عبقرية الفن في تحويل «المحدود» إلى متمرد والراهني إلى دائم أعمال حسن إدلبي نموذجًا

عبقرية الفن في تحويل «المحدود» إلى متمرد والراهني إلى دائم

أعمال حسن إدلبي نموذجًا

عهِدنا في الرحلة مع الفنان الممتد والحيوي حسن إدلبي، فنان الكاريكاتير السوري المعروف، وفي عموم معارضه الفردية والمشتركة أن يجدد ويضيف، ويفاجئ بتطوير أعماله، ورؤيته الفنية الواسعة والممتدة، وهو ما تبدّى جليًّا في معرضه الأخير الذي شهدته مدينة دبي العامرة بأحدث ما وصل إليه النشاط الفني الإنساني في الثقافة والفنون والحضارة والعمران، الذي لا يتوقف، والمعارض المحلية والعالمية، التي لا تنقطع، ولا تهدأ على الرغم من أزمة كورونا، التي ضربت أكثر عواصم العالم ومراكز أنشطته الأهم.

وقد أتت مشاركة الفنان حسن إدلبي قوية وبارزة في مهرجان طيران الإمارات العالمي للآداب في دبي لهذا العام، في المعرض الافتتاحي للوجوه الثقافية والأدبية العربية والعالمية، وبحضور أكثر من مئة شخصية أدبية وفنية وثقافية معروفة عربيًّا وعالميًّا. ضم المعرض الافتتاحي للفنان إدلبي أكثر من عشرين لوحة بالقياس الكبير، لوجوه شخصيات عربية وإماراتية وعالمية، منفذة بالطريقة الواقعية والديجيتال، وأقيم في حديقة الفندق وفضائها الطلق، وقد اصطفت مضيفات طيران الإمارات الجميلات بثيابهن الأنيقة المميزة، حول قوائم اللوحات، كإطار ساحر، ومضيء لهذا المعرض الفني الأهم، وكأنهنّ في لوحة فضائية أكبر لطائرة الإمارات، ينتقلنَ بالمعرض وضيوفه إلى العالم كله على أجنحة زرقاء وردية. من الوجوه الثقافية التي رسمها إدلبي: أمين معلوف، غازي القصيبي، نزار قباني، محمود درويش، سلطان العويس، وعبدالرحمن منيف.

أكّد معرض الفنان حسن إدلبي أهميته ونجاحه المميزين، وهو ما جعله يحظى بالتكريم الخاص من هيئة الثقافة والفنون بعد المهرجان مباشرة، وذلك بنقله إلى «مكتبة الصفا» ليكون معرضًا دائمًا فيها، وهي المكتبة الأكثر عراقة، والمَعلم الأساس في دبي. هنا يتحوّل المعرض إلى نصوص بصريةٍ، تضافُ إلى كتب ومقتنيات المكتبة، ويتاح لزوارها مشاهدته بشكل دائم، في تكريم للكتاب والأدباء، وإعطاء المكانة الأعلى للكلمة التي هي الأساس في الحضارة والعمران وتطلعات البشر.

فن تجديد المألوف

منذ البدايات، عرف الفنان حسن إدلبي طبيعة موهبته، وأصرّ على أن يكون مختلفًا، ويقول جديدًا، فيدخل الألفة، أو يقول مألوفًا فيحوّله إلى جديد، وخاطف بما يؤلّفه، ويضفي عليه من مهارة اشتغاله، وخبرته، وعناصر غواه. كرّس إدلبي نفسه أوّلًا في الرسم الواقعي، ثم في فن الكاريكاتير التحويري، الذي برع فيه، فحمل بصمتَه، ولونه الناقد والمعبر، والخاص سوريًّا وعربيًّا، ثم انتقل إلى التشكيل الواقعي ثانية بعدما اكتسب الحرافة والخبرة، والشاعرية في رؤيته ورسومه وألوانه ومعادلة الشعبي والمجدد في آنٍ معًا. كانت تجربته على شاميتها أقرب إلى المدرسة الألمانية ثقافة، والمصرية زخمًا، والشامية الأصيلة التي لا تغادره، في التركيز على الوجوه والملامح المباشرة، والكامنة في الشخصية التي يجسّدها الوجه أو الطلعة في لحظة مشهودة.

ولم يكتفِ في مرحلة الـ«بورتريه» التعبيري المكتنز، المليء برسم ملامح الشخصية، والتركيز على الأبرز فيها، بل على ما يراه هو في أعماق الشخصية فيُبرزه في قراءة بصرية نظرتها التعبيرية، وملمحها المكتنز والمدهش في تعابير الوجه، ونظرة العين أو حركة الوجه والشفاه، إضافة إلى اكتناهِ الروح والمعنى في الأزرق السماوي، والضوئي المشرب بحمرةِ، وهو ما يضيف معنى إلى المعنى؛ إذ يجعل الصورة على خلفية رائقة وصافية، وعلى شيء من اشتعال ضوئي، لتتوضح وتستند إلى متانة واستقرار، وهو ما اكتسبه من تقنيات فن التشكيل على تجريده، الذي غالبًا ما تكون الشخصيات فيه بلا ملامح مباشرة، بل في وقفة أو لفتة أو نظرة، وهو ما أكسب تجربته حرارتها، وجمالها من لون سماوي، وأبواب خشبية مطرزة بالرسوم، وشبابيك مشربيات، ورقوش تزيين على الجدران، والثياب والخلفيات، أو بحضور حيوان أليف، قطة أو كلب، في الصورة، إلى جانب أشخاص اللوحة، وهو ما يمنحها بعدًا حيًّا، وواقعيًّا في شفافية ألوان، وسحريات ورؤى، كما لو أنها سحر وحلم ومخيال.

هنا نحن على تعدّدٍ لشخصيات مرسومة، وموضحة بحيوات أصحابها، فهي تعكس ملامح مجتمع وبلد وطبيعته وتاريخه، ومن هنا تأتي أهمية لوحات المعرض وما سعت وتسعى إليه هيئة الثقافة والفنون في دبي، لإبراز أعمال هذا الرائد الفنان حسن إدلبي وهي التي منحته «الفيزا الذهبية» للتميز والإبداع المرموقة، ليجد استقراره، وتأخذ أعماله شهرتها الأوسع.

معارض متعددة ومراحل متنوعة

يُذكر أن الفنان إدلبي، أقام وشارك في عشرات المعارض عربيًّا، في مرحلة الرسم التحويري الكاريكاتير، وشارك في عدد من معارض التشكيل في الإمارات وغيرها، بلوحات تجريدية ذات بصمة واضحة مميزة، وها هو يدشن مرحلته التعبيرية أو نصوصه البصرية بقوة وحضور مشهودين؛ إذ تمتد تجربته إلى عقود عديدة، عمل خلالها في مجلات لبنانية وعربية شهيرة كالكفاح العربي، والناقد والنقاد، الصادرتين عن دار رياض الريس في لندن وبيروت. وصمم وأخرج خلال تلك المدة أغلفة مئات
الكتب والأعمال الشعرية لمبدعين وشعراء وأعلام معروفين، ثم عمل في صحيفتي البيان والرؤية الإماراتيتين في رسم الكاريكاتير السياسي اليومي. يعتمد الفنّان إدلبي في تقنيّاته لرسم اللوحات، لأول مرّة في مهرجان الطيران، تقنية الواقعية والديجيتال منتقلًا من الكاريكاتير والتحوير إلى هذه التقنية الواقعية الجديدة التي أرادتها هيئة الثقافة والفنون المشاركة في رعاية المهرجان وتبنّت توجهاته. الفنان حسن إدلبي بشخصيته التي أضفت على لوحاته، وأعماله طعم الحياة، وحيويتها وروحها، كأنّه لوحة عامرة من لوحاته ومعارضه، فلا يتركك خارجًا أو محايدًا أمام أعماله، بل يشعرك وكأنك تعرفه منذ زمن بعيد، وتشتاق إلى الجلوس معه، ومعرفةِ أخباره.

إدلبي الفنان والإنسان

من يرسم حسن إدلبي الرسام الفكه، المرح، الذكي، السامر، الراوي الذي يحول أيّة جلسة، يوجد فيها، إلى مأدبةٍ حيّةٍ وعامرة بأطايب الفكاهة، والسخرية اللاذعة التي يبقى صدى عطرها في الذاكرة، فكأنّما خلقَ هذا الفنان ليروي ويرسم الشخصيات التي يفردها في جلسته، وأحاديثه، لتعيش حياة ثانية بين يديه، وكأنّك تخالطها وتعيش معها، بل كأنّك تشهد فصولها، وشخصياتها، لا تسمع عنها فقط. وهذه ميزة لم تتح لكثير من أصحاب الفنّ والأدب الذين أن تقرأ لهم وتعيش مع أعمالهم خير من أن تلتقيهم أو تتعرف إليهم، على ما قيل في المُعيدي، وكأن إدلبي تربّى على أدب الجاحظ وتشرب فكاهاته في السخرية والتهكم، فيمكن عدّ الجاحظ معلم فن الكاريكاتير الأول، ورسم الشخصيات، أدبًا وروايةً وفنًّا، وهو الذي رسم البخلاء والثقلاء، بل قل: إن ميزة هذا الفنان الكبير، حسن إدلبي، تشبه إلى حد كبير ابتكارات الواسطي، فنان العصور الوسطى، وهو يشعرك بأنْ أيّ حيّز يقيم عليهِ رسمَه، ولوحاته ضيّقٌ على موهبته وإبداعه، فيخرج برسومه عن الإطار، كما فعل الواسطي في لوحته الشهيرة الجِمال التي لم يكتفِ بأن جعل الجِمال والنوق فيها في حالة طيران وسباحة، بل خرج بأعناقها وأجسامها عن اللوحة، وذلك إبداع ابتكاري لم يسبقه إليه أحد، حتى جاء العصر الحديث، والرسام الأوربي الذي أعاد تلك الميزة اكتشافًا،
أو تدويرًا وإعادة إنتاج, على أنها ابتكاراته، وهو المسبوق بالمبدع الواسطي.

ولن يتجسد فن حسن إدلبي في الرسم الساخر والتعبيري فحسب، بل في فن الرواية الحيّة التي هو أحد أبطالها ومبدعيها بامتياز فنان يرسم بورتريهًا ولوحة مبدعة ومعبرة وحارة للفنان، أو العلم أو الموضوع الذي يشتغل عليه ويفرده، بحرارة الماهر المحوّر صاحب الاكتشافات المفاجئة، بل ليجعل كل أعلام رسومه يقفون في دهشة أمام تصاويرهم ورسومهم، كأنه يعيد رسمهم بريشته، ورؤيته، ويعطيهم ملامح يكتشفها هو فيهم لم تكن ظاهرة لعيان غيره.