هجرة النظريات والمفاهيم.. المفاهيم والتحول الثقافي

هجرة النظريات والمفاهيم.. المفاهيم والتحول الثقافي

في كتابه «هجرة المفاهيم» يحدّد الناقد السعودي سعد البازعي الإشكالية التي يُفكّرُ فيها في هجرة المفاهيم وانتقالها من مكان إلى آخر، في مسعى لرصدها وتحليلها وإبراز علاقتها بالتحول الثقافي. يتوزّع مشهد الكتاب على خمسة محاور، هي: تحولات ثقافية عربية، وتحولات كتب، وأوربا والإسلام: هجرات وتحولات حضارية، هجرات المعرفة، هجرات الفلسفة، وضمن هذه المحاور، يتقصّى المؤلف مجموعة من القضايا والمفاهيم المتصلة بالموضوع، مثل: اللغة، والنسوية، والاستشراق، والتبيئة، وسياسة المعرفة وغيرها.

هجرة المفاهيم بوصفها مسألة نقدية

من المعروف أن انتقال النظريات من القضايا الإشكالية، ليس فقط لأن المفاهيم تتحرّك وتنتقل من مكان إلى آخر، ولا تبقى كما هي ولا تترك الأشياء كما وجدتها، وإنما أيضًا لأن التفكير فيها يتسم بالنسبية، بمعنى أن الدارس لهذا الموضوع لا يمكن أن يقول فيه قولًا نهائيًّا أو ناجزًا، ما دام «يتعامل مع شأن إنساني يؤثر في القيم نفسها ويتأثر بها بقدر ما يتصل ببنية الفكر وطبيعة الثقافة». (البازعي، ص20) وإذا كانت المصطلحات التي تصف انتقال النظرية وهجرتها متعددة كالانتقال والنقل والتبادل، فإن الباحث يفضّل مفهوم الهجرة على المفاهيم الأخرى، معللًا ذلك بكون «الهجرة انتقال استيطاني، توطّن أو تبيّأ في مكان مختلف وضمن ظروف مختلفة». (ص19).

ومع أن المؤلّف يشدّد على أهمية تتبع المفاهيم والبحث في جذورها حتى يكون التفاعل مفيدًا وخصبًا بالنسبة للثقافة المستقبلة، فإن الوعي النقدي الذي يَصدُرُ عنه يختلف عمّا يقول به دعاة تنقية الجذور، والرجوع إلى البداية في مسعى لاستعادة الأصل الذي شوّهه الانتقال، كما يفعل الفيلسوف هايدغر في مقالته: ما الفلسفة؟ وفي هذا السياق يقول البازعي: «لم أذهب مذهب هايدغر في محاولة تنقية المفهوم أو النظرية، وإنما إلى جعل الوعي بالدلالة الأصلية طريقًا إلى تفاعل واعٍ، لكنه غير مسكون بنقاء الأصل وصحته، وساعٍ في الوقت نفسه إلى أخذ اختلاف البيئة الجديدة في الاعتبار لإحداث تفاعل أكثر استجابة لطبيعة الثقافة التي ينتقل المفهوم أو النظرية إليها». (ص23).

سعد البازعي

من المؤكد أن انتقال المفاهيم وهجرتها عبر الثقافات والأزمنة من المسائل النقدية الكبرى التي تكرّست للتفكير فيها جهود عديد من الفلاسفة والمفكرين الغربيين والعرب. وقد كرّس لها البازعي كتابًا مهمًّا حمل عنوانًا: «استقبال الآخر: الغرب في النقد العربي الحديث» (2004م) واهتم فيه بتحليل ونقد أشكال تلقي النقد العربي المعاصر للمفاهيم النقدية الغربية، وبخاصة مفاهيم البنيوية التكوينية التي ظهرت أول مرة في هنغاريا على يد جورج لوكاش، وتطوَّرت في فرنسا مع لوسيان غولدمان، وقد أحدث الاستقبال العربي لمفاهيمها وأدواتها منذ أواخر السبعينيات، أثرًا قويًّا في الخطاب النقدي لدرجة أن مصطلحات كالبنية الدالة والرؤية للعالم أتاحت للناقد، في سياق عربي كان يشهد فورة أيديولوجية، تلك الفرصة التي لَطالما انتظرها؛ كي يتخلص من المفاهيم البنيوية ذات التوجّه المحايث.

يستهل سعد البازعي مؤلفه بمواجهة سؤال أساس يتعلق بالمقصود من المفهوم. ويتبين من خلال الجواب الذي يَعملُ على تركيبه أن الفكرة المجردة، وليست البسيطة هي المقصود من المفهوم. في المفهوم تكتسب الفكرة طابعًا أكثر تعقيدًا وتعددًا في الدلالات وتجريدًا في الاستعمال. ومن بين الأمثلة التي يستدعيها للاستدلال على الأهمية التي تكتسيها الأفكار في صيرورتها، كتاب الناقد البريطاني ريموند ويليامز: «الكلمات المفاتيح» الذي اهتم فيه بتحديد مجموعة من الكلمات ذات الأهمية اللمّاحة في العديد من المجالات. ويُعرفُ ريموند وليامز بأنه واحد من أبرز النقاد في النصف الثاني من القرن العشرين، فقد أسهمت أعماله العديدة ليس فقط في تغيير المفهوم عن الثقافة والمجتمع، بل فتحت منافذ إلى مسارات جديدة لتطوير الدراسات الثقافية في بريطانيا، وفي أوربا والولايات المتحدة الأميركية بوصفها إبدالًا ملتزمًا يعنى بالتفكير في الثقافة والمجتمع. ولا شك أن إحالة البازعي إلى كتاب «الكلمات المفاتيح» للاستدلال على التحول الذي يحدث للكلمة استشهاد ملائم؛ لأن وليامز أصدر هذا العمل سنة 1976م، واستند فيه إلى الخلاصات التي ركّبها من خلال الاشتغال على الثقافة والمجتمع، لينتهي إلى فكرة مفادها أن تتبع المسار الذي قطعته كلمة ثقافة، يُبرزُ كيف صارت مفهومًا أساسيًّا لدراسة المجتمعات وتحولاتها.

المفاهيم وتحولات الثقافة

إذًا، لما كان كتاب البازعي يُعنَى بالتفكير في هجرة المفاهيم والمصطلحات من السياق الغربي والأوربي إلى السياق العربي، والبحث في كيفيات تلقيها وأثرها في الثقافة العربية والتحولات التي عرفتها، فإنه يَصدرُ عن رغبة مماثلة لتلك التي دفعت وليامز إلى تأليف «الكلمات المفاتيح» على الرغم من السياق الثقافي المختلف الذي يؤطر تجربتَيِ الناقديْنِ.

ولعل ما يعطي هذا الاستنتاج المشروعية، ليس فقط كوننا إزاء باحث يعدّ من أهم المقارنين العرب، وقدّم للنقد المقارن مجموعة من الأعمال التي تتعين بوصفها مراجع أساسية في مجالها، وإنما أيضًا لكون أغلب المفاهيم المتداولة في الثقافة العربية منذ النصف الثاني من القرن العشرين هي مفاهيم وافدة عن طريق الترجمة التي هي عامل محوري من عوامل انتقال النظرية والآداب والفنون. وهذا ما يعطي المقارنة أهمية خاصّة من حيث كونها تُتيحُ فهم السيرورة التي تقطعها المفاهيم والآثار التي تتركها سواء في سياقها المحلي أو في السياقات التي تهاجر إليها.

وإذا علمنا أن «قدر المفاهيم والنظريات، مثلما هو قدر العلوم والآداب حين تهاجر من مكان آخر، قدرها أن تهاجر، وأن تتبيّأ، وأن يحسن فهمها، ويتعمق تأثيرها حينًا، وأن يأتي ذلك أحيانًا أخرى مثل حصان طروادة». (ص22)؛ اتضح أن المقصود بهجرة المفاهيم هو «حالة تلك المفاهيم حين تتغير مواقعها في النصوص عبر متغيرات الجغرافيا واختلاف الثقافات. هي المفاهيم، بتعبير آخر، في حالة سيولتها أو تدفقها من بيئة إلى أخرى أو من نص إلى آخر ضمن البيئة الواحدة». (ص، 14) من هنا، لا تعني هجرة المفاهيم عند البازعي أنها تبقى على الصورة التي كانت عليها أول مرة، بل هي تتغير ببطء لدرجة أن المهتم بأمر النظرية قد لا ينتبه إلى ضروب الانزياح التي طاولت أدواتها وافتراضاتها السابقة، وهذا ما ألمع إليه إدوارد سعيد عندما تتبع انتقال مفاهيم سوسيولوجيا الأدب بين لوكاش وغولدمان؛ إذ بينما يبدو تأثر غولدمان بلوكاش واضحًا وبيّنًا، فإن النقد لم ينتبه لما يُوجدُ عند الناقدين من فرق بين الوعي الطبقي والرؤية المأساوية يَصلُ درجة التقابل أو التضاد بين التمرّد والتصالح. من هنا يضعنا انتقال المفاهيم، كما يقول عبدالسلام بنعبد العالي: «لا أمام المتطابق المجترّ والمكرور، وإنما أمام الشيء ذاته، أمام كلام متعدد ما انفكّ يعود هو بنا في الوضوح الغامض لما قيل».

إذا كانت هجرة المفاهيم تتخذ أبعادًا متعددة، فإن الثابت هو العلائق المتواشجة بين هجرة المفاهيم والآداب وتحولات الثقافة. وكم هي التحولات الثقافية التي نتجت من انتقال مفاهيم أو نظريات من سياقها الأصلي إلى سياقات أخرى، سواء تلك التي حدثت في الثقافة الأوربية خلال احتكاكها بالثقافة العربية في العصور الوسطى، أو تلك التي عرفتها الثقافة العربية خلال العصر الحديث.

وإذا شئنا أن نَضربَ مثالًا من حقل الدراسات الأدبية على التحول الذي تحدثه المفاهيم المتنقلة، لَوجدنا أن «النظرية الفرنسية» تتعين بوصفها نموذجًا ملائمًا لإضاءة الأثر الحاسم للنظرية في السياقات الثقافية التي انتقلت إليها، ومن بينها السياق الأميركي. ففي كتابه «النظرية الفرنسية» يشرح فرانسوا كوسى كيف أنّ أعمال فلاسفة من تيار ما بعد البنيوية من طراز جاك دريدا، وجون بودريار، وجاك لاكان، وجيل دولوز، وفليكس كواتاري، وميشيل فوكو وجوليا كريستيفا؛ أحدثت باختراقها الجامعة الأميركية رجّة قوية في الحقل الثقافي الأميركي. وهكذا، أدّى استقبال رموز النظرية الفرنسية من خلال العمل الذي اطلعت به شعب الآداب في الجامعات الأميركية، والتفاعل الحواري مع مفاهيمها وافتراضاتها، بشكل يُضيفُ إلى اجتهاداتها إضافةً تُغيّرُ شكلها أو تنزعُ عنها الطابع المحلي، إلى إحداث تحول عميق في الثقافة الأميركية من أهم تجلياته ظهور تيارات نقدية جديدة مثل: «الدراسات الثقافية» و«دراسات ما بعد الاستعمار» و«التعددية الثقافية» و«الدراسات النسوية»… إلخ، مما أفسح المجال ليس فقط لانسلاخ النظرية عن سياقها الأصلي بما في ذلك الشروط المتعلقة بإنتاجها وتلقيها، وإعادة إدراجها في سياق جديد بجعل هؤلاء المفكرين يلعبون دورًا حاسمًا في النقاشات الاجتماعية والسياسية في أميركا المعاصرة، وإنّما أيضًا إلى إعطائها أبعادًا جديدة بعدما تراجع حضورها في سياقها الأصلي، وباتت مجرد تمرين يتدرب الطلاب على امتلاك كفاياته.

لا يندرج كتاب «هجرة المفاهيم» بشكل واضح ضمن النقد الثقافي أو الدراسات الثقافية المقارنة، ومع ذلك فإن الأسئلة التي تشغله والقضايا التي يفكّر فيها، تجعله يتقاطع مع اهتمامات هذين الحقلين. ومن هذه الزاوية، يَستأنفُ الكتاب ما بدأه المؤلف في كتابيه: «استقبال الآخر»، و«دليل الناقد الأدبي»، خصوصًا فيما يتعلق «بتوسيع أمداء المساءلة لما يكتنف العلاقات الثقافية من إشكاليات تؤكد أن انتقال المفاهيم والأفكار بصفة عامة ليس بالسهولة أو البراءة التي قد تبدو لبعض من ينظر في هذا الأمر البالغ الأهمية في عالم يزداد اشتباكًا وسرعة في انتقال الأفكار والمعارف». ( ص19)، ومع ذلك، نعتقد أن الأفق الذي يتحرّك فيه الكتاب أوسع من الدائرة التي تحركت فيها الجهود السابقة، وهذا ما اقتضى «توسيع إطار النظر ليتجاوز حدود التشكيل الثقافي أو الحضاري الواحد والمساحة الجغرافية المتقاربة إلى البحث في هجرة المفاهيم والتحولات التي تحدثها عبر اللغات والثقافات والأماكن» (ص18) من هنا، فما يُعزّزُ التفكير في هجرة المفاهيم وإسهامها في إحداث التغيير الثقافي من منظور مقارن، هو الحاجة الماسّة إلى التحرّر من الرؤى المتمركزة التي تنطوي عليها نظرية التأثير والتأثر، والحرص على تشييد رؤى منفتحة للعالم تحظى فيها الثقافات بالمكانة التي تليق بها بوصفها ثقافات مشاركة في التنوع الثقافي العالمي.

لنقل، مع البازعي، إن المقارنة حينما تتأسس على الانطلاق من الوعي بقابلية الثقافات للتفاعل والحوار، وتنأى عن البساطة في الربط بين الثقافات، وتتحرّر من قبضة المركزية الثقافية التي ترسّخ هيمنة النموذج الأدبي، فإنها تؤكد، من جهة أخرى، أن الدراسات المقارنة حقل محوري لاستيعاب اختلافات الثقافات، والمساعدة على رؤية خارطة أدبية متداخلة لآداب العالم. (ص54-55).

تركيب

على الرغم من أن كتاب البازعي يهتم بهجرة المفاهيم بالنظر إليها في صورتها العامة، سواءٌ أكان ذلك متعلقًا بانتقال المفاهيم بين الثقافات المختلفة، أو بثقافة بعينها كالثقافة العربية أو الغربية، وهذا هو البعد الأنطولوجي للدراسة الذي يأخذ في الحسبان أهمية المفاهيم في النشاط الفكري، وطرق انتقالها سواء عبر الترجمة أو المقارنية؛ فإننا نلمس في الكتاب بعدًا آخر يعطي لمقاربة الباحث أهميتها وأصالتها في سياق عابر للثقافات، يَتمثلُ فيما يمكن تسميته بالبعد الاجتماعي لوجود المفاهيم، ورحلتها في اللغات والثقافات، وهذا ما يجعلها تشكّل حقلًا فريدًا من نوعه. ومن المعروف أن الجهود الرامية إلى التفكير في هذه الأبعاد من قبيل إنتاج المعنى من خلال الخطاب، والانزياح والتحول والتوترات الداخلية وغيرها من الممارسات الخطابية التي تتعين بوصفها أكثر قربًا من حقل الثقافة والمفاهيم، قد تضاعفت خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وبخاصة في حقل النظرية الأدبية الذي تخترقه تيارات مختلفة في مسعى لبناء رؤية للثقافات بما في ذلك الثقافات الغربية والشرقية، القديمة والحديثة، تستحضر الأعمال الأدبية العظمى المشكّلة للأدب العالمي، فيما هي تتميز بكونها شاملة وحوارية ومتحرّرة من إرغامات المنظورات المونولوجية. وعلى هذا الأساس، نعتقد أن كتاب «هجرة المفاهيم» يمثّل مقدمة جيدة ومفيدة لفهم حركية المصطلحات والكلمات المفاتيح والكتب المقدّسة والدنيوية… ورحلتها من منظور شمولي وإنساني يتعيّن بوصفه بديلًا عن المنظور الواقع في دائرة الاعتبارات القومية الضيقة. وعلى الرغم من أن الكتاب لا يَجعلُ من هذه الإشكالية الموضوع الأساس الذي تعالجه مختلف المقالات التي يبدو أنها كُتبت في مناسبات مختلفة، فإن الخلاصات والاستنتاجات والقضايا التي يُكشَف عنها غنية بما يكفي لإثارة نقاشات مثمرة حول هذا الموضوع الذي يَقعُ في ملتقى تقاطع الإبستمولوجيا والفلسفة والدراسات المقارنة.