الحياة الخفية للأشجار

الحياة الخفية للأشجار

بيتر فوليبين

بأسلوب يجمع بين الحقائق العلمية والكشف الشعري، يقدّم عالِم الغابات الألماني بيتر فوليبين للقارئ، في 36 فصلًا، محطاتِ رحلة شائقة حافلة بالاكتشافات الجميلة والحكم النبيلة، ليكون فهمنا لخفايا عالم النباتات حافزًا للعمل على صيانة أسس حياتها. وتُعزى شهرة هذا الكتاب «الحياة الخفية للأشجار» إلى صفحاته العشرين الأولى التي أبرز فيها الكاتب فكرة التواصل بين الأشجار عبر جذورِها، لا لتبادل المنافع وحسب، بل بوصفها خطوطَ التكافل التي تمدّ الأشجار المريضة بالغذاء وتعين «الأشجار- الطفلة» المحرومة من الضوء، وتتولى التحذير من الأخطار عبر بثِّ المعلومات برسائل كيميائية وإشارات كهربائية. صدر الكتاب باللغة الألمانية في عام 2015م، وتُرجِم إلى 32 لغة، وحقق أعلى نسبة مبيعات في ألمانيا، وصدرت الطبعة الفرنسية في 2017م وبِيعَ منه في فرنسا مليون نسخة، وعدَّته النيويورك تايمز أفضل كتاب مترجم للإنجليزية منشور في الولايات المتحدة في العام نفسه.

لغة الأشجار

يعرِّف القاموس اللغةَ بأنها قدرة البشر على الإفصاح عن أفكارهم والتواصل فيما بينهم. بناءً على هذا المفهوم ما من أنواع أخرى غيرنا مؤهَّلة للكلام. ولكن هل هذا مؤكد؟ لمَ لا تعبّر الأشجار عن ذواتها؟ بل كيف تعبّر؟ إن الأمر الوحيد المؤكد هو أنها لا تتكلم ولا تُصدِر أي صوت. أما احتكاك الأغصان حين تهبّ الريح، وحفيف الأوراق، فظاهرتان منفعلتان مستقلتان عن إرادتها. ولكن الأشجار تمتلك وسيلة لجذب الانتباه، فهي تبثُّ المواد العطرية. هل يمكن عدّ هذه الروائح وسيلة تواصل؟ بالتأكيد. بل إنها وسيلة فعّالة نستخدمها نحن في التعرف، وإلا لماذا نضع العطور ومزيلات الروائح؟ على أن رائحة أجسادنا قادرة وحدها على إثارة وعيِ ولا وعيِ أقراننا. ثمة أشخاص لا نطيق شمَّهم، وآخرون لا نستطيع مقاومة جاذبية روائحهم. يرى العلماء أن الفيرمونات الموجودة في العَرَق لها دور حاسم في اختيار الشريك الذي نتمنّى أن يشاركنا في إنتاج نسل جديد يَخلفنا. فنحن إذن نمتلك لغة شميّة سريّة، وكذلك تستطيع الأشجار على الأقل أن تستفيد من هذه اللغة.

في السبعينيات، أظهرَ العلماء حقيقةَ السلوك المدهش لأحد أصناف شجر السنط في غابات السافانا الإفريقية التي ترعى الزرافات أوراقها. لكي تتخلص أشجار السنط من هذه الحيوانات النهّابة المزعجة، تُضاعِفُ على مدى دقائق مقاديرَ المواد السامة المنبعثة من أوراقها. وحالما تَكتشف الزرافات هذا، تنتقل إلى أشجار السنط المجاورة. المجاورة؟ ليس تمامًا، فهي تجهل ما يجري ضمن النطاق المحيط بالشجرة الأولى، فتكفُّ عن القضم إلى أن تصل إلى الأشجار التي تبعد منها مئة متر تقريبًا. والسبب في هذا مدهش؛ ذلك أن أشجار السنط المغزوّة تبث غازًا منبِّهًا (هو في هذه الحالة الإيثيلين) يتولى تحذير جاراتها من الخطر المحدق. آنذاك، تبادر هذه الأشجار إلى مضاعفة مقادير المركبات السامة المنبعثة من أوراقها. أما الزرافات عديمة الحيلة فتنتقل إلى الأشجار التي لم يصلها التحذير. تنتقل الرسائل الشمِّية من شجرة إلى أخرى عبر الهواء، وإذا كانت حركة الزرافات معاكسة لاتجاه الريح، فإن أوّل شجرة مجاورة لن يصلها الإنذار بوجودها، وسيكون في مقدور الزرافات أن تكمل وجْبَتَها.

إن غابات أوربا مسرح لظواهر مماثلة؛ إذ تبدي أشجار الزان والبلوط والتنُّوب ردود أفعال حين يغزوها دخيل. حالما يغرز يسروعٌ فكّيهِ في إحدى الأوراق، تتبدَّلُ حالة النسيج النباتي المحيط بالعضّة. فيطلق إشارات كهربائية مماثلة تمامًا للتي ينتجها الجسد البشري حين يصاب بجرح. ولكن الذبذبات لا تنتشر في أجزاء من الثانية كما هي الحال في أجساد البشر، بل بسرعة سنتيمتر واحد في كل دقيقة. لا بد إذن من انقضاء ساعة كاملة قبل أن تَنشأَ الأضداد التي ستتولى إفساد وجبة الطفيليات. إنّ العَجَلة ليست من طباع الأشجار، وسواء أتعرضت للخطر أم كانت في أمان، فهذه هي أقصى سرعتها. وعلى الرغم من هذه الأناة، فما من جزء من الشجرة يعمل منفردًا. وماذا لو سبّب أحد الغزاة تعويقًا للجذور؟ سيسري التنبيه آنئذٍ في مجمل الشجرة ويشرع في حال الضرورة بإصدار المواد العطرية من الأوراق. ولكن هذه المواد ليست عشوائية، بل إن الشجرة تُصنّعها على مقياس الهدف المراد تحقيقه. فتتمكن بفضل هذه الكفاءة في المقاومة الصائبة من إخماد الهجمة خلال بضعة أيام.

ذاكرة الشجرة

إن الشجرة خبيرة في التعرف إلى كل الحشرات، وهي في الواقع قادرة على أن تستدلّ على كل وغد يهاجمها؛ لأن كل نوع يمتلك لعابًا نوعيًّا يسمح بتحديد هويَّته بكل تأكيد. يؤدي هذا النظام وظيفته بكفاءة جيدة حتى لَتستطيع المواد الجاذبة أن تبثَّ رسالةً محرِّضة لحشرات خاتلة متخصصة في النوع، وسيسرُّ هذه الحشراتِ أن تمدّ يد العون لأشجارٍ نهشتْها الطفيليات. هكذا توجِّه أشجار الدردار والصنوبر نداءً إلى الزنابير الصغيرة التي تضع بيوضها في أجساد اليساريع فتكتسحها. تفرّخ فيها يرقات الزنابير بأمان، ثم تتطور وهي تلتهم ببطء اليسروع الضخم من الداخل. أوافقكم الرأي بأن ثمة مِيتاتٍ ألطف، ولكن هذا هو الثمن الذي يقتضيه تحرُّرُ الشجرة من طفيلياتها لتستطيع أن تنمو وتزهو. دعونا نفتح قوسين صغيرين: إن قدرة الأشجار على تمييز لعاب أية حشرة يثبت أنها –إضافة للخصائص الأخرى– تمتلك حاسة الذوق.

ومن مثالب المواد العطرية أنها تتمدد بسرعة في الهواء، وغالبًا ما يقصر محور فعلها عن تخطي مسافة مئة متر، وثمة مناورة مزدوجة للتغلب على هذا الخلل؛ إذ تنتشر إشارة الإنذار ببطء شديد في صميم الشجرة، ثم تستخدم تياراتِ الهواء بما يسمح للشجرة باجتياز مسافات كبيرة خلال زمن وجيز، فتصل بسرعة فائقة إلى أجزاء من جسدها متموضعة على بعد بضعة أمتار. على أن الدعوة إلى الهجمة المضادة للطفيليات لا تحتاج غالبًا إلى استهداف نوع معين؛ لأن العالم الحيواني يلحظ كل الإشارات الكيميائية المنبثقة من الشجرة، فيأخذ علمًا بحدوث الهجمة ويعرف إلى أي نوع ينتمي الغزاة، ويباشر الشرِهُ منها للمتعضيات الصغيرة عملَه مِن فورِه، مدفوعًا بجاذبية لا تقاوَم. ولكن الأشجار قادرة على الدفاع عن نفسها بمفردها. ترسل أشجار البلوط أدبغةً مُرّة سامّة ضمن لحائها وأوراقها. فإذا لم تفلح في إبادة الغزاة المخرّبين، فهي على الأقل تحيل السَّلطة الشهية خُضرةً كريهةَ الطعم. كذلك تفعل أشجار الصفصاف فتنال من عدوّها حين تصنّع من الساليسيلين مركّباتٍ ذات تأثيرات مدمرة أيضًا. يسري هذا الفعل على الحشرات، لا علينا نحن البشر؛ لأن منقوع لحاء الصفصاف، وهو سلف الأسبرين، دواء مسكّن للصداع ومخفف للحمّى.

يستغرق نظام الدفاع هذا وقتًا ليباشر فعله، وإنّ لانتظام عمل شبكة الإنذار المبكر دورًا حاسمًا. تتجنب الأشجار الاعتمادَ على تيار هوائي واحد، فهي لا تضمن أن تكون كل جاراتها على علمٍ بالخطر، وتفضل أن تحمي خطوطَها الخلفية فتبثّ إلى جذورها رسائلَ تشبك كل الأشجار ببعضها الآخر لتعمل معًا بفاعليةٍ واحدة، سواء أهطل المطر أم عصفت الريح. تنتقل المعلومات كيميائيًّا، ولكن المدهش في الأمر أنها تتحول أيضًا إلى إشارات كهربائية، وتبلغ سرعتها سنتيمترًا واحدًا في الثانية. وهي سرعةٌ بالغةُ البطء إذا ما قورنت بسرعة انتشار المعلومات ضمن الجسد البشري، غير أنها مماثلة لما هو الحال في أنواع حيوانية كقناديل البحر أو الديدان. حالَما تعرف أشجار البلوط المجاورة بالنبأ، تسكب بدورها مقاديرَ كبيرة من الدِّباغ في الدوران الجائل ضمن شبكاتها الوعائية.

صمت الأشجار القاتل

حين تعتلُّ الشجرة تَضعف دفاعاتها، وتقلّ كفاءتُها على التواصل. وإلا، فلماذا تسلِّط الحشراتُ الغازية هجماتِها بشكل دقيق على الأشجار الهشة؟ ليس عجيبًا أنها تصغي للأشجار وتسعى لالتقاط الإشارات الكيميائية المنذرة بالخطر، وتتفحص في أثناء عضّةٍ في اللحاء أو إحدى الأوراق، قدرةَ الأشجار الصامتة على رد الفعل. أحيانًا يكون الخَرس دليلًا على إصابة مَرضية خطيرة، ولكنه قد ينجم أيضًا عن فكّ الارتباط مع شبكة الفطور. حين تنقطع الشجرة عن أية معلومة، تجهل الخطر المحدق بها وتصبح وليمة شهية لليساريع ومغمَّدات الأجنحة. كذلك تتسم الأشجار السامقة المنعزلة، ذات النزعة الفردية، بالهشاشة. صحيح أنها تبدو موفورة العافية، ولكن انعزالها حَكَم عليها بالجهل.

لا تنفرد الأشجار بميزة التواصل فيما بينها بهذه الطريقة؛ إذ إن الأدغال والنجيليات تتبادل المعلومات أيضًا، وربما كل الأنواع النباتية الموجودة في متَّحَد الغابة. لكن إذا توغّل المرء في عمق المناطق الزراعية، وجد الزرعَ ملتحفًا بصمتٍ عميق. لقد أضعفت يدُ الإنسان قدرة النباتاتِ المزروعة على التواصل بالسبيل الجوفي أو الهوائي. ولكونها شبه صمّاء بَكْماء، صارت فريسةً سهلة للحشرات. وهذه واحدة من عواقب الإسراف في استخدام المبيدات في الزراعة الحديثة، ومن الأجدى لمستثمري الأراضي الزراعية أن يستلهموا الوظائف التي تؤديها الغابات وأن يتيحوا المجال للاستثمار الطبيعي للحبوب والبطاطا كي تستعيد قدرتها على الكلام.

ثمة أسباب أخرى للتواصل بين الأشجار والحشرات غير القضايا الكئيبة عن الغزو الطفيلي والمرض. وثمة إشارات وادعة أيضًا، ومن المؤكد أنكم قد لاحظتموها سابقًا، أو بالأحرى شعرتم بها. أعني بذلك الرسائل الشمِّية المنطلقة من الزهور. فهي لا تبثُّ العطر جزافًا أو لأنها منذورة لإغرائنا. تنشر الأشجار المثمرة والصفصاف وأشجار الكستناء رسائل شمِّية لتجذب انتباه النحل وتدعوها إلى ملء خزائنها من الرحيق المحلَّى الكامن فيها. لا تدري هذه الحشرات أن هذا السائل الحلو المكثف الذي تدّخره هو مكافأة من الشجرة على نشاطها في التلقيح. كما أن أشكال الزهرة وألوانها هي بمنزلة إشارات مصممة للتمييز بين كل أصناف الخضرة الورقية، وهي تشبه الملصقات الإعلانية التي تشير إلى مدخل المطعم. ها نحن نَعلم أن الأشجار تتواصل شمّيًّا وبصريًّا وكهربائيًّا (عبر توسُّط أنماط من الخلايا العصبية المتموضعة في أطراف الجذور)، ولكن ما الذي نعلمه عن إصدارها الأصوات، ومن ثَمّ عن سمعها ونطقها؟

تُرى أمَا كان عليّ ألّا أكون جازمًا حين أكدتُ في البداية أن الأشجار لا تصدر أي صوت؟ يعمل فريق من الباحثين بإدارة مونيكا كاغليانو من جامعة أستراليا الغربية على مشروع الإنصات للتربة. ولأن العمل المخبري على الأشجار كان غير مريح من الناحية العملية، فقد آثروا إنجاز دراستهم على حبوب النباتات الموسمية؛ لأن المناورات عليها أسهل. وبالفعل، سرعان ما سجلت أجهزة القياس احتكاكًا خافتًا للجذور بتواتر 220 هيرتز. جذورٌ تفرقع؟ وما العجب في ذلك؟ ألا تفرقع الأحطاب أيضًا حين تحترق؟

لقد أثار الحفيف المسجل في المخبر أسئلة عن مصدره. في الواقع، إن جذور الرُّشَيمات التي لم تسهم في انبعاث هذا الصوت، أبدتْ ردّةَ فعلٍ تجاهه. فما إن تعرضت أطراف الجذور لفرقعة بتواتر 220 هيرتز، حتى توجهت نحو مصدر الحفيف. وهو ما يدل على أن النجيليات تلاحظ هذا التواتر، أي بكلمة أخرى «تسمعه». فهل تتبادل النباتات المعلومات عبر أمواج صوتية؟ إن هذه الفكرة تفتح آفاقًا مدهشة. فنحن نتقن التواصل عبر الأمواج الصوتية. وقد حَفَزَت المفاجأة مخيلتي، فتساءلت: أيُّ اضطراب سيعترينا حين نتوصل إلى معرفة ما الذي تحس به أشجار الزان أو البلوط أو الصنوبر، وحين نتمكن من فهم ما تقوله؟ يومَها سنكون، للأسف، قد غادرنا الدنيا؛ لأن الاستكشاف في هذا المجال العلمي ما زال في بداياته المتلعثمة. على أن هذا لا يمنعكم من أن تلحظوا، إذا تنزهتم ذات يوم في غابة، فرقعاتٍ خفيفة، ليس من المؤكد أن مصدرها الوحيد هو الريح…


من كتاب يصدر قريبًا عن دار كتّاب للنشر- الشارقة.

Peter Wolleben- La vie secréte des arbres: découvertes d’ un monde caché, Traduit de l’ allmand par Corinne Tresca, Edition MultiMondes- Canada- 2017.

العنوان الأصلي للطبعة الأولى:

Das geheime leben der bäume. Was sie fühlen, wie sie kommunizieren– die Entdeckung einer verborgenen welt, by Peter Wohlleben, Ludwig Verlag, a division of Verlagsgrouppe Random House GmbH, Munchen, Germany – 2015.