هل دخلت المجتمعات العربية/ الإسلامية مرحلة ما بعد المثلية؟

هل دخلت المجتمعات العربية/ الإسلامية مرحلة ما بعد المثلية؟

ما أكثر المابعديات: ما بعد الاستعمار، ما بعد الحداثة، ما بعد الإسلامية، ما بعد النسوية، ومؤخرًا ما بعد المثلية، وما أكثر الباحثين/ات والمفكرين/ات الحريصين على التموقع في إطار المابعديات رفضًا لأنساق المعرفة التقليدية والفكر الوثوقي والخطابات التي تدعي امتلاك الحقيقة. ولئن تفاعل المفكرون العرب مع هذه الحركة الفكرية وما أفرزته من نظريات ومراجعات فإن موضوع ما بعد المثلية ظل في الغالب، من المواضيع اللامفكر فيها أو المسكوت عنها. ومن هنا يطرح سؤال: إذا كانت المثلية حسب القواميس المختصة، توجهًا جنسيًّا وميلًا نحو المثيل فإلى أي مدى يمكن القول: إن المجتمعات العربية/ الإسلامية قد دخلت بالفعل، مرحلة ما بعد المثلية؟

تغيير مصادر المعرفة: المثليون/ات

من موضوع للأدب والبحث إلى ذوات فاعلة

من دأب المهتمين بموضوع المثلية النبش في كتب التراث بحثًا عن أخبار «اللوطيين» و«السحاقيات» ونوادرهم وأشعارهم وسير حيواتهم… رغبة في معرفة تاريخ هذه الفئة التي خرجت عن معايير الجماعة وتمردت على سياسات الهويات المعيارية أو بحثًا عن حجج تثبت أن الثقافة العربية الإسلامية لم تتعامل مع هذه الفئة بقسوة وإنما اعتمدت «الوصل/ الفصل» أو «الإدماج/ الإقصاء».

ولكن لا بد أن نقر اليوم، بأن كتب التراث ما عادت تمثل المصدر الرئيس للاطلاع عن مكانة المثليين/ المثليات في المجتمعات العربية/ الإسلامية، والتدبر في الخطابات التي صيغت حولهم. فقد ظهرت دراسات ميدانية وبحوث وأطاريح جامعية ومؤلفات صادرة عن مختلف الجمعيات الحقوقية تنطلق من مرجعيات مختلفة ولكنها تلتقي في النظرة المنصفة التي تحملها عن المثليين. فالدارسون/ات لا يعدُّون أصحاب وصاحبات الهويات اللامعيارية موضوعًا للتندر بل يرون أنهم أصحاب/ات قضية، ويتعين علينا أن نصغي إلى شهاداتهم ومطالبهم، باهتمام، ونحلل الطرائق التي يقدمون بها ذواتهم.

ولئن كان لهذا الإنتاج الأكاديمي أو السير الذاتية الخاصة أو البحوث الصادرة عن الجمعيات دور في التعريف بقضايا المثليين/ات وتحويلهم من كائنات لا مرئية تعيش على هامش المجتمع إلى فئات مرئية، فإن التحولات التي عرفتها المجتمعات المعاصرة على مستوى وسائل التواصل والتقنية قد يسّرت على «الأقليات» و«المهمشين» «امتلاك الصوت»، والتفاعل مباشرة مع الجمهور ومع مختلف المؤسسات من دون المرور بوسيط يتولى الكتابة أو الكلام نيابة عنهم. فعن طريق اليوتيوب والفيسبوك والإنستغرام وغيرها من الوسائل التواصلية المتاحة صار بإمكان المثليين/ات بناء صورهم/ن، ومواجهة سياسات التمثيل والرد على من يزعمون أنهم أكثر فهمًا لأمراض «الشواذ» وأكثر قدرة على علاجهم.

المثليون وسياسات الحضور والنضال

لا شك أن المواقع الخاصة بالدفاع عن حقوق «الأقليات الجنسية» أو المثليين/ات ساهمت في التعريف بقضايا هذه الفئة وتقديم معرفة بديلة عن «المعرفة» التي تعرضها أغلب وسائل الإعلام القائمة على الاستخفاف وتزييف الوعي أو ترويج الصور النمطية والأحكام المسبقة. فالمتابع لمحتوى بعض المواقع أو محتوى بعض الفيديوهات المتداولة على اليوتيوب أو الإذاعات الخاصة وغيرها ينتبه إلى اهتمام أصحابها/ صاحباتها بتصحيح المعلومات الشائعة والتعريف بالمثلية فهي(كما يرون) ليست مرضًا ولا سلوكًا مشينًا وعرض مختلف التشريعات وتفسير رهاب المثلية فضلًا عن الإعلان عن دورات التدريب وأشكال الدعم النفسي والقانوني وغيرها.

توفر لنا هذه المادة المعروضة على وسائل التواصل الاجتماعي المتنوعة الانتباه إلى التحولات الحاصلة على مستوى وعي الأفراد التي تجعل أغلبهم قادرين على البوح والحديث أمام الملأ، والدخول في حلقات نقاش. وتثبت هذه النشاطية الديناميكية الجديدة التي يعيشونها، وبخاصة بعد «الثورات العربية» إذ تقلص حجم الخوف من المواجهة، وبدا الإصرار على الحضور وتحمل تبعات «الإعلان عن التوجه الجنسي» جليًّا.

وأفضت نشاطية المثليين/ات إلى إنشاء الجمعيات الخاصة بالدفاع عن المثليين وغيرهم من أصحاب الهويات اللامعيارية، وبناء التحالفات مع الجمعيات الحقوقية، وممارسة الضغط عبر الاحتجاجات في الشوارع والمشاركة في كل أشكال النضال السياسي والاقتصادي والاجتماعي والبيئي وغيرها.

ولم تكن الأكاديميات بمنأى عن هذه التحولات؛ إذ انفتحت بعض برامج الماجستير في لبنان ومصر وتونس وغيرها على تدريس مسائل تتعلق بتفكيك قضايا، تتصل بسياسة الهويات وبناء الهويات النمطية، والهويات اللانمطية، والعلاقات المبنية على القوة وبنى الهيمنة، وفهم المنزلة القانونية للأقليات الجندرية وغيرها، وظهرت بحوث ودراسات تقدم الإضافة، وتناولت بعض الفضائيات والإذاعات موضوع الأقليات الجندرية من مختلف الزوايا.

فهل يعني هذا أن المجتمعات العربية/ الإسلامية قد تخطت حاجز الخوف، وصارت أكثر قدرة على تقبل الآخر، وأكثر اقتناعًا بسياسات الإدماج؟ هل يتعلق الأمر بنجاح نسبي في ترسيخ ثقافة المواطنة والحقوق وقيم التسامح والعيش معًا أم إن للأمر صلة بإعادة التفكير في الموضوع من زاوية مختلفة ترفض تسييج المثليين في نسق تمثيلي مهيمن يصر على اعتبارهم «الآخر»؟

مسار متعثر لما بعد المثلية

تتفاوت المجتمعات العربية/الإسلامية في طرائق تعاملها مع المثليين/ات، (قبولًا مشروطًا أو رجمًا ووصولًا إلى الإعدام) وهو أمر راجع إلى اختلاف الثقافات السائدة، وترتيب المرجعيات وارتباط الديني بالسياسي، وهيمنة المؤسسة الدينية ومسارات الحركات الاجتماعية وغيرها من العوامل. فقد نجحت بعض المجتمعات (تونس، المغرب، لبنان…)، إلى حد ما، في ترسيخ الثقافة الحقوقية والتفاعل مع المثليين وفق السياق التاريخي الاجتماعي الجديد بعد الثورات والانتفاضات، ولا سيما بعد أن أضحت حرية التعبير والمساواة في الحقوق والعدالة من المطالب المشتركة، وبدا تقبل/ تعاطف فئة من الناس للمثليين وغيرهم محكومًا بمبدأ المواطنة التي تتجاوز الجندر والطبقة والسن والدين والطائفة والفقر… ومرتبطًا في الوقت ذاته، بالحركات الحقوقية المدنية، ولنا في شهادات بعض السياسيين والإعلاميين والفنانين والمثقفين والحقوقيين ما يثبت التطور الحاصل في مستوى مختلف الخطابات من جهة، وفي البنية الذهنية، من جهة أخرى، وهو أمر يوحي بإرهاصات الدخول في مرحلة ما بعد المثلية.

ولئن ظهرت في الغرب جمعيات المسلمين المثليين، فإن هذا التحرر يبقى حكرًا على مسلمي «الشتات» أو المسلمين الذين في الغرب. ونقدر أن تأثير خطابات هؤلاء ونشاطيتهم في المجتمعات العربية /الإسلامية محدود جدًّا؛ إذ يبقى العنف سيد الميدان في الواقع اليومي.

ولا يمكن التقليل من شأن النقاش الداخلي الذي حرصت الجمعيات على فتحه بعد الحيرة التي انتابت عددًا من المثليين/ات الذين أصروا على عدم التخلي عن هوياتهم الدينية. فهم يعرفون أنفسهم بمثلي مسلم/ة ويريدون البحث في النصوص الدينية وفي مواقف المجددين، ويهمهم الانخراط في الجدل والمناظرة ومقارعة الفكرة بالفكرة، والبحث عن فضاءات آمنة خارج أوطانهم. إن الدين يوفر، في نظر هذه الفئة من المثليين/ات، مساحة آمنة تخفف من وطأة الشعور بالاضطهاد والظلم والإحساس بالنبذ.

وفي المقابل سيطرت المؤسسات الدينية (الإسلامية والمسيحية) على الخطابات والقوانين، واجتهدت في التصدي للحركات الاجتماعية ومطالب الأقليات الجنسية، وكان لها تأثير في الجماهير، وهو ما جعل رهاب الجنسية homophobia يجد له سندًا في خطابات بعض الدعاة وأساتذة الأزهر أو الحوزات وأهل السياسة والإعلاميين وغيرهم.

على سبيل الخاتمة

إن مجتمعاتنا على الرغم من انتشار الثقافة الحقوقية، ودسترة عدد من الحقوق، والإرباك الحاصل على مستوى الوعي والتحولات في مستوى طرائق التفكير وبناء الذات والعلاقات…، فإنها ترفض إلى اليوم، تعريف المثلية بأنها توجه جنسي وبناء اجتماعي، وتصرّ على استعمال «اللوطي» و«السحاقية» و«الشاذ»… ولا تزال هذه المجتمعات مصرّة على تطويع الأجساد، والتحكم في الجنسانيات، وفي أداء الأفراد الذي يجب أن يتوافق مع القيم التي سنها أصحاب الجنسانية المعيارية. إن الاستمرار في ربط المثلية بالنظام الثنائي المتضاد الخير/ الشر، الحلال/ الحرام، المقدس/ المدنس، الطاهر/ النجس… وتبرير مصادرة حقوق الآخرين من منظور المؤامرات التي تُحاكُ ضد المسلمين والإسلام ومنظومة القيم والهوية الإسلامية ونظام الأسرة والوطن- يكشف عن أشكال رسوخ معرفة تقليدية مهيمنة استطاعت لقرون، التحكم في إنتاج المعرفة، ولكنها اليوم تواجه معضلةً كبرى بعد ظهور الإنترنت والميديا الاجتماعية التي وُظِّفت لتمكين المثليين وغيرهم (فرادى وجماعات).

وانطلاقًا من هذا الواقع الجديد، لم يعد من الممكن على الدول فرض «الحجب» على المثليين أو اشتراط «عدم المجاهرة بالفعل»، وربطه بالفضاء الخاص، إذ أضحى لجميع المنبوذين «صوت». فلئن حجبت المثلية الأنثوية مثلًا لصالح المثلية الذكورية، ونظر إليها على أنها نتيجة «فراغ النسوان» وبقائهن سجينات الفضاءات الخاصة، فإن الميديا الاجتماعية سمحت للشابات المثليات اليوم، أن يظهرن بوجوه مكشوفة وبأسمائهن، ويتحدثن عن تجاربهن… إنها ذوات تنفلت من الرقابة، وتصرّ على تحدي بنى الهيمنة. لا مراء في أن الإرباك والخلخلة والتصدع صار واقعًا لا مرية فيه.