حقوق الإنسان: هل من تعارض بين كونية القيم وخصوصية الثقافات

حقوق الإنسان: هل من تعارض بين كونية القيم وخصوصية الثقافات

لا يثير التحليل النظري الداخلي لمنظومة حقوق الإنسان إشكاليات جوهرية تحول دون الإقرار بكونيتها، ولا يحتاج إلى أدلة كثيرة من خارج المنظومة ذاتها ليؤكد كونية المنطلقات والمبادئ، وكونية التوجه والآليات، وكونية الأهداف والمقاصد والغايات. ولكن مقاربة الواقع ورصد حقائق التطبيق الفعلي والممارسة الإجرائية لمبادئ حقوق الإنسان سريعًا ما يضعنا إزاء إشكاليات، منها أسباب تردي وضع حقوق الإنسان في كثير من البلدان عبر العالم. وفيما تتحجج به بعض الدول من مبررات نجد الخصوصيات الثقافية. فهل هناك فعلًا تعارض أصلي بين كونية حقوق الإنسان وخصوصيات الثقافات الوطنية والمحلية قابل لأن يكون عقبة بنيوية تحول دون الإقرار القانوني والتطبيق الفعلي لحقوق الإنسان في البلاد العربية والإسلامية؟

تثبت كونية منطلقات منظومة حقوق الإنسان ومبادئها نظريًّا من خلال تحولها بعد مسار تاريخي طويل من النشأة والتشكل والتطور إلى مرجعية فلسفية وسياسية وأخلاقية وقانونية معترف بها عالميًّا. قوامها ومنطلقها هو إنسانية الإنسان، حيث تترتب على صفته الإنسانية وحدها دون سائر الصفات العرقية أو الجنسية أو العقائدية أو الثقافية، حقوق مشتركة للنوع الإنساني، مدارها قيم الاحترام والكرامة الإنسانية، هي حقوق متساوية لا يمكن التنازل عنها لكل أعضاء الأسرة الإنسانية، مرجعها «ضمير الإنسانية» ويفرضها التساوي في الصفة الإنسانية وفي كرامتها المضمونة لذاتها التي يستحقها الإنسان بواقع وبسبب كونه إنسانًا لا غير، طالما أنه غير مسؤول عما لم يختره بإرادته كلونه أو جنسه أو عرقه أو عقيدته.

لقد اقتضت هذه التصورات، على بداهتها اليوم وعلى شيوعها واستقرارها في الضمير الإنساني، جهدًا فلسفيًّا كبيرًا حتى تثبت وتستقر، كما اقتضت تضحيات كبيرة وحروبًا انتهت إلى إحداث قطيعة بين منظومات تقليدية صنفت البشر ورتبتهم طبقًا لمعايير لا مسؤولية للإنسان-الفرد فيها، ومنظومة حديثة أصّلَت مبدأ المساواة في القيمة الإنسانية بين كل البشر. ولم يكن لهذه التصورات أن تنشأ وتستقر خارج نطاق حركات فلسفة التنوير وأفكارها الجديدة بشأن المساواة والحرية. وعلى الرغم من أن عموم الأديان قد بَشّرَت بمثل هذه القيم ودعت إليها بما هيأ لبعض، وخصوصًا في المجال العربي الإسلامي، القول بفكرة الأصل الإلهي الكلي لحقوق الإنسان، فإن الفكرة الفلسفية التي تبلورت في سياق فلسفة الأنوار وتأسست في إطار النظم المعلمنة تتميز من الفكرة الدينية في عدد من الجوانب؛ من بينها نفي القول: إن هذه الحقوق منحة أو هبة ربانية، والقول على خلاف ذلك: إن الإنسان هو الذي ينتزع حقوقه بوساطة النضال السياسي والاجتماعي وعن طريق تقدمه المعرفي الثقافي من دون أن يكون بأي شكل من الأشكال مدينًا لقوة مفارقة أو لمبادرة آتية من خارج الإنسان نفسه. ويترتب على ذلك اختلاف بين التصور الديني والتصور الفلسفي العلماني لحقوق الإنسان ولمن تتعلق به. فالتصور الديني يعد تلك الحقوق منحة ربانية يَهَبُها الخالقُ للمخلوق مكافأةً له على اعترافه بربوبيته وبأولية حقوقه في الطاعة والخضوع، وهو ما يجعل حقوق المخلوق مخصوصة أولًا بالمؤمنين منحة لهم مقابل الإيمان والتصديق. في حين يرى التصور الفلسفي العلماني أن الإنسان إذ ينتزع حقوقه بنفسه فإنه يُعبّر بذلك عن جدارته الذاتية بها وعن كونها حقوقًا نابعة من صفته الإنسانية وحدها، وأنه يستحقها من دون قيد أو شرط. ونرى أن هذا الاختلاف جوهري، وأن إنكاره والتسوية بين المرجعية الدينية والمرجعية الفلسفية العلمانية بشأن تصورات حقوق الإنسان قائمة على مغالطة تحتكم إلى مبررات أيديولوجية.

فلسفة الأنوار وحقوق الإنسان

يختلف مفهوم الإنسان نفسه في الإنسية الفلسفية المعلمنة عن مفهومه في الإنسية الدينية، ففي حين يحيل الأول على مفهوم الإنسان بذاته ولذاته والمحكوم بشرطه الإنساني وحده يحيل الثاني على مفهوم الإنسان المخلوق لطاعة الخالق والمرهون بالشرط الإيماني- العقائدي. ويترتب على هذا اختلاف في مفهوم الحقوق، بين حقوق ذات شحنة دنيوية معلمنة تحيل على تعلق بالإنسان لذاته، وحقوق ذات شحنة دينية تحيل على الإنسان- المؤمن ومقصورة عليه.

إننا إذ ننبه إلى هذه الاختلافات الجوهرية لندرك أن الانسياق السهل وراء محاولات التوفيق بين الفهم والمفهوم الدينيين لحقوق الإنسان والفهم والمفهوم الفلسفي المعلمن- محاولات تلفيقية تفتقد التأصيل الفلسفي الذي يؤدي فعلًا إلى رفع التعارضات والالتباسات عن طريق الوعي بها لا عن طريق إنكارها والقفز عليها، كما يؤدي إلى الوعي بالشروط الموضوعية الضرورية لتحقيق مبدأ كونية حقوق الإنسان تحقيقًا فعليًّا، ومن بينها أن منظومة الحقوق تلك تحتاج فعلًا إلى فضاء معلمن يتحقق فيه التمييز الواعي بين دائرة الديني المتعالي ودائرة الدنيوي- السياسي.

وعلى الرغم من وعينا بأن هذه الاختلافات وبأن ارتباط القيم والمبادئ التي تأسست عليها منظومة حقوق الإنسان بفضاء معرفي وتاريخي معين مثلته فلسفة الأنوار وفضاؤها المعلمن عادة ما يتخذه بعضهم، وبخاصة في البلدان العربية والإسلامية دليلًا ضد كونيتها، وحجة لمعارضة منظومة حقوق الإنسان باسم الخصوصية الدينية والثقافية؛ فإن ذلك لَدليل لنا على أن هذه الحجج حق يراد به باطل. فالتجارب التاريخية التي تبلورت في إطارها أقدم وثائق وإعلانات حقوق الإنسان والمواطن، كبيان حقوق الإنسان الصادر بإنجلترا في 1689م، والإعلان الأميركي لحقوق الإنسان سنة 1776م، وإعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر بفرنسا في 1789م، هي تجارب غربية حقًّا. وهي حقيقة تتخذ في المجال الإسلامي عادة حجة لإقامة الدليل على أن حقوق الإنسان إنتاج غربي، وأن القول بكونيتها «وهم» انتهى به الأمر إلى أن يتحول بأيدي القوى المنتصرة عقب الحرب العالمية الثانية إلى وسيلة تستخدمها من أجل بسط نفوذها غير المباشر على المناطق التي اضطرت إلى الانسحاب منها بعد أفول الظاهرة الاستعمارية المباشرة.

ونحن نرى أن هذا التصور مبني فعلًا على وهم ومغالطات؛ منها وهم الأصل والمنشأ، وهو وهم يصور نشأة فكرة من الأفكار في تربة جغرافية سياسية وثقافية معينة حكمًا مسبقًا باستحالة استنباتها في تربة أخرى مغايرة، كما يقوم على مغالطة تربط ربطًا ضروريًّا كذلك بين مجال نشأة فكرة ما ومجال صلاحيتها. فالتاريخ والتجارب الإنسانية يشهدان بأن كثيرًا من الأفكار والتصورات التي تنشأ في فضاء بعينه سريعًا ما تثبُتُ صلاحيتها في فضاءات أخرى مختلفة. كما يقوم هذا التصور على تلبيس مقصود بين نظم سياسية تحكمها قوانين المصلحة والسلطة والقوة هي التي مثلت الوجه الاستعماري للغرب ونظم فكرية – معرفية تحتكم إلى مجموعة من القيم والمثل العليا التي مثلت الوجه الحضاري المشرق للغرب ولثقافته الحديثة، وذلك لتبرير الامتناع عن الأخذ بمبادئ حقوق الإنسان بحجة أنها منتوج استعماري.

النشأة الغربية لمنظومة حقوق الإنسان

إن تاريخ الأفكار والثقافات يثبت أنها ما فتئت تنتقل وتسافر عبر الجغرافيا وتتثاقف، وأن الحضارات ما فتئت تتلاقح وتتبادل التأثير والتأثر؛ لذلك يبدو لنا القول بعدم صلاحية فكرة حقوق الإنسان للمجال العربي الإسلامي بحجة منشئها الغربي ساذجًا سذاجة القول: إن اليهودية والمسيحية مثلًا لا تصلحان للمجال الغربي ما دامتا شرقيتي المنشأ. ولذلك أيضًا نرى أن عمليات التثاقف والتلاقح الحضاري هي التي أنشأت بين مختلف الحضارات والثقافات الإنسانية قاعدة واحدة مشتركة نابعة من القيم الجوهرية ذات الطابع الإنساني، ومن المشاعر الموحدة التي تشترك فيها الإنسانية ومنها قيمة الكرامة الإنسانية والشعور العميق بالانتماء إلى الأسرة الإنسانية بما يترتب على ذلك من روح أخوة وتضامن. فهل تحتاج منظومة حقوق الإنسان إلى أكثر من هذا حتى تثبت كونية منطلقاتها؟

إن النشأة الغربية لمنظومة حقوق الإنسان وارتباط هذه النشأة لا محالة بسياقات فلسفية -معرفية وتاريخية- سياسية وجهت مفاهيم هذه المنظومة وتصوراتها الأصلية، لا يمكن، على الصعيد النظري، اتخاذها حجة لإبطال مبدأ كونية حقوق الإنسان في حد ذاته؛ لذلك نرى أن العوامل التي تحول دون القبول بهذا المبدأ لا تتصل بمضامين المنظومة ومنطلقاتها بقدر ما هي عوامل سياسية أيديولوجية يجب البحث عنها في السياقات التاريخية والثقافية. فالحقبة الاستعمارية المباشرة، وأشكال التدخل الغربي العنيفة والمتنوعة في البلدان العربية والإسلامية، واستمرار حضور الاستعمار بشكليه المباشر وغير المباشر في عدد منها، حقائق لا يمكن إنكارها.

فضلًا عن ذلك يقف الملاحظ البسيط يوميًّا على أدلة جديدة على أن قوى الاستعمار التقليدية ما زالت تستخدم إلى اليوم حقوق الإنسان آلية تخوض بها صراعاتها وتستخدمها في تنفيذ برامج الهيمنة، وسلاحًا ترفعه في وجه خصومها إذا أرادت فرض سيطرتها عليهم أو التخلص منهم إذا لم يستجيبوا لمطالبها، والحال أن هذه القوى كثيرًا ما تستهين بالحقوق وبقيمها ومبادئها، وتضرب بها عرض الحائط إذا تعلق الأمر بشعوب غير شعوبها؛ لذلك وجب على الضمير الإنساني أن يتحمل مسؤولية تبعات الجرائم الاستعمارية وجرائم التدخل العنيف في بلدان ذات سيادة وجرائم إسقاط أنظمة حكم وطنية تحت حجة حماية حقوق الإنسان حتى تتمكن البشرية من تصفية حساباتها مع تلك الجرائم ومن تجاوزها تجاوزًا حقيقيًّا والتصالح مع القيم المشتركة التي تلتقي حولها كل الشعوب والثقافات والأديان، التي تؤسس المرجعية المشتركة لمنظومة حقوق الإنسان.

ونحن نرى أن الجهود الصادقة التي يبذلها الأحرار في كل أصقاع العالم، والعمل الدؤوب الذي تنجزه المنظمات الدولية ومؤسسات المجتمع المدني المستقلة عن الدول والحكومات والأحزاب من أجل التكريس الفعلي لكونية حقوق الإنسان مظاهرُ دالةٌ على تحمل هذه المسؤولية. ولكن ذلك يجب ألّا يصرف نظرنا عن حقيقة الشروخ العميقة التي أحدثها وما زال يحدثها السلوك الاستعماري لعدد من الدول الغربية في الوعي العربي والإسلامي العام، حيث يصعب على الإنسان العادي التمييز بين الأفكار والمنظومات النظرية والأفعال والسلوك والممارسات فيعمم الحكم على جميعها.

كما يصعب عليه أن يميز بين سلوك الأنظمة السياسية وعمل المنظمات والمؤسسات المدنية، فيطلق الحكم نفسه على كليهما. وهذا الواقع هو الذي ولد في المجال العربي والإسلامي مناخًا أيديولوجيًّا قائمًا على رفض الأفكار ذات المنشأ الغربي من دون فحص أو نقد عقلاني متحرر، ومناخًا نفسيًّا يميل نحو الانكفاء على الذات وعلى خصوصياتها الثقافية ونحو فقدان الثقة في مصداقية تلك الأفكار. وقد استفادت التيارات الأصولية كثيرًا من هذا المناخ لشرعنة رفضها منظومة حقوق الإنسان الحديثة مقابل تبني شعارات فضفاضة حول حقوق إنسان «إسلامية بديلة» وحول أفضلية هذه وأولويتها على تلك، كما استفادت منه أنظمة سياسية لا ديمقراطية ظلت ترجئ تنفيذ مطالب حقوق الإنسان باسم مقاومة الاستعمار ورفض التدخل الغربي تارة، وباسم الخصوصيات الثقافية ومقاومة الغزو الثقافي طورًا.

الأمم المتحدة وميزان القوى الدولية

إضافة إلى هذه الصعوبات التي تقف في طريق التطبيق الفعلي لمنظومة حقوق الإنسان، تمثل قلة الآليات أو محدودية جدواها مصدرًا آخر من مصادر الصعوبة. فارتباط منظومة حقوق الإنسان بآليات تنظيمية وتشريعية وتنفيذية مثلتها منظمة الأمم المتحدة ومجمل وكالاتها ومؤسساتها قد أضفى عليها فعلًا بعدًا كونيًّا؛ لأنها ساهمت في تدعيم التوجه نحو جعل مسؤولية حفظ هذه الحقوق وتنفيذها مسؤولية مشتركة بين أعضاء الأسرة الإنسانية ممثلة في أعضاء المنتظم الأممي، إلا أن النظام الداخلي للمنتظم الأممي نفسه يعكس في الحقيقة علاقات سلطة تحتكم إلى ميزان القوى الدولية بعيدة كل البعد من لافتات التضامن والتكاتف التي تدعو إليها وتبشر بها المنظومة الحقوقية الكونية، وهو ما يبرر في نظر بعضٍ عَدّ المنظمةِ بنظامها ذاك آلةً تستخدمها القوى الكبرى لتنفيذ سياسات تتحكم فيها مصالحها ويوجهها سعيها إلى بسط هيمنتها غير المباشرة والمتسترة بشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان على مجالات مصالحها ومناطق نفوذها التقليدية.

أما الصنف الثاني من العوائق فهو ثقافي، فيحيل على ما يروج من شعارات تسلم بوجود تعارض بين الخصوصيات الثقافية والدينية المحلية ومنظومات الحريات الفردية والجماعية وحقوق الإنسان المتضمنة في المواثيق الدولية، وهي شعارات تصور المنتظم الأممي مرة أخرى في هيئة آلية يوظفها الغرب من أجل تعميم الأنموذج الثقافي الغربي على حساب الثقافات القومية والمحلية من دون أية مراعاة لخصوصياتها أو عمل موضوعي على خلق أرضية مشتركة تجمع بين المبادئ الكونية والخصوصيات الدينية والثقافية المحلية جمع تفاعل وتوافق بعيدًا من فرضية صدام الحضارات الناشئ عن فرض قيم الأنموذج الغربي على سياقات ثقافية ودينية واجتماعية مغايرة.

وعلى الرغم من أن هذه الشعارات تتجاهل كل الأدبيات والبرامج العملية التي وضعتها أجهزة المنتظم الأممي المختصة من أجل تفعيل مبدأ احترام الثقافات المحلية وحفظ خصوصياتها وتوجيهها نحو إثراء الإرث الإنساني المشترك بوساطة إطلاق برامج الحوار بين الثقافات والأديان، فإنها تظل ذات وجاهة من جهة كونها تصف واقعًا قائمًا محكومًا بهذه العلاقات غير المتكافئة سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا أيضًا، التي تهدد بتكريس أنموذج معولم هو الأنموذج الغربي وبتلاشي الثقافات المحلية وتلاشي خصوصياتها بما خلقته من تنوع في الحضارة الإنسانية ومن وجوه ثرائها على مر قرون طويلة.

هل ثمة حقوق إنسان إسلامية؟

إن الإشكال المخصوص بنا في هذه المسألة، وارتباطًا بواقع حقوق الإنسان في البلدان العربية والإسلامية راجع إلى شيوع رؤى وشعارات تسلم بوجود تعارض بين منظومة حقوق الإنسان والخصوصيات الثقافية والدينية الإسلامية تعارضًا يتنافى مع القول بكونية منظومة حقوق الإنسان. وبفعل ذلك راوَحَتِ المواقف بشأن هذه الإشكالية بين رفض المنظومة إجمالًا والدعوة إلى منظومة بديلة يطلق عليها «حقوق الإنسان الإسلامية»، أو إلى العمل على تحقيق التلاؤم والمصالحة بين الطرفين. فما أصول هذه المواقف ومنطلقاتها؟ وما الإشكاليات المترتبة عليها؟

إن مطلب «حقوق إنسان إسلامية» ومطلب الملاءمة بين الإسلام ومنظومة حقوق الإنسان الكونية ملغومان بكثير من الإشكاليات يقتضي حلها أكثر من فرضية: أول الإشكاليات راجع إلى مفهوم الإسلام ذاته، رغم أنه يبدو في الظاهر بديهيًّا. فهل المقصود بالإسلام العقيدة أم الشريعة؟ وهل المقصود الإسلام بوصفه رسالة دينية إلهية أم المقصود به الإسلام التاريخي الجامع والقائم على تداخل واسع بين دائرة الإلهي – المنزل ودائرة البشري في تفاعله مع ذلك المنزل فهمًا وتمثلًا وممارسة وتنظيمًا ومأسسة؟ أما الصنف الثاني من الإشكاليات فيتعلق بمفهوم حقوق الإنسان الإسلامية؛ فما مرجعها؟ القرآن وحده بصفته النص المنزل المتمثل في صورة دستور للإسلام؟ أم القرآن والسنة وسائر ما عَدّتْه المنظومة الفقهية التقليدية أصول تشريع؟ وإذا كان كذلك فعلى أي قاعدة تجوز التسوية بين ما هو إلهي متعالٍ، وما هو بشري تاريخي؟ أية شرعية تؤسس اجتهادات بشرية حكمتها لحظتها التاريخية وإكراهات واقعها؟

أما الفرضيات التي يضمرها المطلبان معًا، فأولها التسليم بوجود تعارض إما كلي بين الإسلام ومنظومة حقوق الإنسان يقتضي استبدال الثاني بالأول، أو جزئي بينهما يفسح المجال أمام إمكانية البحث عن سبل للملاءمة والتوفيق. وتثير هذه الفرضية بدورها جملة من الإشكاليات: فهل التعارض بينهما جوهري بنيوي وكلي يستحيل دفعه من دون الإخلال بالأسس العقائدية أو المعرفية الفلسفية التي يقوم عليها كل طرف منهما؟ وهل التعارض بينهما متعلق بالأصول العقائدية أم بالفروع العملية الإجرائية المندرجة في إطار تنظيم العلاقات بين الأفراد والمجموعات؟ يبدو من الصعب اقتراح أجوبة على كل هذه الأسئلة في هذا المقام المحدود؛ لذلك نقتصر على بعض المعالم على طريق التفكير.

تهافت شعارات التعارض

إذا انطلقنا من الوعي بتنوع المستويات التي يتشكل منها الإسلام، وأخذنا في الحسبان أن الإسلام أولًا رسالة مرجعها الأصلي القرآن الكريم فإننا نقف عند كثير من العلامات الدالة على أنه، شأنه في ذلك شأن سائر الأديان الإبراهيمية والرسالات الكبرى في تاريخ الإنسانية، يدعو إلى جملة من القيم الإنسانية الجوهرية ويعلي من شأنها، وهي واقعة تبطل دعوى تعارضه الكلي مع مبادئ حقوق الإنسان وإلا لعددنا اليهودية والمسيحية معارضين كذلك لهذه المبادئ، بل لعلنا نجد في رسالة الإسلام، وهي التي تعنينا مباشرة في هذا المقام، الكثير من الشواهد التي تبطل ذلك التعارض الموهوم. فحرية الضمير مثلا ماثلة في النص القرآني من خلال التشديد المتكرر على مبدأ نفي الإكراه في الدين، ولا نحتاج في الحقيقة إلا إلى قراءة منفتحة متحررة من القيود التي فرضها الفهم التقليدي، ومستقلة عن الهواجس الأيديولوجية ومترفعة على المُوَجِّهات المصلحية حتى نتبين حقيقة أن جوهر هذه الرسالة وقيمها الكبرى لا يتعارضان مبدئيًّا مع المبادئ والقيم التي تنادي بها منظومة حقوق الإنسان، ومن بينها قيمة الإيمان الصادق الذي أكدت رسالة الإسلام أنه يرفع صاحبَه إلى درجة من الكمالات الإنسانية التي يعود نفعُها على شخصه وعلى المحيطين به.

وعمومًا، إننا نحتاج فعلًا إلى عمل دقيق ودؤوب يؤدي إلى تصحيح كثير من المُسَلَّمات التي تجاوزها الضمير الحديث، وإلى إثبات تهافت الشعارات القائلة بالتعارض الهيكلي بين الإسلام وحقوق الإنسان وكشف خلفياتها الأيديولوجية الحقيقية التي تتعارض مع قيم الإسلام نفسه من حيث ادعاء التمسك بها والدفاع عنها ضد الغزو الثقافي الغربي، ويقتضي هذا العمل في نظرنا التنبه إلى أن منظومة حقوق الإنسان نفسها لا تنكر كما أسلفنا حقيقة الخصوصيات الثقافية والدينية، بل تُقِرّ بالتنوع المثمر للثقافات، وتدعو إلى الحفاظ عليه وتنبه من خطر الجهل به، وهو أمر يضعنا إزاء إمكانيتين: إما أن تُؤَوَّل الخصوصيات الثقافية والدينية في اتجاه تحصيل قاعدة ثقافية إنسانية مشتركة تقوم على الإعلاء من شأن ما هو إنساني وما يخدم طموح المجتمعات إلى النمو والتقدم والازدهار والعدالة، وهو تأويل يتوافق مع التوجه الكوني لمبادئ حقوق الإنسان من جهة، ومع طموح المسلمين إلى عودة حضارتهم إلى الموقع الذي تستحق ضمن الحضارة الكونية، أو أن يُؤَوَّل، على خلاف ذلك، بعض هذه الخصوصيات في اتجاه تأصيل التعارض والتوسيع من مداه خدمةً لأغراض أيديولوجية ولمصالح سياسية ضيقة مخصوصة بجماعات حزبية.

وهذا التأويل موجود فعلًا في المجال الإسلامي، وما دام التأويل اختيارًا لمعنى من بين معانٍ ممكنة وترجيحًا لاختيار من بين اختيارات متاحة، فإنه بإمكاننا أن نجعل من التنوع الثقافي ومن الخصوصيات عامل ثراء وازدهار تشترك الإنسانية في الاستفادة من ثماره، كما يمكن أن نجعل منه عامل تفرقة وصراع من جهة وقوة معطلة لحركة التاريخ ولنمو المجتمعات من جهة أخرى. والأمر مرهون في نظرنا بمدى استعداد المثقفين الأحرار لتحمل مسؤولية التأويل المنشود الذي يعيد المسلمين إلى التاريخ ويعيد حضارتهم إلى الموقع الذي هي به جديرة ضمن الحضارة الإنسانية.