سيرة دوريس ليسينغ توجز عذابات إفريقيا: طفولتي كانت هنا

سيرة دوريس ليسينغ توجز عذابات إفريقيا: طفولتي كانت هنا

تكمن أهمية «الضحكة الإفريقية»، السيرة الذاتية لدوريس ليسينغ، الحاصلة على جائزة نوبل في الآداب عام 2007م، في خصوصيتها وتفردها؛ سيرة كُتبت بلغة سردية رصينة وبليغة، تتناول فيها زياراتها الأربع لزيمبابوي، تصف مجتمعًا إفريقيًّا أصيلًا عانى استعمارًا غشيمًا، وتكمن أهميتها أيضًا في كونها الأولى لروائية تناولت القضايا النسوية وعالجتها باقتدار، ولأنها تتناول جزءًا مهمًّا من العالم.

في عام 1949م رحلت دوريس ليسينغ من روديسيا الجنوبية متجهة إلى لندن مع ابنها بيتر ومعها مخطوطة روايتها الأولى «العشب يغني» كانت حينئذ في الثلاثين من عمرها، وقد تزوجت وطُلّقت مرتين. حققت الرواية نجاحًا منقطع النظير، وبعد نشر الطبعتين الأوليين من رواية «أطفال العنف» عادت ليسينغ للوطن للمرة الأولى. وبسبب آرائها السياسية أُعلن أنها مهاجرة ممنوعة من الدخول، ونُفيت حتى خضع النظام القديم في سالزبوري لقوى القومية السوداء. في عام 1982م سمحت حكومة روبرت موغابي لها بالعودة.

«الضحكة الإفريقية» سيرة ذاتية كُتبت بأسلوب سردي ممتع، تتناول فيه أربع زيارات للدولة الجديدة زيمبابوي، تحكي عن حقب مهمة عدة لتاريخ زيمبابوي عندما كانت تُسمى روديسيا الجنوبية، ونضال المواطنين السود ضد قمع الاحتلال الإنجليزي الأبيض، وما سبقه من احتلال برتغالي. يبرز الكتاب أيضًا معاناة المواطنين في أثناء الاحتلال وانضمامهم لصفوف الفدائيين. إنها أسطورة شخصية، تصف فيها مشاعرها عند العودة، والأماكن التي ما زالت محفورة في ذاكرتها، كانت عودتها كل مرة كالطفل الذي يتعرف وجه أمه بعد طول غياب.

لم تكن ليسينغ تخطط للبقاء في روديسيا لكن نفيها لمس منطقة غامضة في نفسها. عندما علمت أنها ممنوعة من دخولها انتحبت في نومها وحلمت بالإبعاد المجحف. تقول: «قومي، البيض، الذين نشأت بينهم، كانوا يخرجونني من الوطن، بينما قومي من السود يعانون، لقد كنت غير مرئية». تؤكد أيضًا أن إفريقيا للإفريقيين، تصف زيمبابوي بعد الاستقلال والمشكلات التي عانتها كثيرًا مثل الفساد والجوع والانهيار الاقتصادي والإيدز الذي يقتل مليون مواطن كل عام. في زيارتها الأخيرة كتبت: «ولدت الضحكة الإفريقية الرائعة من مكان ما بالأعماق، شملت الجسد كله، ممزوجة بفلسفة ذات طبيعة ساخرة».

«الفيصل» تقدم مقتطفات من هذه السيرة.

دولة مثل الدرع في منتصف الخريطة

في باكر اليوم التالي غادَرْنا النهرَ، وارتحلنا مجتازين منطقة تحتضن منظرًا رائعًا جدًّا، أكثر المناظر روعة، التي قلما كنت أراها. التلال والوديان، والأنهار وروافدها، العشب والأشجار، تتعانق كل هذه الأشياء لتخرج تشكيلات متنوعة من مناظر خلَّابة وساحرة.

كنت أنا والميجور جونسون راكبين في عربة تجرها الخيول أقلتنا صعودًا إلى مسافة ما إلى مرتفع، وعندما وصلنا إلى قمة تل صغير، توقفنا وانتظرنا السيد رودس والدكتور جيمسون. أُصبتُ بالدهشة برؤية جمال الريف هناك؛ لذا قررت أن أختار موقع الحقول التي اتفقنا أنا والسيد فينتور على امتلاكها عندما كنا في ماشونالاند أسفل سفح التل. ما لبث السيد رودس أن قرأ أفكاري؛ لأنه عندما صعد عربتنا قال لي قبل أن أنبس بأي كلمة: «لا تقولي لي أي شيء، وسوف أقول لك لماذا أوقفتما العربة وانتظرتماني!». سألتُ: «حسنًا، لماذا؟».

– «لأنك تودين أن تقولي لي: إنك أنت وفينتور اخترتما موقع حقولكما». أجبت قائلة: «بالضبط، خمَّنت فأصبت». قال: «حسنًا». ثم أضاف: «كنت لتوي أتكلم مع أصدقائي عن أبَّهة المكان، وأخبرتهم أنني على يقين تامّ بأنك لن تمري به من دون أن تنهلي من روعته».

عندئذ طلب السيد رودس من السيد دنكان، المسَّاح العام لماشونالاند، الذي كان حينئذ بصحبتنا، أن يقيس مساحة حقلين؛ أحدهما للسيد فينتور والآخر لي. كنت متيقنة أن ملكية الأرض في هذا المكان من البلاد ستصبح ذات قيمة عالية جدًّا، خصوصًا عندما يُنشأ خطٌّ للسكك الحديدية، الذي سيبدأ تشغيله في وقت لاحق بين بيرا وسالزبوري.

كانت روديسيا الجنوبية دولة تتخذ شكل الدرع في منتصف خريطة جنوب إفريقيا، وكان لونها ورديًّا فاتحًا لأن سيسيل رودس قال: إن خريطة إفريقيا يجب أن تُلون باللون الأحمر من كيب حتى القاهرة، كدليل خارجي لسعادتها بولائها للإمبراطورية البريطانية. استجاب الكثيرون من الرجال والنساء بقلوب ملؤها حماس مثالي لندائه بأن تصبح مستعمرة بريطانية؛ لأن الأمر مر من دون التلميح بأن ذلك ربما يعود بالنفع على إفريقيا، أو على أي مكان آخر. عند هذا الحد ربما يكون التساؤل مفيدًا فيما يخص أي الأفكار المثالية تجعل أفئدتنا تخفق بشكل أسرع، لكن ذلك سيبدو خطأً فادحًا للناس طوال مئة عام من الآن.

في عام 1890م، منذ ما يربو على مئة عام من كتابة هذا الكتاب، وصلت عربة البايونيير كولم إلى السهول المعشوشبة التي ترتفع خمس مئة قدم عن سطح البحر البعيد، إنه بلد جاف، يعيش فيه القليل من السكان. قضى مئة وثمانون رجلًّا، وبعض رجال الشرطة مدة سيئة فيه، في أثناء ترحالهم مئات الأميال من كيب خلال مشهد محتشد بالحيوانات المفترسة والأفكار التي ترسَّخت لديهم بأن المواطنين الأصليين همجيون. كانوا يرتحلون إلى المجهول؛ لأن المستكشفين والصيادين والمبشرين جاؤوا من هذا الطريق، اللاجئين، هؤلاء البشر الذين ينتظرون أن يستقروا، لم يستقر بهم الحال. اشتركوا في هذه المغامرة من أجل الإمبراطورية؛ لأن سيسيل رودس الذي يعرفونه كان رجلًا عظيمًا للملكة، ولأنهم كانوا من جيل الرواد، فكان هؤلاء القوم يجب أن ينظروا إلى الآفاق بتحدٍّ. خلال وقت قصير ظهرت بلدة بها شواطئ أنهار وكنائس ومستشفى ومدارس، وبالطبع فنادق من النوع الذي كانت فيه الحانات مهمة مثل الإقامة نفسها، مثل الآن. كانت هذه البلدة اسمها سالزبوري، سكانها من البيض، بريطانية الإحساس والنكهة والعادات.

غزاة بيض بآلات تقنية

كان الإفريقيون يرقبون سير البيونيير كولم، وسُجِّلَ أنهم ضحكوا لرؤية الرجال البيض وهم يتصببون عرقًا في ملابسهم الثقيلة. بعد عام جاءت الأم باتريك وزمرتها من الراهبات الدومينيكان يرتدين أردية كثيفة سوداء وبيضاء. في الحال بدأن عملهن بتدريس الأطفال ومعالجة المرضى. بعد ذلك خلال وقت قصير جاءت النساء ملفوفات ومثقلات بملابسهن. نساء فيكتوريات محترمات لم يظهر منهن ياقة، أو تنورة داخلية أو مخصَّر في أثناء السفر. ماري كينغسلي، هذا المثل الأعلى بين المستكشفين، التي عندما يكون جو غرب إفريقيا حارًّا ومشبَّعًا بالرطوبة تتأنق في ملابسها دائمًا كما لو كانت ذاهبة لحفل شاي. لم يعرف الأفارقة أنهم على وشك أن يخسروا وطنهم. وقَّعوا على بيع أراضيهم بسهولة عندما كان يُطلب منهم ذلك؛ لأن الأرض لم تكن جزءًا من تفكيرهم، إن الأرض، هذه الأم، يمكن أن تخص شخصًا ما أكثر من شخصٍ آخر.

أن نبدأ الموضوع بالقول: إنهم لم يأخذوا حذرهم بشكل كافٍ من الغزاة السخيفين، على الرغم من أن شاماناتهم نساءً ورجالًا كانوا يحذرون عصور الشر. ما لبثوا أن اكتشفوا أنهم خسروا كل شيء. لم يكن التراجع إلى الغابة ذا فائدة؛ لأن الغزاة تعقبوهم وأجبروهم أن يعملوا خدمًا وعمالًا، وعندما كانوا يرفضون، كانت تُفرض عليهم ضريبة الرأس، وعندما لا يدفعونها، ولم يستطيعوا أن يدفعوها؛ لأنهم لم يستخدموا النقود، عندئذ كان جنود الاحتلال ورجال الشرطة يداهمونهم ببنادقهم ويأمرونهم بضرورة أن يكسبوا المال لكي يدفعوا الضريبة. كان عليهم أيضًا أن يستمعوا إلى المحاضرات عن كرامة العامل. هذه الضريبة، عبارة عن مبلغ صغير من المال من وجهة نظر الرجل الأبيض، كانت أكثر الأسباب قوة للتغيير في المجتمعات القبلية القديمة.

ما لبث الأفارقة أن تمرَّدوا ثم تعرضوا للقمع. كان الغزاة وحشيين وقساة. ليس هناك شيء في التاريخ البريطاني ليفخر به المرء، ولكن قصة متمردي الماشونا وكيف قُمعوا، دُرِست للأطفال البيض كإنجازٍ مجيد. كان الغزاة في كل الأوقات وفي كل الأماكن يُخضِعون بآلاتهم التقنية المتفوقة البلاد خلال سعيهم من أجل الأرض والثروة. بعد أن سطا البريطانيون في روديسيا الجنوبية على أفضل الأراضي لأنفسهم، ونصبوا آلة الهيمنة ذات الكفاءة، ترسخت لديهم مفاهيم وقناعات، كما هو شائع بين الغزاة، أن الشعوب المحتلة كانت دون المستوى، وأن الرعاية البيضاء تعمل لمصلحتها، وأنهم كانوا مرغمين على الترحيب بالحضارة المتفوقة بامتنان. كان البريطانيون متعجرفين جدًّا إلى حد ما؛ لأنهم لم يذهبوا لارتكاب جريمة عامة، ولم يحاولوا أن يُبيدوا السكان المحليين، كما فعل النيوزلنديون، وكما يحدث الآن في البرازيل حيث تُقتل القبائل الهندية تحت مرأى ومسمع العالم من دون أن يفعل شيئًا. لم يتعمدوا حقن أي شخص بالأمراض، ولم يستخدموا المخدرات والكحول كوسائل لفرض السيطرة والهيمنة. على العكس، كانوا يتسمون بالكرم مع السود، فقد صدر قرار بأن مشروب الرجل الأبيض الكحولي غير قانوني؛ لأنه لوحظ ذلك الضرر البالغ الذي خلَّفه هذا المشروب على الشعوب الأصلية لأميركا الشمالية.

لو طُرح تساؤل، كيف أن هؤلاء القوم، ذوي الفكر المحدود، يتمكنون من قبول الكثيرين من غير المتوافقين في عقولهم في الوقت نفسه؟ ثم إن التساؤل يقودنا إلى تساؤل أشمل: كيف ولماذا نفعل كل ذلك، وغالبًا لا ندرك ما نفعله؟ أتذكر عندما كنت طفلة أنني سمعت الفلاحين يعلقون ساخرين بطبيعة طيبة، هي ملحوظة تخص النوايا السيئة: «في يوم من الأيام سيقومون ويسوقوننا إلى البحر». هذا الإقرار يخص بشكل واضح جزءًا مختلفًا من العقل الذي من خلاله استقر الرضا بالإمبراطورية.

همجيون وجهلاء

بحلول عام 1900 كانت روديسيا الجنوبية قد اصطبغت باللون الوردي الفاتح، بداخل حدودها الصرفة، مع موزمبيق أو شرق إفريقيا الذي يقع تحت نير الاحتلال البرتغالي من أحد الجوانب، وأنغولا (شرق إفريقيا البرتغالي) المحمية بتشونالاند (الوردية) على الجانب الآخر، وروديسيا الشمالية (اللون الوردي) فوقها بالضبط.

الترانسفال الميدان الذي دارت فيه رحى حرب البوير من الجنوب. الشكل مطبوع نفسه الآن على زيمبابوي. المشكلة هي أن هذه الحدود تتجاهل جزءًا كبيرًا من التاريخ، أساسًا فيما يخص النفوذ البرتغالي، فيما يخص التجار والمستكشفين البرتغاليين الذين كانوا يسافرون، وأحيانًا يعيشون في مناطق اتخذت اللون الوردي فيما بعد. لم تكن الحدود موجودة حينئذ، ولو طالبت أي دولة أوربية بالإقليم بحق أسبقيتها في الوجود، فستكون عندئذ البرتغال. هذه الأحداث التاريخية موجودة في أرشيف دولة البرتغال، وليس لها وجود كثير في الأرشيف البريطاني، لم يتعلم تلاميذ المدارس شيئًا عن البرتغاليين في مونوموتابا أو مملكة لوماجوندي. ورغم ذلك فإن مسألة الوجود البرتغالي قبلهم من الصعب أن يدركها المغامرون البريطانيون. يوجد وادٍ رائع خصب، ما زال محتشدًا بالبساتين الحمضية زرعها البرتغاليون، الذين جلبوا أيضًا الذرة الصفراء وبعض المحاصيل.

تجاهلت الحدود أيضًا سياسة الشونا قبل الوجود الأوربي، مثلًا دولة موتابا التي ضمت إليها في القرن السادس عشر مساحة كبيرة من وسط زيمبابوي. إن صورة ماشونالاند التي قُدمت كتاريخ لورثة البيونيير كولم ظهرت هكذا: عندما جئنا، نحن البيض، وجدنا الميتابليين، وهم فرع من فروع الزولوس، قد سافروا للشمال ليهربوا من ملوك الزولوس القتلة، وأخذوا أرضًا من الماشونا، الذين شنوا عليهم الغارات ونهبوهم. كانت الماشونا عبارة عن مجموعات من القبائل المفككة دائمة الترحال؛ لأنهم كانوا يبقون في مكان واحد فقط لكي يُنهكوا التربة، ثم يفرون فزعًا من الحيوانات. نحن البريطانيين، نشرنا السلام في شعب الماشونا مثلما نشرنا الحضارة البيضاء. في الواقع كان الماشونيون مزارعين وعمال مناجم مهرة، كانت لهم تقنيات يحققها الباحثون حتى الآن. كان من الضروري للبريطانيين أن يروهم همجيين وجهلاء يدينون بكل شيء للغزاة.

حكم البريطانيون شعوبًا متجهمة، لكن ليس لوقتٍ طويل، ففي عام 1950م بدأت حركات التمرد تتشكل. ففي أواخر الأربعينيات وجد الناس من أمثالي المهتمين بإمكانيات المقاومة السوداء قليلة جدًّا، على الرغم من أنه كان هناك مناضل أسود خطير اسمه جوشوا نكومو الذي ألهب الجماهير بخطبه الحماسية في بولاوايو ومنطقة أخرى اسمها بنجامين بورومبو. بعد عشر سنوات أصبحت الحركات الوطنية أكثر قوة. حصلت على حافز بسبب أفكار تافهة اسمها اتحاد إفريقيا المركزي الذي كان يهدف إلى توحيد روديسيا الشمالية ونياسالاند وروديسيا الجنوبية. فكرة هذا الاتحاد راقت بشكل كبير لعدد كبير من العقول المثالية، تقريبًا كل البيض.

كان الاتحاد يحاول أن يوحِّد غير المتوافقين. كانت الدولتان الشماليتان محميتين بريطانيتين، وصدق سكانهما من السود الوعود التي قطعتها لهم الملكة فيكتوريا، وهي أن اهتماماتهم ستكون دائمًا أساسية، وأن دولتيهما ستخضعان للحكم من أجل صالحهما. لم يحدث أن تجاهلوا الإمكانات المتفجرة للعواطف الساذجة مثل هذه العواطف. في هذه المدة اتخذت روديسيا الجنوبية جنوب إفريقيا مثلًا تحتذي به، فتبنَّت كل قانون قمعيّ يُفرض هناك، فجعلته يلائم أشكال القمع الشاملة مثلما يحدث في جنوب إفريقيا. أولئك الناس الذين رغبوا في تصديق فكرة توحيد الدول الثلاث تجاهلوا رغبات السود، وفي الواقع وضعت الحركات الوطنية لروديسيا الشمالية ونياسالاند (التي أصبحت زامبيا وملاوي عند الاستقلال) في الحال نهاية للخطة الغبية.

الحرب من أجل سيادة البشرة البيضاء

في هذه الأثناء شجعت الحركات الوطنية في روديسيا الجنوبية حلفاءها الشماليين، فكانوا يثيرون القلاقل في كل مكان بنجاح. في عام 1956م قابلتُ زوجين شابين لم يقل لي أحد اسميهما، وصفا لي الحياة تحت الأرض وهم يهربون من خلالها الأدب السياسي، خشية إزعاج الشرطة والاعتقال الاعتباطي والضرب والسجن. هذه الحرب النفقية، ما زالت ضعيفة، لم تجد طريقها إلى الصحافة، على الرغم من أن الناس تحدثوا عنها. طوال عام 1960م أصبحت الكتابة على الجدران أكثر وضوحًا، لكن البيض، الذين لم يتعلموا شيئًا من كينيا، اختاروا أن يتجاهلوها. لم تكن حرب الاستقلال في روديسيا الجنوبية، مثل كل الحروب، تحتاج لأن تُشَنّ.

أيان سميث

كان عدد البيض 250 ألفًا على أقصى تقدير. من بين هؤلاء الكثيرين، لو وُجّهوا بشكل مختلف، أعتقد أنهم كانوا قد توصلوا إلى تسوية وتشاركوا السلطة مع السود. لكن الأقلية من البيض الذين قادهم أيان سميث، قد صمموا أن يحاربوا من أجل سيادة البشرة البيضاء. لم يكن هناك تاريخ محدد لبداية الحرب، التي اشتدّ أُوَارُها ببطء لتصبح واحدة من أشد الصراعات في عصرنا. لم يكن الجيشان المتباريان مقسمين بشكل متساوٍ إلى جنود من السود وجنود من البيض.

حارب إلى جانب البيض جنود سود وشرطة من السود. أصبح البيض الذين كانوا بعيدين كل البعد من الوحدة في البداية، موحدين بسبب ويلات الحرب، أما القليلون الذين ظنوا أن الحرب خطأٌ فادح، ويجب أن تنتهي، ولا يمكن أن تنتهي بالانتصار (لأنهم رأوا ما كان يحدث في موزمبيق حيث طُرد البيض بعد حرب فظيعة) عوملوا بكراهية هِستيرية، واضطُهدوا، وخُدِعوا وطُردوا. السود أيضًا، تشرذموا في التيه. لم يكن هناك جيشان مختلفان بقائدين مختلفين يتبنى كل منهما فكرًا مختلفًا، كان هناك انقسام في الجيشين. كان جيش روبرت موغابي جيشًا واحدًا فقط، لكنه كان شيوعيًّا أو ماركسيًّا متطرفًا، وحينما دارت رحى الحرب ظن معظم طوائف الشعب أن أغلبية السود سيختارون جوشوا نكومو أو الأسقف ميوزوريوا الأكثر اعتدالًا والأكثر ديمقراطية.

خاض الجانبان الحرب بقسوة ووحشية. مر السكان الذين يعيشون في القرى بأوقات عصيبة؛ لأن كل من القوات الحكومية وجيوش السود عاقبوهم لمساعدة الجانب الآخر أشد عقاب، لكنهم كانوا مضطرين إلى أن يساعدوا أي جانب من الجنود الذين وصلوا وطلبوا المساعدة. أُخذت أعداد كبيرة من القرويين من بيوتهم عنوة، ووضعوهم في معسكرات الاعتقال، بالطبع لاستخدامهم «كدروع بشرية». الفتيان والفتيات عندما يبلغون عمر الشباب يفرون من بيوتهم لكي ينضموا إلى جيوش الفدائيين في زامبيا أو موزمبيق، أو حتى غابات روديسيا الجنوبية نفسها؛ لأنهم على الأقل هناك لن يخضعوا للمضايقة أو التعذيب أو الموت من جانب القوات الحكومية. تعلَّم جزء من جيل كامل من الشباب السود في جيوش الفدائيين، كانوا أحيانًا يصحبون الشعارات الماركسية، لكنهم يتحدون في كراهيتهم للبيض.

المدن المحروقة خلف المحتل

وضعت الحرب أوزارها، الأعمال الوحشية التي ارتكبها الجانبان راحت في طيّ النسيان؛ لأن السكان السود عندما أدلوا بأصواتهم، للمرة الأولى في حياتهم، كان روبرت موغابي هو الذي اختاروه، وفي الحال أعلن عن مجتمع متعدد الأعراق ونهاية عهد الكراهية العرقية. من المعروف أن سامورا ماتشيل من موزمبيق و(آخرين) قالوا لروبرت موغابي: «لا تكرر أخطاءنا، لا تطرد البيض؛ لأنهم سيتركون البلاد تعاني اقتصادًا مدمرًا». هذا الدمار لم يكن كلية بسبب الحرب، إنما لأن البرتغاليين الراحلين أحرقوا ودمروا كل شيء قبل أن يغادروا.

جاءت أمة زامبيا الفتية إلى الوجود في عام 1980م. بمعنى، عند وصول البيونيير كولم إلى سفح التل الصغير الذي يعد علامة على بداية سالزبوري، الذي يُسمى الكوبجي، استغرقت تسعين عامًا حتى نالت الاستقلال. تسعون عامًا ليست مدة طويلة. في الوقت نفسه فإن ثقافة المنطقة الكبيرة، تقريبًا مساحة إسبانيا ذاتها، قد مُحيت، خضع السكان لقوة الأسلحة الحديثة، والمراقبة والدعاية، أخيرًا ناضلوا ضد الجيوش التي زُوّدت بأحدث تقنيات التسليح، وقد انتصروا. حينئذ اضطروا إلى أن يتسلحوا بالقوة مثل العالم الحديث. مشكلتهم الرئيسة هي مشكلة الأمم الزنجية نفسها. لم يكن لديهم أشخاص مدربون على الإدارة، على الرغم من أن روديسيا الجنوبية تطورت بشكل أفضل من معظم الدول، خصوصًا في الزراعة؛ لأن زيمبابوي بدأت بعدد لا بأس به من المزارعين السود المدربين. هذا أحد الأسباب التي جعلت زيمبابوي، على عكس الأمم السوداء التي تحيط بها، تصل لمرحلة الاكتفاء الذاتي، ولديها فائض معقول تفخر بأن تبيعه لجنوب إفريقيا، وتتبرع للمناطق التي بها مجاعات في القرن الإفريقي.

تغلبت زيمبابوي على أخطائها كلها بنجاح، رغم أنه كان عليها أن تدعم موزمبيق التي كانت تعاني كارثة، وأن تساعد الشرطة الموزمبيقية، وأن تطعم لاجئيها، وأن تستمر في مد الغاز في الأنابيب من بييرا، سواحل زيمبابوي، وهي قُطر فقير يكلفها ذلك مليون جنيه في اليوم. ظلت موزمبيق على قيد الحياة بسبب زيمبابوي، في الوقت نفسه استخدمت جنوب إفريقيا كل السبل لتدميرها. لو أن جنوب إفريقيا توقفت عن محاولة زعزعة جيرانها السود، فإن الضرر الذي وقع لن يشفي جراحها بين عشية وضحاها، والمتمردون الذين سلحتهم ومولتهم لم يصبحوا مواطنين صالحين، لكنهم لا يزالون يخربون ويدمرون. تهيمن جمهورية جنوب إفريقيا على جنوب إفريقيا في السراء وفي الضراء، وستستمر في أداء هذا الدور، في عام 1991م دُعيت حكومة موزمبيق الشيوعية السابقة إلى عاصمة جنوب إفريقيا لكي تعالج وتطور الدولة المدمرة.

جوشوا نكومو

كان لدى زيمبابوي، مثل دول سوداء أخرى، نخبة فاسدة. ليسوا من نوع اللصوص الذين يعتذرون عن أفعالهم. على العكس هم فخورون بأنفسهم، يتبجحون ويستعرضون بثرواتهم. جوشوا نكومو، مثل روبرت موغابي، حاول أن يتصدى للفساد، أخيرًا اضطر لأن يذعن للواقع، لِما كان يراه حوله. قال في خطاب له في عام 1989م: «أظن أننا يجب أن نتعلم كيف نكون أثرياء كما يجب أن نتعلم كل شيء آخر».

استردوا إيمانهم بإفريقيا

كان العقد الأول لتاريخ زيمبابوي الذي كان حكاية عنف ونزاع، متناقضًا، كله حماس، ويدعو للدهشة دائمًا. كان أسوأ فصل فيه جرائم القتل والتخريب التي ارتكبها المنشقون من ماتابليلاند، التي تمثل كل النديبليين، الإقليم كله. أفزعت جيوش موغابي المنطقة، دمرت القرى بلا رحمة، عاملت ماتابليلاند كأنها إقليم معادٍ. وصل الأمر بأن يظن السكان أن المنشقين هم جيش المتمردين، كانوا عددًا قليلًا من الأشرار الذين لا يمثلون بني وطنهم، رفض القرويون أن يسمحوا لهم بدخول القرى عندما عادوا. قيل: إن قوات الماشونا تسلب أو تقتل أو تشن غارات على ماتابليلاند من دون أن يضعوا حسابًا للمستقبل، قيل: إن ذلك «ردًّا على…» حدث ما حدث فيما يربو على مئة عام، عندما ساق الماتابليون الماشية وأحرقوا المحصولات والأكواخ وسَبَوُا النساء.

إن أفضل ما في حكاية زيمبابوي هو الحماس والتفاؤل والتصميم الذي كان الشعب يتمسك به. ربما تعود من زيارة تستغرق أسابيع عدة من زيمبابوي وتدرك عندئذ الوهن وفقدان الطاقة الذي يصيبك عندما تعود إلى أوربا؛ لأنك كنت مع بشر سواء كانوا بيضًا أو سودًا بالليل وبالنهار، لا يتحدثون في أي شيء ما عدا كيف يجعلون زيمبابوي تعمل، من خلال أفكار جديدة يمكن أن تُنفذ هناك، ومن لديه معرفة بمعاملات الحكومة والإدارة التي لا تعني شيئًا يمكن أن تحدث من دون أن يجذب في الحال ردود أفعال انفعالية، سواء كانت مع المصلحة العامة أو ضدها. القادمون إلى زيمبابوي بعد وصولهم من موزمبيق أو زامبيا، اللتين لا يوجد فيهما شيء ناجح، حيث سموم السخرية تعبق في كل مكان، يقولون إنهم استردوا إيمانهم بإفريقيا، وإن زيمبابوي، لأي سبب كان، لها طابع فريد في إفريقيا بسبب الطاقات الخلَّاقة لشعبها.

إنهم فخورون بأنفسهم… وهكذا يمكنك أن تسمع شخصًا أسود ينتقد زامبيا أو زيمبابوي قائلًا: «إنهم لا يعرفون كيف يفعلون شيئًا، سيتحتم علينا أن نعلمهم ذلك». هذا الموقف الذي يظهر احترام الذات، أو الغرور، كما يروق للمرء أن يقول، هو استمرار حب البيض الذين يقطنون روديسيا الجنوبية لأنفسهم ولبلدهم، الذي يستمر على الرغم من أن البلد لم تعد بلدهم. فيما يخص الحديث عن النجاح في جنوب إفريقيا في مؤسسة جديدة أو مزرعة، يمكنك أن تسمع تعليق مواطن أبيض يقول: «بالطبع الروديسيون الذين يعيشون في الجنوب ملتزمون أن يبقوا في القمة، نحن نعرف كيف نفعل الأشياء».

قبل الاستقلال كان البيض جميعهم مقتنعين تمامًا بأن روديسيا كانت أفضل مكان على وجه الأرض، وأن حكومتهم التي تدير شؤون البلاد أفضل من أي إدارة بيضاء تحتل دولة أخرى. في أثناء رحلتي التي قمت بها في عام 1989م كنت أسمع فلانًا وفلانًا يرددان (ما قاله الرئيس تشيسانو للرئيس موغابي على وجه الخصوص): «كنت محظوظًا لأنك كنت ترزح تحت الحكم الإنجليزي، على الأقل تركوا خلفهم بنية تحتية محترمة».

على عتبة الاستقلال

عدت إلى البلد الذي عشت فيه عشرين عامًا، وأنا طفلة في الخامسة من عمري، ورحلت عنه وأنا شابة في الثلاثين. كانت عودتي بعد مدة تزيد على الخامسة والعشرين عامًا؛ السبب في ذلك أنني كنت مهاجرة ممنوعة من الدخول. حالة لا يكتنفها الغموض، هكذا يظن المرء: سواء كان مواطنًا صالحًا أو طالحًا، ممنوعًا أو غير ممنوع. لكن لم يكن الأمر بهذه السهولة. كنتُ مهاجرة ممنوعة من الدخول في عام 1956م لكنني لم أكن أعرف ذلك. لم يخطر على بالي أن أكون هكذا. كانت الاستحالة حقيقة نفسية، ليس لها علاقة بحقائق واضحة وضوح العيان.

لا يمكن أن يمنعك أحد من دخول الأراضي التي نشأت فيها، يمكنك أن تقول: إن شبكة الأحاسيس والذكريات والخبرة، هي التي تقيدك بهذا المشهد. في عام 1956م وصلتني دعوة لمقابلة رئيس الوزراء في مكتبه. كان اسمه جارفيلد تود. تمشّى في المكتب الذي شعر بأنه مقيد بداخله. كان وسيمًا لكن ظهرت بعض التجاعيد على وجهه الذي يشبه إلى حد ما إبراهام لينكون، قال: «مددتُ يدي إليك يا ابنتي». كان يكبرني بعشر سنوات. نسبتُ نمطه الاستحواذي لحقيقة أنه كان مُبشِّرًا، ولم أكن حقيقة أسمع ما كان يقوله، كان يرحب بذهابي إلى روديسيا الجنوبية؛ لأنه كان يعلم أنني أستطيع أن أكتب تقويمًا جيدًا عن الاتحاد. تناقشنا بحماس وبإحساس طيب مدة ساعتين، بعد ذلك طلبتُ مقابلة اللورد مالفيرن الذي، كما قال الدكتور هيغنز، كان طبيب العائلة، وقلت له: إنني أريد أن أزور روديسيا الشمالية ونياسالاند، التي كانت حينئذ تعاني أعمال الشغب والمنشقين والفوضى الاجتماعية، ومظاهر أخرى للاستقلال الوشيك.

قال: «آه، تريدين الذهاب، حقًّا تريدين الذهاب!»، في أثناء النقاش كان غارفيليد تود ذا طبيعة أقل توددًا من طبيعته، قال: «لم أكن لأسمح بأن تذهبي لكي تثيري قلق مواطنينا». ما زلتُ لا أسمع ما كان يُقال. أخيرًا قال: إنني أستطيع أن أذهب إلى روديسيا الشمالية ونياسالاند مدة أسبوعين: «لا أعتقد أنك تستطيعين أن تتسبّبي بضررٍ في هذا الوقت». انتهى النقاش من دون أن أشعر بالإطراء، الناس الذين يرون في أنفسهم أن لديهم قدرات التسجيل أو الملاحظة، يندهشون دائمًا عندما يراهم الآخرون فاعلين ومتحركين.