بينا باوش عرَّابة التطوير في مسرح الرقص الحديث يخلو مسرحها التعبيري من الأيديولوجيا ولغتها الحركية وسيط بين الثقافات

بينا باوش عرَّابة التطوير في مسرح الرقص الحديث يخلو مسرحها التعبيري من الأيديولوجيا

ولغتها الحركية وسيط بين الثقافات

كانت «بينا باوش»، وما زالت، الراقصة التعبيرية ومصممة الرقصات الأكثر إثارة للجدل في عصرها، وربما حتى وقتنا الحالي. اعتُبِرَت أعمالها استمرارًا للحركات التعبيرية الأوروبية والأميركية، وكان لأسلوبها الأدائي والفلسفي حركيًّا، تأثير في الرقص الحديث منذ عام 1970م حتى الآن. وُلِدَت بينا باوش في 27 يوليو 1940م في سولنغن بألمانيا، وكان والداها يمتلكان مطعمًا وفندقًا صغيرًا. أما بينا فكانت هذه مرحلة مهمة في تطورها، في هذا الوقت؛ فقد جعلها اتصالها اليومي بالمطعم ونزلاء الفندق في حالة مراقبة شغوفة للناس، وبما أنها كانت شخصية متعاطفة بطبيعتها، فقد بدأت أيضًا في فهم دوافع الناس الشعورية والسلوكية.

خاضَت بينا أولى تجاربها في الرقص مع رقص باليه الأطفال في سولنغن، ثم في الرابعة عشرة من عمرها، بدأت في تعلم الرقص الاحترافي للباليه في أكاديمية «فولكوانغ» في «إيسن»، تحت إشراف «كورت جوس». كان مُعلمها جوس، شخصية مهمة في عالم الرقص الألماني الحديث، قبل وبعد الحرب العالمية الثانية، وهو عقلية ليبرالية، كما يتضح من عرضه «الطاولة الخضراء» الذي أظهر فيه اتجاهه المناهِض للحرب، وكان من أسلوبه دمج الباليه الكلاسيكي بالمسرح، وبالتأكيد كان لنهجه الفني والإنساني تأثيرٌ كبيرٌ في تطوُّر بينا، التي كان تحرير نفسها من «أغلال» الباليه الكلاسيكي، على حد تعبيرها، هو الأكثر أهمية. ومع ذلك فقد كانت تحترم البنى الأساسية لقواعد الباليه، كما تعلمتها تحت إشراف جوس، بينما كانت تغامر في الوقت نفسه في المساحات غير المُكتشفة من الحرية الإبداعية داخل إطاره الفني(١).

الفن وسيلة للنقد

في أكاديمية فولكوانغ، وضع جميع الفنون الإبداعية تحت سقفٍ واحد، الرقص والأوبرا والموسيقا والدراما، والنحت والرسم والتصوير والتصميم وغيرها كثير، وقد وجدت بينا في هذا المحيط، كثيرًا من الإلهام الذي استخدمته لاحقًا في عملها مصممة رقصات تعبيرية.

بعد تخرجها في عام 1958م، حصلت على منحة دراسية، لمواصلة دراستها في مدرسة «جوليارد» في نيويورك. كان من معلميها أسماء كبيرة في قائمة مدربي الرقص الكبار، وهو ما ساهَم في صقل موهبتها. كما كان لقدرتها على تصميم الحركة وليس الرقص فقط، فرصة كبيرة لها للتعبير عن نفسها، وامتدت قدرتها على قيادة موهبتها الخاصة إلى مسؤولية إدارة هذه الشركة عام 1968م، وبعد أن بدأت في أول تعامل مع مسرح «فوبرتال»- في عام 1971م، عند دعوتها لإنشاء فرقة باليه فوبرتال- أصبحت مديرة مسرح فوبرتال بعدها بعامين في عام 1973م.

ومن ثم أسست مسرح «تانز» في مدينة «فوبرتال» بألمانيا، وأدارته لأكثر من 35 عامًا. في هذا الوقت قدمت أكثر من 40 عرضًا، سافر العديد منها في جميع أنحاء العالم(٢). غالبًا ما استخدمت أفكارًا وأدوات تبدو غريبة ومستحيلة لتوضيح وجهة نظرها بصريًّا، كما هو الحال في نسختها الدرامية جدًّا من باليه «طقوس الربيع»، الذي قدمته في وقت مبكر من رحلتها الفنية عام 1975م. في هذه القطعة غطَّت المرحلة بأكملها بالتربة الرطبة حتى لا يرى الجمهور ويسمع فحسب، بل ليشم أيضًا رائحة الأرض التي تميز بها موضوع هذا العمل. بينما كان الراقصون ينبضون ويلهثون بصوت مسموع بين الأوساخ، أصبحت التربة جزءًا من أجسادهم، وأصبح الخث متشابكًا في شعرهم وعرقهم(٣)، وذلك لتجعل الجمهور في الصالة يتحد بقدر الإمكان مع حالة الإناث المذعورات، والعذراء التي تنتظر ذبحها، من أجل الأعمال التنفيذية لطقس يستدعي حلول الربيع على الأرض، حتى تتحد حواس المتفرج بالتراب، الممتزج بالحقيقة الوحشية التي ندفعها مقابل الحياة بالموت.

وسرعان ما بدا في أعمالها قناعتها الشخصية بأنَّ الفن وسيلة للنقد الاجتماعي، وليس مجرد وسيلة لتجميل الحياة؛ لذا لم تكن قط مهتمة برواية قصة درامية، بل عبَّرَت عن تجارب الإنسان الحياتية والنفسية بتكنيك خاص بها، وتمنحه حالة اجتماعية وربما سياسية، وقد كان أسلوبها في تصميم الرقصات نفسيًّا ويخرج من عمق كيانها هي وراقصوها، حيث أرادت بينا من المتفرجين أن يفكروا فيما رأوه وسمعوه، ليتوصلوا إلى استنتاجاتهم الخاصة بهم في حياة كل منهم.

كما أدانت في أعمالها بوضوح العديد من مظالم الحياة، وبخاصة تلك التي تتعرض لها النساء على خشبة المسرح، فقد كانت تهتم بقضايا المرأة، وتستعرض معاناتها بكل وضوح صادم!

وكان من أهم ما تميز به النهج الفني لبينا، هو بحثها في أعماق النفس البشرية لا التصميم الحركي لإظهار تناغم الجسد مع النغمة وحسب. فكانت كما قالت: «لست مهتمة بكيفية تحرُّك الناس ولكن بما يحركهم»؛ لذا كانت تبدأ التدريبات بطرح أسئلة محددة على الراقصين: حول ذكرياتهم وحياتهم اليومية، وكانت تطلب منهم تمثيل الذكريات، كما كانت تحثُّهم على الحركة من خلال مطالبتهم بالتعمُّق في تجاربهم السابقة، باستخدام حافزات نفسية مثل، «أرني في الحركة ذكرى المرة الأولى التي ضحكت فيها بشدة»، أو «كيف تتصرف إذا فقدت شيئًا ما؟»، كما كان أحد الموضوعات في عملها هو العلاقات البشرية وتأثيرها في النفس والسلوك.

رقص يصدر من القلب

كان لديها عملية محددة جدًّا، وهي تخليق مشاعر واستحضار انفعالات في صورة ارتجالات حركية للراقصين، وذلك بتذكيرهم بتجاربهم المؤثرة الخاصة، بطرح أسئلة حول الوالدين، والطفولة، والمشاعر في مواقف معينة، واستخدام الأشياء، والكراهية، والإصابات، والتطلعات، ثم تطوُّر ردود الراقصين من إيماءات وجمل وحوارات إلى تصميم الرقصات، من خلال رفض تقنيات الرقص التقليدية. كانت قادرة على التقاط تعقيد الذات، والتقاط تلك التفاصيل النفسية الدفينة من الراقصين، وتُنشئ من ردودهم أعمالًا درامية صغيرة يتكون منها العمل الكلي، غالبًا ما كانت تتسم بأفكار ومشاعر قاسية، مثل: الإحباط والعزلة والقسوة والألم، ممتزجة بالفكاهة أحيانًا. فبحسب قولها: «أنا أبحث عن شيء آخر، إمكانية جعلهم يشعرون بما تعنيه كل إيماءة داخليًّا، كل شيء يجب أن يأتي من القلب»، وهذا ما انعكس فعليًّا في تدريباتها وأعمالها(٤).

فقد كانت تكفل للراقص الحرية في اختيار أي وضع تعبيري، سواء كان لفظيًّا أو جسديًّا عند الإجابة عن هذه الأسئلة، وبهذه الحرية يشعر الراقص بالأمان في التعمُّق في نفسه. عندئذٍ كان يتاح لها في الغالب، استكشاف موضوعات مرتبطة بالصدمات النفسية، ولا سيما الصدمة الناتجة عن العلاقات؛ لذلك جاءت تصميماتها الحركية صادقة وصادمة، وعُرِف رقصها، بأسلوب الرقص العميق والحدسي، فلطالما كانت استفزازية وغير تقليدية دائمًا، وقد كان هذا النهج الخام والإنساني في تصميمها للرقص، هو الدافع إلى الشهرة العالمية، وهو ما دفع كثيرين إلى رؤيتها على أنها «العرَّابة لمسرح الرقص الأوربي»، في مسيرتها المهنية التي استمرت نحو 40 عامًا.

لم تكن بينا تفعل ذلك مع الراقصين وحسب، فأول من نفذت عليه هذه الأيديولوجية الرقصية، كانت نفسها. نلحظ ذلك مثلًا في تأثير تجربتها المبكرة للحرب، التي انعكست في تصميماتها الحركية، وهو ما يتضح في نوبات الذعر المفاجئة والخوف من خطر غير مسمى، كما نجدها قد استندت في أحد أهم أعمالها المبكرة «كافي موللر» 1978م، إلى ذكريات نشأتها في المطعم والفندق الذي كان يديره والداها، فلقد كانت أول من يعكس خبراته الشخصية والنفسية في أعمالها، وقد عبَّرت عن الأبعاد النفسية للراقصين بتصميم حركي، بجعلهم يتحركون وأعينهم مغلقة، وهو ما جعلهم يتعثرون حول المسرح ويصطدمون بالطاولات والكراسي(٥).

ولكن كان لبصمة بينا الفنية تكلفة، فبحسب قولها: «أنا لست تلميذة لأحد»، كانت تبحث عن لغاتها الخاصة باستمرار وتعتمد عليها دائمًا، مؤكدة ذلك في توضيح إستراتيجيتها الفنية قائلة: «لم أكن أريد أن أقلِّد أحدًا، ولم أكن أريد استخدام أية حركة مألوفة أعرفها». وقد أحدث ذلك انقسامًا بين الجمهور في رد فعله على عروضها الصادمة والمثيرة للجدل، وكذلك النقاد أيضًا، فمنهم من رأى أنَّ عروضها تتسم بالسريالية الكئيبة والفجَّة أحيانًا، ومنهم من وجَد فيها ثورة نفسية وفنية كبيرة، كما كتب عنها الكاتب المسرحي هاينر مولر: «لأول مرة أرى عروضًا مسكونة بالتراجيديات، وهو ما لم نعد نراه على خشبة المسرح الناطق، لقد وجدت نفسي فجأة أمام مسرح من دون نص، وهذا ما أثّر فيّ تأثيرًا كبيرًا»(٦).

انطلقت أعمال بينا الابتكارية بلا توقف، وبعد أن كان مسرح «تانز فوبرتال» مثيرًا للجدل في البداية، إلا أنَّه في النهاية تطوَّر إلى مسرح عالمي، يمكنه دمج جميع الألوان الثقافية، ويعامِل كل شخص بالاحترام نفسه، واستطاع أن يحقق العديد من الإنتاجات المشتركة الدولية.

مخالفة القواعد والتوقعات

لقد اقتحمت بينا أبعادًا فنية، باحثةً عن شفرات لغة مفقودة بين البشر، فتجدها وتستعرضها بلغاتها الإنسانية الإبداعية الخاصة. قالت بينا: «يكاد يكون من غير المهم أن يجد العمل جمهورًا متفهمًا»!(٧). وفعليًّا، هذا لم يكن من اهتماماتها الأولى، ولا من دوافعها الأساسية لممارسة هذا الفن وتلقينه، فقد كانت تُعبّر عن الناس من خلال الرقص، وتدوِّن على صفحات المسرح، القصص الحياتية والنفسية الخاصة لها ولراقصيها، متقصدة من ذلك فتح مجال للتعبير، أكثر حرية من القواعد الكلاسيكية المعروفة للباليه، أو لتوقعات الجمهور الكلاسيكي في الاستقبال الفني والنفسي.

وعلى الرغم من أنَّ بينا باوش كانت مثيرة للجدل في البداية، فإن فنها وفرقتها حققا تدريجيًّا اعترافًا دوليًّا، فقد كانت رسالتها الإنسانية هي أن تدعو الجمهور إلى تحقيق السلام مع النفس والحياة، والثقة في شجاعتهم للاستمرار في العيش وقوتهم الخاصة. وقد كانت لغتها الحركية بمنزلة وسيط بين الثقافات، ورسول للحرية والتفاهم المتبادل. يخلو مسرح بينا التعبيري من التوجُّهات الأيديولوجية والعقائدية، فهو ينظر إلى العالم بأقل قدر ممكن من التحيُّز، ويعترف بفرص الحياة لجميع أطياف البشر، لذلك مع الوقت، لم يُقدَّر فنها في جميع أنحاء العالم وحسب، بل أحدث ثورة دولية في تصميم الرقصات التعبيرية.

غادرت بينا باوش عالمنا في 30 يونيو 2009م، تاركة إرثًا فنيًّا وإنسانيًّا ثمينًا، يُتوَّج بذكرها كواحدة من أهم مصممي الرقصات في القرن العشرين، ومن أقوى المؤثرين في تطوُّر فن الرقص الحديث، الذي اتسم ببصمتها فيما بعد، في أوربا والعالم كله.


هوامش:

(١) Liam Klenk – TAL Official , “Pina Bausch, Legendary German Dancer and Choreographer”, 11 July 2021.

(٢) “A brief biography – Pina Bausch was director of the Tanztheater Wuppertal for over 35 years”, (SADL ERSW ELLS).

(٣) “Pina Bausch”, (Biography).

(٤) Alice Finney, “How choreographer Pina Bausch revolutionised modern dance”, (SLEEK), 28 June 2019.

(٥) Daniel J.Wakin, “Pina Bausch, German Choreographer, Dies at 68”, (The New York Times), 30 June 2009.

(٦) بينا باوش ـ أسطورة المسرح التعبيري الراقص، (D W Learn German).

(٧) “Pina Bausch”, (WIKIPEDIA).

رقص البوتو الياباني ابن القنبلة الهيروشيمية

رقص البوتو الياباني ابن القنبلة الهيروشيمية

نحن بصدد فنٍّ قاسٍ، صفعة إبداعية عنيفة على وجه الاعتداء المخيف على الإنسانية، في الحرب العالمية عامة، وقنبلتي ناغازاكي وهيروشيما خاصة، اللتين كونتا بانوراما للألم والفزع الإنساني، الذي ربما يكون لا نظير له في العصر الحديث، وكان من أهم آثارهما الصدمة المفجعة التي اقتحمت نفسية الشعب الياباني، وأنهكته حتى تشكَّل في الاحتياج التعبيري الياباني رقص «البوتو»، كصرخة معبرة عن الاحتجاج على الوقائع القبيحة التي شوَّهت الإنسان، لتعكس معاناته، تعبيريًّا، في مشاعره وأفكاره ويومياته، مُحرِّرة ذاته من الحدود البشرية إلى التماهي مع الطبيعة ككل، مستخدمة الجسد كمرآة تستحضر ما في النفس والروح من أحاسيس وتطلعات معنوية.

نشأة البوتو وانتشاره

تاتسومي هيجيكاتا

نشأ رقص البوتو في اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، في سنة 1959م تقريبًا، كان يُطلق عليه في الأصل اسم Ankoku Butoh، أي رقصة الظلام، والراقص ومصمم الحركات «تاتسومي هيجيكاتا»، هو المؤسس لهذا النوع من الرقص، وساعده في ذلك الراقص «كاهنو أوهنو». ولد الـ«بوتو» من الاضطرابات والفوضى السياسية والاجتماعية، التي أدت إلى فقدان الهوية اليابانية، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، التي دفعتهم إلى إعادة فحص ثقافتهم، وإنشاء نوع أصلي حديث من الرقص للتعبير عنهم، بهدف تخليق التغيير في الرقص الياباني، الذي كان يعيش في تلك المدة حالة من التبعية والتقليد للغرب، وأساليب أدائه التقليدية، من دون ابتكار أو إبداع محلي، حيث دخل الرقص المعاصر اليابان، من أوربا، وبخاصة فرنسا(١)، بعد الحرب العالمية الثانية، وكان يؤدَّى بطريقته وتصميماته الحركية الخاصة بمكان نشأته، ومدرسته الأوربية؛ لذلك أصرّ هيجيكاتا على الابتعاد من الرقص الغربي التعبيري الدخيل بحركاته المحفوظة، وخلَقَ إبداعًا جماليًّا جديدًا يشمل حركات أدائية عدة مختلفة، مثل استخدام الجلوس على الأرض في وضع القرفصاء، إضافة إلى حركات طبيعية لعامة الناس، ليحفظ خصوصية التعبير عن التفاصيل البسيطة والمعقدة للإنسانية اليابانية، حالتها ومشكلاتها، وتطلعاتها الخاصة التي تمثلها هي، من دون استخدام الأنماط الحركية الخاصة بالرقص المعاصر الأوربي، حيث كان الشعب الياباني يشعر بالغصة والامتهان، وجاء البوتو فى وقته نوعًا من الاحتجاج على الحداثة واللعنة الغربية، التي التهمت تقاليد البلاد وأدت إلى تلاشي القيم اليابانية.

لقد رفض هيجيكاتا الأفكار الغربية للرقص، في محاولة لاستعادة الجسد الياباني الأصلي، الذي تعرض لسرقة هويته، في عملية التنشئة الاجتماعية والتحديث والتغريب والأمركة، وكان أول مصمم رقصات معاصر يؤكد اللياقة البدنية والحركات الطبيعية لأبناء بلده، من خلال العمل مع الصور والذاكرة الموجودة في الجسد، فحاول هيجيكاتا إحياء وعي الجسد الياباني، والجسد في معاني هيجيكاتا، هو الجسد الذي يجلس على الأرض، وينام على حصيرة، ويعمل في حقول الأرز الموحلة.

ابتكر هيجيكاتا ومعاونوه رقصًا تعبيريًّا يعكس الاكتئاب والدمار، وفقدان الهوية التي عاناها هو وفنانون آخرون، وتميزت تجربته بعفوية جريئة، تحمل روحًا معادية للجماليات النمطية للرقص، يكون فيه الجسم وعاءً، ليتحول باستمرار إلى تجسيدات مستوحاة من صور الطبيعة، فالبوتو هو عملية تنطوي على جمع جوهر الطبيعة، وجسم الإنسان نفسه الذي هو جزء من الطبيعة، حيث اكتشف «هيجيكاتا»، خلال رحلة بحثه النفسية الفنية، فرصة واسعة للتعبير الرمزي عن الإنسان، وتشابك ما في نفسه مع الطبيعة النقية من حوله، والتحول إلى حالات أخرى من الوجود، فلقد توصل لقدرة التعبير على تجسيد رمزية التراب أو الحيوانات أو الأرواح، للبوح بفكرة فلسفية خاصة بالعرض، فالبوتو بمساحته الواسعة غير المحدودة الحركات وتكوين الأشكال، تساعد المؤدي على التعبير المعنوي بجسده ماديًّا، عن أي تشكيل رمزي أو فكر فلسفي في الحياة. إنه وفاء للطبيعة بعد معركة هائلة من سفح الدماء على وجه الأرض، وهو تعبير للتضامن معها والالتصاق بها، والاتحاد مع فطرتها البريئة مع إظهار كم الألم والفجيعة التي يشعر بها الإنسان، والقبح الذي يحياه(٢).

ويُعبِّر البوتو بعنف عن الصراع الداخلي للإنسان، وثورته العارمة وغضبه المتمرد، ويرافق هذه المشاعر الحادة الاحتياج إلى الحب والتعبير عنه، إن هذا هو ما يتدفق من خلال عارضي البوتو، فهو صراع ضد التيار السائد، وصراع الإنسان ضد نفسه. إنه حالة من الدادئية والأناركية، فهو كتكوين فني وشكلي يبدو مستفزًّا، ولكنه يدعو إلى التفكير، أكثر من كونه رقصًا مبهجًا أو ترفيهيًّا؛ حيث إنَّ منبع تعابير وحركات البوتو، هي الحياة المكثفة المفعمة بالحقائق المؤلمة، وما كان من وجود وهدف هذا الفن، إلا التعبير عنها كما هي، بلا تجمل، فهو يرى أنَّ فنان البوتو، هو بمنزلة طفل في لحظة ولادته الأولى، بدمائه التي ما زالت على وجهه، بمفاجأته بالحياة وصدام وجوده مع وجودها، فهو يرينا الجانب المظلم من الحياة، الذي نتحاشى أن نواجهه خاصة في الفن، لهذا فهو يختلف عن فلسفة الفنون الراقصة الأخرى؛ لأنَّه يستعرض بكل جرأة حالة التنافر والألم والكره والقبح، لذلك كان هذا الفن صادمًا وما زال(٣).

إن تلك المواجهة العارية من التجمل مع الألم الإنساني وقبحه هي ما تجعل من صدقه اللاذع جمالًا في حد ذاته، وهذا لأنه فن لا يتطلع إلى المثالية الجمالية، فهو يكشف عن أفراح وأحزان الحياة، ويستكشف أهم عناصر الوجود الإنساني الجسدي والنفسي؛ لذلك هو يتجاوز حدود ثقافات معينة، حيث يقدم تعبيرًا عالميًّا يمس روح الإنسانية، كما أنه يتجاوز الحدود بين الرقص والمسرح، وهو ما يخلق شكلًا فريدًا من أشكال التعبير.

وبسبب هذا الاختلاف الجوهري لمنطق التعبير في فن البوتو، كان يُنظَر إليه باشمئزاز وإحراج في وقت مبكر، من جانب عالم الرقص الياباني المحافظ في السبعينيات، وتعرض لحالة من العزلة، ولكنه أصبح أكثر قبولًا بحلول الثمانينيات، وقد بشَّر به العديد من النقاد لكونه الشكل الياباني الحقيقي والوحيد للرقص الحديث.

وللسبب نفسه، نجد أنَّه على الرغم من كونه فنًّا محليًّا، شديد الخصوصية بيابانيته، فإنه استطاع أن يبني اسمًا وشهرة خارجها على نطاق واسع، فحين ترى البوتو تكتشف الحركات المكهرَبة، وجذور حركات المشي الآلي الذي اخترق به مايكل جاكسون قلوب عشاقه، وفي حين ابتُدِع هذا الفن ليواجه رقص الباليه والكلاسيكيات الغربية، لم ينغلق على نفسه، وربما هنا يكمن سر صلابته، فقد بات الـ«بوتو» بفعل شراسة راقصيه، أكثر شهرة خارج اليابان مما هو داخلها.

من هنا نفهم قوة البوتو الذي أثبت قدرته على الاختراق، ليس فقط لجمالياته التي يصعب إنكارها، ولكن لما لراقصيه من قدرة على الإبهار، فهو رقص يستدعي الشغل على الذات والنحت في العضلات، والقسوة الشديدة في التمارين، وهذا كله يحتاج إرادة فولاذية، وإيمانًا بالنفس وطاقاتها المتأهبة للتفجر.

ولقد شهدت بداية الثمانينيات نهضة فنية لفن البوتو، حيث شمل التوسع والشهرة خارج اليابان للمرة الأولى، كما قام العديد من الشتات الياباني، مثل الكنديين اليابانيين وغيرهم، بدمج البوتو في رقصهم. كما نال شهرة خاصة في أميركا، خلال أحد عروض فرقة الرقص «سانكاي جوكو» بواشنطن في الثمانينيات، حيث تُوُفِّي أحد الفنانين جراء قطع أحد الحبال، في أثناء تقديم العرض وهو معلقُ الرأس على عقب من أحد المباني، وهكذا اكتسح الخبر جميع وسائل الإعلام وزادت شهرة البوتو في أميركا، وكذلك ساهم الفِلْم الوثائقي للـ«بي.بي.أس»، الذي أظهر تأدية لفن الـ«بوتو» في كهف من دون جمهور، في زيادة شهرة الرقصة في أميركا(٤).

سايوكو أونيشي

ولقد أسست راقصة البوتو «سايوكو أونيشي» في عام 2000م، أكاديمية الـ«بوتو» الدولية في باليرمو بإيطاليا، ويُنسب الفضل إلى سايوكو أونيشي ويوشيتو أونو لكونهما أول مصممي رقصات بوتو يقدمان فيها أسلوب بوتو جديد، وقد غُيّر اسم الأكاديمية إلى مدرسة البوتو الجديد في عام 2007م، وفي عام 2018م، أنشئت مدرسة البوتو الجديد في روفو دي بوليا بإيطاليا(٥). ومن ثم استطاع أن يتجول في العالم كله، وينشر فيه اسمه وفلسفته الخاصة به.

فلسفة السمات الفنية للبوتو

يتسم هذا الفن بالبطء الشديد لإيقاع حركة الجسد، وكذلك القسوة المفرطة في تجسيد الرمزيات والإيماءات، وهاتان السمتان هما أهم عناصر رقص البوتو، التي نجحت نجاحًا مبهرًا في تحطيم كل عائق، وُضِع أمام تقديم فِكره الجديد، كما نجحت فى إعلان الرفض الصارخ للنمطية والقيود.

لا تُقيَّد عروض البوتو بالتقديم في مسرح، بل تظهر غالبًا في المناطق التي تحتوي ظروفًا إنسانية صعبة، مثل البيئات القاسية ككهف من دون جمهور أو مقبرة يابانية نائية، أو أن يعلق الراقصين بحبال من ناطحات سحاب في واشنطن، ولا يُقيَّد عرضه بمدة محدد للتقديم. كما يتميز هذا الفن بطلاء الجسم بالكامل (باللون الأبيض أو الأسود أو الذهبي)، إضافة إلى الصلع والأزياء الغريبة والمخالب وأسلوب الصراخ الصامت.

إنَّ طلاء الوجه باللون الأبيض، أشبه بحالة من العزلة للفنان الذي يحصر كيانه في أداء البوتو، ليتوحد مع ما بداخله وينصت إلى صراخ أعماقه بوضوح، حتى يتمكن من ضخه إلى الخارج. فهذا الطلاء بالنسبة لراقص البوتو، هو بمنزلة تحول عن شكله اليومي، لينحصر في حالة البوتو وحسب، حتى إنَّ هذه الدقائق التي يتوحد فيها مع البوتو، تغير من تركيزه وتفكيره عامة، شيئًا فشيئًا. فهو على خلاف فنون أدائية أخرى، لا يهتم الراقص بجسده بل لا يلتفت إليه، فهو حين يؤدي لا ينتبه حتى لدقات قلبه، بل يركِّز في إظهار انعكاس ما في أعماقه على هذا الجسد؛ لذا نستطيع أن نقول: إن الجسد في البوتو هو مجرد مرآة تعكس النفس والروح اللتين تسكنان هذا الجسم، لذلك من الممكن أن يبدو هذا النوع من الأداء، إلى بعض المتفرجين صادمًا، وليس غريبًا فحسب(٦).

أما سمات تدريبات البوتو، فأساساها هو الشدة والألم، فالألم والجوع والحرمان من النوم، كانت كلها جزءًا من الحياة التدريبية للبوتو تحت منهج هيجيكاتا، التي هي الأكثر تعقيدًا في ذلك الوقت، وربما حتى الآن طبقًا لبعض الآراء، وهي التي ساعدت الراقصين للوصول إلى نطاق حركات صعبة جدًّا وغريبة.

وبينما كانت نظرية هيجيكاتا تتمحور حول أن «الحياة مرتبطة بالشكل»، إلا أن «أوهنو» كان له نظرية أخرى، حيث يرى أنَّ «الشكل يأتي من تلقاء نفسه، فقط بقدر وجود محتوى روحي ليبدأ به»، وبين هذه النظرية وتلك، نجد أن البوتو يتميز بالتفرد في كل عرض على حدّ سواء؛ لأنه يعتمد على التعبير الخاص لكل مؤدٍّ، بعيدًا من القواعد الأدائية كما لأي رقصٍ آخر، فهو لا يهتم بقواعد أو سياق بدني، إنَّما يحصر كل تركيزه على تجسيد أمور معنوية، مادية أو غير ملموسة. فهذا الفن الحاد لا يتطلب جسدًا جميلًا، أو حركات لطيفة أو أزياء راقية، بل على خلاف السائد؛ لأن تأسيس هذا الفن يعتمد على الإيمان، بأن هذا النوع من الرقص هو تعبير عن الحياة، والحياة ليست جميلة دائمًا؛ لذا فهو فن غير مُقيَّد بمسرح، فهو يقدم في الشارع أو في مكان غير تقليدي للعروض. وفي هذا الصدد نجد مقولة لراقصة البوتو «إيوانا ماساكي»، التي تبعد أعمالها كل البعد من تخطيط التصميم الحركي: «لم أسمع قط عن راقص بوتو يدخل منافسة، كل عرض في حد ذاته تعبير مطلق، لا يوجد ولا يمكن أن يوجد، ولا يمكن أن يكون في المرتبة الثانية أو الثالثة، لو رضي راقص البوتو بغير المطلق، فهو لم يرقص البوتو بالفعل، مثل الحياة نفسها، لا يمكن إعطاؤها ترتيبًا»(٧).

وبالفعل هناك العديد من أنماط البوتو، لذلك ليس من الغريب أن يظل من حيث التعريف كـ«السمكة الزلقة»، على الرغم من استمرار انتشاره في جميع أنحاء العالم، حيث يتشكل كل عرض من أسلوب الفنان الفردي، من خلال تجربته الشخصية في الحياة، المكوَّنة من الجنس والجنسية، والثقافة، واللياقة البدنية والعقلية، والتدريب الحركي، وغيرها من العناصر الشخصية جدًّا.

ففيه يُطلق العنان للجسد لانطلاق تعبيرات الروح والنفس من داخله، مهما كانت غرابتها وحدتها، وعلى المؤدي أن يكون أمينًا لهذا البوح الداخلي، أي يكون أمينًا مع نفسه ومع المتلقي، ليُخرِج بصمة تعبيرية خاصة به؛ لذلك ليست هنالك حركات محددة بهذا النوع من الفن مثل فنون الرقص الأخرى، بل هي حركات حرة من التعبير عن النفس وإطلاق العنان لصراخ اللاوعي، باستخدام حركات الجسد وتحريك ملامح الوجه. ففيه يمكن أن يُعبَّر عن أي شيء وبأي طريقة، فالبوتو لا يلتزم بقيود لقواعد أو أنماط حركية، ولكنه مساحة حرة من التفكير والشعور والأداء. إنه مساحة واسعة للارتجال، فالعاطفة هي الدفعة الأساسية للحركات في فن البوتو، وهي التي تتحكم في مفاتيح القرارات لراقص البوتو في أثناء عرضه؛ لذا فالحركات المنضبطة المحفوظة، ليست هي الأساس على الإطلاق، كما يُشترَط في أغلبية الفنون الأدائية الأخرى.

فكما سبق وذكرنا أن البوتو في حقيقته هو تعبير عن الحياة، وبهذا فإن تفاصيل الحياة ليست متشابهة، فكما أن مشاعر الإنسان ودواخله تختلف من الطفولة إلى المراهقة والكهولة، هكذا تفاصيل الإيماءات والحركات في البوتو، متغيرة وتُعبِّر عن التغيرات(٨).

الوجه الهيروشيمي للبوتو

إن رقص البوتو الياباني، وإن يبدو فنًّا قاسيًا وصادمًا، فهذا لأنه يعكس القسوة والصدمة التي تلقاها هذا الشعب، إثر الحرب العالمية، وما تضمنته من نتائج لبشاعة فعل القنبلة النووية على بلادهم، إنه فن خاص ويحمل فلسفة شديدة الخصوصية بتجربته في الحياة، ويعكس التأثير المفجع لهذه التجربة بكل مصداقية؛ لذا هو مؤلم ولاذع، فإن تأملت حركات وتعبيرات وجه الراقصين له، ستجدها خائفة مخيفة، وكأنها رد فعل لفعل وحشي حدث للتو، وتحمل تشابهًا كبيرًا مع تعبيرات المصابين جرّاء قنابل هيروشيما وناغازاكي، التي سجلتها الصور والأفلام الوثائقية، إنه فن يعكس بشفافية الشرخ الذي حدث في أرواحهم ونفوسهم، الذي وإن وجد صعبًا عنيفًا، إلا أنَّه ينال تقديرًا واحترامًا، لمجرد محاولته أن يكون مرآة صادقة، تعكس الآلام الدفينة، وتتمرد على مسبباتها، وتثور على فاعليها، فهو مطالبة بتحقيق العدل الإنساني والتوازن الطبيعي لعناصر الكون.

إنَّ فن البوتو أقوى مثال على أن الرقص لا يندرج عامةً تحت بند الترفيه أو البهجة، فهو أحد أنواع الرقص التي ما هي إلا ثورة وتمرد وبَوح تعبيري، عما تكنُّه النفس والروح، باستخدام وتطويع الجسد، وفي البوتو خاصةً الجسد ليس هو سيد العرض، بل ما هو مدفون داخل هذا الصرح، من معنويات عميقة وغامضة، فهو تحرك فلسفي مُجسَّم.


المراجع:

(1) “What is Butoh?” Gadu Doushin, “Subbody Resonance Butoh”, YouTube Channel.

(2) meanycenter.org, A History of Butoh.

(3) Dancing In Between – A Portrait Of Butoh With Tadashi Endo, “Camila Geoffroy” YouTube Channel.

(4) en.wikipedia.org, Butoh.

(5) www.newbutohschool.com.

(6) Dancing In Between – A Portrait Of Butoh With Tadashi Endo, “Camila Geoffroy” YouTube Channel.

(7) en.wikipedia.org, Butoh.

(8) Dancing In Between – A Portrait Of Butoh With Tadashi Endo, “Camila Geoffroy” YouTube Channel.