طنين

طنين

أغلق عينيه وفتح أذنيه بعدما تمدد على حصيرته الخشنة بجانب حقله الصغير؛ يفصله عنه ترعة ماء حفرها بيديه التي اخشوشنت أخيرًا بجروح الدأب وقشور الكد. لم يكن يعلم أن الأذن ترى والعين تسمع حتى منَّ الله عليه بعالمه الصغير هذا. فبين حصيرته وحقله وما يتخلله من جداول الماء كون كبير، يهيم به متى شاء بحرية مطلقة. هو سلطان هذا المكان ما دامت على يمينه شجيراته وعلى شماله كتبه. أنصت إلى طنين النحلة التي اعتاد حلولها في هذا الوقت من الغروب؛ يدنو من بعيد فيرتفع تردده تدريجيًّا حتى تحط بسلاسة على وردتها المعهودة. بدا له قياس المسافة بأذنه أكثر دقة من عينه، فقد قدَّر بدقة مكان نزولها. تخيل حينها اغتباط النحلة بوردتها كاغتباطه بمحله؛ فعالمها كعالمه تمامًا، صغير في الحجم وكبير في النفس. أصغى إلى طنينها يتذبذب متقطعًا وهي تتغذى من وردتها بعجل. تبسم لفكرة هبطت عليه فراقت له؛ لا بد أن ثواني النحلة هذه كساعة عند البشر. هي تنجز الكثير بوحدة وقت قصيرة؛ تموت بعد أيام وكأنها هرمت سنين، فوحدة الوقت لذلك نسبية. ثانية النحلة كساعة البشر بمثل شهر عند الحوت وهكذا يقاس الوقت. هذا هو تعريف الزمن؛ فهو نسبي غير مطلق، يرتبط بسرعة تحليل العقل للمعلومة.

بعدما غادرت النحلة إلى عشيرتها وخليتها، تدارك أن الزوال قد آن بتوليها، ففتح عينيه ليرى الغسق. تساءل أمام الضياء القرمزية بحبور:

– ماذا لو كانت الشمس أبعد أو أقرب شقًّا؟ هل يعلم الساسة أن صنعهم هباء ويدرك القياصرة أن ممالكهم خواء بهذا الشق البسيط؟ يا لتفاهة البشر أمام هذا الكون الخارق؛ أيضمحل تاريخهم كله بفراسخ معدودة؟

فاح حينها عبق الشجر عليه مع هبة ريح خريفية، فدخل أنفه وصعد لرأسه باعثًا فيه صفاء وجلاء.

– ألا يعلم التائهون ويعي المغيبون أن هذا النبت والشجر بركة دنياهم الوحيدة؟ ألا يفهمون الحياة؟

قطع حبل فكره صوت الحارس الأجش ينبئه بجهوز العشاء.

* * *

جلس على عتبة الدرج يتلذذ بطعم الخبز الناشف بعد غمسه بمرق اللحم. وجد أن تمريغه باستمرار داخل الفم وإراقته فوق اللسان يولد عدة نكهات بهية. غضب لفشل حواسه في السابق من استشعار الأشياء بحياد. هل كان مؤدلجًا حتى في تذوق الأكل ليُبسِّطه في الماضي متهاونًا بأنه خبز بائت ومرق باهت؟ حدق الحارسُ الجَثْلُ بإعجاب واستغراب في وجهه الساكن الوقور. دعاه إلى مائدته على الطاولة بتردد ممزوج مع حنو متصنع لم يحسن تمثيله. أبى المدعو معللًا الرفض بتجنب جلب الحرج للداعي. سأله الحارس أن يطلب منه ما أراد الليلة إن استهوى، أي شيء مهما كان. قابل العرض ببرود ومضى لفراشه بعدما ربت على كتف الحارس بمودة.

* * *

عندما أراح رأسه على وسادته، تساءل إن أمكن التحكم بالأحلام. تذكر أن صديقًا لم يعد يذكره، من الماضي المنسي، ادعى سابقًا أن ذلك قد يتيسر بالتفكير الغزير لما يُبتغى قبل أن يسود سلطان النوم. استرجع شريط حياته بروية، فلم يجد ما يستهوي خاطره غير ضبابية الطفولة وإبهام ما تبقى من ومضات ذكرياتها. أخذته الذكريات الملتبسة بالخيال إلى حضن أمه الدافئ بعد تأنيب أبيه المستحق له، ففرح لمآل أفكاره. اختطفه سلطان النوم وانساق فيه… لكنه وجد نفسه عوضًا عن حضن أمه، يلهث النفس ويحث الخطى هاربًا في زقاق مجهول مظلم. استدرك أنه بالمدينة من فوح القمام ونفح قنوات الصرف. قاده الزقاق المعتم لساحة مضيئة ولجلجة بشر؛ فأشارت عليه فطرته أن يتذرى بين نفايات الزقاق ويسترق البصر. تبين وجود أسير على عتبة خشبية، رُبِطت عيناه بالقماش في وسط الساحة؛ يتوسط ثلة من الدهماء يبتغون محاكمته كما يطيب لرغباتهم. أشاح أحد الرعاع قطعة القماش، يبتغي للأسير أن يشهد هلاكه. التفت حينها هذا الأسير صوب مكانه بين القمام بدقة عجيبة، وكأنه عرف مخبأه بالتحديد، فانتابه الهلع. حينما سقطت عيناهما على بعضها تملكه الذعر؛ لم يكن هذا الحبيس المنكوب إلا نسخة منه مع فارق أن وجهه زخر بالرضوض وإحدى عينيه قد فقئت. رمقه نسخته الأعور بنظرة توبيخ ولوم من عينه السوية، اعتصر لها قلبه وأهوت به في دهاليز الندم. ثم حصل شيء لم يكن في الحسبان، وكأن الأحداث ما زالت حبلى بما هو أغرب. أشار الأسير بسبابته إليه بغتة يدل الدهماء بحقد عليه. هرع في الزقاق نافرًا بجلده يسمع جلبة الهمج تتعقبه. تعثر على القمام وخارت قوته. أمسكت قبضة يد عنيفة بكتفه، ففتح عينيه ليرى وجه صاحبه الحارس باهتًا كئيبًا يهز كتفه لإيقاظه.

* * *

اصطحبه الحارس بهدوء إلى ساحة الإعدام. أردى كابوس الليلة المنقضية بِجَلدِه فغدا واهنًا بالكاد يحمل وزنه. رُبِطَ حبل المشنقة على عنقه في خضم لجلجة العامة وصراخ الغوغاء. تنمل عقله عما حوله وانفصلت حواسه عن الحياة، فلم يستشعر الضرب ولم يسمع السباب. إلا أنه في برهة ما قبل تنفيذ الحكم، نزلت عليه من غير تدبير فكرة طارئة استأثرت بمداركه؛ ماذا لو سرت أطروحة ما قبل النوم على الموت؟ ماذا لو حالفه الحظ الآن بخلاف ليلته الأخيرة؟

تراءت له أمه بجلاء أدق من البارحة، وهي تحضنه كطفل وقد أسند رأسه على صدرها. أحس أنه يطير معها في أثير الكون إلى الأبد… قاطعه فجأة طنين نحلة يتذبذب حوله من الزمكان… مهلًا، ماذا عن وحدة الوقت؟ لربما أمكن أن يعيش هذه اللحظة إلى الأبد، إن أتقن عقله ضبطها… دخل بعدها في سبات أبدي عميق، يعوم خلاله في فضاء كون شاسع تشوبه رائحة أمه.

* * *

وقف الحارس خلف الغوغاء مبهوتًا، يبحلق في جسد الرجل وهو يركل ويبصق عليه. استاء وأراد التدخل، لكنه تأنّى حينما استذكر سكينة صاحبه ورضاه بقدره. استرجع مقولة قالها في عشائهم الأخير: «هناك من يولد عند ولوجه من رحم أمه، وهناك من يولد مع دنو موته». ابتسم مودعًا لمُعلمِ حياةٍ فذ تمكن أن يعيش آخر أيامه طليقًا من ماضٍ رهيب أخلفه، ومستقبل فظيع استقبله. خلق واقعًا لحظيًّا جميلًا، مليئًا بالحرية والتأمل.