«الرجل الذي يحب براهمس» لإدريس الصغير رواية النضال والعشق والموسيقا

«الرجل الذي يحب براهمس» لإدريس الصغير

رواية النضال والعشق والموسيقا

تعجبني تلك الروايات التي يحلو لها ألا تهادن قارئها المفترض، وتَعمِد إلى استفزازه على نحو يجعل انتباهه منصرفًا طيلة القراءة إلى البحث عما يربط نص الرواية بنص روائي آخر، وهذه حال رواية الكاتب المغربي إدريس الصغير: «الرجل الذي يحب براهمس» (مطبعة/ وراقة بلال، فاس، المغرب، 2021م) التي توحي لأول وهلة بأنها رجْع صدًى تناصّيّ لرواية الكاتبة الفرنسية فرانسواز ساغان: «هل تحب براهمس؟» (1959م). فكأنها جواب مباشر عن هذا السؤال، بما يفيد وجود شخص مغربي يحب فعلاً الموسيقيَّ الألمانيّ يوهانس براهمس.

إدريس الصغير

مند بداية الرواية، يخبرنا السارد بأن هذا الشخص لاعب كرة قدم في فريق مغربي محلي، نبهه المدرب إلى ضرورة مشاهدة شريط سينمائي بعنوان: «الرجل الذي يحب براهمس؟» مقتبس من رواية الكاتبة الفرنسية. لكن انصرافه كلية إلى النضال من أجل الثورة على النظام السياسي القائم في عهد الملك الحسن الثاني، جعله يستنكف عن مشاهدة فِلْم رومانسيّ حول الحب ولَوْعاته. بيد أنه يستعيض عن مشاهدته بالتعلق الهيامي بالموسيقي الألماني، وبالضبط بسيمفونيته الثالثة المدعُوة بـ«البطولية». وقد بلغ هوسه بهذه السيمفونية حدًّا من الجنون جعل الناس يلقبونه بـ«الرجل الذي يحب براهمس».

يتشكل المتخيل الحكائي في رواية إدريس الصغير حول ثلاث شخصيات محورية يسهل التمييز بينها على أساس نسبة حضور كل منها في النسيج النصي، وكذا درجة تأثيرها فيما يمكن عَدّه تجاوزًا لحبكة روائية. وهي أولًا شخصية الرجل الذي يحب براهمس، ثم شخصية الحبيبة، وأخيرًا الشخصية الوحيدة التي تحمل في الرواية اسمًا شخصيًّا، وهي صديق مشترك يدعى شرف العربي. وفي تأويلي لعدم توسيم المؤلف لكل من الشخصيتين الأوليين باسم خاص هو أنه تدبير متعمد يجعل منهما صوتين سرديين متراكبين متواشجين. فمن جانب، هناك من يُدعى «الرجل الذي يحب براهمس». وما إصرار المؤلف على إبقائه، في المتن الحكائي، غفلًا من اسم يُعرف به إلا إشارة مقصودة إلى أنه حالة أنطولوجية استثنائية تتماهى فيها «الذات» بـ«الموضوع»: كيف ينطبق لحنٌ (السيمفونية الثالثة) على شخص حتى يتلبسه، فيصبح جزءًا منه دالًّا عليه. أين الشخص؟ وأين اللحن؟

مفهوم تجريدي متعال

ومن جانب آخر، هناك من يدعى «الحبيبة» على امتداد النص، إشارة من المؤلف أيضًا إلى أنها أشبه ما تكون مفهومًا تجريديًّا متعاليًا يجسد نوعًا من التوافق الوثيق بين ذاتين، يتجاوز علاقة العشق بينهما ليصبح ترميزًا إلى ما يسمى في الرطانة السيكولوجية بـ«التثبيث»، أعني تبئير الذات على موضوع واحد مشترك بين ذاتين، أي والحالة هذه التوله المتآلف من شدة الهيام بالسيمفونية الثالثة، وهو أنها (أي الحبيبة) «تدمن مثله سماع هذا اللحن العجيب الذي أسَرَه واستقر في وجدانه، فأصبح مكونًا من مكونات شخصيتيهما».

أشرتُ قبل حين إلى ما يمكن عدّه تجاوزًا حبكة روائية. ذلك أن الرواية، وبعيدًا من أي حكم قيمة، تفتقر إلى نواة حَدَثِيَّةٍ صلبة تتحابك وتتناسل فيها الأفعال والأحوال، وفق إيقاع تسلسلي ينطلق من بداية إلى نهاية عبر عقدة، كما هو الشأن في الشكل الروائي المعياري. فكل ما فيها هو حدث واحد عمدت لا إلى تكراره فحسب على ألسنة السارد والشخصيات، بل أيضًا إلى تفتيته. ولعل ما يترتب عن هذا الإجراء السردي هو أن القارئ يكون مطالبًا بنفسه بلملمة هذه العناصر التفصيلية المتفرقة في أنحاء النص لكي تؤلف ما يشبه حبكة روائية.

يتمثل هذا الحدث الواحد والوحيد في أجواء الاحتقان السياسي والاجتماعي السائدة فيما أصبح يعرف في المغرب في ستينيات القرن الفارط وسبعينياته بسنوات الجمر والرصاص، وما رافقته من اعتقالات وإخفاءات وعذاب وتنكيل في المخافر والسراديب السرية. وهو ما تعرض له صاحبنا المولع بحب براهمس، بتهمة ملفقة هي «تخريب ممتلكات عمومية وإضرام النار في الشارع العام»، وهي التهمة التي ستجعله «يحاكم في إطار معتقلي الحق العام، وليس لنضاله؛ إذ لن يتمتع بحق اللجوء السياسي في دولة أخرى، وسيسجن ليصبح ملفه الشخصي ملوثًا، غير مقبول في سوق العمل. وحده حبه لبراهمس كان يخفف عنه كلما سمع رائعته، السيمفونية الثالثة، لتسكن أوصاله ويروق ذهنه». وسيكون، بعد الإفراج عنه، قد تحول إلى «شيخ وَهِنٍ متعب، ضعيف السمع والبصر، يعاني أمراضًا بعضها ظاهر وبعضها غير ظاهر. عليك أن تهيئ موتك». وسيموت فعلًا بعد أيام، حيث لم يكن وراء نعشه سوى مشيّع واحد. هل هو حبيبته «التي امتزج بروحها وجسدها حتى لا يتبين ما له وما لها، فلا يدري بعدُ إن كانا اثنين أم واحدًا».

سجل سردي واقعي

هل تكون «الرجل الذي يحب براهمس» رواية أخرى تنضاف إلى سجل النصوص التي دونت، بصيغة السرد الروائي، حقبة عصيبة من تاريخ المغرب المعاصر؟ ليكن هذا. لكن ميزتها هي أنها خففت سوداوية الحزن واليأس ومأساوية المصير بإشاعتها في جنبات النص إيحاءات نفسية تعويضية تزدهي بها السيمفونية الثالثة لمن ظل الرجل وفيًّا بحبه حتى الموت: يوهانس براهمس!

ولقد عمد المؤلف إلى تشغيل جملة من الوسائط الفنية طبعت السرد مثلًا ببعض الخفة اللذيذة كان لها أثر الترويح عن القارئ. فعلى الرغم من أن الرؤية السردية المهيمنة في النص هي ما يعرف في الشعرية السردانية المعاصرة بـ«الرؤية الخلفية»، تلك التي توحي خاصة بالرتابة والملل؛ فإن المؤلف آثر اللعب على وتر «التكرار» من جهة كونه إجراءً بلاغيًّا إيجابيًّا. ذلك أن الرواية لا يكاد فصل واحد من فصولها يخلو من ترداد عنوانها مرات عدة بما يجعله لازمة درامية استحواذية تراهن على إحداث نوع من التشارك الوجداني القوي بين القارئ والرجل المهووس بسيمفونية براهمس الثالثة.

ولعل ما يترتب عن خاصية «التكرار» هذه هو أن الزمن الروائي يتفجر في النص إلى لحظات متنافرة تنتمي، من جانب أول، إلى زمن الاستذكار (استعادة الماضي المتكررة)، ومن جانب ثانٍ إلى زمن الاستشراف (التطلع إلى مستقبل قوامه الديمقراطية والعدالة)، ومن جانب ثالث إلى زمن الحاضر (الإنصات إلى الزمن الجواني ولواعجه)، مع غلبة واضحة للزمن الأول؛ ذلك أن الرجل سيداوم على القيام بجولات عدة في المدينة، عاين من خلالها مظاهر التبدل والمسخ التي طالتها، وطالت أيضًا القيم، حيث تنكّر مناضلو الأمس لمبادئهم مقابل التمتع بامتيازات وظيفية ومالية.

كما أن اللغة الحكائية إشارية تقريرية على العموم، وهو ما يجعلها شبيهة بلغة الخطاب السياسي الاحتجاجي، وذلك رغم تخللها باستعارات شاعرية، وبخاصة حين يتعلق الأمر بوصف شخصية الحبيبة والتعلق الاستيهامي بذكراها. يتضح إذن أن الرواية ليست نسخة من أصل أجنبي، وهو ما جعلني أَضِلّ عن ضالتي التي أومأتُ إليها في بداية هذا المقال. فالمؤلف لم يتصورها على مثال نص غائب هو رواية فرانسواز ساغان. فعلاقة التماثل الطفيف بين عنواني الروايتين لا ترقى إلى مستوى التناص بينهما، أو لنقُل مع جيرار جينيث إن الأمر يتعلق بمجرد «تناصّ مقيد».

ختامًا يحق لرواية إدريس الصغير أن تتباهى، بين مثيلاتها حديثة الصدور، بقِصَرِها المدهش، وهو ما يدعو في نظري إلى الإعجاب والتنويه، وكذا بكونها تأملية ميلودرامية تشهد بعفوية على واحدة من أقسى وأعنف مراحل المغرب المعاصر، في منأى لا يقل إدهاشًا عن تقليعات البحث والمغامرة والتجريب فيما يسمى «روايات الحساسية الجديدة».