حيدر إبراهيم: دور المجتمع المدني في عملية التغيير مشروط بحداثة القوى المكونة له

حيدر إبراهيم: دور المجتمع المدني في عملية التغيير مشروط بحداثة القوى المكونة له

الحديث مع الدكتور حيدر إبراهيم علي، أحد أبرز المفكرين السودانيين والعرب، يحتاج إلى قراءة متأنية لمشروعه الفكري المتنوع في المجالات، السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية. جزء كبير من مشروعه الفكري خصصه لنقد الإسلام السياسي، والمسألة الجوهرية في كل كتاباته هي الاهتمام بقضايا علم الاجتماع الديني. في حواره مع «الفيصل» يعبر الدكتور حيدر عن تفاؤله بمستقبل السودان، بعد ثورة ديسمبر 2018م، معللًا ذلك باختلاف مسار الثورة السودانية عن نظيراتها العربية. ويذكِّر بالمكتسبات التي نالتها المرأة في المدة القصيرة من عمر الثورة، أما عن أسباب الإخفاق فيعزوها للمتسلقين والانتهازيين من رجال النظام السابق، وإلى الفراغ الطبيعي الذي يعقب سقوط الأنظمة المستبدة.

كما يتحدث عن أجندات الإخوان المسلمين ومحاولاتهم المستميتة للبقاء، ويخلص إلى أن لا مستقبل لهم في السودان؛ لأن الشعب السوداني عزلهم اجتماعيًّا، وأن فشل مشروعهم في السودان هو هزيمة لمشروع الإسلام السياسي كله. وعن رؤيته للحل في أزمة سد النهضة يقول: إن الوضع لن يذهب أبعد مما هو عليه اليوم وسينتهي النزاع بالحوار، كما يتحدث عن العقل العربي وأسباب فشل مشروع النهضة العربية، وعن مستقبل الديمقراطية في العالم العربي.

أسس الدكتور حيدر إبراهيم مركز الدراسات السودانية في القاهرة. وألف العديد من الكتب والمقالات. وكانت السلطات السودانية منعت معظم مقالاته، كما منعت بعض كتبه من التداول في السودان، ومن أبرزها: «أزمنة الريح والقلق والحرية. سيرة ذاتية»، و«سقوط المشروع الحضاري»، و«أزمة الإسلام السياسي- الجبهة القومية في السودان نموذجًا»، و«الأمنوقراطية وتجدد الاستبداد في السودان»، وكتاب «مراجعات الإسلاميين السودانيين كسب الدنيا وخسارة الدين».

إلى نص الحوار:

  كيف ترى السودان في الوقت الحالي والأجواء التي يعيشها بعد ثورة ديسمبر 2018م؟

  أنا متفائل بالأوضاع الحالية في السودان، وهذا التفاؤل ليس عابرًا أو مجانيًّا؛ لأن الثورة التي حدثت في السودان ذات طابع مختلف عن باقي الثورات التي قامت في بعض الدول العربية لأنها كانت ثورة شبابية، والأحزاب السودانية التقليدية الموجودة في السودان لم تتمكن من احتوائها، وأيضًا لدى هؤلاء الشباب فكرة أن الثورة مستمرة حتى تحقيق أهدافها، ومن ثَمّ فإن فكرة الانتكاسة لهذه الثورة ليست سهلة على الرغم من وجود أزمات. ولم يكن لأحد أن يتصور أن نظامًا فاشيًّا حكم السودان مدة ثلاثين عامًا لا يخلف وراءه عددًا كبيرًا من المشكلات والأزمات في المجالات المختلفة كافة. وأرى أن بعض هذه الأزمات مفتعلة، والمشكلة أن الإسلامويين في السودان استغلوا مسألة الحرية بصورة واضحة جدًّا وبشكل كبير. ودائمًا أقول للثوار: إنهم ديمقراطيون لأنهم لم يفعلوا مثلما تم في بعض الدول العربية الأخرى من محاكمات للإخوان المسلمين، وما صاحبها من انتهاكات واضحة في مجال حقوق الإنسان.

والآن بعض هؤلاء وجماعة الإخوان يستغلون أجواء الحرية في السودان، ويظنون أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة، وأنهم معصومون من الخطأ. قرأت البيان الأخير لمجلس الشورى الخاص بهم في السودان، الذي قالوا فيه: «إننا نعتز بتجربتنا» في السودان، وهي تجربة لا يعتز بها أحد. ورددتُ عليهم بمقال في جريدة «الديمقراطي» نُشر مؤخرًا وفحواه أن هذا استفزاز للشعب السوداني؛ لأنهم لو كان لديهم مفكرون لاعتذروا للشعب السوداني، وجاؤوا ببرامج جديدة للنهوض بالبلاد ودفع العملية الديمقراطية إلى الأمام. ولكنهم متعصبون وفاشيون ولا يبحثون سوى عن مصالحهم، ولذلك رفعت شعار «لا حرية لأعداء الحرية»، ويجب التعامل معهم بالأسلوب نفسه. الوضع في السودان متوتر وصعب، لكن الأوضاع لن تعود إلى الوراء مرة ثانية، والإخوان المسلمون في السودان لن يكونوا في حاجة لعزل سياسي؛ لأن الشعب السوداني عزلهم اجتماعيًّا وذلك بعد ظهور فسادهم للناس في أثناء مدة حكمهم.

  بعد الإطاحة بالنظام قلت: إن «ما حدث في السودان في ديسمبر 2018م، هو ثورة سياسية واجتماعية وفكرية، أطاحت- في الشق السياسي منها- بالدكتاتورية، وفتحت الباب لاستعادة الديمقراطية والحريات في كل المجالات، وأفسحت المجال في الشق الاجتماعي لقوى الشباب والمرأة لتتصدر المشهد»، هل ترى بعد ثلاث سنوات من الإطاحة بالنظام أن الأهداف تحققت؟

  بالطبع ثلاث سنوات قليلة جدًّا للحكم على نجاح الثورة، لكن المؤشرات تبرز أن المرأة والشباب موجودون في الحياة العامة بشكل معقول، وأصبح للمرأة وجود واضح في الحياة العامة، وهي مكون أساسي في العديد من مؤسسات المجتمع المدني، وفي مجال الإبداع وفي أشكال الكتابة المختلفة، وفي الفنون التشكيلية ظهر العديد منهن. ومع انطلاق الثورة انفتح الباب وظهرت إبداعات كثيرة جدًّا، وستظهر فيها قدرات كبيرة للمرأة السودانية، أما الشباب فيحتاج إلى عملية تثقيف عميقة، ولأنهم حركيون فإن فكرهم يحتاج لتطور كبير، وأنا عندي أمل كبير جدًّا في هؤلاء الشباب؛ لأن لديهم حب استطلاع وحب تعلم أشياء جديدة.

حاضر ومستقبل الإخوان المسلمين

  بدأْتَ أحد مقالاتك مؤخرًا بـ«يشعر المرء بعميق الأسى والشفقة على ثورة ديسمبر المجيدة حين يراها تتعثر يوميًّا في مسيرتها، بسبب تردد وحذر سلطتها التي كان يفترض فيها المبادرة والجرأة والشجاعة في اتخاذ القرارات الواثقة الرادعة». هل ما زلت تشعر بهذه المرارة وهذا الأسى حتى الآن؟

  لنعلم أن المرحلة الانتقالية شهدت مشكلة وهي ظهور عدد كبير من الانتهازيين والمتسلقين؛ لوجود بعض الفراغ السياسي. فعندما سقط النظام القديم لم تتكون بعده معالم النظام الجديد، لذلك نجد فراغًا، ومن هنا ظهر انتهازيون ومتسلقون تولوا مناصب وهم من جذور السلطة في النظام السابق وليسوا ثوريين، لكن استغلوا الجو العام في البلاد وركبوا موجة الثورة، ولم يدخلوا في معارك حقيقية مع النظام البائد. ويوجد حاليًّا بعض الوزراء في الحكومة الحالية مثل وزير المالية الحالي الذي له خلفية مع الإخوان المسلمين، وهو إلى الآن يصدر تصريحات ضد الثورة واستقرار البلاد، وقد جاء للحكومة من خلال حركة العدل والمساواة المسلحة، ويستغل وجوده في الحكومة ليعبر عن خلفيته الإسلامية وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين. وجود مثل هؤلاء الأشخاص في مجلس الوزراء يعطل بعض القرارات التي تصب لصالح البلاد، وأنا أتخوف من مثل هؤلاء. ولكن مع مرور الوقت سيُكشَفون، ولن يستطيعوا الاستمرار كثيرًا.

  دعوتَ إلى مواجهة شاملة مع نظام «الإخوان» البائد في السودان؛ هل تحقق ما دعوتَ إليه على أرض الواقع؟ وماذا تبقى من جماعات الإسلام السياسي وتأثيرها في السودان؟

  هم الآن معتمدون على العاطفة الدينية في عموم البلاد، وقد كتبت مقالًا مطولًا في هذا السياق أسميته «مسلم وإسلامي وإسلاموي»: فالمسلم هو الإنسان العادي الذي يذهب للمسجد للصلاة ويؤدي الصيام والفرائض كاملة، وهذا المسلم العادي في السودان رافض للإخوان رفضًا كاملًا. أما الإسلاميّ فهو قريب من المسلم العادي في ذهابه للمسجد وأداء الفرائض، ولكن يمكن أن يكون لديه رؤية لتفسير الأشياء من خلال الإسلام، وأيضًا لديه شمولية الإسلام. أما الإسلاموي فينتمي لجماعة الإخوان، وهدفه السلطة، ويتخذ الإسلام وسيلةً للوصول إليها مثل جماعة البشير. لكن هذا الإسلام السياسي ليس لديه أي مستقبل في السودان، ولذلك سيُغيّرون لافتة الإخوان المسلمين، وسيعملون من خلال تيارات إسلامية أخرى مثل: الطرق الصوفية وأحزاب طائفية.

  يرى بعضٌ أن الإسلام السياسي تلقى هزيمة حقيقية في السودان، وهو ما أثر في أنصاره على مستوى المنطقة العربية، فما رأيك؟

  نعم، أنصار الإسلام السياسي كانوا يعدون السودان لتكون قاعدة انطلاق للإسلام السياسي، ليس في العالم العربي فقط بل في أفريقيا؛ لذلك أنشؤوا جامعة أفريقيا العالمية وبدؤوا الاشتغال عبر منظمة الدعوة الإسلامية للعمل في أفريقيا. وكانت حركات الإسلام السياسي في المنطقة كلها، ترى السودان قاعدة انطلاق لها. وحسن الترابي كانت لديه هذه الفكرة وعَدَّ نفسَه قائدًا للإسلام السياسي في العالم الإسلامي، وقبل فكرة إنشاء المؤتمر الوطني الحزبي قام بتنظيم شعبي دُعِيَ له كل الإسلاميين، وكانت لديهم فكرة لعمل تحالف بين الإسلاميين والقوميين العرب، وبدؤوا الاشتغال على هذه المسألة. وفعلًا رأوا أن السودان يمكن أن يكون قاعدة الانطلاق لهم في إفريقيا والعالم العربي؛ لأنه كان هناك تصور يمكن أن يكون صوابًا أو خطأ وهو أن السودانيين وسطيون في العالم العربي أكثر من شعوب أخرى. ومن هنا نؤكد أن إخفاق المشروع في السودان، هو هزيمة لمشروع الإسلام السياسي كله.

واقع المصالحات ومستقبل السلام

  كيف ترى المصالحات التي تمت مؤخرًا مثل حركة تحرير السودان بقيادة عبدالواحد نور على استقرار السودان وانتهاء الحروب القبلية؟

  رأيتها في المسارات كافة تأخذ طابعًا قبليًّا، وكان لا بد من البداية أن ترفض، وأن تكون الدعوة إلى سلام قومي، وعلى السلام القومي هذا قبل أي شيء أن يحُلّ أي مظلومية للأقاليم المختلفة، لكن الآن يحدث العكس، فهم يظنون إن عدلوا أوضاع الأقاليم فسوف يعدلون أوضاع البلاد كلها، وبخاصة أننا ليس لدينا مشروع قومي سوداني بمعنى أن كل الأحزاب عندنا طائفية وطرق صوفية وتقسم السودان وغيرها، وهذه الترتيبات القبلية تخيفني، فنحن نحتاج إلى مشروع قومي سوداني حديث بعيدًا من الطرق التقليدية السابقة، ولنعلم أن هناك فرقًا بين الحرب والسلام، وما يحدث الآن سيكون له عواقب، لكن كسلام مجتمعي وسلام تعايش ستكون هناك نقاط ضعف، والدليل على ذلك ما يحدث الآن في دارفور.

  برأيك ما الذي يحتاجه السودان لبناء سياسة خارجية تُخرِج البلاد من العزلة الخارجية والملاحقة، وإلى إقامة علاقات متكافئة مع الجوار والعمق الإفريقي والمجتمع الدولي؟

  لا بد من أن تكون مصلحة السودان واستقراره أولًا، وأيضًا إزالة فكرة المحاور والتكتلات الموجودة، وأن يستفيد السودان من موقعه بشكل أفضل؛ لأنه يمتلك موقعًا إستراتيجيًّا مهمًّا، ومن الممكن أن يكون بوابة لأفريقيا والعالم العربي، ويستفيد من وضع السودان في الإقليم، ودوره القوي إثيوبيا وتشاد والنيجر حتى نيجيريا وليبيا، فلا بد من الاستفادة من دور السودان في الإقليم، والسودان بعيد منذ سنوات من أداء هذا الدور الإقليمي، وأن توضع المصالحة الوطنية على رأس الأولويات، وألا يدخل السودان في تكتلات خارجية، وأن يكون الدور الذي أداه في أيام حركة التحرر الوطني في أفريقيا.

  كيف ترى الأزمة القائمة حاليًّا بين مصر والسودان وإثيوبيا بخصوص سد النهضة الإثيوبي؟ هل ستشهد منطقة حوض النيل حروبًا على المياه في المستقبل من رؤيتك لما يدور الآن بين مصر والسودان وإثيوبيا بخصوص سد النهضة؟

  لا، وأؤكد أنهم سيعودون للتفاوض مرة أخرى، ومن خلال التفاوض ستحل كل الأضرار بين الأطراف الثلاثة. وبحسب الخبراء فإن الأضرار ستحل قبل الانتهاء من بناء السد عبر التفاوض، وإن عملية التصعيد بين الأطراف الثلاثة أظنها خطابًا داخليًّا لشغل الرأي العام بها والهروب بهذه المشكلات إلى الأمام. ونرى ما حدث في موضوع الفشقة على الحدود بين السودان وإثيوبيا، فالمزارعون الإثيوبيون منذ 26 عامًا يزرعون الأراضي السودانية، وفجأة اكتشف السودان الموضوع. أما مصر ومهما كانت قوة إثيوبيا فلن تستطيع أن تؤثر في نصيب مصر من المياه، وهذا أمر مستحيل حتى لو حلت دولة عظمى في محل دولة إثيوبيا الآن. وما قاله آبي أحمد رئيس وزراء إثيوبيا مؤخرًا من أنه سيقوم ببناء 100 سد على النيل، كلام للاستهلاك الإعلامي لا أكثر.

  إن جاء ذكر الانفصال ومشروع قرنق الوحدوي في جنوب السودان، لا بد أن يبرز سؤال، إن كان هذا المشروع الوحدوي نابعًا من اعتقاد فكري، لِمَ لَمْ يتمكن قرنق من توريث هذه الفكرة للأقرباء منه؟ فبعد وفاته لم يظهر من تبنى الفكرة بنهجه وطريقته وحدثت الكثير من الصراعات؟

  قرنق تحدث عن السودان الجديد، ومشكلته أنه كان لديه كاريزما كبيرة مثل كثير من الزعماء. وسلفا كير في زمن قرنق لم يكن له أي وجود ولم يسمع به أحد؛ لذلك لم يستمر في مشروع قرنق والسودان الجديد. أضف إلى ذلك تأثر قرنق بمشروع شرق أفريقيا الاشتراكية، وموضوع الاشتراكية الأفريقية بالنسبة لسلفا كير وجماعته لا وجود له. حتى فكريًّا لم يكونوا في مستوى معارضة قرنق، ومن هنا مات المشروع مع قرنق.

مستقبل العالم العربي

  يرى بعضٌ أن واقع العالم العربي بعد الربيع العربي يكتنفه الغموض، فكيف تتأمل هذا الواقع؟

  في غياب قيمة عليا لمسألة الحرية والحريات عمومًا لا تتحدث لي عن مستقبل العالم العربي. العرب يخافون من حرية التعبير؛ لذلك يلجؤون للتكفير ولكل الوسائل التي تجعل من مسألة التفكير الحر غير وارد. العالم العربي يحتاج لرؤية فيها جانب كبير من العقلانية والعلمية. والعقلانية والعلمية مقسومتان على أشياء تفسر من خلال طبيعتهما وليس من خارج المنهج. ولذلك غياب العقلانية في العالم العربي يجعل تحليل الأشياء غير ممكن. وعندما كنت أشاهد في التلفاز النائب الأردني الذي فصل من البرلمان، وجدت تصرفًا غريبًا جدًّا تجاه نائب جاء باختيار الشعب، فكيف يعطى الحق لنائب برلماني فصل نائب برلمانيّ مثله؟! الديمقراطية مسألة شكلية أكثر منها جوهرية. في السابق كانوا يقولون: إن الأمية هي العائق، ولكنها انحسرت بشكل كبير في العالم حاليًّا. إلا أنه بعد التعليم والدراسة وقراءة الكتب وازدياد عدد الخريجين والمتعلمين وعدد الشهادات العليا، ظل العقل محافظًا، وظل العقل غير عقلاني كما هو.

  كانت الحركة الديمقراطية والحقوقية العربية، تحلم بتغيير كبير يعيد الوطن العربي إلى سكة التاريخ، فكيف ترى هذا الحلم بعد كل هذه السنوات؟

  لديّ تحفظ كبير على الديمقراطيين العرب كلهم، وبخاصة في مجال حقوق الإنسان. بمعني أن «الديمقراطي» العربي لا يمارس الديمقراطية في نفسه ولا مع أسرته. لا بد أن نكون ديمقراطيين أولًا؛ لأنه لا ديمقراطية من دون ديمقراطيين.

  أنت من دعاة اللاعنف والتسامح في العالم العربي، لكن هذا العالم فيما يبدو عصيّ على حال اللاعنف، فهو اليوم من أكثر مناطق العالم عنفًا؛ ما تفسيرك لهذه الحالة؟

  العنف لي دليل ضعف وليس دليل قوة، ومن يمارس العنف ضعيف. بالنضال السلمي استطاع غاندي فعل الكثير، والعقل السلمي يحتاج لفكر قوي لهزيمة أفكار الآخرين. ومن يلجأ للعنف دائمًا هو عاجز عن تقديم أي شيء.

  كنتم منحازين غالبًا لمشروعات دمقرطة الأنظمة في الوطن العربي، لكن بعض تجارب التحول الديمقراطي من بغداد إلى تونس لم تجلب للناس سوى الفساد والطائفية وعدم الاستقرار، حتى عاد أغلبهم يترحم على ما سُمّيَ زمن الطغاة، فهل ترون مخرجًا لهذا المأزق؟

  لنعلم أن الديمقراطية ليست صندوق انتخابات وبرلمانًا، ولكن الديمقراطية ثقافة وسلوك ونمط حياة، وليس كل بلد به برلمان منتخب به ديمقراطية.

  هل ترى أن مسألة الاجتهاد في المؤسسات الجامعية مواكبة لفتوحات ومناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية المعاصرة؟ وهل توظيف مثل هذه المناهج في دراسة النصوص الدينية كفيل بالعملية الإصلاحية أم إن الأمر يتجاوز مجرد أزمة مناهج وآليات قراءة؟

  في الحقيقة أخشى دائمًا من معارك الدين مع الدين. كثير من محاولات التجديد والإصلاح الديني أخفقت منذ محمد عبده والأفغاني. ومن هنا يجب أن نسأل: لماذا استعصى الإصلاح والتجديد في العالم الإسلامي؟ فما يحدث هو نوع من التجديد الفقهي في النصوص وليس نوعًا من التجديد في الحياة. والعالم دخل في العلوم والتقنية وغيرها، ونحن نظن أن مشكلتنا في النصوص وليس الاشتباك مع النصوص. فلذلك نسأل السؤال معكوسًا: لماذا استعصت كل محاولات الإصلاح والتجديد الديني في العالم الإسلامي؟

  يبدو أن العرب قياسًا بغيرهم من جيرانهم الطبيعيين، يفتقدون إلى مشروع حضاري جامع، يتطلعون من خلاله إلى المستقبل، فلماذا في رأيك عجزت الأمة العربية عن الإجابة عن سؤال التقدم؟

  لأن العرب يُصِرّون على أن يكون مستقبلهم خلفهم. العرب ماضويون يُصِرّون على أن العصر الذهبي لحضارتهم كان في القرن الحادي عشر مثلًا، وهناك تمجيد غير معقول لإنجازات الأجداد وترديد:

وَرِثْناهُنّ عن آباءِ صِدْقٍ

ونُورِثُها إذا مُتْنا بَنِينَا.

مشروع فكري متكامل

  أصدرتَ عددًا مهمًّا من الكتب، منها: «أزمنة الريح والقلق والحرية. سيرة ذاتية»، و«سقوط المشروع الحضاري»، و«أزمة الإسلام السياسي»، و«الجبهة القومية في السودان نموذجًا»، و«الأمنوقراطية وتجدد الاستبداد في السودان»، و«كتاب مراجعات الإسلاميين السودانيين، كسب السلطة وخسارة الدين»… ما السؤال الجوهري الذي تحاول بلورته في هذه الكتب، أو تجتهد في الإجابة عنه؟

  الأسئلة الجوهرية التي أحاول بلورتها في كل كتاباتي، هي الاهتمام بقضايا علم الاجتماع الديني. ومن إصداراتي كتاب «مقدمة في علم الاجتماع الديني» وكتاب «سوسيولوجية الفتوى»، ثم «الفتوى والسياسة»، وكتاب «لاهوت التحرير أو الدين والثورة في العالم الثالث»، وكتاب «أنثروبولوجيا الشعر والحجاب»، وصدر لي هذا الشهر كتاب «الإسلام السوداني- دراسة في أنثروبولوجيا التدين الشعبي في السودان». وأصدرت كراسات تحت عنوان: «الثقافة السياسية» حاولت فيها مخاطبة الشباب، ومن العناوين «العلمانية-مفاهيم وقضايا»، ثم «العولمة وجدل الهوية»، وكتاب «التعليم وحقوق الإنسان».

  تؤمنون كما نعرف بدور المجتمع المدني في تغيير الواقع العربي، وترون في «الدولة المدنية» مخرجًا للصراع السياسي والأيديولوجي، فهل من إضاءة؟

  دور المجتمع المدني في عملية تغيير المجتمع العربي مشروط بحداثة وديمقراطية القوى المكونة للمجتمع المدني العربي، وألا يكون مجردَ امتدادٍ للعقلية التقليدية أو تكرارٍ لتجربة الأحزاب العربية.