مملكة هاديس

مملكة هاديس

لحظة واحدة تفصل بينك وبين الأزرق البارد. يمشي الوقت ببطءٍ في حين وقوعها، جسدك يفقد قدرته على الحركة… تتساءل أين ذهبت غريزة البقاء؟ أين روحك التي لَطالما صارعت لتتشبث بالحياة، ولِمَ لا يقوم جسدك بعمله في إبقائك بخير؟ لَطالما تسمع أن للوقت انسيابية خاصَّة تتأثر بالظروف، وفي تلك اللحظة تبدو الكلمات أصدق من أيِّ وقتٍ مضى. جسدٌ جامد يطفو على سطح بحرٍ مضطرب. قارب خشبيّ ينتظر ومَلَّاحه يمُد يدًا إليك: «ما يفصل بين مملكة هاديس والحياة المألوفة قارب وقطعة معدنية». صوته عميق وقريب بما يكفي لتظنه صادِرًا مِنك عوضًا عن مُرتدي الأزرق أمامك.

يتحرر التصلُّب من جسدك ويشُدك نحو عمقٍ لا تألفه. تُقدِّم عُملتك. تُصافح يد هاديس الباردة، عظام بارزة من جلد أزرق رقيق مُغطًّى بالنتوءات، ويُعقد اتفاق اللاعودة إلى ما كُنت تُسميه الحياة قبلًا. تُصافح بيدٍ مرتجفة؛ لأنه في لحظتها يبدو الخروج من العتمة حتى مع بعض المقايضة أفضل من عدم تنفس هواء السطح مُجددًا.

مع شهقة تعود الحياة لسرعتها المُعتادة. إن كُنت محظوظًا كِفاية لإتمام انعقاد الصفقة فستبدأ حواسُّك بالعودة واحدة تلو الأخرى. سيهدأ تدفق الأدرينالين والكورتيزول وسيبدأ شعور الألم بتحيتك كسلسلة لا نهائية من الطعنات. عوضًا عن أنين عُمق البحر ما يُرهق سمعك هو أزيزُ أجهزة المؤشرات الحيوية، ولسعة يدَيْ هاديس تتبدل ببرودة المفارش البيضاء التي يُفترض أن تحمي جِلدك الشاحب من حِدَّة التكييف المركزي للمبنى.

كان جليًّا أن أيَّ فرصةٍ في عودتي للملعب بعد الحادث لم تعُد موجودة، وليس وكأن الكُسور ومُضاعفة العملية الطارئة قد تركا لي خيارًا أصلًا. تعود الحياة إلى ما كانت عليه؛ يعود أبي للعمل وأمي للمنزل وأخي الأصغر يعود لإزعاجي كما يفعل عادة. تمُرّ سبعة أشهر قبل أن يعود إلى مزاحه الثقيل، سبعة أشهر من اللطف الخانق في كُل زيارة إلى المشفى ومن ثم إلى غرفتي التي باتت في الطابق السفلي لتسهيل التنقُّل.

يتوقف أعضاء الفريق عن التواصل معي بعد شهرين على الأكثر. في الليلة الأولى بعد الحادث يكادُ هاتفي يعطل بسبب كثرة التنبيهات -وفقًا لأمي على الأقل- ولن يكون الأمر مُستبعدًا أو بتلك الغرابة؛ في بلدة صغير كبلدتنا لا توجد كثير من الأشياء التي تُثير الحماسة بعد كُل شيء، ولعلَّهم يرون في حادثي الصغير تغييرًا للروتين.

أمواج لا تهدأ، عاصفة هائجة، ومن ثم رِتم واحد من المد والجزر الذي يدَّعي الألفة. ما يفصِلُ بين مملكة هاديس والحياة المألوفة قارب وقطعة معدنية. تعُود الأشياء كما كانت قبل الحادث للجميع، إلَّا أنه حيثما يوجد بقية أفراد الفريق أنا لا أكون، وحين يخرج أخي الصغير للمدرسة لست أنا من أُقِلُّه، ليس اسمي هو ما تصرخ به أمي عند مجيئها بالبقالة للمنزل، ولا يطلب منِّي أبي المجيء معه في درس قيادةٍ عفوي… بالتفكير بالأمر، لن يذكر حتى سيارة الـ(فان) التي كان يعِد بتقديمها لي فور تخرُّجي من الثانوية على الرغم من كونها أقرب للإرث العائلي من وسيلة
تنقُّلٍ عمليِّة.

غصَّة، وابِلٌ من السُّعال يُلقي بالقطعة المعدنية في كفِّي. تذكرة العودة إلى الأزرق القارص أم غرضٌ صحبته للسطح عن طريق الخطأ، يصعب القول. ما يفصل بين مملكة هاديس والحياة المألوفة قارب وقطعة معدنية. حتى بعد خروجك للسطح، إن مررت بالعُمق مرَّةً فإن جزءًا مِنك سيبقى هناك دائِمًا. الخط الفاصل بين المألوف وغيره مُبهم، وفي منتصَف البحر الضبابي يقِف الملَّاح مُنتظرًا، مُترقِّبًا.

قصتان

قصتان

فيما بعد زاوية المجرة

تبقى رغبة العيش للفرصة الثانية حبيسة أسوار مناجم زاوية المجرة. أصبحت رؤية ذلك بديهية بعد سبع سنوات من العمل في تعدين اليورانيوم.

«من أجل الفرصة الثانية!»

صيحات وهمسات تشجيعية يتبادلها العمال في طريقهم إلى المساكن في آخر الأنفاق. تتردد أصواتهم من على الصخور البحرية مكوِّنةً صدًى يؤكِّد على ما يؤمنون به كأخٍ مرافقٍ لهم في الرحلة نفسها. تُغرقهم مرشحات التعقيم قبل أن تُفتح بوابات المساكن مع صرير بات دليلًا على الألفة عوضًا عن سبب ارتعاد جسدك كعامل حديث الوصول.

حين تخطو خطوتك الأولى في المناجم يأخذك ذعر سقيم يطيحُ بك لبضعة أيام، ذُعر إدراك أنك ستقضي بقية سنواتك بلا شك متوجهًا من نفقٍ لآخر دون فرصةٍ أخيرة للنظر إلى السماء وأقمارها. غير أن في لحظةٍ ما، لحظة لا يُثقلها معنًى، تجد نفسك لم تعد ترتعش عند صعق الساحقات، أو تنفر من خليط الغازات السمّية الذي يفُوح كلما دقَّت الآلات لعمقٍ أكثر من المعتاد. لا يعود جسدك يحاول الفرار، والأهم، لا تعود روحك تطلب الرحيل. هي فقط تصمت بعد فترة، وأنت تسمح لها بذلك؛ لأن الصمت أسهل من ترديد العبارات الفارغة.

هو كان –كما هي حال بقية العمال– قد فَقَدَ فرصته الثانية منذ اللحظة التي توقفت فيها روحه عن طلب رؤية السماء.

أغنية الشحرور

كنت أعلم دائمًا أن الأشياء ليس لها سوى أن تتغيَّر بعد رحيلي إلى الريف فور إتمامي لدراساتي العليا. ما إن سلَّمت ورقتي البحثية عن المقارنة بين نُدرة عناصر أحافير الفقاريات واللافقاريات حتّى انطلقت على الطريق بسيارتي، وكُنت قد حزمت أمتعتي أبكر من الموعد بعدَّة أسابيع على الرغم من تذمّر والِديَّ. لطالما كانت رغبة الهروب من المدينة واضحة وصاخبة فيَّ. منذُ كُنت ألقي برأسي على طاولة مدرستي الابتدائية بعد تَكْرار المعلومات لمراتٍ عديدة لآذانٍ لم تشأ الاستماع أصلًا، لطالما كانت تُخيَّل إليَّ لحظة الرحيل.

الانتقال بحدِّ ذاته تحدٍّ؛ وسرعان ما اتضح أن سكان الرِّيف متحفظون على أراضيهم ومن يشاركهم سكنها إن كان عقدهم لحاجبيهم فور سماعهم للقب «دكتور أحافير» دليلًا على أي شيء. تردد عشرات منهم قَبْل أن قَبِل أحدهم أخيرًا بتأجيري لكوخٍ من تلك الأقرب لحدود المدينة. استرسل في الشرح بينما قادني في جولة تعريفية بالكوخ ومزاياه، وكان واضحًا كمُّ الكِبرياء والفخر الذي علا صوته الواهن. ذكَر قصَّة جدِّه السابع الذي يُقال: إنه شيَّد أساساتِ الكوخ في سبعِ ليالٍ ماطرة، وكيف أنه حينَ انتهى في اليوم الثامن توقف المطر وحطَّت شحارير على سقفه. لا تزال أعشاشها والبيوت الخشبية التي بناها الجد لها تعتلي السور وتتوسط السقف. الظاهر أن تأجير المكان لم يكُن سهلًا بسببها وهذا ما اضطر الحفيد المالك للقبول بعرضي.

اعتدت العيش في الريف سريعًا كما كُنتُ متيقنًا بأنني سأفعل. تسعة عشر مترًا مربعًا وغرفتان كانت مِساحةً أكثرَ مِن كافية للعيش والعمل في الآن نفسه. حِين أستيقظ تكون الطيور السوداء قد بدأت بالغناء بالفعل، ربما تهنئةً على تمضية ليلة أُخرى في أمانٍ بعيدًا من الذئاب التي قيل بأنها تُحب الترحيب بالقادمين الجُدد ما إن يتنفس ليلها رائِحةً الغريب.

على الرغم من عملي على نسجِ حياةٍ مستقلة فإن خيوطًا من المدينة لا تزال ترفض الانقطاع. لم أكره اتصالات والدتي المرئية كل إجازةٍ أسبوعية، لكِن زمُّ عينيها السوداوين المتعمَّد عندما تحوم بنظرها على كل إنشٍ ظاهرٍ للشاشة ليست فقرتي المفضلة من الأسبوع كذلك. لا تنكف عن إيجاد الثغرات، تتنهد قبل أن تبدأ المقارنة المعتادة بيني وبين ابن خالتي عِماد صاحب العمل المكتبي ذي المستقبل الموعود، والابن الذي يترقَّب الجميع ولادته. يؤسفني التفكير في ذاك الجنين أحيانًا، غير واعٍ بعدُ بحجم الآمال التي سيُقيَّد بِها فور ولادته، وأتساءل إن كان سيختار الهرب منها أم عيشها كما يبتغي الجميع.

قبل كل مكالمة أجد نفسي راغبًا في إخبارها عن دوَّار الشمس الذي صمد أخيرًا لأكثر من أسبوعين على حافَة نافذتي، كيف أنني نجحت في حماية خشب الكوخ من العفن والوهن الذي يُهدده به الشتاء، وكيف أنني قبل مدة تسلَّمت رِسالة تقدير من مركز أبحاث الجامعة بعد إرسالي لعيِّنةٍ شديدة النُّدرة من دراهم الحقبة الفاطمية بعد تنقيب استمر لمدة ستة أشهر. وددت إخبارها هذا كُلَّه، لكنِّي ابتلعت الكلمات لجوفي ما إن تُقابلني الابتسامة المتكلفة مجددًا. تمرُّ بضع دقائق بعد وأنا وإيَّاها نُطالع المربَّع الصغير في أسفل الشاشة آملين الخلاص. تسألني أخيرًا أن أعتني بنفسي وبأن أزور في العيدين على خِلاف السنوات السابقة، وأنا أسألها أن تعتني بنفسها وأبي وبأن تذكرني في دُعائها.

حين تتخذ الشمس من دُنا السماء مقعدًا تعود الشحارير للغناء من جديد، وأعود أنا لتجاهل أغانيها.