كتاب «رسائل من الشاطئ الآخر».. قضايا الغربة والهجرة والفوارق بين الثقافات

كتاب «رسائل من الشاطئ الآخر».. قضايا الغربة والهجرة والفوارق بين الثقافات

يظل أدب الرسائل من أرقى روافد التعبير عن المشاعر الإنسانية، ليس لأنه كتابة أدبية رشيقة تختزن قدرًا من الدفء، وتلتزم ببعض الضوابط والشروط الجمالية في التعبير، ولكن لأنه محاولة للنبش في الذاكرة الإنسانية الماضوية من جهة، وإظهار المكون الثقافي لعقل صاحب هذه الذاكرة من جهة أخرى، ولأنه أيضًا معادلة جمالية في فنون الكتابة لا تستقيم إلا بوجود طرفين يبادلان القبض على زمام الحديث؛ طرحًا للأسئلة على الطرف الآخر، أو ردًّا على الأسئلة المطروحة من ذلك الطرف، ومن هنا تأخذ الرسائل شكل الحوار المتصل بين عقلين لكل منهما طبيعة تكوينه، وقدرته على التلقي والمعالجة والتحليل، وفي حين يتجلى هذا التصور في الرسائل المتبادلة بين الأدباء والشعراء والنقاد، والمشغولين بالشأن الثقافي، قد نلمس شيئًا من ذلك حتى في الرسائل المتبادلة بين السياسيين، حيث تنقلهم – ربما – بصورة لا إرادية إلى لحظات إنسانية استثنائية تكسر جدية الخطاب السياسي، وتدفع صاحبه إلى الإنساني فيه.

وبالنظر إلى تجربة الرسائل في كتاب «رسائل من الشاطئ الآخر» (دار غراب للنشر والتوزيع بالقاهرة) للكاتب الصحفي حسام عبدالقادر نائب رئيس تحرير مجلة أكتوبر، والكاتبة والرسامة الدكتورة دلال مقاري باوش مديرة «معهد دراما بلا حدود» بألمانيا، نجد أننا أمام حالتين مغايرتين أخذتهما أكف الغربة من شرق العالم إلى غربه، ومن ثقافة خجولة متحفظة إلى ثقافة أكثر رحابة في أفقها وسلوكياتها وأساليب تعبيرها، وأعطت لكل منهما طريقته الخاصة في النظر إلى الأمور.

فتجربة الدكتورة دلال تجربة طويلة ومتجذرة في تربة الثقافة الغربية أو الأوربية عملًا وكتابة وتشكيلًا وتحليلًا بحكم إقامتها في ألمانيا منذ سنوات طويلة، وقد منحها طول التجربة قدرة فائقة على التحليل والنظر إلى عمق المسكوت عنه خلال عملية المقارنة بين ثقافتين (عربية وغربية)، في حين أن الكاتب حسام عبدالقادر برغم أسفاره واهتمامه بأدب الرحلة، إلا أن تجربته الأخيرة المتمثلة في الإقامة والمعايشة والاستقرار بكندا، جعلته يتعمق في المعطيات الثقافية والاجتماعية التي يمنحها المجتمع الغربي للإنسان الذي يعيش فيه، سواء كان ابنًا للثقافة الغربية أو وافدًا عليها.

تجربة حسام عبد القادر حديثة بالمقارنة مع تجربة الدكتورة دلال مقاري، ولكن لأنه يتمتع بقدرات الكاتب الصحفي المشغول بالشأن الثقافي، لم يأخذ وقتا طويلا ليعيد لنا قراءة جوهر الفوارق بين الثقافتين (العربية والغربية) من وجهة نظره، فكانت رسائله كتابة صحفية ترتدي عباءة الأدب، بينما رسائل الدكتورة دلال رسائل شعرية وسردية ترتدي عباءة الطرح الصحفي، وهي محاولة من الطرفين لتقريب القواسم المشتركة بينهما.

لقطة صحفية ومجاز الشعري

هو يلامس الجانب الأدبي والفني لديها، وهي تلامس الجانب الصحفي لديه، لذلك جاءت رسائل حسام عبدالقادر مبنية على اللقطة الصحفية المحمّلة بالمعلومات والمشاهدات والأسئلة والمقارنات، وفي المقابل جاءت رسائل دلال مقاري مبنية على المجاز الشعري والتصوير الدلالي السردي، والنزوح إلى الخيال هربًا من التعبيرات المباشرة في معظم الأحيان.

حسام يقرأ الواقع المباشر لقضايا الغربة والهجرة والفوارق بين الثقافات والمجتمعات بحس الصحفي والكاتب المشغول بالتقصي والبحث والتقاط تفاصيل الزوايا المهملة. ودلال تقرأ الواقع من خلال التعمق في قضايا الهجرة غير الشرعية، ومحاولة الانتقال إلى الشاطئ الآخر من العالم من خلال مغامرة السفر غير الآمن، والبحث عن تحقيق الأحلام حتى وإن كان الثمن المقابل للحلم الغامض قفزة باتجاه الموت غرقًا في الأبيض المتوسط. وهنا يكمن جمال الحوار في الرسائل المتبادلة بين الطرفين، لأن لكل منهما منطقه المغاير والمختلف عن الآخر من حيث أسلوب الطرح وأدوات التعبير.

إذن؛ نحن لسنا أمام اثنين من الأدباء أو الشعراء أو النقاد يتبادلان الحوار حول التخصص من خلال مناقشة القضايا الشعرية والأدبية، فيحدثنا كل منهما عن مفهومه للسياقات الثقافية وفقًا لوعيه أو ذائقته الأدبية أو الشعرية أو النقدية، بل نحن أمام مواطنيْن عربيين مهمومين بالشأن الثقافي العام في صورته المعاصرة للحاضر اللحظي أو الواقعي، وهما هنا بمثابة نموذجين للوعي المعرفي العربي الذي يغوص في المجتمع الاستثنائي (الغربي)، ويقارن بينه وبين المجتمع (العربي) المتجذر فيه، وبالتالي لا يمكننا في هذا المقام أن نحيل هذا النوع من الرسائل إلى النموذج التراثي المتعارف عليه في أدب الرسائل، مثل (رسائل ابن عربي، أو رسائل إخوان الصفا، أو رسائل الجاحظ، أو بديع الزمان الهمذاني، أو رسالة الغفران)، وغير ذلك من تراث هذا الفن الرفيع لأن مفهوم الرسالة فيها مختلف، ولأن هذا المكون التراثي كانت له شروطه الأخرى ومعاييره المغايرة. وحتى إذا انتقلنا للعصر الحديث لن نجد هذه التجربة امتدادًا لرسائل مثل رسائل مي زيادة وجبران، أو غادة السمان وغسان كنفاني وغيرهم من أدباء العصر الحديث، فهذه التجارب كلها – تراثية كانت أم معاصرة – إما أنها تقوم على شروط فكرية أو فلسفية أو دينية، وإما تقوم على شروط علمية أو أدبية أو غرامية.

دهشة الفكرة

أما التجربة التي نتحدث عنها في كتاب «رسائل من الشاطئ الآخر»، فهي تقوم على فكرة استقراء الواقع اليومي المعيش من خلال وسيط تعبيري هو (فن الرسالة)، الذي كاد ينقرض، إذ لم نسمع خلال السنوات الأخيرة عن تجربة مميزة في أدب الرسائل، وأتصور أن الشرارة الأولى لخوض هذه التجربة بدأت من دهشة الفكرة، ثم تبلورت من خلال التوافق عليها، ثم الاتفاق على وضعها في إطار ثقافي والمضي قدمًا لتنفيذها، وأعتقد أنهما نجحا إلى درجة كبيرة في بناء هذه التجربة.

واستطاع كل منهما أن ينقلنا إلى عالمه الخاص، وإلى وعيه المعرفي الخاص، من خلال رصد كثير من التفاصيل اليومية المهمة في واقعه المعيش، وكذلك من خلال قراءاته لواقع المجتمع الذي أصبح مزروعًا في تربته الثقافية المختلفة، إضافة إلى مشاهداته الحياتية واحتكاكه بيوميات ذلك المجتمع. فإذا كانت الرسائل التراثية أو الحديثة التي أشرنا إليها تنطلق من معطيات ذات أبعاد فلسفية وفكرية ودينية أو حتى غرامية، فالأمر هنا يختلف، والتجربة هنا ليست محاكاة لتجارب سابقة أو تقليدًا لها، بل هي تجربة تحتفظ لنفسها بطبيعة خاصة، لكونها مبنية على حوار إنساني متبادل يتلمس اليومي بصورة عفوية وتلقائية من دون أن يتقاطع أو يتشابك مع التجارب السابقة، أو يعيد طرحها أو إنتاجها بصيغة عصرية.

لذلك جاء الكتاب – برسائله المتبادلة – بسيطا في خطابه وفي علاقته بالقارئ، ولم يفسد عفويته التأثر السلبي بالتجارب التراثية أو العصرية السابقة في أدب الرسالة، يضاف إلى ذلك أن الكتاب كتجربة ألقى حجرًا في المياه الراكدة، وجعل القارئ ينتبه إلى جزئية مهمة، وهي أن هذا النوع من الأدب بات مهددًا بالزوال. اشتمل الكتاب على ثلاثين لوحة فنية من أعمال الدكتورة دلال مقاري استخدمت فيها تقنيات فن الكولاج، وقدم له الكاتب الأردني حسين دعسة مدير تحرير جريدة «الرأي» الأردنية التي نشرت الرسائل واللوحات في حلقات أسبوعية قبل جمعها في كتاب.