«العالق في يوم أحد» لعبدالله ناصر نصوص ترسم معالم خاصة للبناء القصصي

«العالق في يوم أحد» لعبدالله ناصر

نصوص ترسم معالم خاصة للبناء القصصي

عرفت القصة القصيرة في أدبنا العربي تطورًا واضحًا خلال السنوات الأخيرة، ونستطيع القول: إن الكثير من السرود القصصية سرقت بعض الألق من الرواية نفسها التي حسبها جميع النّقاد سيدة هذا العصر من دون منازع، لكن كما هو معروف للجميع فـ«بورصة الأدب» لا تؤمن بالثبات والركود، بل تقوم دائمًا على هدم الكلاسيكيات وبناء نص جديد على أنقاضها.

عبدالله ناصر

عندما ظن الشعراء أن الحداثة هي محاكاة للتراث صفعهم المعاصرون بنَظْم يخالف كل التقاليد ولعل «قصيدة النثر» قد أثبتت وجودها في العديد من الإصدارات العربية، وعلينا أن ندرك أن هدم البناء القصصي الكلاسيكي ليس إلا ثورة على «طوطم» القصة التقليدية، وصياغة سرد حداثي يوقف عملية «الحلب والتكرار»، فكم من قصة عرفنا حبكتها وانفراجها قبل الخوض في تفاصيلها، فلذلك نحتفي اليوم بالكاتب السعودي الثائر على السرد الكلاسيكي «عبدالله ناصر» الذي أعلن البيان رقم واحد في مجموعته القصصية «العالق في يوم الأحد» (دار التنوير).

من أهم النصائح التي يقدمها المختصون في مجال الكتابة القصصية «تقليل الأمكنة» بحكم أن للقصة قوامًا مكثفًا فلا حاجة للتوغل في العديد من الأمكنة حتى لا يسقط السرد في فخ الهلهلة ويتحول إلى رواية، وبحكم أن المكان بنية رئيسة يقوم عليها النص الكلاسيكي فقد اعتمد عبدالله ناصر على «المكان المتُخيل» أو «اللامكان»؛ فليس هناك حدود مكانية تضبط القاص وتحدّ من إبداعه، ويعدّ المكان متخيلًا عندما يعتمد على خيال القارئ فله الحرية التامة في إسقاط المكان على أي جغرافية يراها مناسبة.

سيقول قائل: إن هذه العدمية تؤثر في بناء القصة من حيث الثيمة العامة، ونرد بأن قصص عبدالله ناصر بُنيَت على أفكار وجودية وفلسفية بحتة. بالتالي فالمكان، مهما بلغت أهميته، يسقط سقوطًا حرًّا في هذا اللون الأدبي، فنرى دائمًا أن القصة تبدأ بحدث غير محدد وكأن القاصّ رفع من قيمة الحدث على حساب المكان، واعتمد على الأفعال في مطلع السرد القصصي لإضفاء حركة تشد القارئ من أول كلمة، وهنا جدير بالذكر أن نشير إلى أن هذا الاختلاف يُعد ظاهرة حداثية؛ فلو ذهبنا إلى القصة القصيرة الكلاسيكية لوجدنا مقدمات طويلة تصف أدق التفاصيل المكانية والزمانية وهذا ما يشتت القارئ عن هدف القصة، فكثيرة هي تلك النصوص التي غرقت في مقاطع وصفية لا فائدة منها سوى الإطناب غير المبرر.

الأمر نفسه في زمن القصة، فالدارسون يصنفون الزمن إلى حالتين زمنيتين، في حال توافر شرط «السارد»: فهناك «زمن السرد»، وهو الزمن الذي تروى فيه القصة، و«زمن القصة» الذي تدور فيه الأحداث. على سبيل المثال «السارد يكون في وقتنا الحالي والسرد هو قصة تاريخية حدثت قبل عدة عقود أو ربما قرون». وتقتضي المهارة الكلاسيكية ربط هذين الزمنين، أما ما لمحناه في سرود عبدالله ناصر فالزمن يتمدد، أي أنه يعتمد على زمن القصة فقط من دون الرجوع إلى سارد وهذا يخدم البناء القصصي خصوصًا في السرد الفانتازي الذي اختاره القاص؛ إذ إن أحداث القصة تدور في زمن عشوائي غير دقيق وهذا تغليب جديد للحدث في البنية السردية.

وعليه يمكننا القول: إن الفضاء القصصي الذي أنتجه عبدالله ناصر هو «فضاء خاص» بكل مقوماته؛ فهو لا يعتمد تسلسلًا زمنيًّا دقيقًا للأحداث، بل يفجر الأحداث على شكل متواليات سردية «جمل قصيرة مكثفة» تصنع صدمة غير متوقعة وخارجة عن حسابات القارئ وهذا ما يزيد عنصر الجذب والتشويق لدى القارئ.

«إذا كان الأمل يشبه شابًّا لم يفقد حتى الآن أيًّا من أفراد عائلته، فلا بد أن اليأس قد خسر للتو عائلته كلها دفعة واحدة. لكن العكس أحيانًا صحيح. يتهدم البيت، وتظهر من تحت الأنقاض يد الأمل، بينما يشنق اليأس نفسه في سقف القصر، فلا تدري أيهما المنكوب وأيهما الناجي. لو جلسا جنبًا إلى جنب لَمَا استطعت التفريق بينهما؛ فهما يبدوان مثل شقيقين بل توأمين. الشبه لا يقتصر على هذا فقط، فعندما تنظر إليهما تجد براءة هابيل، وما إن تمعن النظر حتى ترى في يد كل منهما، مثل قابيل، صخرة كبيرة».

وكما نلحظ في السرد السابق؛ تسير القصة في فضاء مجازي خاص استطاع من خلاله أن يتطرق إلى عدة قضايا في سرد مكثف متين البناء، اعتمد على الانزياح اللغوي، نرى تسلسل القصة سريعًا موجزًا، لكنه استطاع أن يرسم التفاصيل بدقة، إضافة إلى التناص الواضح مع الموروث القصصي الديني ليصنع لنا مفارقة ظاهرها اليأس والأمل إلا أنها تغور في أعماق النفس الإنسانية لتلامس القارئ، وتجعله يقف مندهشًا ليطرح عشرات الأسئلة في ختام القصة الصادم الذي تشكل في حبكة معقدة وصلت إلى نهاية مفتوحة تاركة للقارئ حرية التأويل، وهنا تجدر الإشارة إلى أن القاص يطرح فكرًا ولا يتبنى أفكارًا، وكأنه يكتب الخاتمة بحبر سري أو شيفرة على القارئ أن يفك رموزها.

السرد الفانتازي والاحتفاء بالعجيب

في كل قصة مهما طالت أو قصرت تجد دائمًا في هذه المجموعة القصصية مذاقًا مختلفًا فكما أشرنا إلى الانعتاق من الزمان والمكان، وبالتالي إرساء قواعد جديدة للبناء القصصي، نجح عبدالله ناصر في رسم معالم القصة بأدواته الخاصة، ابتداء من عناوين القصص، وبخاصة العنوان الرئيس: «العالق في يوم الأحد»، وهنا نرى أن الإلغاز يفعل فعله ويحوِّل السرد إلى لغز يتطلب حلًّا يعتمد دائمًا على خيال القارئ ويقظته، فهو يتبع أسلوب «لن أعطيك السمكة بل أعلمك الصيد»، وكأن الحل يبدو واضحًا إلا أنه يختفي تدريجيًّا في طيات القصة حتى نصل إلى النهاية الصادمة التي تستدعي إعادة ترتيب الأوراق وإعادة قراءة النص، وكأن عبدالله ناصر يرتقي بالقارئ إلى خياله الخاص وعالمه القصصي المتفرد الذي يبتعد كل البعد من الأنماط القصصية المعروفة.

وفي سياق الغرائبية المتبعة نلحظ دائمًا موت الشخوص، أي تنكيرها؛ فليس هناك أبطال بل هناك محرك للحدث يعتمد دائمًا على شخصية ثانوية مجهولة بحكم الخيال أو أنها معروفة بحكم التناص، مثل عناوين القصص الآتية: «شارب فريدا كالو، عبدالله ناصر، الخوارزمي»، وبحكم الغرائبية فالعناوين ليست إلا خلاصة مجازية أخرى وشيفرة جديدة تضاف لرصيد التغريب في السرد.

يمكننا التوسع أكثر في ثورة عبدالله ناصر على الأنماط الكلاسيكية، لكن حاولنا تسليط الضوء على أهم البنى التي هُدمَت في سروده القصصية؛ فالأدب متجدد ولا يعتمد على قواعد صارمة بل هو فضاء واسع يعتمد على كاتب انتقائي، يجيد تسديد الكلمة في دريئة المعنى معتمدًا على ذخيرة لغوية وخيال واسع، وضع به عبدالله ناصر قدمه على بداية طريق ليس له نهاية.