنية، ساعد على إبراز ذوات الشخصيات، وتأكيد الطابع الأناني لها عبر جعل أناها مركزًا للعالم. ومع تدخل صوت الجد من خلال المذكرات ليروي لنا الماضي البعيد، تغدو هذه الكتابة كأنها أقرب ما يكون إلى التحقيق الجنائي.

بنية التوثيق وتخييل التاريخ

في القسم المعنون بـ«ربيع في القوقاز»، ينتقل عبدالرحمن من مصر إلى أرمينيا؛ لأن ماجدة رشحته لحضور مؤتمر لإحياء ذكرى الإبادة في العاصمة الأرمينية بريفيان. ونكتشف مع يومياته عن الأيام التي قضاها في أرمينيا، أننا بصدد التعرف إلى ما أصبح عليه الأرمينيون بعد مئة عام من الاضطهاد والتشريد. فنتعرف إلى أنواع الطعام، والمظاهر المميزة للحياة، ومدى كراهيتهم لكل ما يمتّ بِصِلة للثقافة التركية. وهكذا ينتقل عبدالرحمن من الخط الرئيس وهو استكشاف ماجدة وماضيها، إلى استكشاف حاضر الأرمن وواقعهم. ولكن هل هذا الحدث الدرامي طور شيئًا في الصراع الدرامي الرئيس، أم إنه حدث مُفتعل في سبيل الولع بالتوثيق؟

تنهض الرواية على تاريخ متخيل عن الأرمن واضطهادهم في الحاضر في ظل الظروف السياسية التي تمر بها مصر. ويتطرق الكاتب من خلال ماجدة وآرمن والجد، ومشاهدات عبدالرحمن في أرمينيا، إلى إلقاء الضوء على خطوط من تاريخ الإبادة العرقية الممنهجة من جانب الأتراك للشعب الأرميني، وتنوع أساليب التهجير القسري، مثل الترحيل، أو إعادة التوطين، والترهيب، إضافة إلى الاغتصاب والإبادة الجماعية.

يعتمد الكاتب بشكل كبير على توثيق ماضي الأرمن وتضفيره في قالب درامي مشوق، ويبلغ الصراع الدرامي توهجه في أعلى نقطة عند ماجدة سيمونيان؛ لأنها ذات خالصة تستطيع البوح بمخاوفها، وآلامها، ومشاعرها العاطفية المختلطة. ويعتمد الأسلوب عامة، على الاهتمام بالظاهر المحسوس، في لغة بسيطة مطعمة بمفردات عامية، تتعمد الاقتراب من المستوى التداولي خاصة مع ظهور صوت «آرمن».

يبرع أحمد مجدي همام في تصميم فضاء متجانس من الحقائق والتصورات المتخيلة، عبر استخدام تقنية تضمين الوثائق، وهو ما يساهم في كسر الإيهام وخلق المفارقات. ومع تناوب الفصول، ينشأ الفارق بين أصوات الساردين، عبدالرحمن المشغول بالبحث ورصد المشكلة من الخارج، وماجدة التي تخبرنا عن العام من خلال الشخصي في حياتها، وآرمن والجد يدركان عن العام والخاص، أكثر مما يدرك عبدالرحمن أو ماجدة، ومعهما نرى الأحداث من زاوية أكثر وضوحًا. وعندما يعدد آرمن أسباب رحيله عن البلاد تاركًا زوجته وأولاده، يشير إلى تدهور الأحوال الاقتصادية، وبزوغ نزعات التطرف والعنف والاضطهاد الديني بعد اغتيال الرئيس السادات، ويقول: «الهجرة الطوعية أحسن من النفي وأحسن من القتل. البلد ربّت ذقنها». وهو ما يتماس مع وعي الجد الأكبر الذي أجبر على الهجرة؛ بسبب اضطهاد عام أكبر في الماضي على يد الأتراك.

ويساهم ظهور صوت آرمن تحديدًا، في تسريع سير أحداث الرواية نحو نهايتها التي يتأسس لها منذ البداية، وهي أن الآخر الذي يختلف عرقيًّا أو دينيًّا، غير مُرحَّب به من جانب الطبقات الجديدة التي بدأت تتكون منذ السبعينيات. ونلحظ ذلك من الوثائقيات التي استخدمت عن حوادث تفجير الكنائس حتى انتهى الأمر بوقوع ماجدة ضحية لإحدى تلك التفجيرات الإرهابية.

ويساهم استخدام المخطوطات الوثائقية في خلط الواقعي بالمتخيل، ويصبح استخلاص الحقائق في هذه الرواية ضربًا من المستحيل؛ ذلك لأن هذه الطريقة في كتابة الرواية الوثائقية لا تعتمد على مادة تاريخية أصيلة ولكنها تعرضها من خلال تقنيات وأدوات تعبير مبتكرة، تساهم في دعم أو تسليط الضوء على وجهة نظر في التاريخ تختلف عادة عن المعروف بالبداهة للجميع. وهكذا يصبح ما نتعرض إليه بوصفه وقائع داخل النص مبنى مُتخيّلًا بالكامل، تؤكده عمليات الانتقاء المستمرة من الوقائع والوثائق المتاحة.