يفغيني غيرمانوفيتش: مجتمعنا الروسي لم يستوعب بعدُ «محنة» 1917م

يفغيني غيرمانوفيتش: مجتمعنا الروسي لم يستوعب بعدُ «محنة» 1917م

يفغيني فادالازكين غيرمانوفيتش، روائي روسي من مواليد كييف، في الحادي والعشرين من فبراير عام 1964م، حاصل على دكتوراه في فقه اللغة، ويعمل أستاذًا للأدب الروسي القديم، وباحثًا في بيت بوشكين، في مدينة سانت بطرسبورغ. حصل في عام 2013م على جائزة «الكتاب الكبير»، وجائزة «ياسنايا بوليانا»، كما حاز في عام 2019م على جائزة الروائي الروسي الشهير آليكساندر سولجينيتسن. أصبحت روايتاه «الغار» و«الطيار»، الأكثر مبيعًا، وقد تُرجمتا إلى عشرات اللغات الأجنبية. «Brisbane»، هو عنوان روايته الجديدة التي انتظرها كلّ مهتم بالنثر الروسي المعاصر. وزعت في بداية صدورها 35000 نسخة، وهو رقم ضخم لمؤلف محلي، ومن خلاله يمكن معرفة مستوى النجاح الحقيقي للكاتب، الذي لا تدل عليه الجوائز الأدبية المرموقة فقط.

في قلب الرواية، قصة حياة الموسيقي الموهوب غليب يانوفسكي، الذي اكتشف فجأة، وهو في قمة نجاحه المهني، أنه مريض بشدّة، ولن يكون قادرًا على العزف. يحاول العثور على «نقطة ارتكاز» جديدة (بعبارة أخرى، معنى للحياة)، بحيث يمكن لهذه النقطة، أن تصبح بديلًا من الفن، لكن القيام بذلك، يبدو أمرًا غير ممكن. يتطور الحدث في الرواية في طبقتين زمنيتين، هما حاضر وماضي بطل الرواية، وتصبح طبيعة الزمن كمادة، موضوعًا مهمًّا للدراسة لمؤلف النص. إصدار هذه الرواية يُعدّ بلا شك حدثًا مهمًّا للأدب الروسي، لا يمكننا تجاهله، لذلك التقينا يفغيني فادالازكين، للحديث عن الرواية، وعن النسوية، والفن المعاصر، والعلاقة مع الخلود.

الفن والأدب كإجابة لسؤال الحياة

  وفقًا لماريا غالافانيفسكايا (كاتبة روسية، حائزة على العديد من الجوائز الأدبية)، يعدّ الموت أحد أهم موضوعات الأدب المعاصر: البشرية مصدومة بفنائها الخاص، وعلى الأدب أن يتفاعل مع ذلك، ويستجيب بطريقة ما. ما رأيك في ذلك؟ هل يمكن للفن عامة، أن يعطي إجابات عن مثل هذه الأسئلة الجادة، ويكون بطريقة ما ديانة، كما اعتقد، على سبيل المثال، أوسكار وايلد؟

  لا يمكن للفن أن يكون دينًا، لكن للفن وسائل أخرى كافية، للتعامل مع أكثر الموضوعات جديّة. الفن -والأدب على وجه الخصوص- لا يجيب عن الأسئلة بقدر ما يطرحها، وأحيانًا يكون طرح السؤال بشكل صحيح، أهم من الإجابة عنه. أما فيما يتعلق بالموت نفسه، فهو بحق من أكثر الأسئلة جديّة وفظاعة؛ لأن الموت أمر يخصّ الجميع: المؤمنون والكافرون، الأخيار والأشرار، الأذكياء والأغبياء، والأغنياء والفقراء. الجميع متساوون أمام الموت. ولا يمكن أن تكون هناك إجابة عامة: الجواب هو ما يُعدّه كل شخص مقبولًا عنده.

  الأمر الآخر، يجب أن يُطرح السؤال بطريقة تجعل الشخص يقوم بتجميع كل مصادره والإجابة عنه بالطريقة الوحيدة الممكنة لنفسه. وحدة السؤال والجواب هي التي تحدد مهام الفن. كما تعلمون، عندما كانت الكاتبة جيرترود شتاين تحتضر، قالت فجأة: «ما الجواب إذًا؟» فصمت جميع من وقفوا حول سريرها؛ لأنه لم يكن من الواضح بماذا تجيب هنا. بعد ذلك ابتسمت وقالت: «إذًا، على الأقل، أين يكمن السؤال؟».

هل هناك أدب يساعد في صياغة مخاوفك بشكل أوضح، من أجل التعامل معها في المستقبل؟

  يسمي الأدب الأشياء، التي لم تكن لها تسمية من قبل. أما الألغاز، والموت هو لغز من الصعب الاقتراب منه على شكل هجوم أمامي، فهي تحتاج إلى نوع من النهج الخاص. لنتحدث هنا عن «ملّاك أراضي العالم القديم» لنيكولاي غوغول، كمثال على مثل هذا النهج الخاص. هذا واحد من أعظم أعمال الأدب العالمي، يصف شخصين مسنين، يجلسان دائمًا في الحديقة -يمكننا أن نقول في جنة عدن- حيث يتحدثان من الصباح إلى المساء عن الطعام والخمور، وليس عن أي شيء آخر. فجأة، وبشكل غير منتظر، تموت البطلة «بولتشيريا إفانوفنا». في هذه اللحظة، يتضح أن الحديقة بأكملها عبارة عن ديكور من الورق المقوى، وهناك فجوة كبيرة فيها، يعصف البرد القاتل من خلالها. هذا ما لا يمكن تسميته، لكن غوغول كان قادرًا على وصفه.

أطلق يوري لوتمان على هذه التقنية تسمية «وصف مادي للظواهر غير المادية». الأدب قادر على أن ينقل رعب الإنسان، الذي يعتقد، أنه لا يوجد شيء وراء النعش إلا البرد القارس، ولا شيء يضيء لأجله هناك. الرعب نفسه تنقله عبارة نابوكوف: «قعقعة قذيفة العدم الأبدي». وهكذا عندما يُوصَف شيء ما، يمكن للشخص أن يستوعبه بالعقل. أما عندما لا تُسمَّى ظاهرة ما وتُوصَف، فإنه لن يكون قادرًا حتى على جعلها موضوعًا لمداولاته. سأضيف أيضًا، أنه كلما كان المجتمع أكثر تحضّرًا، تهذيبًا وتطورًا، حاول بنشاط أكثر دفع الموت إلى الزاوية الأقصى. رغم أن الموت في الواقع هو حقيقة الحياة، ومن دونه تصبح الحياة بلا معنى.

  الأسئلة التي واجهتها الشخصية الرئيسة في الرواية، غليب، حول إيجاد «نقطة ارتكاز» جديدة في الحياة، هي الأسئلة، التي يواجهها كثير من الناس. هل تعتقد أنه في هذه الحالة، يكون الأمر أكثر صعوبة عندما يتعلق بشخص مبدع أو مرتبط بالفن، مقارنة، نتحدث هنا نسبيًّا، بشخص عادي؟

  الشخص العادي لديه نقاط دعم أساسية أكثر بكثير من الفن: الأسرة، المقرّبون والأحباء. هذه نقطة الارتكاز الأقوى. يحدث أن يكون الفن سريع الزوال بشكل تام، وأحيانًا لا يكون قادرًا على دعم الإنسان، بحيث يكون سقوطه أمرًا لا مفر منه.

  هل قرأت أيًّا من النصوص الكلاسيكية في أثناء العمل على رواية «Brisbane»؟ بعد كل شيء، للأدب الروسي علاقة غنية مع الموسيقا: فلاديمير نابوكوف نفسه لديه قصة بعنوان «Bachman»، وعند يوري ناغيبين هناك، «الموسيقا المفقودة».

  كلا، لم أقرأ أي شيء. «دكتور فاوست» لتوماس مان، الذي أحبه كثيرًا، كان في رأسي، لكنني حاولت أن أنساه أيضًا، فعندما تكتب شيئًا خاصًّا بك، من المهم أن تتخلص من الغريب.

  في رواية «Brisbane» تستخدم اللغة الأوكرانية بنشاط. هل يمكنك كتابة كتاب كامل باستخدام هذه اللغة؟

  أعتقد أنني أستطيع، فما زلت أتذكر الأوكرانية. مع ذلك أكتب باللغة الروسية فقط؛ لأنها اللغة الوحيدة التي أعرفها تمامًا. يمكنني التحدث بعدة لغات بطلاقة نسبيًّا، ولكن، على سبيل المثال، في الألمانية أعرف المعاني الثلاثة الأولى للكلمة، كما هو الحال في اللغة الإنجليزية. هذا يكفي لكتابة مقال موسوعي، لكن ليس كافيًا لكتابة نص فني، تتوازن فيه بين النغمات وظلال معاني الكلمات.

المستقبل واللحظة الراهنة

  تحدثت كثيرًا في الآونة الأخيرة عن أنه لا حاجة للتفكير في المستقبل، ولا للتخطيط لأي شيء، كما أنه لا حاجة للقيام بثورات، وما إلى ذلك. هل يمكننا أن نفترض أن أفكارك حول هذه المسائل، تتوافق مع الشعار الشائع في عصرنا، «عش الآن، عش في اللحظة الراهنة»، وهو شعار غالبًا ما يستخدمه علماء النفس الأميركيون؟

  كلا، لا يمكنك ذلك. هذا ليس ما أقوله على الإطلاق. أقترح التركيز على الحاضر، التركيز تحديدًا، وليس التفكير في الحصول على أكبر قدر ممكن من المتعة في لحظة معينة. أحثّك على التفكير فيما يمكنك القيام به من أشياء مفيدة لتطورك الآن، وليس في المستقبل. لذلك، حتى في المعنى، فإن دعوتي تتعارض تمامًا مع المبدأ الذي اقتبسته.

  تعمل في كتبك بمفهوم «الزمن» أيضًا. نعلم تصريحك بأنه «ليس هناك زمن». ومع ذلك، ماذا تريد أن تخبر القارئ عن الزمن؟ ما موقفك من ظاهرة الزمن في حياتنا؟

  يتعارض الزمن مع الخلود. تصطف الأحداث فيه بترتيب معين لتسهيل الإدراك. نحن نسميه الترتيب الزمني. أعتقد أن الأحداث لا تختفي في أي مكان مع انتقال الشخص إلى الأبدية، هي ببساطة تفقد مرجعها الزمني: معلّقة في الأبدية، مثل الألعاب على شجرة عيد الميلاد، ولم تعد بحاجة إلى الوقت. دون خوف من الحشو، سأقول إن الزمن مؤقت.

  دعنا نتحدث عن وقتنا الراهن: إحدى البطلات في كتابك ناشطة نسوية. أخبرني، كيف تتعاطى مع النسوية بشكل عام؟

  بما أنني شخص عاش في الخارج، أفهم على أية تربة ظهرت النسوية. ففي الغرب، كانت النساء حقيقةً في ظروف أسوأ كثيرًا من الرجال. على سبيل المثال، حصلن على أجور أقل للوظيفة نفسها، وهذا الوضع، إلى حدٍّ ما، مستمر حتى يومنا هذا. أدى هذا الظلم، بطبيعة الحال، إلى ظهور مثل هذه الحركة. لكن، كما تعلمون، في مرحلة ما، أصبحت النسوية الغربية أشبه ما تكون بـ«قاطرة للسائق»، عندما تحمّس الناس، لا لتحقيق الإنجازات، بقدر ما كان حماسهم لعملية النضال والمواجهة بحد ذاتها. بشكل عام، مثل هذا التركيز على نقطة واحدة، وفي أي مجال -ينطبق هذا أيضًا على موضوع حماية الطبيعة، على سبيل المثال- يبدو نظرة من جانب واحد. ويبدو لي أن عليك أن تقول وتفعل كل ما تعتقد أنه ضروري، لكن لا تتحول إلى مثل هذه الصورة ذات اللونين: ليس عليك أن تحصر نفسك والعالم كلّه في لونين اثنين.

تابعة لموضوع النسوية: كيف تتعاطى، من وجهة نظرك كفنان، مع العروض والتصريحات الراديكالية؟ على سبيل المثال، ماتت إحدى قادة النسوية مؤخرًا، تاركة ملاحظة قبل وفاتها: «أنتم جميعًا مزيفون!»، عدّها كثيرون مرعبة، لكنها لا تزال إيماءة فنية.

يبدو لي كل هذا مأساوي ورهيب. لست مستعدًّا للحديث عن حالة معينة؛ لأنني لا أملك المواد الكافية لذلك، لكن بالنسبة لمثل هذا الشخص، يمكنك أن تصلي فقط. بالطبع، هناك أشياء لا أفهمها، ليست قريبة مني، بل هناك أشياء مزعجة جدًّا لي. لكنني، وبشكل دائم، أفصل الشخص عن كلماته: الشخص دائمًا أفضل من أقواله.

المهم في أدب اليوم

  بصفتك ممثلًا للمدرسة الكلاسيكية في الأدب، يبدو ممتعًا أن أسألك حول موقفك تجاه الفن المعاصر، ما رأيك في مارينا آبراموفيتش، وبينكسي، ودميتري بريغوف؟

  من الأفضل أن أركز على النثر، لكونه الأكثر قربًا لي. أما الأدب، فلا يهم النوع أو الأسلوب الذي يعمل به المؤلف. الشيء الرئيس هو أن ينفذ ذلك بموهبة. على سبيل المثال، فلاديمير سوروكين مصمم أزياء لامع. في بعض الأحيان تكون تصاميمه أفضل من الأصل. ليس لدي أية رغبة على الإطلاق في أخذ شخص ما خارج الأدب، أو الحث على مقاطعته. لا ينبغي لأحد أن يتعفن لمجرد أن لوحاته، على سبيل المثال، لا تشبه أعمال ريبين. شيء آخر، هو أنه ليست كل العبارات الصادمة موهوبة: ليس بالضرورة أن يكون كل ما هو موهوب متطرفًا.

  ما الكتب الأجنبية التي تنصح بشدّة بقراءتها؟

  أود أن أوصي برواية للكاتب المقدوني فينكو آندونوفسكي، عنوانها «سرّة الأرض»، وكتاب كازو إيشيغورو «لا تدعني أذهب»، هذا نص رائع ومدهش. بالطبع، هناك أيضًا رواية «The Benevolent» لجوناثان ليتيل، رواية إعصارية بالمطلق.

  جوليان بارنز، هل تنصح به؟

  نعم، بارنز هو كلاسيكي حي. إنه شخص ذكي جدًّا، مع حس سخرية مرتفع. من بين أعماله، أنصحك بقراءة «تحسّبًا للنهاية»، حصلت هذه الرواية على جائزة بوكر، وهي في رأيي، العمل الأقوى بين كل أعماله.

يعدّ القرن التاسع عشر العصر الذهبي للأدب الروسي، وتطلق تسمية العصر الفضي على بداية القرن العشرين. برأيك، هل من تسمية قرن معين، يمكننا إطلاقها على الحقبة الأدبية الحديثة؟ بالمناسبة، الكاتبة ماريا غالافانيفسكايا عرّفت الوقت الحاضر بأنه «العصر الزجاجي».

لست بارعًا في إطلاق التسميات، لكنّ هناك شيئًا ما في كلمة «زجاجي»، على الأقل، فيه تلميح إلى التزييف. لكنّ هناك تصورًا آخر يبدو أقرب إليّ. في سفر النبي دانيال، هناك وصف لعملاق، رأسه من الذهب، وصدره وذراعاه من الفضة، البطن والفخذان من النحاس، والساقان من الحديد، والقدمان واحدة من الحديد والأخرى من الطين. هذا العملاق هو رمز للوقت الحاضر. هذا ما فعلته ما بعد الحداثة فينا جميعًا: على سبيل المزاح، جمعت كل شيء مع كل شيء، ثم اتضح أن هذا المخلوق الجديد ليس مضحكًا على الإطلاق، وأن هذا العملاق حي.

  أنت عضو في لجنة تحكيم جائزة ياسنايا بوليانا، ومن المحتمل أنك قرأت الكثير من الكتب لمؤلفين معاصرين. ما الكتب الجديدة لمؤلفين ناطقين بالروسية التي تنصح قُرّاءنا بالاهتمام بها؟ ما الأعمال الأخيرة التي أثارت إعجابك؟

  أردّد دائمًا أن مجتمعنا الروسي لم يستوعب بعدُ «محنة» عام 1917 بشكل كامل، وأود هنا التركيز على بعض الكتب، التي تحاول إثارة أسئلة حول ما حدث بالفعل لنا منذ مئة عام، وكيف نشأت هذه الكارثة. أود أن أوصي بـ« Myslenny Wolf » للكاتب آليكسي فارلاموف، ورواية «طريق الشتاء» لمؤلفها ليونيد يوزيفوفيتش، وهي رواية رائعة حازت جائزة الكتاب الكبير. ترتبط بهذا الموضوع أيضًا كثير من روايات فلاديمير شاروف، الذي يحاول معاينة التاريخ على هذا النحو. من أجل فهم أحداث القرن الماضي، يجب أن يتمتع المرء بفهم جيد لماهية التاريخ وكيف يتحرك. روايات «Abode» للكاتب زاخار بريليبين، و«زليخة تفتح عينيها» للكاتبة غوزيل ياخينا مهمتان أيضًا لهذا الموضوع.


المصدر: الموقع الروسي ELLE