لي جانغ ميونغ: الأدب الآسيوي صنع مكانته الخاصة على الصعيد العالمي

لي جانغ ميونغ: الأدب الآسيوي صنع مكانته الخاصة على الصعيد العالمي

لي جانغ ميونغ روائي بارز في الساحة الأدبية الآسيوية والعالمية، بيعَتْ ملايين النسخ من رواياته في شبه الجزيرة الكورية بعد ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية، وحوِّلت معظم أعماله إلى أفلام سينمائية ومسلسلات تلفزيونية ومسرحيات موسيقية. ففي سنة 2015م، احتلت رواية «التحقيق» مرتبة متقدمة في اللائحة الطويلة لجائزة الإندبندنت لأدب الخيال الأجنبي. يأتي اسم لي جانغ ميونغ جنبًا إلى جنب مع أسماء أدبية من الوزن الثقيل، مثل الياباني هاروكي موراكامي والنرويجي كارل أوفي كناوسكارد. في حواره التالي يعرض لي جانغ ميونغ أفكاره عن ثيمات الشر في الطبيعة البشرية، وعن الحرية والسجن والأمل.

  كيف برز الكاتب الروائي لي جانغ ميونغ في الوسط الأدبي؟

  عند بلوغي التاسعة والعشرين ربيعًا، كنت أعتاش من عملي صحفيًّا، واعترتني رغبة ملحة في تأليف عمل أدبي خاص بي، وفي أحد الأيام، وأنا في طريق عودتي إلى البيت، بعد يوم طويل من العمل، ومن دون سابق إنذار سألت نفسي: «ما الذي أنجزته في الآونة الأخيرة من حياتي؟» حينها أدركت حجم الموضوع فقررت الانخراط في عمل أدبي في السنوات الثلاث المقبلة، ليس لغرض الشهرة بل لإرضاء نفسي أولًا؛ وسارعت إلى الانخراط في سباق الماراثون قبل موعد بزوغ الشمس ثم الانهماك في تأليف الروايات في جوف الليل، وبعد ثلاث سنوات، ربحت الرهان وكانت النتيجة: فوزي بالماراثون وكتابة روايتي الأولى.

  قال جورج أورويل: «تأليف كتاب أمر فظيع، معضلة شاقة، كَنَوْبَةِ مرضٍ أليم». كيف كانت رحلة الكتابة بالنسبة لك؟

  أعتقد أنه أشار إلى الألم خلال عملية الكتابة لينوهَ إلى نشوة الإنجاز، والشائع أن حسن العمل يقابله الجزاء الأحسن بالفعل، فالكتابة عملية مرهقة لصاحبها، وقيمتها تكمن في استحقاقها لكل الجهود المبذولة والمعاناة التي يتلقاها الكاتب لإنجازها، والكُتاب أناس مختارون لتكبد مشقة الطريق، مثل عدائين في سباق الماراثون يقفون في خط الانطلاق، مع العلم أن هاجس الجري لمسافة 26 ميلًا لا يفارق مخيلتهم، وعند انطلاق الصافرة، يختفي الخوف من نفوسهم ويسابقون بعضهم بكل ما أوتوا من قوة إلى أن يستقبلهم الطرف الآخر عند نقطة الوصول.

عندما أنخرط في تأليف أعمالي، أتخذ من مكتب صغير قرب منزلي مقرًّا لعملي، حيث أقضي الوقت كله هناك من التاسعة صباحًا إلى أن تضرب عقارب الساعة السادسة مساء، في بعض الأحيان، أكتب ما مجموعه 250 كلمة ومرات أعجز عن إتمام جملة واحدة، وأعشق ساعات الكتابة الطويلة المليئة بمشاعر الوحدة والمعاناة.

  روايتك الأخيرة «التحقيق» محملة بصور تكشف المستور عن الجانب الشرير للجنس البشري، إضافة إلى نماذج سردية أخرى عن ثيمة الأمل. هل كان من السهل عليك أن تجمع في كتاباتك بين العنصرين المتضادين النور والظلام؟

  لطالما حلمت بالعمل وفق مبدأ الوضوح والشفافية حينما يتعلق الموضوع بالكتابة الروائية، فأنا أصر على كتابة روايات تكشف المستور من التاريخ وتسلط الضوء على الحقائق، وللحقيقة وجهان كعملة واحدة: النور والظلام. الإنسان يتحمل محاسن ومساوئ طبيعته، أي الشر والخير. ولا مجال للهروب منهما ولا أرغب في أن أكون أحادي الشخصية، من الشائع القول: «حدة بريق النور تجعل الظل أكثر سوادًا». الأشرار دائمًا يهمشون ويدفنون في مقبرة النسيان في حين يخلد ويمجد الأخيار على صفحات التاريخ. أعتقد أن من الجيد أن نخلق جوًّا متزنًا ومتصارحًا مع السلوك البشري وفضاءً رحبًا يتسع لكل من الشر والخير معًا، وأكثر من ذلك التصدي للمعوقات والترحيب بالإيجابيات التي تتخلل مجتمعنا.

  روايتك تتناول ثيمة الحرية والسجن. ما مفهوم الحرية الحقيقية بالنسبة لك؟

  التاريخ الكوري في العقد المنصرم كان يتأرجح بين ويلات حرية الشعب والصراع لإرجاعها، وفي أوائل القرن العشرين، كان التنين الياباني يستعمر كل شبر من أراضي شبه الجزيرة الكورية، مجندًا آلاف الشبان الكوريين في الصفوف العسكرية الأولى للدفاع عن الإمبراطورية اليابانية في الحرب العالمية الثانية، علاوة على استرقاق النساء الكوريات تحت تسمية «نساء المتعة»، فكانت سنة 1945م آخر سنوات الاستعباد والقهر للكوريين إبان الاحتلال الياباني، لكن هذا الاستقرار المؤقت لم يكن سوى الهدوء الذي يسبق العاصفة، فشبه الجزيرة الكورية آنذاك أخذت نصيبها من الفتن الداخلية، وكانت النتيجة انقسام البلاد والدخول في حرب طاحنة دامت ثلاث سنوات بين أبناء الشعب الكوري الواحد، والختام كان مع إعلان تأسيس دولتين مستقلتين؛ كوريا الشمالية الشعبية والأخرى الجنوبية وعاصمتها سول، وسرعان ما تداركت الجنوبية الموقف ونهضت من ركام الحرب، إلا أن الجيش الدكتاتوري حَدّ من حرية الشعب مرة أخرى، فكانت رحلة تأسيس دولة ديمقراطية عصيبة وطويلة. لكن قِيَمَ المجتمع الرأسمالي لا تقل سوءًا عن سابقاتها الدكتاتورية؛ الفارق الوحيد هو وسيلة القمع التي حُدِّثَت إلى نفسية واجتماعية بدل جسدية، وكل ما أرغب فيه هو اختفاء هذا النوع من الممارسات في العالم وأهمها سياسة القوة الناعمة.

  عالجت موضوع الرقابة في «التحقيق». هل يمكن السماح للرقابة أن تتحكم في القلم الأدبي؟

  أُعارض بشدة وجود الرقابة في المجال الأدبي، وأطالب بحذف المصطلح تمامًا من صفحات المعاجم. بالفعل، هناك العديد من الدول حاليًّا تعمل على التقليل من ممارسة الرقابة في هذا المجال، وبالتالي ضمنت حق حرية التعبير لكُتابِها، عكس بعض الدول التي ما زالت تجند الأقلام الإبداعية لصالحها بحجة انتهاك الحرمات وذريعة التشهير، وكثيرًا ما ينظر إلى المجتمع الرأسمالي الحديث على أن بعض التكتلات متعددة الجنسيات تستعمل سلطة النظام الرأسمالي لتشجيع أو ردع أدبائها، ولا يمكن السماح أبدًا بتضييق الخناق أو التأثير في أفكار الكاتب، فأشهر كتاب التاريخ أكدوا فشل الحكومات في كبح جهود الكتاب لنشر رسائلهم أو سلب حق القراءة من العامة، فأعمالهم خالية تمامًا من أي تشويه بسبب قضية الرقابة.

الحياة بلغات مختلفة

  في المرحلة الأولى كتبت «التحقيق» باللغة الكورية وبعدها تُرجِمَت إلى لغات عالمية عدة. هل لك أن تصف لنا هذه العملية؟

  المسودة الأخيرة لرواية «التحقيق» كانت جاهزة في سنة 2008م، وقدّم وكيل أعمالي طلبًا إلى المترجمة الكورية المحترفة تشي يونغ كيم لترجمة الصفحات الثلاثين الأولى من الرواية، فهي ذات سمعة عالمية في مجال ترجمة الأعمال الأدبية الكورية إلى الإنجليزية، حيث كانت تشرف على ترجمة الرواية العالمية «أرجوك اعتني بأمي» للكاتبة الكورية كيونغ سوك تشين، التي تُوّجت بجائزة مان الآسيوية للأدب عن الرواية نفسها.

عند ترجمة رواية «التحقيق»، لم تترجم تشي يونغ كيم ترجمةً حرفيةً للجمل الكورية إلى الإنجليزية، بل أغنت الكلمات والجمل بمشاعر صادقة وأعطت انطباعًا واقعيًّا عن الحياة العامة في شبه الجزيرة الكورية في أثناء الاحتلال الياباني، وأرسل وكيلي نسخة من الرواية مرفقة بملخص عنها إلى معرض الكتاب في لندن سنة 2012م، حيث اشترت العديد من دور النشر حول العالم حقوق الكتاب كدار «ماكميلان» الأميركية، وبعد مدة قصيرة، نُشِرَت النسخة الكورية من رواية «التحقيق» في صيف عام 2012م، لتليها مرحلة الانتهاء من النسخة الإنجليزية أواخر العام نفسه. وبعد سنتين، أُصدِر الكتاب باللغة الإنجليزية في المملكة المتحدة، والفضل الكبير يعود إلى صاحبة العمل الدؤوب المترجمة تشي يونغ كيم، التي بفضلها تمكنت روايتي من تصدر مراتب متقدمة في اللائحة الطويلة لجائزة الإندبندنت لأدب الخيال الأجنبي، وأنا ممتن لجميل صنعها.

  أخبرني أكاديمي من جامعة كورية مرموقة أن نشر وترجمة الأعمال الأدبية الآسيوية في الدول الغربية علامة موثوقة لنجاح ووزن الكتاب. ما رأيك؟

  لا يسعني سوى القول: إن الأدب الآسيوي صنع مكانته الخاصة على الصعيد العالمي، وأسماء الأدباء الآسيويين أصبحت مألوفة لدى القارئ الغربي كالكاتب الياباني الشهير هاروكي موراكامي، ناهيك عن إدراج كُتّاب من جنسيات مختلفة موضوعات عدة في مؤلفاتهم مثل: السياسة، والثقافة، والدين، وهذا راجع إلى عصرنتهم ومعايشتهم الأحداث الراهنة.

بالنسبة لكوريا، القرن الأخير كان مليئًا بالتخبطات السياسية؛ حقبة الاستعمار الياباني، حرب الكوريتين، دكتاتورية العسكر، الديمقراطية والنمو الاقتصادي السريع، كلها عوامل ساهمت في إثراء الأدب الكوري عامة والكوري الجنوبي خاصة، فأدباء هذه المرحلة كانت أعمالهم مشحونة بمشاهد صراع الإنسان وطبيعته، حقوق الإنسان، الحرية، سلطة الرأسمالية، ولكن سبب نجاح هذه الأعمال بلا شك تطابق قصص القراء الغربيين مع واقع الأدب الكوري أو الآسيوي برمته، في حين يبقى لكل منا حياته الخاصة ومكانه الجغرافي البعيد، على الرغم من ذلك يمكن لهذه الأعمال أن تؤلف قلوبنا معًا.

يمنحنا الأدب فرصة ذهبية للتعارف فيما بيننا، فَهْم لغاتنا المختلفة والاطلاع على أساليب العيش المتباينة وكذلك إيجاد انعكاسنا على مرآة أخرى غير تلك التي اعتدنا عليها. وإن دل هذا على شيء فهو يدل على وحدة الإنسان والحقيقة معًا؛ حقيقة الخير والجمال، بِغَضّ النظر عن اختلافاتنا الظاهرية، فهذا التباين يجعلنا نؤمن بأن جوهرنا واحد، وهذا بالضبط سر قوة الأدب العالمي.

  تدور أحداث «التحقيق» في السجن وهو مكان يهابه الجميع ويشبهه بعضهم بالكابوس. هل تعيش أيًّا من هذه الكوابيس والأحلام المزعجة في حياتك؟

  أحيانًا يراودني حلم العودة إلى معسكر التدريب للخدمة العسكرية الإجبارية حتى بَعْدَ تسريحي، فمرة عايشت الحلم أربع مرات متواصلة، فكان خلاصي الوحيد الاستيقاظ.

  روايتك السابقة «شجرة عميقة الجذور» حُوّلَت إلى عمل درامي تلفزيوني لقي نجاحًا واسعًا في كوريا، والعديد من الكتاب يحلمون بتحويل أعمالهم الأدبية إلى أخرى سينمائية وتلفزيونية. كيف كانت التجربة بالنسبة لك؟

  يضم رصيدي الأدبي حاليًّا سبع روايات؛ اثنتان منهما حُوّلَا بنجاح إلى مسلسلات درامية كورية، وثلاث إلى أفلام سينمائية، أما الباقي فمجموعه روايتان سيُحَوَّلانِ إلى مسرحيات موسيقية. في مرحلة التأليف المبكرة، لم تكن لديَّ أدنى فكرة عن مشروع ترجمة أعمالي الأدبية إلى نشاطات في الفن السابع، وحسب رأيي الشخصي، من المفترض أن تكون الأحرف المكتوبة أو الجمل الرابط الأول بين الكِتابِ وقارئه. وعادة ما تعرب شركات الإنتاج ومخرجو الأفلام عن الرغبة في تبني أعمالي الأدبية، وعند قبولي العرض، أحاول وضع لمستي في عملية الإنتاج، حتى إن لم أكن موفقًا في ذلك، حيث إن بعضًا من المنتجين يفضلون الاحتفاظ بالشخصيات الأصلية وكذا حبكة القصة، فيما يذهب آخرون إلى إحداث تغيير في بنية الشخصيات أو ترتيبها البطولي، علاوة على دور الإشراف العام والمعاينة القريبة للعملية التي يحظى بها الكاتب.

  ما الأعمال المقبلة في جدول زمنك الأدبي؟

  حاليًّا يقوم مترجمي الخاص بترجمة عمل لي إلى اللغة الإنجليزية، رواية قد نُشِرَت قبل سنتين في كوريا بعنوان «الصبي الذي هرب من النعيم»، وهي تحاكي واقع صبي يعاني مرضَ التوحد، فيحاول جاهدًا الهروب من معسكر سياسي في كوريا الشمالية، ثم يشاء القدر أن يتيه في الأرجاء، وللطفل موهبة فريدة تتجلى في قدرته على القيام بالحساب الذهني، فيدخل الصبي البريء في صراع ملحمي مع عالم تفوح منه رائحة الفتن والنوايا الشيطانية.


المصدر: https://www.bananawriters.com/jmleeinterviewauthor

كيونغ سوك تشين: أي تحسن في بنية المجتمع الكوري هو بفضل النسوة وتضحياتهن

كيونغ سوك تشين: أي تحسن في بنية المجتمع الكوري هو بفضل النسوة وتضحياتهن

كيونغ سوك تشين صاحبة رواية «أرجوك اعتنِ بأمي»، التي بِيعَ منها ملايين النسخ داخل كوريا الجنوبية وخارجها، هي أول كاتبة من أصل كوري، وأول امرأة تنال جائزة مان للأدب الآسيوي. وُلدت كيونغ سوك تشين سنة 1963م في قرية قريبة من مدينة «جيون جي آب»، محافظة «جيولا»، كانت انطلاقتها الأدبية مع الرواية القصيرة «حكاية الشتاء»، التي توجت بالجائزة المرموقة «ميونيي جونكانغ للكاتب الصاعد». ألفت سوك تشين ست روايات، وست مجموعات قصصية قصيرة وعددًا من الكتب غير الروائية في مسيرتها الأدبية الحافلة بالإنجازات، وحصدت العديد من الجوائز القيمة في الوسط الكوري الأدبي؛ «هانكوك البو للأدب»، «هيونداي للأدب»، «مان هاي للأدب»، «دونغ إن للأدب»، «إي سانغ للأدب»، «أو يانغ سو للأدب». وآخر أعمالها الروائية صدر في يونيو 2014م تحت عنوان «سأكون هناك».

هنا نص حوار معها:

  رحلتك الأدبية جاوزت العقدين. ما التحديات التي تَصَدَّيْتِ لها وجعلت منك كاتبة مشهورة؟

  أبرز التحديات التي ما زالت تواجهني إلى يومنا هذا هي تأليف عمل أدبي أفضل من سابقه، ولتحقيق هذا، عليّ الالتزام بالعمل والاتسام بروح الجدية للتركيز أكثر، وعند الانتهاء من أي عمل، يخالج صدري شعور بالإنجاز والعطاء، لكن سرعان ما تنطفئ شمعة الفرح ليعم مكانها سم الفراغ، وكأنني في ضائقة مادية وأفلست، ليس هناك خلاص أبدي من العمل، أنت مطالب بأن تكون منتجًا كلما سنحت الفرصة، وعند الانطلاق في رحلة التأليف، اللبنة الأولى تكون من عدم، حينها لا فائدة من كونك كاتبًا محترفًا أو مبتدئًا.

أن تتجاوز الخوف الذي يتربص بك من كل حدب وصوب خلال رسمك لمسار الرواية من جديد، والتفاني والحزم في العمل حتى النهاية، هذا التحدي الحقيقي الذي يجب على كل كاتب تجاوزه، حتى إن رأى نفسه كاتب روايات ناجحًا، لكن لإتمام عملك، أولًا، عليك أن تكون محبًّا لعمل الكتابة والتأليف، وتستطيع كبح وصد المغريات التي تفور داخلك كالخوف، والكسل والاستسلام عند الإحباط، لكن هذه الشروط تُرْفَعُ إن كُنْتُ في عطلة عائلية أو ظروف خاصة، أُحاوِلُ مزاولة فن الكتابة أو قراءة الكتب بين الثالثة والتاسعة، وهذه العادة تجعلني ملتزمة بممارسة الكتابة على نحو منتظم.

  روايتك الشهيرة «أرجوك اعتنِ بأمي» نالت جائزة مان للأدب الآسيوي وأيضًا جوائز أخرى رفيعة المستوى. ما وَقْعُ النجاح على مسارك الأدبي؟

  الفوز بهذه الجائزة أو بأخريات كان غير متوقع بالمرة، فَوقْعُها عليّ كَوَقْعِ هدية مفاجأة، على الرغم من كل هذا النجاح، سأبقى وفيّة لكتاباتي حتى إن لم أتقاضَ شيئًا مقابلها، كما تعلمون، الكاتب لا يكتب بدافع الفوز بالجوائز الأدبية، ولا أخفي عنك إحساس الفوز بها، فكأن زملاءك في العمل الأدبي ينادونك في جوف الظلمات والوحدة، وفي هذه اللحظات المؤنسة، أستشعر الرباط الوثيق الذي يجمعني بالقراء والعالم، فهي علاقة شخصية مشابهة للصداقة أو للحب.

فضلًا عن ذلك، أعتقد أن الفوز بالجوائز الأدبية بمنزلة بطاقة دعوة للكاتب لحضور مهرجان، ولك أن تتخيل العالم من غير مهرجانات، ألن يكون الوضع مملًّا؟ لكن هذا الأخير يُعَدّ فاصلًا مؤقتًا، فعند حضورك الحفل، من الضروري أن تعيش اللحظات بكل جوارحك كأنك تموت غدًا، وحينما تُهيَّأ طاولات الحفل وتقلع زينة المهرجان، فاعلم أنه من اللازم نسيان كل لحظات مرحك وضحكك، وتلبس لباس الجد والكد في العمل لضرب موعد آخر في المستقبل، فحصاد الغد أهم من نتاج الأمس، فعلينا الانتقال إلى العمل المقبل عند الانتهاء من سابقه.

  ما الذي يجعلك تستشعرين جمالية الكتب وإدراك مكانتها الجيدة خلال جلسات القراءة؟

  أعتقد أن الكتب الجيدة تأسرك بجمالها لدرجة أنها ترغمك على إعادة قراءتها مرة وأخرى، هذا النوع من الروايات يكون أبطالها مُقَدمين بشكل رائع وسلس، فمعظم حواراتها تكون شائقة، وأفكارها متناسقة، ومشاعر كاتبها صادقة، لكن أخص بالذكر وجود معيار آخر لقياس جودة العمل الأدبي؛ وهو إعطاء القارئ فرصة ذهبية لإعادة صياغة معارفه المكتسبة وإغناء رصيده بمحتوى جديد. ولقد سمعت أن الكتاب المثالي يكون محط أنظار سارقي الكتب، وهذا تمامًا ما أود تأليفه كعمل أدبي يمثلني.

  عقب تسلمك جائزة مان للأدب الآسيوي كان تعليقك لاذعًا بخصوص قضية اللاجئين الكوريين الشماليين نحو الصين. هل من تفصيلات أخرى عن هذا الموضوع الشائك؟

  خلال حفلة تسلمي الجائزة، كانت الحكومة الصينية مستعدة لتنفيذ قرار ترحيل هؤلاء الهاربين من الجحيم الكوري الشمالي إلى وطنهم الأم، ولحد علمي، كوريا الشمالية من أوائل الدول التي لا تسهر على احترام حقوق الإنسان، فالمعونات الغذائية الوطنية شبه محدودة، ومواطنوها يموتون جوعًا، بصيغة أخرى، الناس هناك يفتقدون أبسط ضروريات العيش. هل لنا أن نتساءل فقط عن هوية هؤلاء الذين ضحوا بأرواحهم لقاء فرصة أخرى للعيش بكرامة وإنسانية، فقرار الترحيل الصادر من حكومة دولة كجمهورية الصين الشعبية، في نظري لا يقل إجرامًا عن ارتكاب مجزرة إنسانية في حقهم، لقد نلت الجائزة في هونغ كونغ وهي تابعة للصين، حيث انتشر خبر ترحيل الهاربين من كوريا الشمالية كالنار في الهشيم، كنت أتمنى أن يصل صوتي إلى الجهات الرسمية بمن فيها الحكومة الصينية، وعلى الرغم من ذلك، فصوتي هذا لم يكن مسيّسًا قط. أما أنا، فهذا القرار غير المدروس خاصة إذا كانت الحكومة الصينية على علم بمصيرهم في النصف الشمالي من شبه الجزيرة الكورية.

أثر الأم والنساء

  رواية «أرجوك اعتنِ بأمي» تضم في طياتها رسالة حب لكل أمهات الكون. كيف كان رد فعل والدتك عن الكتاب؟ هل كانت من الداعمين لك ككاتبة؟

  أمي كانت تمتهن الفلاحة مدة طويلة من حياتها، ولم تخصص وقتًا لها لقراءة الكتب، فكانت مخلصة لمهنتها وحريصة على تعليم أطفالها، وحاليًّا هي ما زالت تسكن في بيتها القديم الذي ترعرع فيه صغارها. إن لاحَظْتَ أي تحسن في بنية المجتمع الكوري، فكن متيقنًا أن هؤلاء النسوة هن من أحدثْنَ التغيير بفضل حبهن، وتضحياتهن وعملهن المتفاني، لنتخيل فقط أن أمي حصلت على أمر مثلي، لكانت هي الأخرى اتخذت من الكتابة مسارًا لبقية عمرها، لطالما كانت أمي تؤدي دور الداعمة والمحبة لكتاباتي وقراءاتي منذ صغري، وصراحة، لم أواجه قط أي نوع من المضايقات من مجتمعي فقط لامتهاني هذه الحرفة، على العكس، فحقيقة التألم لشقاء الحياة وغياب قيم كالعدالة الاجتماعية -في نظري- تعمل كتابة الروايات على تعويضهما، فحياة الكاتب هي محطة للتأمل الدائم حول إشكالية العيش الحر وكرامة الإنسان، وشاءت الأقدار أن أعيش هذه الحياة.

  تحتوي الرواية نفسها على ما يقارب أربعة أصوات سردية: الأب، والابن، والزوج والأم. كيف كانت تجربة الكتابة معك بأصوات متعددة مع العلم أن الكتابة بصوت واحد في حد ذاته تحدٍّ لا يستهان به؟

  أما أنا فأرى الأم موسوعة متنقلة، كلما حاولت الانغماس في كلماتها، غرقت في معانيها الغنية، فالكتابة بصوت واحد لن يكن كافيًا لإيصال معاني الأمومة إلى القارئ، فهذه الأصوات الأربعة تمثل ثيمات الرواية، فبعد وصول رواية «أرجوك اعتنِ بأمي» إلى المكتبات، سنحت لي الفرصة للقاء بعض الروائيين الذين اشتكوا من صعوبة توظيف هذا الأسلوب في أعمالهم الأدبية، ولحسن الحظ وُفّقت في هذه العملية. أليس من الغريب أن أكتب بصوت الأب والابن وأنا امرأة؟ لقد استغرقت نحو سنة لإيجاد الأسلوب الأمثل لتأليفها، كما أنني صنعت خشبة مسرحية، يعتليها أبطال الرواية واحدًا تلو الآخر لتمثيل مشهد اختفاء الأم والاعتراف بعلاقاتهم، حينها أدركت أن جوارحي كانت مُلِمّة بشخصية الأم أكثر من فعل الكتابة عنها. وللأسف، لقد غاب عن ذهني أعمال روائية أخرى وَظَّفَتِ الأسلوب نفسه.

  كشفت دراسة أجريت مؤخرًا عن وجود تفرقة على أساس الجنس في قلب دور النشر الأميركية والبريطانية، فعدد كبير من المراجعات والدعايات للكتب في الجرائد كانت لكتاب ذكور. هل سبق لك أن تعرضت لمواقف محرجة فقط لأنك امرأة؟

  بما أنني كاتبة ومعظم أبطال رواياتي نسوة، الشيء الذي أعطى فرصة على طبق من ذهب للنقاد النسويين بدراسة أعمالي الأدبية فقط من المنظور النسوي، غير أنهم يتغاضون عن دراسة أعمال كتاب ذكور من الجانب الذكوري. عندما أكتب قصة ما، فأنا أتعامل مع شخصيات مجهولة الهوية، وبالطبع، هناك أبطال نسوة في رواياتي وذلك يرجع لكوني امرأة، لكن أنا فقط أمارس هوايتي، لست ذكرًا ولا أنثى، وأعتقد أن الشيء نفسه ينطبق على زملائي الذكور في العمل، فليس الغرض أن نوضح للعامة مَنِ الأسمى الذكورُ أم الإناث، جُلّ هدفنا يكمن في النقطة التي تنصهر فيها ذوات الطرفين، لِتُقْبَلَ الاختلافات ويعم السلام. أناشد القراء الحالمين أن يذيبوا مسألة طبيعة جنس الكاتب، فلنركزْ فقط على العمل بموضوعية أكثر، بعيدًا من الأحكام والنقد النسوي له.

  الأعمال الأدبية، وبخاصة الروائية منها، يمكن لها أن تلمس أحاسيس القراء أو أن تغير محطات من حياتهم. هل سبق لك أن توصلت بأي رسائل مؤثرة من العامة تحاكي هذه الظاهرة؟

  أحيانًا يفاجئني قرائي أنهم مسرورون جدًّا لمعاصرتهم لي، وسمعت أن منهم من ارتاد الجامعة نفسها التي سبق لي أن درست بها، وفي مرة حدث أن كَتَبْتُ مقالًا أذكر فيه تجربتي لنسخ أعمال كبار الأدباء خلال مراهقتي، حاليًّا، ألتقي بعض الكتاب الصاعدين المتابعين بشوق لجديد أعمالي، وأخص بالذكر حادثة لطيفة لامرأة من قرائي الأعزاء، أنها قد سبق لها أن أعدت وشاركت صنف الطعام الذي ذكرته في إحدى رواياتي لتتجاوز أزمتها الشخصية.

عندما أسمع قصصًا كهذه أحس بأن قلبي على وشك التوقف، مع أن رواياتي تتناول قصصًا لأناس غير سعيدين، أتمنى أن يكون لهذه الأخيرة وقع إيجابي على قرائها، أستمتع حقًّا بوصف جمالية الإنسانية والطبيعة في كتبي، وآمل أن يلمس هذا الشعور قرائي. إن علاقة الكاتب بالقارئ كالمرآة وانعكاسها، أنا سعيدة لكوني محاطة بأناس يحبون أعمالي ويشجعونني على تقديم المزيد كقرائي، حيث من المسموح لنا بالتواصل والتأثير بشكل متبادل في بعضنا الآخر.

  ما الصفحة المقبلة من حياة كيونغ سوك تشين؟

  صدور النسخة الإنجليزية من روايتي «سأكون هناك» باللغة الإنجليزية، ويرجع زمن وقوع القصة إلى المرحلة الصاخبة من التاريخ الكوري الحديث، وأتمنى أن يلمس القراء مشاعر الكرامة التي يمتلكها الإنسان من خلال علاقات الصداقة، والحب، والشغف بالحياة وفقدان الأحبة. هذه الثيمات الأدبية ستتجسد على شكل أحداث درامية يتقاسمها كل من أبطال الرواية الشبان الأربعة وأستاذهم. وحاليًّا، أنا على وشك الانتهاء من روايتي السابعة، التي سترى النور في كوريا الجنوبية أولًا، خلال فصل الصيف أو الخريف المقبل في الأغلب.


رابط الحوار: https://www.bananawriters.com/kyungsookshin