حائز جائزة نوبل للآداب (2021) عبدالرزاق قرنح: لم أدرك المغزى من استخدام مصطلح «الأدب العالمي»

حائز جائزة نوبل للآداب (2021) عبدالرزاق قرنح: لم أدرك المغزى من استخدام مصطلح «الأدب العالمي»

يعمل الحائز جائزة نوبل لهذا العام 2021م عبدالرزاق قرنح، الكاتب التنزاني الشهير، المولود بإقليم زنجبار، والمقيم حاليًّا في بريطانيا، أستاذًا متفرغًا للأدب الإنجليزي وأدب ما بعد الاستعمار بجامعة كنت. وله كتابان جمعا كتاباته عن الأدب في القارة الأفريقية، وله العديد من المقالات حول أدباء ما بعد الاستعمار مثل نايبول، ورشدي، وويكوم؛ كما عمل محررًا لمجموعة المقالات المنشورة بكتاب كامبردج «المرشد إلى أعمال سلمان رشدي» (2007م).

وفي الجانب الإبداعي، يعد قرنح من الكتاب غزيري الإنتاج؛ نُشرت روايته الأولى، «ذكرى الرحيل» في 1987م؛ وصنفت روايته الرابعة، «الجنة» (1994م)، ضمن القائمة المختصرة لجائزتي «البوكر» و «ويتبريد»؛ كما دخلت روايته «بجوار البحر» (2001م) للقائمة الطويلة للبوكر والقائمة المختصرة لجائزة جريدة «لوس أنجليس تايمز». ومن أحدث كتاباته «قلب الحصى» (2017م). وبعد هذه المقابلة: أصدر رواية «الحياة بعد الموت» (2020م). في هذا الحوار مناقشة لأعمال قرنح في ضوء الحديث عن كتابات مناطق المحيط، إذ إنها تقدم العديد من الإضاءات، والمحددات، والإمكانيات لدراسات ما بعد الاستعمار ومنطلقاتها في القرن الواحد والعشرين. كما تركز المقابلة على اهتمامات قرنح في أعماله بطالبي اللجوء، والمهاجرين، والمشردين، والرحل، في وقت تشهد فيه أوربا اضطرابات سياسية ضخمة لها ارتداداتها العديدة في هذا الجانب؛ إذ تصور هذه الأعمال فضاءات وثقافات قد تبدو أن أوربا بمنأى عنها، ولكنها في واقع الأمر على ارتباط شديد بتطور أوربا عبر الزمن في التاريخ والتجارة والاتصال الثقافي.

إلى نص الحوار:

الرحيل خيار أم أمر واقع؟

  تتناول العديد من رواياتك طالبي اللجوء، وهو ما ظهر بوضوح في مشهد الهجرة في رواية «بجوار البحر»، بينما تقدم رواية «الهجر» معالجة أكثر رقة لهذا الموضوع عندما يقدم أمين النصح لأخيه راشد بألا يدع مشاعر الحزن والحنين للوطن تطوقه وتثقل كاهله في غربته. فكيف إذًا بوسعك أن تطرح تطلعات ما بعد الاستعمار أمرًا واقعًا، وليست خيارًا، على رغم أن الهجرة قد لا تكون دائمًا الحل الوحيد؟ وكيف يرتبط هذا بفلسفتك عن الهجرة في ظل نظام عالمي غير متكافئ؟

  رواية «بجوار البحر» هي بالفعل عن اللجوء من عدة زوايا كما تبدو لمختلف شخصياتها: صالح عمر، ولطيف، وجان، وإليكي، وذلك في العديد من المواقف التي ترسمها الأحداث. أما رواية «الهجر» فهي عن الخيارات التي يُقدم عليها البشر، أو التي تبدو كأنها خيارات لهم، ولا أعتبرها تتناول اللجوء تعبيرًا عن الإحباط في وقت الأزمات؛ فالبطل راشد يقرر الرحيل، بل يتوق إليه، ليدرك لاحقًا قيمة ما تنازل عنه وخسره، في حين اختار أمين لنفسه دور المخلص لعقيدته وبالتالي لا يمكنه الرحيل، ونصيحته لراشد بالتماسك هو جزء من دوره الذي اختاره كرجل عقيدة، علاوة، بالطبع، على شعوره بواجبه نحو أخيه عند الحاجة. فالروايتان تعبران عن آثار الاستعمار، وهو ما أعتقد أنه المقصود بقولك «النظام العالمي غير المتكافئ»، ولكن هما أيضًا تعبيران عن كيف يحافظ هؤلاء الناس على أنفسهم وطرق معايشهم برغم ما يجلبه الاستعمار من اضطرابات في حياتهم.

  هل يقلقك أن تطلق على رواياتك وصف «روايات مناطق المحيط» وليس «روايات عالمية»؟ وهل نطاق العالمية يمنعها أن تحمل سمات هذه المناطق؟

  ما أفهمه من قولك «روايات مناطق المحيط» هي الإشارة إلى الروابط بين الثقافات السواحيلية التي تكثر الإشارة إليها في كتاباتي، ولا أجزم إذا كان بالإمكان أن نعتبره صنفًا أو شكلًا أدبيًّا مستقلًّا، فهو يصلح فقط أن يكون وصفًا تنظيميًّا، وهنا ينطبق فقط عندما يكون قصد السرد هو كشف تلك الروابط، بمعنى أن السرد هنا هو نقطة الثقل المحددة، وليس الثقافة أو المكان. وإذا انتقلنا إلى تعبير «الأدب العالمي» فهناك شعور يتملكني أنه مجرد محاولة من الدراسات الأكاديمية للأدب المقارن للفكاك من التقاليد الأوربية؛ نعم أدرك أن بعضًا يتمسك بفكرة «أدب عالمي من دول الجنوب»، وأتفهم دوافعهم لتأكيد أحقية مثل هذا النوع من الكتابة، ولكني لا أدرك المغزى من استخدام مصطلح «الأدب العالمي».

  هل تتفق مع الزعم أن رواياتك تخلو من «الانفراجة المرحة» أو حتى لحظات قليلة من السعادة والانبساط التي لا تعكر صفوها نذر اليأس أو الوحدة القاتلة؟ هل يمكن اعتبار تلك «الكآبة» أسلوبًا تتعمده وتوظفه في كتاباتك الروائية؟

  بداية، لا أتفق مع من يزعم أن رواياتي لا يوجد بها ما أسميتِه «الانفراجة المرحة»، فقد يكون لديهم فهم مختلف عني في مفهوم المرح، فلا يلزم أن يظهر المرح في الأحداث فقط، ولكن في اللغة أيضًا؛ أما عن الألم والوحدة، فهي بالنسبة لي طبيعة الوجود الإنساني.

  في رواية «قلب الحصى» ينزوي دور البحر إلى خلفية الأحداث لإتاحة فرصة أكبر للعائلة بماضيها وعلاقاتها، فتسيطر علاقة سالم بأبيه مسعود على توجه الرواية، كما أن عودة سالم السريعة تبدو خيارًا لم تتحه لباقي شخصيات أعمالك، فكيف ترتبط الأسرة بماضيها مع المحيط بماضيه، وهما محوران رئيسان على مدار أعمالك الروائية؟

  عاد سالم لينخرط مجددًا مع أبيه، لكن هذا الخيار كان متاحًا أيضًا لكل من كتبت عنهم، فالراوي في رواية «الإعجاب بالصمت» يعود أيضًا؛ وكذلك راشد يفكر بالعودة قرب نهاية رواية «الهجر»، فمدار الأمر هو تلك اللحظة التي يقررون فيها الرحيل، فهي تمثل تصدعًا في حياتهم قد يصعب العدول عنها لاحقًا. أما في حالة طالبي اللجوء فخيار العودة ليس له مجال لاعتبارات قضائية، أو خوفًا مما قد يصيبهم من ضرر أو يلحق بهم من عنف عند العودة. لذا فرواية «قلب الحصى» تتناول السلطة ومدى الضرر الذي تلحقه بالعلاقات الإنسانية في تحققها وامتدادها.

ملاحقة الماضي وتنقيحه

  دائمًا ما تذكرني كتاباتك بكونراد الذي تكاد لا ترى في أعماله إلا حكاية واحدة تتكرر هنا وهناك، يشحذها مرة ويعدلها أخرى، إنها قصة رجل يطارده ماضيه ويحاول أن يهرب منه، ولكن بلا جدوى. لذا نجد الحبكة عنده مجرد أمرًا عارضًا، فقارئه ينشغل بمعرفة كيف ولماذا حدث ما حدث، وليس ما حدث. بالمثل تشعرني رواياتك أن هناك «حكاية مسيطرة» تحرص دائمًا على إعادة تقديمها، مع التعديل والضبط والهيكلة، حتى تصل إلى تقديم ما يدور بخلدك. هل تقبل بهذا التوصيف؟ وكيف تفسر تطور الاهتمام السردي في رواياتك؟

  بداية لا يمكنني الجزم إن كانت هناك ما تُسمينه «حكاية مسيطرة» أقدمها بشكل مختلف في كل مرة، فما أنا على يقين منه أن هناك عدة حكايات، منها ما أشرت إليه سابقًا بخيارات الرحيل والبقاء، وكتبت مرارًا وتكرارًا عن هذا، كما كتبت عن تجربة بدء الحياة في أوربا بعد الوصول؛ نعم، هناك اهتمام سردي فيما أكتب عنه- مثل الانتماء، والتصدع، والتفكك- وهو، كما ترين، أكثر من اهتمام واحد، وكل واحدة منها تحوي العديد من القضايا التي تتعلق بالفقد والألم والالتئام؛ فهي تمثل لي المورد الذي يمد الإنسان بما يمكنه من خوض تلك التجارب.

  في كتاباتك غير الروائية، أشرت إلى الطريق المعقد الذي قادك إلى الكتابة؛ فعلى سبيل المثال، في مقالتك «الكتابة والمكان» (2008م) ذكرت أنك «وقعت في الكتابة دون أن تخطط لذلك»، كما أشرت إلى مدة وصولك إلى إنجلترا وكيف بدأت تكتب بدافع التناقض الذي شعرت به بين ذاكرة حية ومتقدة بما كان في زنجبار، وواقع سنواتك الأولى في هذا البلد الذي وصفته بأنه «وجود بلا قيمة». ثم تعود في مقال بعنوان «تعلم القراءة» (2015م) لتذكر أن المؤثرات الثقافية المتناقضة في طفولتك في أثناء إقامتك في ماليندي في كينيا هي ما شكلت منظورك الثقافي العام الذي مكنك من الإبحار وسط متناقضاته وتعقيداته، وهو ما يعني أنك كنت قد بدأت فعل الكتابة قبل أن تصبح كاتبًا. فهل ما تزال على فكرتك الأولى عن مشوارك في التأليف، أم قد طرأ عليها تعديل بعد سنوات من التأمل؟ كما نود أن نعرف إن كان لهذه الرحلة المعقدة تداعياتها في رحلات شخصيات أعمالك؟

  لا، على الإطلاق، لم ينتج عن التأمل فيها أي تعديل، ما زلت أعتقد أن هذا هو الوصف الملائم لما أسميتِه «رحلتي نحو التأليف»، وربما قد أعترض على هذا التسمية، وأفضل عنه التعبير «الوصول إلى الكتابة». فأنا أكتب عن تجارب معقدة في رحلات الحياة لإظهار شبكة الترابط المتداخلة بين خبرات الحياة، وحياة الأفراد، والثقافات.

  الآن لنتحدث عن واحدة من أحدث أعمالك، «قلب الحصى»، فقد وضعت عبارة افتتاحية مقتبسًا عن أبي سعيد بن عيسى الخراز (القرن الثالث الهجري) قوله: «أولُ المحبة تذكر النِعم» (كتاب الصدق). لماذا اخترتها مفتتحًا لروايتك؟ وهل من رابط بينها وبين مسرحية شكسبير «صاعٌ بصاع»؟ وما الذي أوحى لك بهذا العنوان؟ وأخيرًا، كيف تصور التآلف في كتاباتك؟

  هذا المفتتح يأخذ دلالته الواضحة عند وضعه في بداية رواية تتناول الذكريات، وتدور فكرتها المحورية حولها؛ ولعل ما شد انتباهي في العبارة هو الإبهام في التوجيه الذي تحمله، ولذا فالشرح يقلل من وضوح معناه أكثر مما يفسره. وبالمثل، تحمل مسرحية «صاعٌ بصاع» إبهامًا مشابهًا إلى حد ما، لكنها تتناول أمرًا مختلفًا، وهو إساءة استخدام حديث الاستقامة بتوجيهه فقط لإرضاء الذات؛ وهي بهذا تقف على النقيض من الموعظة الصوفية، وهو الجانب الآخر الذي تطرحه الرواية للعملة نفسها. أما التآلف، فأنا أصوره في رواياتي كما يبدو على طبيعته، عملية مستمرة من الارتباط والتفاوض.

  هل تقوم ببحث تاريخي عند الكتابة مثلًا عن حدث في رواياتك مثل ثورة زنجبار وما تلاها من أحداث؟ أم تعتمد على الذاكرة، أو هو استشعار فقط لأحداث الماضي؟ وعليه، هل تُعد رواياتك انطباعات أكثر منها وصفًا واقعيًّا للحياة في شرق أفريقيا؟

  تغطي رواياتي خلفية تاريخية هي دائمًا شغلي الشاغل، لذا فهي دائمًا محط بحثي؛ نعم، أحتاج أحيانًا للاطلاع على تفاصيل معينة، لكنني في المجمل أكتب عما أعرفه ويشغل ذهني. لذا لا أرى داعيًا لوضع الانطباعات والتصوير الواقعي كطرفي نقيض ليبدوا عمليتين متنافرتين؛ الرواية- كما أرها- تشبكهما بطريقة لا يمكن فصلهما.

  أخيرًا، بالنظر إلى ما تمتاز به أعمالك من حيوية السواحل والمناطق التي تعبر عنها، كيف ترى تلك الأعمال بجوار كتاباتك الأكاديمية في دراسات ما بعد الاستعمار؟ وكيف يتقاطع أو يتصادم الإبداعي مع الأكاديمي في كاتباتك؟ فكاتب مثل نايبول قرر أن يتفرغ للكتابة لأنه رأى أن أي عمل آخر سيقتل الإبداع، فكيف إذًا زاوجت أنت بينهما؟

  أكبر ما أكنه من فضل لفكر ما بعد الاستعمار هو أنه قدم لي أرضية مشتركة أتناول عليها مختلف الثقافات والرؤى التاريخية، لذا فهو من أصعب المنهجيات إذا ما دخلها الدارس دون أن يحمل الشغف الذي يلائم سياقها. من جانبي، لا أجد أي صراع بين دوري الإبداعي ودوري الأكاديمي، فكلا العملين يحملان فوائد متبادلة وإن بدا أنهما مختلفان.


المصدر: نشر الحوار بمجلة «نصوص ما بعد الاستعمار»، المجلد 14 (2019 م).


بجوار‭ ‬البحر

عبدالرزاق‭ ‬قرنح

أنا لاجئٌ، أو بمعنى أدق، طالبُ لجوءٍ؛ ولا يخدعنك أبدًا البساطة التي توحي بها كثرة تكرار هذه الكلمات على مسامعك، فهي أبعد من تكون عن تلك البساطة. في عصر الثالث والعشرين من نوفمبر من العام الماضي، وصلت إلى مطار جاتويك. وهذه مجرد نقطة فاصلة بسيطة في قصة أمثالي، حيث نترك ما ألفناه، ونصل إلى أمكنة مجهولة، حاملين قطعًا بسيطة من الأمتعة، ومعها سرنا المكبوت، وطموحنا الغامض. كانت هذه الرحلة لي، ولبعضٍ من أمثالي، أول رحلاتنا جوًّا، وأولَ تجارب الوصول إلى مكان ضخم مثل المطار؛ فقد سافرت كثيرًا من قبل بحرًا، وبرًّا، وحتى بخيالي. بدأت سيري في ممرات يحفها صمتٌ أجوف، ويغمرها ضوءٌ بارد. ولأني الآن أدرك ما لم تره عيني حينها، فقد كانت بها صفوف من الكراسي، ونوافذ زجاجية ضخمة، ولوحات إرشادية. كان الظلام الزاحف خارج تلك الممرات تسوقه ضربات من المطر الخفيف، لكن الضوء داخلها يحجزني عنه. أدركت حينها كيف أننا مهما زادت معرفتنا، فدائمًا تعيدنا الحياة إلى نقطة جهلنا الأول؛ لنرى العالم وكأننا ما نزال نجلس عاجزين وسط ذلك المكان المخيف الذي صورته لنا مشاعر الرعب في طفولتنا.  كان مشيي بطيئًا خشية أن يفوتني أحدُ المداخل، أو أمشي عكس إحدى لوحات الإرشادات؛ فقد كنت أريد ألا ألفت الانتباه إليّ مبكرًا بأي بادرة ارتباك مني.

قادتني خطواتي إلى مكتب استقبال الجوازات. «جوازك!»، قالها لي رجل الجوازات بعد أن ظللت واقفًا أمامه طويلًا، وكأني أقول «خذوني». كانت على وجهه علامات من الصرامة والحزم، برغم الفراغ الذي يملأ عينيه حتى لا تبوح بشيء مما بداخله. وقد نصحوني ألا أقول شيئًا أبدًا، بل أتظاهر أني لا أعرف من الإنجليزية شيئًا البتة. ورغم أني لم أتفهم سبب ذلك التظاهر، إلا أنني كنت على يقين أني سألتزم بتلك النصيحة، إنها الحنكة التي دائمًا ما يلجأ إليها الضعفاء.

«سيسألونك عن اسمك، واسم أبيك، وما قدمت من خير في حياتك»، «فلا تقل شيئًا.»

عندما قال «جوازك!» للمرة الثانية، سلمته إياه بيد مرتجفة تنتظر أن يفعل بها الأفاعيل من إساءات وتهديدات. لطالما اعتدت على نظرات الموظفين وغمغماتهم لأبسط الهفوات، أولئك الذين يتلاعبون بك ويذلونك من باب إظهار سلطاتهم لا غير. لذا، انتظرت ما سيصدر عن فرد الجوازات من زمجرة؛ أو لعله سيهز رأسه ويرفع ناظريه على مهلٍ، ثم ينظر إلىّ نظرة الميسور إلى صاحب الحاجة. بعد تفحص وثيقتي المتواضعة، نظر إلي بعينين تغمرهما فرحة الصياد إذ ترتعش سنارته عند التقاط الصيد.  «بلا تأشيرة دخول»، قالها، ثم التقط الهاتف وتحدث فيه برهة، ليطلب مني بعدها -وقد علت الابتسامة وجهه – أن انتظر على جنب. فتنحيت جانبًا بعيون منكسرة، حتى أني لم ألحظ اقتراب الرجل الذي جاء يصحبني لغرفة التحقيق.

* * *

بعد أن انتهى كيفين إدلمان من كتابة صفحتين أو ثلاث في الدفتر الذي أمامه بغرفة التحقيق؛ بدا سعيدًا بنفسه وهي يستعد لقول شيءٍ ما، بينما أنا أتكتم نوبة من الفزع والإحباط.

«السيد شعبان، أنا لا أعرفك، ولا أدري ما الذي جاء بك على هنا؛ أو ما تكبدته من أجل ذلك. لذا يؤسفني أن أخبرك أنك ستمنع من دخول المملكة المتحدة، فليس لديك تأشيرة تؤهلك للدخول، وليس لديك من مورد أو ضامن يكفل لك الدخول. أعلم أنك قد لا تستوعب ما أقول، لكن واجبي أن أقول ذلك قبل أن أضع ختم الرفض في جوازك. هذا الإجراء يعني أنك ستمنع من دخول المملكة المتحدة لاحقًا، إلا إذا حصلت على الموافقة. يؤسفني أنك لا تفهم ما أقول، وأننا لابد أن ننفذ هذه الإجراءات الرسمية، وسنحضر لك لاحقًا من يتحدث لغتك ليوضح لك ما تم. بعدها سنرحلك في أقرب رحلة إلى الوجهة التي قدمت منها وعلى نفس خطوط الطيران.»

بعد أن أتم كلامه، قلب صفحات الجواز باحثًا عن صفحة فارغة ليضع بها وسم الختم الذي كان قد وضعه على الطاولة.

قلت «لاجئ … لجوء». عندها نظر إلى مغضبًا، فطأطأت بصري. «ها انت تتحدث باللغة الإنجليزية!» قالها غاضبًا، «أكنت تضللني يا سيد شعبان؟!» فقلت مكررًا: «لاجئ …. لجوء». وررفعت بصري وكررتها للمرة الثالثة. فقاطعني كيفين وقد تعكر لون وجهه وتغيرت وتيرة أنفاسه بما يصعب مجاراتها، كما فعلت سابقًا.

* * *

كنت على يقين أن قادته سيخبرونه أن الحكومة البريطانية قد قررت -لأسباب لا أدركها حتى الآن- أن من يأتي من البلد الذي قدمت منه يحق لهم طلب اللجوء إذا ادعوا أن حياتهم في خطر. ولم تهدف الحكومة البريطانية من ذلك إلا لتبين للمجتمع الدولي أن حكومة بلادي تمثل خطرًا على مواطنيها، وهذا أمرٌ واضحٌ للجميع منذ زمن، لكن يبدو أنه قد حانت الفرصة الآن لأعضاء المجتمع الدولي، بتعاليهم المعتاد، أن يعلنوا تخليهم عن أولئك الرعاع، المتشاحنون، المنفلتون، الذين تغص بهم تلك الأحراش الجافة؛ فقد بلغ السيل الزبى.

الغريب، أني لا أرى أن حكومة البلاد أقدمت على فعل خطيئة لم تفعلها من قبل، إلا أنها زورت الانتجابات، وعدلت النتائج رغم حضور المراقبين الدوليين. من قبلُ كانت فقط تسجنُ، وتغتصبُ، وتقتلُ، وتذلُ مواطنيها. أهذا الجديد الذي لم تقدم عليه من قبل؟! أهذا ما دفع الحكومة البريطانية لمنح حق اللجوء لمن يعتقد أن حياته في خطر؟! يا له من أسلوبٍ رخيصٍ لاعلان الرفض! وهم يعلمون أن قله فقط من السكان الفقراء لتلك الجزيرة الصغيرة يمكنهم تدبير مصروفات السفر، فلم يقدم عليه إلا بضع عشرات من الشباب ممن دفعوا آبائهم واقربائهم للتضحية بأغلى من يملكون أو الاستدانة ليتمكنوا من دخول لندن كطالبي لجوء بدافع الخشية على حياتهم.

وكنت ممن يخشون على حياتهم، ليس فقط الآن بل من سنوات، لكن الفترة الأخيرة وصل بي الخوف حد الأزمة الخانقة. وعندما سبقني مجموعة من الشباب وسمح لهم بالدخول قررت – في سني هذا- خوض الرحلة. لذا توقعت أن يعود كيفين ويضع ختمًا مختلفًا على جوازي، ثم أنقل إلى أحد مراكز الاحتجاز، إن لم تكن الحكومة البريطانية قد غيرت رأيها، وأنهت هذه اللعبة أثناء رحلتي الجوية!

مقاطع من الفصل الأول: بقايا، من رواية «بجوار البحر» للفائز بنوبل صدرت في 2001.

ترجمة: عبد الفتاح عادل