عبدالستار البيضاني يفتح ملفات الأدب «المضموم» أو أدب «الأدراج» في العراق

عبدالستار البيضاني يفتح ملفات الأدب «المضموم» أو أدب «الأدراج» في العراق

في رواية الكاتب العراقي نصيف فلك «خِضِر قَدْ والعصر الزيتوني» ترد إشارة لافتة تتحدث عن «بطل» يجمع ما يكتب ويحفظه في مكان بعيد وناءٍ، هو أشبه بالأرشيف عن حقبة كاملة، هي حقبة صدام. أتذكر أني قد عقبت على هذا الفعل السردي المتخيل في وقتها بكلمة واحدة: «هراء!»؛ إذ لا أحد كان لديه الجرأة والشجاعة، بل والحماقة أن يكتب عن «حقائق الحياة في عراق صدام». وقد أقول: إن تلك الواقعة «المتخيلة» هي بعض «تمنيات» المؤلف الحقيقي عن نشاط تأليفي سردي كان يتحدث عنه الجميع. وأكرر هنا، إنها بعض تمنيات، أو ما كان يأمله كاتب الرواية، نفسه، نصيف فلك، وهو في السجن، عن كتابات زملائه الساعين في شوارع بغداد.

لأتحدث، هنا، عن واقعة رواها لي «مسؤول» حزبي كبير، آنذاك، وكان زميلًا لي في التدريس الجامعي، عن محاولته الفريدة والوحيدة، أن يكتب دراسة عن وقائع العراق الاجتماعية في عهد البعث، وقد كتب بضع صفحات، ثم استيقظ مرعوبًا ليحرق ما كتبه، وهو «البعثي» بدرجة حزبية متقدمة؛ فكيف يمكن لـ«كاتب» أن «يخترع» عالمًا يخالف «قواعد» الكتابة والتخيل في حقبة البعث؟

الأدب المضموم… رواية واحدة وثلاث صياغات!

هل كانت الصورة قاتمة حقًّا؛ أم تراني أبالغ فأعمد إلى «تزييف» الوقائع الحقيقية والمتخيلة؟ أجزم أن الصورة كانت أسوأ من ذلك بكثير. في شتاء 2004م، كنت أراجع بعض المسائل الخاصة بأطروحتي مع المشرف الدكتور عبدالإله أحمد، ثم وجدته يتحدث عن حوار أجراه معه القاص «عبدالستار البيضاني». وتوقف ليقول: إن البيضاني كتب رواية «مهمة» و«خطيرة» تصف انسحاب الجيش العراقي، بل هزيمته وفراره من الكويت عبر الصحراء وصولًا للبصرة. وأضاف أن الكاتب عرض روايته عليه فاقترح عليه مسألتين. الأولى تخص تعديلًا فنيًّا في مسار الرواية. والثانية، وهي الأهم، أن يكتب ثلاث نسخ من الرواية ويخفيها في مكان أمين، فإذا سقط نظام البعث، عندها ستكون الأجواء مهيأة لتقبل هذا النوع من النصوص. أتذكر أنني سألته؛ هذا يعني أن الرواية كتبت في عهد «صدام»؟ أجاب بيقين: نعم… وشاء القدر أن يتولى الإشراف على إعداد أطروحتي، لاحقًا، الدكتور «نجم عبدالله كاظم» وكرر في سياق مشابه ما رواه المشرف الأول. ثم طوى الزمن الحدث بظلاله بعد أن أحجم الكاتب عن نشر روايته بنسختها الكاملة، حتى قرأت خبرًا عن نشر الرواية (صدرت عن دار الشؤون الثقافية، 2022م)، وقد ذيَّلها الكاتب برسالة مكتوبة بعثها الشاعر العراقي المعروف يوسف الصائغ للكاتب بعد أن قرأ مخطوط الرواية.

عبدالستار البيضاني

لكن لماذا أحجم الكاتب عن نشر روايته طيلة تسع عشرة سنة، بعد زوال المانع من النشر؟ أظنه سؤال ذو قيمة خاصة؛ لأن إجابته تتصل، ربما، بالتشكيك المتزايد بحصول وتحقق الواقعة الأصلية، وهي الكتابة الأدبية المعادية، لنقل المختلفة والمتقاطعة مع الأصول المفترضة للكتابة في عراق البعث/ صدام كما قررتها السلطة من قبل. ولا جواب واضح ومفصل سوى أن الكاتب قد نشر مقالًا بعنوان مشابه «الأدب المضموم»، تحدث فيه عن وجود «أدب» من هذا القبيل في العراق، وذكر قصة لم تُنشر في وقتها للكاتب الراحل مهدي عيسى الصقر.

والكاتب نفسه، البيضاني، نشر فصلين من الرواية المعنية في جريدة محلية تصدر في بغداد. وقد يُشير ما تقدم إلى مقدار «تحفظ» الكاتب وخشيته من «تكذيب» الوسط الأدبي لزمن كتابة الرواية، أو أن تُدرج روايته في سياق «ظاهرة» عراقية سابقة، جرى فيها التشكيك بمصداقية الكتابة «الأدبية» ذات التأويل السياسي المعارض للنظام الحاكم في عهد الملكية «1921– 1958م»؛ فكنا إزاء «ترحيل– تزييف» نصوص من «زمن» سياسي «الجمهورية» إلى «زمن» سياسي «الملكية» آخر مختلف عنه جذريًّا. وتحقق بعض ما افترضته من «تخوّف»؛ فما إن نشرت «انطباعًا» أوليًّا عن الرواية على صفحتي في «الفيس» حتى قرأت «تعليقًا» سريعًا، كما لو أنه مكتوب من قبل، للشاعر والكاتب إبراهيم البهرزي يرفض عبره وجود أدب «مخبّأ» أو «مضموم» في عراق صدام. فالكاتب، كما يشدِّد البهرزي، كان «يخاف حتى أن يكتب في سره عن سلبيات ذلك العهد!».

منتصف التسعينيات، أنجز البيضاني كتابة الرواية. لكنه اضطر، لاحقًا، لإنجاز نسختين منها. واحدة من النسخ الثلاث من الرواية أنجزها الكاتب تحت الضغط للخلاص من رغبة صدام حسين أو مكتبه في قراءة الرواية، بعد أن نوَّه أحد الصحفيين في حوار سريع مع الكاتب عن مخطوط الرواية وموضوعها المختلف. فكان على الكاتب، بعد أن يئس من أمل الإفلات، أن يعيد صياغة فقرات كثيرة من المخطوط؛ لتتوافق مع منطق الكتابة عن الحرب في عرف النظام الحاكم وقتذاك «ومن ذا لا يفعلها في ذلك العهد الرهيب!». وثمة نسخة ثالثة، لا تختلف كثيرًا عن الثانية، كان على الكاتب أن ينجزها بناء على طلب مسؤول حكومي كبير في وزارة الثقافة للمشاركة في مشروع أمر بتنفيذه صدام حسين نفسه يخص كتابة الرواية.

لماذا نذكر كل هذه التفاصيل؟ لسببين اثنين: الأول، إن هذه التفاصيل قد وثَّقتها الصحف في وقتها، بما في ذلك اللقاء السريع الذي أجراه عبدالجبار العتابي مع الكاتب. والثاني، إن وجود النسخ الثلاث، لنقل الصياغات الثلاث، أو حتى المخطوطات الثلاث للرواية الواحدة، يعيدنا لطلب الشاعر البهرزي الخاص باعتماد تحليل الخطاب في المقارنة والتحليل لاكتشاف الأصل والدخيل. والأصل هنا هو ما اعتمده البيضاني من نسخ الرواية المخطوطة عندما قرر أن يفرج عن الرواية وينشرها.

لا نكتب «بدأت الحرب» بل «بدأ العدوان»… أمر الرقيب!

من هنا، من منطق الرقابة وكلام الرقيب يبدأ تحليل الخطاب المطلوب. لقد رفض منطق تمثيل «العدوان» على البلاد بمنطق «الحرب»؛ فلا تمثيل عنده ولا أمر سوى «العدوان». قال للكاتب معترضًا على جملة الاستهلال في مطلع روايته؛ لا تكتب «منذ يومين فقط توقفت الحرب»، إنما يجب أن تكتب «توقف العدوان».

لا تسرد رواية البيضاني سوى وقائع ليلة واحدة، ليلة الهروب من الكويت بعد هزيمة الجيش العراقي أمام قوات التحالف وتقدُّمها صوب البصرة. تفتتح الرواية عالمها السردي في بغداد، بالضبط في بيت الزوج العائد، حيث الزوجة والطفل الرضيع. ومع أول المساء «يدخل» الزوج إلى بيته متكئًا إلى عكاز، ثمّ يبدأ رحلة «تذكُّر» ما حصل معه في أثناء «انسحابـ»ـه. ومثلما يصرُّ الزوج العائد على أن يروي قصته كاملة في ليلة عودته ذاتها، فإنني أصرُّ، من جهتي، على توصيف رحلة الزوج من موقعه في الكويت إلى البصرة بـ«الانسحاب».

لماذا نشدد على هذه الكلمة وصفًا لما حدث؟ ببساطة لأن الجندي العائد أو المنسحب تصرف بمنطق الجندي الذي عليه أن «يلتزم» بـ«الأوامر» العسكرية. وعندما تصيبه شظيتان، واحدة في رجله، والثانية في كتفه، لا يستخدم الجندي سوى «المصطلحات» العسكرية، فنسمعه، من ثمّ، يصرخ، وهو يحبو على الشارع المؤدي للبصرة: «هل هناك من يخليني؟». ويجيبه جندي مباشرة: «اخلِ نفسك بنفسك!». فلا نقرأ هنا كلمة «ساعدني» مثلًا! وهو لا يهرب شأن رفاقه الآخرين، ونقرأ في كلام الجندي إشارات واضحة وصريحة لا لبس فيها أنه يكره مفردة «الهروب»، وأنه كان على استعداد «لدفع عمري ثمنًا لعدم إطلاقها عليَّ». ص 254.

تنتهي الرواية عندما ينجح الجندي في الوصول إلى «الحيانية» مطلع البصرة فيغمى عليه بعد الجهد الجبار الذي بذله في الطريق. تنتهي الرواية ولا نلمح أية إشارة، ثانوية كانت أم رئيسة، تُفيد أن منطقًا آخر غير منطق الجندي الخائف من السلطة حتمًا، لكنه الخائف كذلك من الحرب، من ضياع أثره، من موت قصته، قد ظهر ومارس تأثيرًا في مسارات الحكاية وتمثيلها السردي.

لن يأتي الصباح هذه الليلة… أهذا كل شيء؟

بماذا تختلف هذه الرواية عما صدر من روايات كُتبت ونُشرت في وقتها «قبل إسقاط نظام البعث»، وعما صدر بعد السقوط المدوي للبعث؟ لماذا نفترض أن هذه الرواية «فاتحة» عهد أدب الأدراج، أو الأدب المضموم كما كتب البيضاني نفسه كاتب الرواية؟

تختلف الرواية بجملة أمور، في الطليعة منها، إنها قد أنجزت بمنطق الكتابة في ظل سلطة قاهرة، لا تسامح من «يختلف» أو «يخرج» عن ثوابت إدارتها الصارمة للقصة الوحيدة المعترف بتداولها في صحافة وكتب البلاد. وعلى الرغم من ذلك فقد حافظت الرواية على مساحة الخوف المفترضة، لكنها أعادت توصيف الأشياء والمواقف، بل إنها قد استخدمت لغة «رافضة» كليًّا لمنطق الحرب. لكن هذا الرفض لم يصل، ولا يُفترض به أن يصل إلى لحظة ما بعد السقوط؛ عندما شرع عشرات الكتاب العراقيين بالكتابة عن «دكتاتور» رهيب، هو الراوي الوحيد لقصة البلاد. وهي كذلك رواية حرب بجدارة بالغة. يذكرنا ظهورها المتأخر بصحة الفرضية القائلة: إنه لا رواية، أو حتى لا أدب، يُكتب عن حرب قائمة، لم تضع أوزارها بعد. لكنها رواية حرب يكتبها «الجنود» الذين خاضوا الحرب وشهدوا ويلاتها لحظة فلحظة. وهي تختلف عن «روايات» عراقية كتبت عن حروب البلاد المختلفة في أماكن ودول بعيدة من العراق؛ إذ كان كتابها «يدينون» الحرب وينصرفون نحو عوالمهم السردية الأخرى.

ثيمة الانسحاب مثلًا، كانت موضوعًا لروايات عراقية مختلفة، كتبت بعيدًا من البلاد من قبل كتاب لم يشهدوا الحرب ولم يعش أحدهم أحداثها اليومية، فكانوا «يهربون» من وصف الحرب ذاتها إلى وصف أثرها المدمر في الشخصيات، وفي «لن يأتي الصباح هذه الليلة» لا نجد سوى مشهد الحرب بأحداثها واحدًا فواحدًا. وفي قصر وحصر «زمن القصة» على مشهد الانسحاب دليل على التوسع الحكائي الخاص بمشهد الحرب. نحن هنا لا نعثر أو نتعثر بأثر الحرب، إنما تصدمنا الحرب ذاتها وتتركنا نشعر بأثرها.

فاضل السلطاني يفتح الملف المهمل بترجمة جديدة لـ«الأرض اليباب»

فاضل السلطاني يفتح الملف المهمل بترجمة جديدة لـ«الأرض اليباب»

في تقديمه لكتاب الشاعر والمترجم العراقي فاضل السلطاني: «الأرض اليباب وتناصّها مع التراث الإنساني» الصادر حديثًا عن دار المدى ببغداد، يتحدث خلدون الشمعة عن مسألة جوهرية تصب في جوهر أي نقاش محتمل عن الترجمة، ولا سيّما ما يتصل منها بالنصوص المترجمة من قبل. نقصد هنا ما أسماه الشمعة بيولوجيا دارون التطورية. وهو يقصد بها أن الزمن في تراكمه «ينتخب» الترجمة الفضلى. يحدث هذا الانتخاب عندما تكون هناك «متتالية» من الترجمات لنص واحد يحظى بأهمية مخصوصة في إطار أدب وثقافة بعينها.

فهل يعني هذا «الانتخاب» أن الترجمة الأحدث هي الأفضل؟ لا أظن أن الأمر بهذه البساطة، ولم يقل الشمعة كلامًا من هذا القبيل، إنما إشارته لفعل الانتخاب ذات دلالة متفردة. يتعلق الأمر هنا بما أسماه عبده وازن في مراجعته لكتاب السلطاني بـ«نقد الترجمة» التي تُفيد، من ثمَّ، تحسين النص المترجم وانتخاب الأفضل؛ إذ إن أية ترجمة جديدة هي نقد للترجمات السابقة، حتى إن لم يُفرد المترجم «الأحدث» فصلًا أو مكانًا، في ترجمته، ينتقد فيه عمل سابقيه. نتحدث هنا عن «عربية» النص المترجم وتجويدها في سياق الترجمة العربية لنص شعري عالمي كان له، ولا يزال، تأثير بالغ في الشعر والشعراء في العالم كله، ولا سيّما في العالم العربي.

برج بابل وتسويغ الترجمة

في مقدمة كتابه، يسرف السلطاني في عرض أدلّته على تسويغ ترجمته الجديدة، فيذكر ترجمات كثيرة لنصوص عالمية إلى الإنجليزية، منها مثلًا الترجمة المتلاحقة لملحمتي هوميروس «الإلياذة والأوديسة»، كذلك الترجمات الإنجليزية لملحمة جلجامش. وهو أمر حدث كذلك في اللغة العربية، كما حدث في غيرها. لنتذكر هنا الترجمات العربية لكتاب فرديناند دي سوسير، مؤسس اللسانيات الحديثة «محاضرات في علم اللغة العام»؛ فقد تُرجم خمس مرات إلى العربية، وفي زمن متقارب لا يزيد على سنة ونصف «1985 – 1986م». نتحدَّث عن ترجمات عراقية وتونسية وسورية ومصرية ومغربية لكتاب نظري واحد، فلا خيال، ولا شعر، ولا معانيَ غامضة.

ولا نتحدث عن ترجمات نصوص كافكا إلى العربية، ولا حتى عن ترجمات مسرح شكسبير. فهو حال كل اللغات، وكل الآداب؛ ما دامت الترجمة حاجة ملحّة ولا غنى عنها. ومثلما هناك طلب دائم على الترجمة فإن هذا الطلب يستجيب لمنطق الترجمة ذاته، المتمثل في انغلاق المعنى وضياعه، ولا سيّما في ترجمة الشعر التي نجد إجماعًا عالميًّا على استحالة تحققها. ولا تشذ الترجمة إلى العربية عن الترجمات إلى اللغات العالمية الأخرى. ريكور نفسه الذي يستشهد بكلامه الأستاذ السلطاني فيما يخص تكرار الترجمة للأعمال العظيمة، يتحدث في كتابه «سيرة الاعتراف» عن اضطراب الترجمة إلى الفرنسية. فارتباك الترجمة وإغلاق المعنى واضطرابه لم يكن، في يوم ما، حكرًا على المترجمين العرب، إنما هو شأن الترجمة ذاتها. وفي الحقيقة، إن منطق الترجمة يشبه منطق الفلسفة ذاتها بأسئلتها المهمة التي لا نجد لها إجابات نهائية، بل لا قيمة مطلقًا لأية إجابة؛ لأن السؤال هو الأهم. وسؤال الترجمة هنا هو المهم؛ وهو المسوِّغ الرئيس للترجمة ذاتها؛ فلا نهاية للفلسفة لأنه لا جواب نهائيًّا، كذلك لا نهاية لمسوِّغات الترجمة؛ ففي متاهة البرج، برج بابل، تتدافع اللغات والأصوات والكلمات المختلفة، ويغدو الفهم أشبه بالنفس الأخير قبل الموت الأكيد. هكذا هي الترجمة في البرج الصاعد نحو سماء بعيدة لا تهتم كثيرًا بأصوات المختلفين فيما بينهم.

فاضل السلطاني

في ترجمة الشاعر فاضل السلطاني ثمة احترام كبير لمسألة مهمة جدًّا، تخص تقاليد تراكمت عبر الترجمات العربية الست التي درسها في كتابه، وهذا مما يُحمد عليه المترجم كثيرًا ولا شك. يتعلَّق الأمر هنا بالتزام المترجم بتقاليد جرى تثبيتها في ترجمات عربية سابقة لقصيدة الأرض اليباب. نتحدث عن خمسة تقاليد أفرزتها الترجمات العربية السابقة. يتصل التقليد الأول بأن ترجمة القصيدة كانت تصدر في كتاب كامل يختص بشعر إليوت، ثم صارت الترجمة تختص بقصيدة الأرض اليباب فقط. وكان يمكن، في كل الأحوال، نشر الترجمة الكاملة للقصيدة في مجلة مختصة، وهو ما حدث، فعليًّا، مع ترجمة لويس عوض؛ عندما نشرها في مجلة «شعر» البيروتية «العدد 40، السنة العاشرة، خريف عام 1968م». وفي هذا السياق فإن وضع القصيدة المترجمة تطوَّر من نشر الترجمة العربية لقصائد منتخبة لإليوت في كتاب كامل إلى انفراد الأرض اليباب بكتاب كامل.

وهذا الأمر استقر مع ترجمة الدكتور عبدالواحد لؤلؤة، وهو ما التزم به الشاعر السلطاني في ترجمته. التقليد الثاني ترجمة هوامش إليوت التي يقول لؤلؤة: إنه أول من ترجمها، فيما الحقيقة كشفها الصدور المتأخر لترجمة توفيق صايغ، وهي تقول لنا: إن توفيق صايغ هو المترجم العربي الأول الذي ترجم القصيدة كاملة مع هوامش إليوت. إن الأمر المهم، هنا، أن المترجم العربي كان لديه يقين بأهمية الهوامش التي كتبها شاعر القصيدة «الأجنبية»، مع أن الأستاذ السلطاني يقول لنا: إن إليوت قد ندم على فعلته، وأسقط الهوامش من طبعات كتبه اللاحقة. نحن نجد هذه الهوامش في ترجمة صايغ، وماهر شفيق فريد، ولؤلؤة، وترجمة السلطاني الأحدث. التقليد الثالث يتصل بأن الترجمة كانت تسبق أو تلحق بشرح لمقاطع القصيدة الخمسة. وهذا التقليد فرضه يقين المترجم العربي الخاص بصعوبة القصيدة، واشتباكها العويص مع التراث الشعري والنثري العالمي.

نجد هذا الشرح والتفسير في ترجمة اليوسف، ولؤلؤة، والسلطاني. التقليد الرابع يتعلَّق بترجمة دراسة «أجنبية» ونشرها في الكتاب ذاته مع القصيدة. ونحسب أن اليوسف هو من بدأ هذا التقليد، عندما ترجم ولخص ما كتبه الدكتور روبرت ب. كابلان. ولقد تواتر هذا التقليد في ترجمة لؤلؤة الذي ختم كتابه بعرض موسع للدراسات والكتب التي اختصت ودرست قصيدة الأرض اليباب، وترجمة السلطاني، وقد وضعنا صاحبها في السياق الأصح لتناصّ القصيدة مع التراث العالمي عندما ترجم فصلًا من كتاب «قصائد تي. إس. إليوت» لمؤلفيه كريستوفر ريكس، وجيم ماكيو، ونحسب أن ترجمة هذا الفصل تتيح للقارئ العربي إمكانيات جديدة ومختلفة لفهم الأرض اليباب. التقليد الخامس يختص بالدراسة المقارنة التي وصلت إلى أقصى كمالها ونضجها لدى الشاعر السلطاني.

يعيد السلطاني موضعة هذه التقاليد في سياق كتابه؛ فالأولية عنده كانت، بعد تقديم الشمعة للكتاب، ومقدِّمة قصيرة، لترجمة القصيدة موضوع الكتاب، ثم ترجمة هوامش إليوت، ثم شرح عام لمضمون القصيدة، ثم الدراسة المقارنة للترجمات السابقة، وكانت الخاتمة خاصة بترجمة الفصل المذكور من كتاب كريستوفر ريكس وجيم ماكيو. وهذا الترتيب يقترب إلى حد ما من ترتيب كتاب لؤلؤة، سوى أن الأخير قد صدَّر كتابه بفصل عن الشاعر، ثمّ إنه أفرد للمخطوطة الجديدة، وقتها، فصلًا أسهب فيه بعرض أصول قصيدة الأرض اليباب عبر طبعاتها الأولى حتى ظهور المخطوطة الجديدة. وفي تصوري أن تقديم الترجمة للقصيدة على سواها استعادة لأهمية القصيدة، وكأن المترجم يقول لنا: ترجمتي المختلفة وقد بنيتها على أساسين، الأول هو نقد الترجمات السابقة، والثاني معرفة محترمة بتناصات القصيدة مع التراث العالمي.

في متاهة البرج ثمة ضوء بعيد

في ترجمة السلطاني تستعيد الترجمة العربية سياقاتها العربية الدَّالة؛ إذ نجد فيها جملة شعرية عربية تتجاوز الحوشي من الألفاظ، وهي نظيفة من التراكيب العامية التي دأب لويس عوض على استخدامها، فورَّط المترجمين اللاحقين عليه في استخدامها، حتى غاب أي حرج يمكن أن يشعر به المترجم العربي من ترجمة فقرات كاملة بالعامية المصرية كما حدث مع ترجمة «نبيل راغب» للأرض اليباب وقد سمّاها «أرض الضياع». ويُحمد لترجمة السلطاني ابتعادها مما سمّاه أحد مترجمي القصيدة الشهيرة بـ«المحكية العربية» أو «العربية المحكية»، وقد استعان بها في ترجمة الكلام الشعبي لشخصيات الحانة في القصيدة. ونحن لا نعرف كيف نسمّي الاستخدام الخاطئ لنظام الجملة العربية بـ«عربية محكية»، في حين أن حقيقة الأمر لا تزيد على تعمُّد الخطأ أو تعمُّد التجاوز على أنظمة الكلام والكتابة العربية.

في النهاية لا عربية محكية سوى العاميات العربية! ومما يُذكر لترجمة السلطاني ميله إلى استخدام الاسم المنصوب بدلًا من الفعل، ويأتي غالبًا بصيغة اسم الفاعل أو اسم المفعول، وتأخذ وظيفة «الحال» غالبًا، نظير ترجمته: «جرذيّ انسلَّ بهدوء بين النباتات/ ساحبًا بطنه الموحلة على الضفة»، وهي بصيغة الفعل في ترجمة لؤلؤة مثلًا: «انسلَّ جرذ رويدًا خلال العشب/ يجرجر بطنه الموحل على الضفة». وهي بالصيغة الفعلية كذلك في ترجمة عوض «وهو يجر على الشط بطنه المغطى بالوحل». وبالإمكان القول: إن استخدام الوصف المنصوب هو سياق التزم به السلطاني في ترجمته كلها.

يبقى الأمر الأهم في ترجمة السلطاني أنها مثَّلت ما يمكن تسميته بذاكرة الترجمات العربية. نتحدث هنا عن «أخذ» الأصلح من الترجمات السابقة. ولا يعني هذا الأمر مطلقًا أن ترجمة السلطاني كانت تجميعًا من الترجمات السابقة، إنما يُفيد أن المترجم هنا لم تأخذه العزة بالإثم كما يُقال في مواقف مشابهة؛ فيعمد إلى الإتيان بترجمات مخالفة فقط لأجل الاختلاف. ما يظهر أمامي، على عشرات «الجذاذات» التي سجلت عليها ملحوظات سريعة، منها ما هو خاص بما أخذه السلطاني من ترجمات سابقيه، يظهر هنا منطق الخبير الذي يعترف بجهود سابقيه عندما يجد الترجمة في سياقها الصحيح، وينتقد الهفوات والترجمات المرتبكة. منطق الخبير هو ما جعل ترجمة السلطاني تبدو أشبه بذاكرة يمكن الركون إليها في سياق مراجعة ترجمات الأرض اليباب، ونحسب أن اشتغال هذه الذاكرة فيه بعض ما أسماه «الشمعة» بفعل الانتخاب الداروني.

وفي هذا السياق فإننا نتحدث عن عنوان القصيدة وعناوين مقاطع القصيدة الخمسة التي اضطربت على أيدي المترجمين حتى استقرت في ترجمة لؤلؤة. وهناك الترجمات المتماثلة أو المتقاربة، وقد نجد ترجمات متناسخة، وقد فضَّل السلطاني أن يبقيها في ترجمته مثل مفتتح القصيدة «نيسان أقسى الشهور». فيما يخص عنوان القصيدة فإن أدونيس/ الخال، ولويس عوض، وماهر شفيق فريد، وتوفيق صايغ، قد ترجموه إلى «الأرض الخراب»، فيما فضَّل لؤلؤة أن يترجمها إلى الأرض اليباب، وتابعه يوسف اليوسف، ليستقر العنوان في ترجمة السلطاني بصيغته الأخيرة «الأرض اليباب». ونلحظ أن ما يستقر في ترجمة السلطاني من اجتهادات سابقيه يُلحق، غالبًا، بتفسير يضيء لنا سبب الاختيار والتفضيل. في اختياره صيغة «الأرض اليباب»، مثلًا، فإن السلطاني يفسر هذا الاختيار بأن «اليباب» هو الأدق؛ ذلك أن المعجم العربي يعطي لكلمة «يباب» معنيين، هما: الخراب واليبس. والقصيدة، كما يكتب السلطاني، تتحدث «عن أرض قاحلة، جافة حتى من قطرة ماء، فلا شيء غير الصخور». وهو تفسير يقترب من تفسير لؤلؤة لتفضيله «اليباب» على «الخراب»؛ فاليباب عندهما يحيل إلى اليبس وفقدان الماء. في حين نجد السلطاني يصمت عن مسألة الجرس الموسيقي الذي قدَّمه لؤلؤة على يبس الأرض.

في عناوين مقاطع القصيدة الخمسة، فقد استقرت في ترجمة السلطاني بصورة تماثل وضعها في ترجمة لؤلؤة سوى أن عنوان المقطع الخامس ترجمه السلطاني إلى «ماذا قال الرعد»، في حين ترجمه لؤلؤة إلى «ما قاله الرعد». والعناوين هي: دفن الموتى، ولعبة الشطرنج، وموعظة النار، والموت بالماء، وماذا قال الرعد. ما يبدو لنا، من الترجمات التي أمكنني الرجوع إليها، أن هناك استقرارًا لدى المترجمين العرب على ترجمة عنوان المقطع الأول إلى «دفن الموتى». وهو حال ترجمة عنوان المقطع الثاني إلى «لعبة الشطرنج». ونلحظ اختلافًا جزئيًّا في ترجمة عنوان المقطع الثالث «موعظة النار»، وهي الترجمة التي اختارها عوض، ولؤلؤة، والسلطاني، وشذ عنهم اليوسف بترجمة جزئها الأول إلى «عِظَة» النار. وفي المعجم العربي «العِظَة» و«الموعظة» النُّصْح والتذْكير بالعَواقِب، لكننا نفهم من بعض إشارات المعجم العربي أن «العظة» تُفيد التذكير بالخير، أما «الموعظة» فتُفيد التذكير بالخير والشر، وهي أصلح وأدق من كلمة «عِظَة» للتعبير عن القسم الثالث، وهو الأطول في القصيدة، ويخص «موعظة النار» التي خرج بها «بوذا» على أنصاره حاثًّا إياهم على التخلي عن الشهوات.

وقد يبدو أن للأمر بعدًا آخر؛ ذلك أن سياقات الخطاب المباشر في تراثنا العربي تجعل المتعالي يقول للحكيم المجرب الثياب: عظني؟ ولا يقول «أوعظني». بِمَ يُفيدنا هذا الفارق؟ إنه يقول لنا: إن العظة مباشرة لا ترتبط بالواعظ، بينما الموعظة عكسها مرتبطة بالواعظ في زمان ومكان مختلفين. ثمّ إن العظة مخففة صوتيًّا تصلح للحديث المباشر، أما الموعظة فهي للسرد، وهو سياق هذا القسم من القصيدة. ومع عنوان القسم الرابع نجد أنفسنا أمام اضطراب المترجمين، فقد ترجمه لويس عوض إلى «الموت غرقًا»، وتابعه «نبيل راغب» في ترجمته، لكن ترجمات اليوسف ولؤلؤة والسلطاني تواترت فيها الترجمة إلى «الموت بالماء». وجملة/ العنوان: الموت غرقًا أبلغ؛ لأن التقدير هنا «غارقًا»، والحال يجب أن تكون مشتقة، والمصدر يؤول بالمشتق، وهو الاستعمال الأوسع في العربية. ثمّ إن جملة «الموت بالماء» تضمر حالًا محذوفة، وهي «غرقًا»، والباء هنا «بالماء» واسطة، ولا تُفيد الاستعانة. ونصل إلى ذروة الاضطراب مع ترجمة عنوان المقطع الخامس؛ فقد ترجمه عوض إلى «ما قاله الرعد»، وتابعه لؤلؤة ونبيل راغب، بينما ترجمه اليوسف إلى «مقالة الرعد»، واختار السلطاني صيغة الاستفهام؛ فترجمه إلى «ماذا قال الرعد». وفي الحقيقة أن «ما» في جملة «ما قاله الرعد» أقرب إلى كونها «موصولة» منها إلى الاستفهام «لأن الاستفهام يتطلب حذف الهاء من الفعل قال، أو أن يكون هذا الضمير عائدًا على اسم موصول محذوف والتقدير: ما الذي قاله الرعد؟». وإذا كانت «ما» موصولة فنحن في سياق الإخبار وسياق السرد وفضاءاته، وهو ما رجحه اليوسف، ضمنًا، عندما ترجمها إلى «مقالة الرعد»، والمقام هو مقام استفهام وليس إخبارًا عن أمر بعينه، وهكذا ستكون أبيات المقطع جوابًا مفترضًا لاستفهامية العنوان.

نقد الترجمة وأخطاء الترجمات العربية السابقة

كان الدكتور عبدالواحد لؤلؤة أول من فتح باب نقد الترجمة فيما يخص الترجمات العربية السابقة، ولقد خصَّص فقرة كاملة في كتابه عن قصيدة الأرض اليباب لذلك النقد. وفي سياق نقده للترجمات الأربع السابقة على ترجمته «أدونيس/ الخال، وفائق متى، ولويس عوض، ويوسف سامي يوسف» تحدث عن أخطاء وهفوات المترجمين السابقين، لكن ذلك النقد انشغل بقضايا عامة، من قبيل أن الإدراك اللغوي لأدونيس والخال لم يساعدهما في التغلب على صعوبة نص إليوت. لكننا لا نعرف بالضبط ما المقصود بالإدراك اللغوي؛ ونجد الدكتور لؤلؤة يعيب على المترجمين ترجمة وصف صورة «تحول فيلوميل»، وبعد أن يذكر نص الترجمة يكتفي بالقول: «وهذا ليس المعنى المراد قطعًا!» وانتقد تحويل المؤنث إلى مذكر في موضع ما من الترجمة. وفي موضع آخر نجده يصحح الترجمة الخاطئة. ويأخذ على ترجمة «متى» أنها شُغلت بالتفسير – الترجمة – التعليق، وهو يقصد أن المترجم قد جعل من نفسه شارحًا ومفسرًا للقصيدة في سياق الترجمة. وفي نقده لترجمة الدكتور لويس عوض يرصد ثلاثة عيوب كبرى، هي: الترجمة التفسيرية، وهو ينكرها ويستنكرها كل الاستنكار؛ إذ إن التفسير ليس من حق المترجم. وهو ينتقد بشدة استخدام المفردات العامية المصرية في الترجمة، كما أنه ينتقد استخدام الكلمات الأجنبية المكتوبة بالعربية، مثل أسماء الشهور «أبريل مثلًا»، وينتقد كذلك تغيير نظام الأبيات، ويجعل من «أغلاط» الترجمة عيبًا ثالثًا رئيسًا أصاب ترجمة الدكتور عوض. وعلى الرغم من امتداحه ترجمة يوسف سامي اليوسف؛ فهي «أحسن» الترجمات، فإنه يأخذ عليها ملحوظات كثيرة تتصل بالتحليل والقصيدة والتعليقات.

دراسة الأستاذ السلطاني المقارنة تختلف ولا شك؛ فهي قد جاءت بعد عشر ترجمات سابقة لقصيدة إليوت، بما فيها ترجمة لؤلؤة نفسه؛ إذ هناك الترجمات الست التي ذكرها وخصَّها الأستاذ السلطاني بدراسته المقارنة، هناك ترجمات فائق متى، ونبيل راغب، والشاعر اليمني محمد عبدالسلام منصور، وقد أهمل السلطاني الترجمات الثلاث الأخيرة. وهي تختلف كذلك لأنها تفيد من أحدث الدراسات الغربية الإنجليزية عن قصيدة الأرض اليباب، وفي الطليعة منها دراسة كريستوفر ريكس وجيم ماكيو التي نتمنّى أن نراها مترجمة إلى العربية في الزمن القادم.

وهذا بعض ما جعل دراسة السلطاني المقارنة تقدِّم لنا نقدًا جذريًّا لهفوات الترجمات السابقة بلغة نقدية رصينة وهادئة، ولسان حال الدراسة، ومن قبلها الترجمة الجديدة ذاتها، يقول لأصحاب الترجمات السابقة، ولنا من ثمّ: إن صعوبة القصيدة ليست مسوِّغًا كافيًا لارتكاب الأخطاء. وفي الحقيقة، إن الدراسة المقارنة تضعنا في مواجهة العقدة الكأداء التي واجهت القارئ العربي مع ترجمات القصيدة الأهم والأكثر تأثيرًا، وهي انغلاق المعنى وتهافت الشعر المترجم إلى العربية. شخصيًّا أتذكر انطباعي الأول بعد أن أكملت قراءة النص المترجم الكامل للقصيدة، قبل عقدين من الآن، قلت في نفسي وقتذاك: أهذا هو شعر إليوت؛ أهذه هي قصيدة الأرض اليباب التي كانت المؤثر الأهم، كما يقول لنا دارسو ونقاد الشعر العربي الحديث، في التحول الكبير في الشعر العربي، المتمثِّل بظهور الشعر الحر في العراق على يد السياب ورفيقيه؟

خلدون الشمعة

يتقصَّى السلطاني أخطاء المترجمين السابقين وهفواتهم، بمن فيهم صاحب النقد الأول لؤلؤة، وفي هذه الأثناء يقدِّم لنا التفسيرات المختلفة والشارحة ضمنًا وصراحة، ولا يتركنا في معمعة الصح والخطأ، إنما نجده يقترح الترجمة الصحيحة. مفتتح القصيدة مثلًا «نيسان أقسى الشهور»، وقد كان السلطاني بصدد بيان تهافت ترجمة صايغ بترجمته المفتتح، بقوله: «نيسان أشرُّ الشهور»، بملاحظته الفارق الشاسع بين «الشر» و«القسوة»، كانت مناسبة لمناقشة أمرين؛ أحدهما ظاهر وقد ذكره بالنص، وهو خاص بتفسير دلالة نيسان وقسوته المتأتية من قضية أخرى لا علاقة لها بصلب المسيح، إنها ذات صلة بقسوته على «أولئك الميتين الميتين روحيًّا لأنه بداية الربيع الذي تتفتح فيه الطبيعة وينبثق الجمال بينما هم عاجزون عن التمتع بخيراته، وهذا يضاعف من آلامهم».

لكن السلطاني يسكت عن مسألة وردت في ترجمة عوض الخاصة بمفتتح القصيدة ذاته، إنها تخص استخدامه الاسم اللاتيني لنيسان وهو «أبريل». وهذا الصمت يعيدنا إلى فرضية ذاكرة الترجمة الأصلح وما تحدث عنه «الشمعة» فيما يخص فعل الانتخاب؛ إذ إن الأرجح لدينا أن السلطاني قد وجد أن الترجمات العربية قد استقرت على استخدام الاسم العربي لشهر «أبريل» وهو «نيسان»، فتابع المستقر بعدم إثارة إشكالية استخدام الأسماء اللاتينية في دراسته المقارنة. وفي مثال آخر يدقِّق السلطاني في موقع الصفة بالنسبة للموصوف في سياق ترجمة «فريد» و«عوض» و«صايغ» لقول إليوت «ثلوج النسيان.. وثلج النسيان». وهذه الترجمة تعرِّف «الثلج» بإضافته إلى «النسيان»، فتقلب المعنى قلبًا تامًّا؛ لأن المقصود هو وصف الثلج بصفة النسيان أو أنه كثير النسيان، فهو «الثلج النسّاء»، أو «بثلجه الكثير النسيان». ونجد السلطاني يستعيد الترجمة الصحيحة من الدكتور عبدالواحد لؤلؤة ويوسف اليوسف.

وفي مثال أخير؛ إذ لا مجال لعرض مواضع تصويب الأخطاء الكثيرة في الترجمات السابقة، يقف السلطاني عند خطأ ثقافي في الترجمة، إذ يعمد المترجمون الثلاثة لإقحام ثقافتهم الإسلامية في ترجمة نص ينتمي إلى ثقافة وسياق حضاري مختلف كليًّا عن ثقافتهم، فلم تعرف تلك الثقافة «الأوثان» أو «الأصنام». ومع ذلك نجد الدكتور لؤلؤة يترجم قول إليوت إلى «كومة من مكسر الأصنام»، وعوض إلى «مهشم الأوثان»، واليوسف إلى «كومة من الأوثان المهشمة». والترجمة الصحيحة عنده قوله: «كومة صور مهشمة». هذه التصويبات تسهم كثيرًا في التأسيس لترجمة عربية حقيقية لقصيدة الأرض اليباب. وهي ذات فوائد جمة في إعادة فتح المعاني وتداولها ووضعنا، من ثمّ، في جوهر شعرية النص الإليوتي.

التناص وكشوفاته المبهرة

يستكمل فصل تناص الأرض اليباب مع التراث العالمي ما بدأته الدراسة المقارنة، سوى أن هذا الفصل هو ترجمة ممتازة أنجزها الشاعر السلطاني لفصل من كتاب «قصائد تي. إس. إليوت» لمؤلفيه كريستوفر ريكس، وجيم ماكيو، وألحقها بكتابه عن قصيدة الأرض اليباب. وفي الحقيقة، إن تناص الأرض اليباب مع التراث الإنساني العالمي حظي بعناية خاصة من جانب الأستاذ السلطاني؛ وتبدأ هذه العناية من عنوان كتاب السلطاني نفسه «الأرض اليباب وتناصها مع التراث الإنساني»، وهو العنوان الأول والرئيس للكتاب، وفي عنوان ثانوي، أسفل غلاف الكتاب، ثمة خبر عن ترجمة السلطاني الجديدة مع الدراسة المقارنة للترجمات الست. هذا التقديم والتبريز لقضية التناص تظهر فائدته وكشوفاته الباهرة على مستويات متعدِّدة في كتاب السلطاني، بدءًا من الدراسة المقارنة، إلى الترجمة ذاتها.

ولا مبالغة مطلقًا؛ إذ إن التناص الذي أشار إليه الدكتور لؤلؤة في أماكن مختلفة من كتابه إشارات عامة، هو مفتاح فهم هذه القصيدة، ومن ثمَّ، ترجمتها. فهو يضع القارئ والناقد والمترجم أمام الأصول الشعرية أو النثرية التي أخذ منها إليوت. إنه بصيغة عامة خارطة يستخدمها الصاعدون إلى متاهة البرج الذي تمثِّله قصيدة الأرض اليباب. نتحدث هنا عن الكشوفات الكبرى التي يتيح إياها التناص لنا لنفهم ونستوعب، كما يعبر الدكتور لؤلؤة، هذه القصيدة. في البدء، كان إليوت، كما ينقل لنا الأستاذ السلطاني، لا يتردد عن المجاهرة بأنه السارق الأمهر، وهو نفسه كما يشدِّد السلطاني «بأن الشاعر الجيد هو من يعرف كيف يسرق، أما الشاعر الرديء فهو الذي يُقلد». ولا تعني «السرقة» سوى «استيعاب التراث الإنساني» وتحويله إلى تراث خاص بالشاعر. وفي هذه النقطة تكمن حقيقة قولنا: إن التناص هو مفتاح فهم واستيعاب قصيدة الأرض اليباب وشعر إليوت كله؛ فلا يعني التراث عند إليوت سوى التراث الأوربي وأصوله الممتدَّة إلى التراث الكاثوليكي القروسطي، فلم يكن إليوت متعلقًا بالطقوس الوثنية؛ فكيف نترجم قصيدته بوحي من تراث وثقافة مختلفة؟ يمكننا أن نلحظ ونكتشف الثراء المبهر، ونتعرف إلى الكشوفات المذهلة التي يقدمها التناص في الفصل الذي ترجمه السلطاني وألحقه بكتابه. هو ببساطة خارطة كاملة وضعها خبيران في متاهة البرج.

في النهاية، إن كتاب الأستاذ السلطاني إضافة مهمة وقيمة إلى التراث الإليوتي في النقد العربي؛ فهو ترجمة أصيلة ومختلفة، وهو خارطة طريق جديدة تعيدنا إلى الخرائط الأصلية الخاصة بقصيدة الأرض اليباب أيضًا. وعلى المستوى الشخصي فقد دفعتني ترجمة السلطاني وكشوفات كتابه المميزة والمختلفة لمراجعة ما تيسر من ترجمات عربية لقصيدة الأرض اليباب. وبعد شهر من المراجعة يمكنني القول: إنني، للمرة الأولى، أفهم وأستوعب الأرض اليباب، بل إن كتاب الشاعر والمترجم فاضل السلطاني قد أعادني إلى أسئلتي الأولى عن حقيقة تأثر السياب بقصيدة الأرض اليباب. يكفي أن أقول لنفسي، في الأقل، بعد هذه المراجعة، بعد عقدين بالتمام والكمال: إنني كنت على صواب في مزاعمي السابقة.