أسعد فرزات: أنا من بلاد منكوبة وأحمل حزنًا بخطوط تعبيرية

أسعد فرزات: أنا من بلاد منكوبة وأحمل حزنًا بخطوط تعبيرية

يوضح الرسام السوري أسعد فرزات أن الفن هو نتاج التغيرات التي تحصل على الصُّعُد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبخاصة ما بعد الحرب والثورات. ويلفت إلى أن التعبيرية لا تزال الأكثر جدلًا والأكثر حضورًا بما تحمله من كثافة بصرية. ويقول فرزات في حوار مع «الفيصل» إن التعبيرية تحمل مضامين كل المدارس، وإن جردناها من الشكل تصبح تجريدًا.

أسعد فرزات أقام عددًا من المعارض الفنية الفردية في دمشق وعدد من البلدان العربية؛ في الكويت ولبنان وتونس. وشارك في ملتقيات فنية وعربية وعالمية. في منفاه بسويسرا نظم أيضًا عددًا من المعارض في مؤسسات معروفة.

  ما الأهمية التي يقدمها الفن ليكون بديلًا للمتغيرات التي تحيط ببلداننا؟

  حقيقة الفن هو نتاج التغيرات التي تحصل على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وبخاصة ما بعد الحرب والثورات. الفن يرصد ويعكس تلك الحالات ضمن منظور خاص به، قد يتجلى في حال فردية أو جماعية من خلال ثورة أيضًا على مفاهيم سابقة وإنتاج حال جديدة بفن يحمل قيمًا مفاهيمية أخرى. كما حصل بعد الثورة الفرنسية بظهور طراز فني يسمى الكلاسيكية العائدة. وتوالت حركات فنية في الغرب وبخاصة بعد الحرب العالمية الأولى، أدت إلى انقسامات كبيرة أيضًا حتى بين الفنانين، كما حصل مع جماعة «الفارس الأزرق» وتحول الأصدقاء إلى أعداء.

هذا يعيدني إلى ما يحصل الآن في عالمنا العربي من انقسامات بين المثقفين عمومًا نتيجة ما يحصل؛ لذلك كانت الحرب بمنزلة إسفين في علاقات الصداقة، أقصد جماعة الفارس الأزرق، فقد رحب وقتها فرانز مارك بالحرب، بينما كان موقف كاندنسيكي أكثر عقلانية، وعلى الجانب الآخر انضم كازيمير ماليفيتش وفلاديمير ماياكوفسكي إلى الحرب وقتها، وفضل الآخرون الفرار بحثًا عن صور مختلفة عن العالم، وهو ما أدى إلى ذهاب بعض الفنانين للعلاج النفسي. وتوالت حركات جديدة منها الدادائية التي أتت بعد السريالية، وشكلت ردود أفعال فنية على تلك الحرب.

وبالنسبة إلى أهمية الفن في العالم العربي، كبديل لا تزال هناك ردود، لكنها متواضعة على مستوى الصورة حصرًا. طبعًا، توجد مشروعات فردية نادرة لأشخاص يحملون قيمة ذهنية عالية ومشروعًا حقيقيًّا، يعكس صورة نتائج ما حصل من كارثة. لا نستطيع القول أيضًا: إنها تجارب مكتشفة بمفاهيم جديدة، إنما هي طروحات برؤية خاصة ضمن مفاهيم سائدة.

  لم تزل وفيًّا لخطاب الفن التعبيري، ما الذي يدفعك للتمسك بهذه المدرسة؟

  ما زالت المدرسة التعبيرية الأكثر جدلًا والأكثر حضورًا بما تحمله من كثافة بصرية، سواء في الخط أو اللون أو المضمون. التعبيرية تحمل في شكلها مضامين كل المدارس، وإن جردناها من الشكل تصبح تجريدًا. التعبيرية ربما هي الأقرب إلى عاطفتي المتأرجحة أحيانًا ما بين التجريد والتعبير. أنا مصاب بتلك المتلازمة الجميلة، وهذه المتلازمة يصاب بها كل من يعمل بأدواته التعبيرية. لذلك ظهرت فيما بعد تيارات ما يسمى التعبيرية التجريبية والتعبيرية الجديدة ومدرسة لندن. لا تنسَ أنني من بلاد منكوبة أحمل حزنًا بخطوط تعبيرية، حتى أكثر عمقًا من المدرسة ذاتها، ومن الطبيعي أن يكون المشهد عندي كذلك. بيكاسو عندما رسم الجورنيكا، التعبيرية هي التي أسعفته بمشهد خالد لا يزال الأهم، في رصد كارثة إنسانية، كذلك فعل ديلاكروا.

هجرت روحي مرغمًا

  اتخذتَ من المنفى بديلًا لبلدك الأم، ما أوجه الاختلاف بين الاثنين من ناحية كونك فنانًا؟

  أنا لم أتخذ المنفى بديلًا برغبتي، هجرت روحي مرغمًا. أنا من عشاق الأماكن والذكريات كأي مواطن من تلك البلاد، جزء من تكوينه البشري، العاطفة. ونحن شعوب إن غادرنا أماكننا للسياحة أو العمل مدة طويلة، نحمل بِجَعْبة ذاكرتنا صورة الدار والحي، وأدعية أمنا، وصور الأهل والأصدقاء، وكاسيتات الأغاني التي تحرّضنا على البكاء واستجلاب الصور، فكيف لشخص مثلي هجر مكانه وليس عنده الأمل في العودة، بعد أن فقد كل شيء ولم يحمل بجَعْبَة ذاكرته سوى أزيز الرصاص وأصدقاء رحلوا وأصدقاء لا يزالون في غياهب الظلام، لا أعرف مصيرهم.

وأهل هجروا في أصقاع الأرض وطفلة وحيدة ودعتني وغادرتني نحو السماء، بعد أصبحت الحياة لديها عبئًا ثقيلًا، وبضع قطرات من المورفين تسكن ألمها. أما ما يخص سؤالك من الناحية الفنية، في الوطن أتكلم فيما يخص الحال السورية، هناك مافيات وعلاقات خاصة وأمزجة هي تقرر إنْ كنت فنانًا مهمًّا أم لا، إلى درجة أن هناك صالة كانت تلعب هذا الدور.

وهذا ما يمارسه الآن أصحاب بعض الصالات العربية، توجد تجارب ساذجة تعرض باسم الفن، لا أعرف من هو الذي يؤثر في أصحاب هذه الصالات. المسألة هنا أكثر أخلاقية، قد لا تجد فرصتك في صالة لكن قد تجدها في صالة أخرى. لا مجال للمجاملة هنا، لا مجال للتزكية من أشخاص مؤثرين، لا مجال لعلاقات مزيفة من أجل الوصول إلى الهدف، المسألة تعود على القناعة. الثقافة الفنية هنا للعاملين بهذا المجال تلعب دورًا أساسيًّا. لكن هذا ليس بديلًا، إن المنفى صقيع دائم.

  هذا الجواب يدفعني إلى التساؤل، ما الذي يمكن، في تصورك، اعتماده ليترك أسلوبًا خاصًّا ومميزًا؟

  الأسلوب ليس قرارًا يتخذه الفنان. المسألة تحتاج إلى شخصية مختلفة بتكوينها الفكري، وإلى ذهنية معقدة من الصور والذاكرة والخبرة والاكتشاف. أقصد هنا الأسلوب في كل مرحلة، وليس أسلوبًا لمرحلة واحدة. «آنسات أفينيون» لدى بيكاسو، مختلفة أسلوبيًّا عن المرحلة الزرقاء، لكنه يبقى بيكاسو. في عالمنا العربي يوجد من يعتقد أنه توصل إلى أسلوب، ويأخذ في التمسك به حتى القبر ويتوقف عنده ويرفض المغامرة باكتشاف عوالم أخرى؛ كي لا يتهم بتغيير أسلوبه. هذا الفنان يصبح كما لو أنه بائع في سوبر ماركت لمنتج واحد.

يوجد أيضًا من يحاول أن يثبت أن لديه أسلوبًا خاصًّا فيقع بمطب التقليد. هناك من الرسامين من يمتلك إمكانيات مذهلة حقيقة بالرسم الواقعي أو الأكاديمي، لكنه يريد أن يجاري الوضع بأن لديه ذهنية خاصة كما البعض، فينتهي إلى الرسم السيئ لأشكال تعبيرية، هي في الأساس ليست فضاءه الخاص.

أعمال ساذجة تعرض الآن

  كيف تنظر للفن السوري اليوم، هل قدم خطابًا يليق بتاريخه؟

  سأكون صريحًا معك، الفن السوري تجلى حديثًا إن استثنينا فاتح المدرس ولؤي كيالي ومحمود حماد وبعض الأسماء، وما سبق هؤلاء هي تجارب متواضعة، قياسًا لما قدمه رواد التشكيل في العراق آنذاك، الذين واكبوا ما كان يحصل في الغرب، من تجديد وثورة في الفن. في نهاية السبعينيات والثمانينيات بدأ الفن السوري في التألق، على أيدي مجموعة من الشباب وقتها، غيرت مجرى الفن وأصبحت تواكب تجارب مهمة ظهرت في العراق حينها، وفي بعض الدول العربية.

فيما بعد، في نهاية التسعينيات حتى 2005م ظهرت تجارب شابة مغامرة، تبحث عن التجديد وتمتلك خامات مهمة، حاولت كثيرًا دعمهم مستغلًّا وقتها منصبي، حين كنت مسؤولًا عن المعارض الفنية في اتحاد الفنانين التشكيليين، وأقمت معرضًا سنويًّا يسمى معرض الشباب، واتصلت بشخصيات ورجال أعمال وفنانين مقتدرين لدعمهم بتوفير الجوائز، فالاتحاد غير قادر على تغطية ذلك… والآن هم أسماء مهمة في عالم التشكيل السوري.

أتابع ما يحصل الآن في الداخل، وإن استبعدنا بعض الشباب الذين بقوا في سوريا، ويعملون في صمت ضمن هذه الظروف القاسية، فهناك أعمال غثة وساذجة تعرض الآن في صالات ومراكز فنية. ظروف الفنان السوري تتشابه وظروف الفنان العراقي، من ناحية ما حصل من تشرد ومنفى بأصقاع هذا العالم.

  هناك من يشير إلى أن لوحاتك توضح الخلل في حياتنا؟

  ربما. كل ما أفعله الآن بعد الحرب، وبخاصة أني أرسم بقلبي، أنني ألتمس الصورة من خلال وجوه غادرتنا، وجوه ابتلعها البحر، وجوه أكلها الصدأ في شواطئ المنافي، وجوه مرّت بها شظية ساخنة وهكذا. أرسم لأن هناك شيئًا ما أريد أن أفضحه، هناك واجب أخلاقي لصناعة مشهد بصري برؤية تحتاج فعلًا إلى تصحيح خلل ما بحياتنا.

  استشرت ظاهرة التأثر والانتحال والسرقات الفنية بين الفنانين، ما موقفك مما يحدث على هذا الصعيد؟

  سؤال عميق ومحرج وشائك، الأمر يحتاج إلى عقول منفتحة على النقد وتقبل الرأي الآخر، من دون عصبية أو تشدد. يوجد فرق بين التأثر وبين السرقة. وهناك مقالات نقدية كثيرة نشرت حول هذا الموضوع. ما نحتاجه هو عملية تركيب وتحليل فكري جديد، أي إعادة تأهيل من جديد لتقبل الرأي الآخر ومناقشة مفتوحة حول موضوع مهم جدًّا، يحدث ويتكرر باستمرار. نحن بحاجة إلى مناخ صحي، إن أردنا أن ننقذ التشكيل من تلك الممارسات.