أليخاندرو سامبرا: أهتم، شأن أهل تشيلي، بالانتقال من الأكاذيب البيضاء، إلى تلك الأكاذيب الكبيرة، التي تحطمنا بصمت

أليخاندرو سامبرا: أهتم، شأن أهل تشيلي، بالانتقال من الأكاذيب البيضاء، إلى تلك الأكاذيب الكبيرة، التي تحطمنا بصمت

تضافرت عوامل عدة لتجعل من الروائي والشاعر أليخاندرو سامبرا واحدًا من أشهر كُتاب تشيلي المعاصرين. يُركز سامبرا في أعماله على ما هو إنساني، كما أنه يُزيل في أعماله الأدبية، وعلى نحو عمدي، الحدود بين الواقع والخيال. هناك شيء ما يُهيمن على أعمال سامبرا الروائية، إنه شيء بالغ المعاصرة، شيء يعبر الحدود بين الحميمية، والمجال العام، شيء يمزج بين تجربة الكتابة والحياة المعيشة. ليس من المهم هنا إن كانت أحداث روايته التي بين يديك قد وقعت أم لا، ذلك أننا جميعًا يمكننا أن نصبح شخوصًا في نصوصه. ويبدو أن سامبرا يود أن يخبرنا أن التصنيفات العتيقة من قبيل «هذا واقعي»، و«هذا خيالي»، هي تصنيفات عفا عليها الزمن. وهكذا نجد أن الشخصيات تدخل إلى العمل الأدبي، وتغادره، وتنتقل من موضوع لآخر، وتعود من الماضي إلى الحاضر، لكن هناك دائمًا أرضًا مشتركة تجمع بين كل ما يحدث، ويتمثل ذلك في الوعي الكامل للراوي بما يجري من أحداث.

بدأ أليخاندرو سامبرا حياته الأدبية شاعرًا في نهاية التسعينيات من القرن الماضي، ثم اتجه إلى الكتابة الصحفية والروائية، فضلًا عن العمل الأكاديمي حيث تولى التدريس في إحدى جامعات العاصمة سانتياغو دي تشيلي. تُرجمت أعمال سامبرا إلى أكثر من عشر لغات، كما ظهرت في طبعات عدة في تشيلي، والأرجنتين، وبيرو، وكولومبيا، والمكسيك، وألمانيا. حصل على جائزة النقاد في تشيلي عام 2007م، كما حصل على جائزة ألتاسور عام 2012م، فضلًا عن جائزة المجلس القومي للكتاب لأفضل عمل روائي عامي 2007م، و 2012م. حصل كذلك على جائزة (Pen) عن الترجمة الإنجليزية لروايته «أشكال العودة للمنزل». وفي هولندا حصل على جائزة الأمير كلاوس عن مجمل أعماله.

تلقائية الرواية الشجرة

يصنف الناقد الأدبي ويلفريدو كورال أعمال سامبرا بأنها تنتمي لأجناس أدبية مختلطة، حيث يمزج سامبرا بين الرواية بالمعنى الكلاسيكي للكلمة وأفكار ما بعد المعاصرة. أخذ أليخاندرو سامبرا، الذي أمضى طفولته إبان الحكم الدكتاتوري في تشيلي، العالم الأدبي على حين غرة بروايته الأولى «بونساي» (2006م). وحققت الرواية نجاحًا أدبيًّا منقطع النظير.

يروي سامبرا أحداث الرواية من خلال استعارة البونساي. والبونساي منمنمة لشجرة، أي شجرة مصغرة، يصل طولها إلى عشرين، أو ثلاثين، أو أربعين سنتيمترًا. يوضع أسلاك حول جذع الشجرة، وتُشذَّب أغصانها، ويُقَصّ بعض جذورها. وتعد النتيجة، مع ذلك، نوعًا مبهرًا من الجمال، وإن كان نوعًا من الجمال الممتزج بالقسوة. إن البونساي عمل حي من أعمال الفن. والواقع أن الرواية التي بين أيدينا تترك في القارئ أثرًا يشبه ذلك الأثر الذي تتركه فينا تلك الأشجار الصغيرة. ولعل منبع ذلك التأثير هو الاستخدام الفني لعناصر محدودة، كما أن الرواية لا تخلو من قسوة، وغموض، وغرابة. ويرى سامبرا أنه يمكن قراءة الرواية على أنها ملخص لرواية، تمامًا كالبونساي التي تُعَدّ ملخصًا لشجرة. يقول سامبرا: «تعد الرواية من الروايات التلقائية، وقد سيطرت على تفكيري لسنوات عدة. والواقع أن فكرة البونساي كانت في البداية فكرة سخيفة بالنسبة لي، لكن بفضلها ظهر كل شيء في هذه الرواية… لطالما كنت أهتم بالبونساي، وهي شجرة، لو تأملت في أمرها، لوجدت أنهه تُجْبَر على النمو على نحو ما… إنها تشبه تلك الأشجار التي كنا نلهو إلى جوارها في الميادين العامة في تشيلي في عهود الصبا».

وهكذا نجد أن تشيلي كانت دائمًا النقطة المرجعية في أعمال سامبرا، كما أنها كانت دائمًا المكان الذي يعود إليه. يقول سامبرا: «أهتم، مثلي في ذلك مثل أهل تشيلي، بذلك الانتقال من الأكاذيب البيضاء، إلى تلك الأكاذيب الكبيرة التي نعد نحن المسؤولون عنها، أو المتواطئون معها، حتى ينتهي الأمر أن تحطمنا تلك الأكاذيب بصمت. في هذه الرواية يكذب خوليو في البداية، فلم يحدث أن قرأ، أو قرأت صديقته، رواية بروست «البحث عن الزمن الضائع». لكنّ الاثنين يتظاهران بأنهما يعيدان قراءة الرواية التي يقرآنها في الحقيقة للمرة الأولى. ويدَّعي خوليو كذلك أنه يتولى كتابة مخطوطة أحد مشاهير الكتاب في تشيلي، لكنه في حقيقة الأمر يقوم بانتحالها».

إن سامبرا هو أولًا وأخيرًا قارئ نهم. ولعل مكانته الأدبية الراهنة ترجع إلى ذلك. ورواية «بونساي»، مثلها في ذلك مثل قصة «تانتاليا» تحمل في طياتها قدرًا كبيرًا من الشاعرية الأدبية… إنها نص شارح أو «ميتا نص» حيث يكمن جوهرها في الإحالة إلى الأدب ذاته. يقول سامبرا: «في هذه الرواية هناك رفض لفكرة معينة تتصل بالرواية… إنه رفض يحمل في طياته نوعًا من البحث. والواقع أني أدرك أن الكتابة هي، بشكل عام، نوع من البحث… في بعض الأعمال لا يوجد أي بحث، لكني لا أنتمي إلى مثل هذا التيار».

وعندما سأله أحد النقاد عن السخرية في أعماله، أجاب سامبرا قائلًا: «أعتقد أني أتسم بجدية كبيرة. أنا أتماهى في أعماقي مع ما ذهب إليه كويتزي الذي ذكر أنه يبحث في أعماله عن «نار الشعر»، وكان يعني بذلك العناية بالدقة، وبناء أعمال مستقلة ذاتيًّا. لكني في الوقت ذاته أعتقد أن إيماني بأن الأدب ليس بتلك الأهمية البالغة هو الذي حماني من الوقوع في فخ الجدية… في هذه الرواية هناك نوع من المفارقة، لكنها لا تصل إلى حد السخرية… إنها مفارقة صامتة إن أردت، أي أنها مفارقة تنبع من الملاحظة المحضة للحقائق… إنها تتضمن نوعًا من المحو لما يُقال».

وبعد أن حُوِّلت الرواية مؤخرًا إلى عمل سينمائي، قال سامبرا: «عندما علمت بتحويل العمل الأدبي إلى فِلْم سينمائي يحمل الاسم ذاته شعرت في البداية أن الكتاب سوف يفقد رونقه عن طريق إدخال ذلك البعد البصري إليه… والواقع أني لم أتدخل قط في العمل السينمائي، لكني أصبحت صديقًا لمخرج الفِلْم، وهو كريستيان خيمنيث؛ لأنه كان يأتي إليَّ من حين لآخر ليطرح بعض الأسئلة. لقد جاء ذات يوم إلى منزلي قائلًا: «أود التحدث عن موت إميليا». بدا لي الأمر كما لو أن محققًا من الشرطة قد جاء ليأخذ أقوالي في قضية قتل! لقد كنا نخرج معًا في أوقات المساء، ونحتسي قدحًا من الشاي، تمامًا كما كان خوليو يفعل في الرواية/ الفِلْم».

البطل شخصية ثانوية

في رواية «الحياة الخاصة للأشجار» يعود سامبرا إلى نقطة التقاطع بين الفن والحياة، حيث يقص خوليان على الفتاة الصغيرة قصة «الحياة الخاصة للأشجار»، وهي قصة اختلقها ليهدئ من روعها لتخلد للنوم، على حين ينتظر عودة زوجته من فصل الرسم الذي تحضره. لكن بدل أن تخفف الكلمات من عذاب خوليان، فإنها تفاقم من ألمه. وهكذا فعندما تخلد دانيلا للنوم، يقص خوليان على نفسه حكايته، مازجًا بين الذكريات، وقصص العشاق. يتخيل خوليان أن الأسوأ سوف يقع لزوجته: «إنها الرابعة فجرًا. يبدأ خوليان في التفكير في احتمال كان قد رفض التسليم به من قبل: إن فيرونيكا ليست في أحد الشوارع البعيدة، لكنها في بيت رجل ما يقنعها هذه المرة بعدم الذهاب للمنزل».

وهكذا يتأرجح خوليان بين الألم والأمل: «يفكر خوليان: لو خرجنا من هذا الموقف، فإننا سندخر بعض النقود، ونمضي في رحلة إلى فالديفيا أو بويرتو مونت، أو لعل من الأفضل ألا نبالغ في الأمل: إن خرجنا من هذا الموقف، فإننا سنذهب أخيرًا يوم السبت لنرى الثلج». وعلى حين يمتلك الراوي في رواية «بونساي» معرفة تكاد تكون كاملة ببواطن الأمور، فإن خوليان لا يمتلك مثل ذلك اليقين، حيث تكمن قسوة الزمن في المستقبل المجهول. وفي نهاية المطاف تُفسح جسامة الموقف الطريق أمام الحلم، ويُصبح خوليان شخصية ثانوية في قصته الذاتية.

جي إم كويتزي

في الرواية العديد من الإحالات مما يزيد من التعقد الدلالي: أولًا تفتح الرواية بابًا يمكن للقارئ أن يدلف منه إلى العالم الداخلي والنفسي للبطل الذي ينتظر عودة زوجته من فصل الرسم. هنا يتداخل تأخرها غير المعتاد مع الحياة العادية للأسرة التي يؤكد الراوي أنها كذلك: «كانت نهاية اليوم تسير دائمًا على ذات الوتيرة». ويواصل الراوي سرد طبيعة تلك الحياة الروتينية، حتى يتقاطع ذلك السرد مع ذلك التحذير: «سوف تتواصل الرواية إذًا حتى تعود، أو حتى يكون خوليان على يقين بأنها لن تعود». كما أن هناك إحالة في الاقتباس الذي نجده في صدر الرواية: «… مثل الحياة الخاصة للأشجار أو الغرقى»، وهو بيت شعر لأندريس أنواندتر في قصيدة تُدعى «نوستالجيا الأشياء التي لم أعشها»: «مثل الحياة الخاصة للأشجار/ (أو الغرقى): أتشبث بتلك الكلمات/ في محيط منبسط/ في الموسيقا، في الزورق/ أتصفح العيون، وأكتب/ صورة عبثية تزداد حيرتها/ مع النوستالجيا لأشياء لم أعشها/ مثل الحياة الخاصة للأشجار/ أو الغرقى». (ديوان: شجرة اللغة في الخريف).

وهناك أيضًا تلك الإحالة التي نجدها في عنوان الفصل الأول من الرواية «الصوبة الزجاجية». هناك بالطبع إشارة إلى ذلك البيت الزجاجي الذي تُعَدَّل فيه الحرارة والرطوبة وغيرهما من العوامل البيئية بما يسمح بنمو النبات. ومن المعروف أن الصوبة الزجاجية تتسم بقدر من الحميمية المصطنعة؛ لأنها تعمل على توفير الظروف المناسبة للنبات بحيث يمكنه النمو طيلة العام.

ولعل ذلك ينطبق على أحداث الفصل الأول من الرواية حيث تدور الأحداث كلها داخل الشقة التي يعيش فيها خوليان وزوجته فيرونيكا وابنتها دانيلا. وهناك، في الغرفة الزرقاء، تستمع دانيلا إلى القصص التي يسردها خوليان، على حين ينتظر عودة زوجته. تنام دانيلا ويمضي خوليان من غرفة إلى غرفة مستعيدًا ذكرياته الذاتية. لكن لتحقيق وظيفة «الصوبة الزجاجية» يتعين أن تكون البيئة الداخلية بالمنزل ملائمة، وذلك ما يعمل خوليان على توفيره حيث ينجح في إخفاء خبر غياب الأم عن المنزل، عن طريق تشتيت انتباه دانيلا بالقصص التي يختلقها حتى تخلد للنوم. وأخيرًا نجد تلك النقلة الدرامية من الفصل الأول إلى الثاني الذي يحمل عنوان «شتاء»، حيث يضطر خوليان لمواجهة «اليوم التالي» ويقرر أن «المستقبل ينبغي أن يبدأ». ويُلحظ أن الفصل الثاني كله، على عكس الأول، يدور خارج المنزل حيث يمشي خوليان ودانيلا تحت المطر عبر سبعة شوارع تفصل البيت عن المدرسة، حيث يُقنع خوليان نفسه أخيرًا أن فيرونيكا لن تعود!

التناص مع الحياة

في مقابلة مع أليخاندرو سامبرا تطرح كارمن أوسيبيو السؤال الآتي: «عند قراءة أعمالك نشعر بتماهٍ مع قصصك، ونتخيل أننا عشنا أحداث تلك القصص… هل تفكر في القارئ عندما تكتب؟». ويجيب سامبرا: «أحيانًا أفكر أكثر في نفسي كقارئ لا ككاتب. أنا أدرك أن هناك مكانًا مشتركًا بين الاثنين، لكن نبض الكتابة يُحتم عليَّ أن أقترب من النص كقارئ». وفي مقابلة مع نيكولاس فيثنتي أوجارتي يذكر أليخاندرو سامبرا أن في روايته الأولى «بونساي»: «مسافة كبيرة بين الراوي وبطل الرواية، فالراوي ينظر إلى شخصيات الرواية من مسافة بعيدة، فيضحك أحيانًا من تصرفاتها، لكنه أيضًا يتعاطف معها في أحيان أخرى. إن الراوي هنا يلعب دور القاضي. وأنا أحب أن أفكر في هذه المسافة كمفارقة، وهي أحيانًا صريحة وتقترب من السخرية، لكنها في أحيان أخرى غير مرئية، وإن كانت دائمًا موجودة. أما في رواية «الحياة الخاصة للأشجار» فإن المسافة بين الراوي وبطل الرواية تكاد تتلاشى، فالراوي والبطل قريبان للغاية من بعضهما، ويبدو أن الأشياء التي تحظى باهتمام الراوي هي الأشياء ذاتها التي تحظى باهتمام بطل الرواية. وهكذا يمكن النظر إلى الراوي على أنه شخصية ثالثة زائفة، أو شخصية أولى مستترة».

يرى الناقد ماسوليفر رودنز في صحيفة لافانجوارديا أن «سامبرا لا يصنع أدبًا شارحًا… لكنه ببساطة يعيد إنتاج التناص مع الحياة. في روايتنا هذه يغيب السور الرابع بين القارئ والراوي، ذلك أن التناص هو الحياة بالنسبة لشخوص الرواية، بل وبالنسبة للعديد من القراء». ويرى فيليبي أوليفر أن معظم أعمال سامبرا تستكشف على نحو متعمق الذاكرة التاريخية لتشيلي؛ ذلك أن ميل سامبرا للتأمل السياسي يزداد من عمل لآخر. «وعلى الرغم من أننا لا نجد أي ذكر للدكتاتورية في الراوية التي بين أيدينا على نحو صريح، فإنه من الواضح أن تلك الفكرة تكمن خلف السرد الروائي برمته».


المراجع:

  • Alarcón, D. & de la Torre, M. (2015). Interview with Alejandro Zambra. Bomb, 131, pp. 70-75.
  • Freire, R. (2014). Zambra. Melancolía (Una Impresión). Hispamérica, 128, pp. 19-26.
  • Libertella, M. (2014). Alejandro Zambra: “El Tono Lo Permite Todo” Entrevista. Clarín Revista Ñ.
  • Matus, Á. (20 de enero de 2006). Entrevista a Alejandro Zambra, Revista de Libros de El Mercario.
  • Moralles, M. (2013). Ellas hablan con nadie en el jardin: Maria Luisa Bombal y Alejandro Zambra. Hispamérica, 124, pp. 31-39.
  • Simián, J. (2016). Interview with Alejandro Zambra. Columbia: A Journal of Literature and Art, 54, pp. 40-47.