التوازي في الدلالات السردية وإستراتيجية الاسترجاع في «بغداد وقد انتصف الليل فيها»

التوازي في الدلالات السردية وإستراتيجية الاسترجاع في «بغداد وقد انتصف الليل فيها»

الاسترجاع: إستراتيجية سردية ذرائعية جديدة، يكتشف الناقد من خلالها إمكانية أن يقوم النص نفسُه باسترجاع عناصره المفقودة، تحت ضغط إلحاح التكامل في عناصر النص الفنية والجمالية. وهذا النوع من الإستراتيجيات يهتم باكتشاف الإبداع الإيحائي الذي ينتجه النص من دون دراية الكاتب، فعندما يُكتَب العمل الأدبي بشكل متقن فنيًّا وأدبيًّا، يفرز هذا الإتقان عواملَ إبداعية جديدة لا يتوقّعها الكاتبُ نفسُه، فتكون تلك العوامل الإبداعية حصّةَ صيدٍ للناقد الذكي، كما تكون اللؤلؤةَ المنزلقة من بين أصابع الكاتب، التي يبحث عنها الناقد المتبصّر. وهذه الإستراتيجية تعيد للنص المفاصل المفقودة، وتؤسس للإبداع النسبي اللامتناهي في الكتابة ككل، وتُعنى بإبراز جميع الابتكارات الجديدة التي يصنعها الكاتب، من دون أن يدرك أو يفهم مصطلحها النقدي، وحين يستلمها الناقد، يجدّد العهد مع الكاتب، بظهور مصطلح جديد على يديهما، وهذا التقدّم النسبي الذي تُعنى به هذه الإستراتيجية هو عبارة عن مؤشّر يبرز الاختلاف بين الكاتب وأقرانه، ممن سبقوه وعاصروه، في التقدّم بخطوات عنهم، أما الفعل الإجرائي فهو حق للنصّاص الذي يسجل سمة إبداعيّة، حين يكون النص مكتوبًا بنسبية إبداعية وابتكارية تختلف من نصّاص إلى آخر، وهذه السمة، النسبية والتفاضلية في تقنيات الكتّاب، من حيث الدرجة الإبداعية، هي التي تحدّدُها الذرائعية على سلّم المقياس الرقمي الذرائعي، تحت مصطلح درجة أدبيّة الأديب أو تجربته الإبداعية.

حياة الرايس

يرى إبراهيم عبدالدايم أن: «الترجمة الذاتية الفنية ليست تلك التي يكتبها صاحبها على شكل (مذكّرات) يُعنى فيها بتصوير الأحداث التاريخية أكثر من عنايته بتصوير واقعه الذاتي، وليست المكتوبة على شكل (يوميّات) تبدو فيها الأحداث على نحو متقطّع غير رتيب، وليست في آخر الأمر (اعترافات) يخرج فيها صاحبها على نهج الاعتراف الصحيح، وليست هي الرواية الفنية التي تعتمد في أحداثها ومواقفها على الحياة الخاصة لكاتبها، فكل هذه الأشكال فيها ملامح من الترجمة الذاتية، وليست هي لأنها تفتقر إلى كثير من الأسس التي تعتمد عليها الترجمة الذاتية الفنية». (إبراهيم عبدالدايم، يحيى، 1971م: الترجمة الذاتية في الأدب العربي الحديث –بيروت– دار إحياء التراث الأدبي: 3).

وهذا القول ينبغي أن يقبلَ العكس، بمعنى أن الترجمة الذاتية يمكن أن تكون فيها ملامح من كلّ ما ذُكر، وهذه الحيرة التي تنتاب كثيرًا من النقّاد والدارسين حِيال تجنيس عمل أدبي إنما تعود إلى قصور معرفي بالحدود الجنسية للأجناس الأدبية، أو إلى التباس بتحديد وتمييز الملامح الفنية للجنس الأدبي، وأحيانًا للنوع الأدبي من الجنس ذاته، حينما يكون العمل جنسًا بينيًّا هجينًا.

في «بغداد وقد انتصف الليل فيها» للكاتبة التونسية حياة الرايس، فرضَتِ (البينية) نفسها كدليل للتزاوج بين عنصرين أو أكثر من العناصر السردية لبناء عنصر واحد هجين فنيًّا يعطي تقدّمًا بخطوات بالتفاضل السردي بين الكتّاب؛ لأن الكاتبة استطاعت أن تمزج عدّة أجناس أدبية سردية، بعضها لم نألفْه سابقًا في السيرة الروائية، مثل (أدب الديموغرافية- وملامح من الأدب السياسي- والصحافة). لذلك، نقديًّا، الترجمة الذاتية أو الرواية السيريّة ليست جنسًا نقيًّا، بل هي جنس بينيّ هجين متداخل بين جنسين أو أكثر.

هل يمكن أن تكون الرواية جنسًا بينيًّا؟

استطاعت الذرائعية أن تكتشف حالة تجنيسية جديدة بعد أن أُقرّ عالميًّا اكتمال الأجناس، إلا من البينيّة، ونعني بالبينية المزج بين جنسين في جنس واحد، واتحاد البناء الفني للجنسين ببناء واحد كالقص المقالي والمقطوعة السردية والحوارية السردية في القصّ القصير، فلا ضير أن نجد هذه العملية البينيّة في القص الطويل (الرواية) للأسباب نفسها، وهذا مثال حيّ يبرز في دراستنا لهذه الرواية «بغداد وقد انتصف الليل فيها» فهي اتحاد بين الرواية الواقعية والسيرة الذاتية، فحين نجنّسها نقول: إنها (سيرة ذاتية واقعية). ولعل أبرز الملامح الفنية للأجناس الأدبية التي رصدتها في هذا العمل البيني هي: (الرواية- التاريخ- المذكرات- أدب الرحلة الديموغرافية- الأدب السياسي- السيرة الغيرية- أدب الحرب).

تقول الكاتبة عن ظروف كتابة هذا العمل: «… وفي هدوء وتركيز عميق كانت تأتيني تفاصيل التفاصيل عن حياتي ببغداد. كان ابني يستغرب أمري بنوع من الدهشة والإشفاق عليّ: «ماما كيف تتذكرين أحداثًا وجزئيات أكثر من 30 سنة؟ أقول له: أتذكّر أتذكّر… كأنّها البارحة واضحة أمامي… وكأن شيئًا يشبه المعجزة أو الصلاة في الماضي والتاريخ.. انطلقت من كثير من الأحداث الواقعية ربما أغلبها وبنفس الأسماء تقريبًا والأماكن… ولكن هناك تخييل بطبيعة الحال؛ لأني أقوم بعمل روائي ولم أرَ أحدًا من القرّاء أو النقاد قد فرّق كثيرًا بين الواقع والتخييل…».

كثيرة هي الأفكار والقضايا والموضوعات التي طرحتها الكاتبة في هذا العمل، وكأنّها أتت بالعديد من الخيوط وربطَتْها من طرف واحد بعقدة واحدة سمَّتْها «سيرة حياة»، وأرخت الطرف الآخر حرًّا طليقًا؛ لنقوم بإحصاء خيوط القضايا الفكرية، فنقول: «سيرة بغداد»، «سيرة تونس»، لتدخلنا في سفر في الفضاء العمراني والسكاني لمدينتين حضاريتين، إحداهما في الشرق والثانية في الغرب، أي سفر في (أدب الديموغرافية) التي أقرتها الذرائعية نوعًا من أنواع أدب الرحلات المعاصرة. (أدب الرحلات المعاصر بمنظور ذرائعي، الدكتورة عبير خالد يحيى، القاهرة: دار الحكمة للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 2021م– أدب الديموغرافية ص 20).

ويتسرب خيط (التاريخ) مفتولًا بقوة، ومصحوبًا بأصوات تأتي عبر أزمان عديدة متفاوتة القدم، أحدثها ما عبق في صدر (الطفلة حياة) من أنفاس الأحياء القديمة في تونس العاصمة وما حولها. وأقدم تلك الأصوات ما خطه حمورابي في شريعته، ليستكمل فيه المنتصر الجديد تحبير ما يخصّه من صفحات حاضر حقبة السبعينيات، ليتوتر خيط (السياسة) مشدودًا بسيادة حزب البعث العراقي المنشطر عن حزب البعث المؤسَّس في سوريا، والصراع الدامي بين أعضاء الشطرين، وصراع الأيديولوجيات الحزبية الأخرى، بتكافؤٍ يكاد يكون منعدمًا أمام هيمنة الحزب الحاكم، و(الحرب) الإيرانية العراقية التي جرّ نظام صدّام حسين البلاد إليها.

وهناك خيط (ثقافي) يبدو زاهيًا وسط قتامة الخيوط الأخرى، لمحناه في الحديث عن البعثات الدراسية بين بعض البلدان العربية، حين فتحت بغداد جامعاتها للعديد من الطلاب العرب، وبخاصة السوريون المنشقون أو المعادون لحزب البعث الحاكم في سوريا، في عام 1977م وكانت فرصة مواتية لـ(الشابة حياة) التونسية لتحقيق حلمها بالسفر خارج تونس، إلى باريس، ولتكن بغداد أولى محطات الرحلة، حيث ستنال فيها شهادة البكالوريوس في الفلسفة. إضافة إلى تناول ثقافات حياتية (مجتمعية)، وآراء (فكرية عقائدية) متباينة بين العلمانية والقومية والدينية…، عبر شخصيات من مجتمعات عربية متعدّدة، من لبنان وفلسطين وسوريا والكويت والعراق وتونس…

ومن أهمّ القضايا المطروحة هي قضية الإصرار على (المؤازرة والعيش المشترك)، والحرص على لمّ العوامل التي تجمع العرب في إطار (القومية العربية)، وهي قضية (إنسانية وجدانية) بالدرجة الأولى، و(أخلاقية عربية) بالدرجة الثانية، تجلّت بأبرز معانيها بعودة حياة التونسية إلى بغداد على الرغم من اشتداد أوار الحرب العراقية الإيرانية التي كادت تحطّم مصير الكاتبة ومستقبلها الدراسي.

التجربة الإبداعية للكاتبة

نقديًّا، استوقفني أن الكاتبة كتبت عملها الأدبي السردي هذا بطريقة الدلالات المتوازية: فهي تذكر دلالة ما، وتترك للناقد والمتلقي البحث عن مدلولاتها الغائبة، ثم عن المفهوم المضمر في ذهن الكاتبة، فمثلًا عندما ذكرت (مدني صالح)، وذِكرُها إياه معناه زجّ في خصوصيّاته، فـ(مدني صالح) بنية دلالية، كانت غائبة بالنسبة للمتلقي، وحضرت بمجرد الإشارة إليها، فوجب على الناقد والمتلقي استحضارها، ليسألا: مَنْ مدني صالح؟ وما صفاته وأعماله، وفي أي حقل اشتهر؟

والوقوف على المدلولات الغائبة يتطلب من الناقد العودة إلى المخزون المعرفي عن (مدني صالح) بإستراتيجية الاسترجاع الذرائعية التي تعمل على البحث عن المفاصل الساقطة سهوًا، فيكون الناتج إبداعًا لا يستطيع الكاتب أن يردتبه في مفاصله، بطريقة نقدية إبداعية، لتجبر الناقد الفطن على إحضار المدلولات للدلالة الشاخصة بالإغناء الموازي، بالاعتماد على المخزون المعرفي، أو بالبحث عبر المراجع، إن كان مجهولًا في إدراك المتلقي. فالكاتبة تكتب وتلقي دلالات في دروب الكتابة، ترفقها ببعض المدلولات، وتترك للمتلقي مهمة البحث عن مفاهيمها والاجتهاد لتأطير المدلولات في مفهومها. وقد تعمّدت الكاتبة استخدام هذه التقنية السردية النقدية (الدلالات المتوازية)، فكانت إستراتيجية الاسترجاع النقدية إضافة قيمة إلى رصيدها الأدبي.