صدوق نور الدين يعاين التداخل بين الذاتي والواقعي  في ثلاثية صنع الله إبراهيم الروائية

صدوق نور الدين يعاين التداخل بين الذاتي والواقعي في ثلاثية صنع الله إبراهيم الروائية

حَظِيتْ أعمال الروائي المصري صنع الله إبراهيم باهتمام نقدي واسع من كبار النقاد والمنظرين في الوطن العربي على مدار عقود متواصلة، بداية من دراسة محمود أمين العالم المعنونة باسم «ثلاثية الرفض والهزيمة» عام 1985م، التي تناول فيها بالتحليل روايات «تلك الرائحة» و«نجمة أغسطس» و«اللجنة». وتوالت بعدها القراءات على مستوى الوطن العربي، منها ما قام به الناقد السوري بطرس الحلاق، والدكتور جابر عصفور، والمغربي محمد برادة، والفلسطيني فيصل دراج. وتزخر مكتبات الجامعات المصرية والعربية بالرسائل العلمية والأبحاث الأكاديمية التي تناولت منتج صنع الله الإبداعي كاشفة عن رؤى وزوايا وظواهر حفلت بها هذه الأعمال.

صنع الله إبراهيم

في هذا الصدد تأتي دراسة الناقد المغربي صدوق نور الدين «اكتمال الدائرة: دراسة في ثلاثية صنع الله إبراهيم 67، برلين 69، 1970» الصادرة عن «دار الثقافة الجديدة» بالقاهرة وتقع في نحو 120 صفحة من القطع المتوسط، وتحتوي على مقدمة ومدخل وثلاثة فصول. يختص كل فصل منها بتحليل واحدة من الروايات محط الدراسة، كاشفًا عن الظواهر التي يتميز بها أدب صنع الله إبراهيم ورؤيته للعالم التي تسكن منتجه الإبداعي وجعلت منه مجالًا خصبًا للدراسات النقدية التي قدمت حوله وما زالت.

ويتناول صدوق نور الدين روايات: «67»، «برلين69»، «1970»، بوصفها ثلاثية روائية تحمل كثيرًا من عناصر المشابهة وتغطي مساحة زمنية متقاربة، تتشارك في أنها روايات تخيل ذاتي. فالذات هي العامل المشترك الرئيس في الأعمال الثلاثة، وتحيل عناصرها إلى حياة المؤلف وطفولته، وراهن في سردها على ضمير المتكلم، وابتكر فيها صيغًا يتماهى داخلها صنع الله إبراهيم المؤلف والروائي والشخصية، وأن كل نص في الثلاثية يتمم سابقه، وأنه حرص على إبراز الالتزام السياسي لبطلها، والاعتماد في بنائها اللغوي والفني على الجملة القصيرة، والروائي فيهن مرتحل ينتقل من مكان إلى آخر ويرصد تفاصيل رحلة منفاه من بدايتها إلى نهايتها، لكون الشخصية تمتهن الصحافة.

لم يشر صنع الله إبراهيم إلى كون هذه الأعمال ثلاثية، وبخاصة أنها كُتِبتْ في مدة زمنية قديمة بيد أنها نشرت مؤخرًا. فرواية «67» كتبها في بيروت عام 1968م، ونشرت عام 2015م، بعد 45 عامًا من تأليفها، ورواية «برلين 69» كتبها في عام 1969م، في رحلة سفره إلى ألمانيا، ونشرت في 2014م، ورواية «1970» نشرها في 2019م؛ أي أن الأعمال الثلاثة نشرت بعد عقود من تاريخ تأليفها الحقيقي. فهي ليست كثلاثية نجيب محفوظ على سبيل المثال أو غيرها من الثلاثيات الأدبية المعروفة التي نشرت متتابعة بوصفها ثلاثيات، بل إن نجيب محفوظ حين قدم ثلاثيته إلى النشر قدمها كرواية واحدة فارتأى الناشر لكبر حجها تقسيمها إلى أجزاء ثلاثة. وربما تعود فكرة اهتمام المؤلفين والنقاد بالتقسيم الثلاثي للأعمال إلى العصر اليوناني القديم الذي كان يعالج فيه المؤلف المسرحي موضوعًا واحدًا بثلاث رؤى مختلفة عبر ثلاثية تراجيدية تقدم في يوم ثم يختمها برابعة تكون عبارة عن ملهاة ومن ذلك «الأوريستيا» التي كتبها إيسخيلوس وتضم مسرحيات «أجاممنون، وحاملات القرابين، والمحسنات»، وختمها بملهاة «بروتيوس».

شهادة روائية

ويتطرق نور الدين في مدخل دراسته إلى تحليل الشهادة الأدبية التي ألقاها صنع الله إبراهيم في ملتقى «فاس للرواية العربية الجديدة» والمعنونة بـ«تجربتي الروائية» من حيث كون هذه الشهادة مدخلًا رئيسًا وأساسًا لفهم عالم صنع إبراهيم الروائي رافضًا -صدوق- بذلك النظريات النقدية التي تفصل بين المبدع وإنتاجه والقائلة بموت المؤلف والتي تصب تركيزها على النص فقط دون سواه. وتكشف شهادة صنع الله إلى أي مدى كانت رؤيته للعملية الإبداعية متسقة مع السياق الثقافي الذي كان منتشرًا لدى اليسار المصري في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم، ويحيل إلى القضايا التي شغلت كثيرًا من النقاد والمبدعين في هذه الحقبة وما بعدها. منها مسألة البحث في الخصوصية الأدبية للنصوص، وقضية الشكل والمضمون، وكلها جاءت تأثرًا بالمدارس النقدية الغربية التي بدأت بالشكلانية الروسية وما تلاها من مدارس نقدية مثل النقد الماركسي التي طرحت هذه التساؤلات وحاولت الإجابة عنها بطرق مختلفة.

يثير صنع الله إبراهيم في شهادته مسألة شكل الكتابة بوصفها اختيارًا هدفه إنتاج المعنى، وهو بذلك قريب في تصوره إلى ما جاءت به المدرسة الشكلانية الروسية التي فهمت الأدب بوصفه استخدامًا خاصًّا للغة. واهتموا بالبراعة التقنية للكاتب ومهارته الحرفية متجنبين البلاغة الثورية للفنانين والشعراء. يحاول صدوق الإجابة عن السؤال الذي تطرحه كتابات صنع إبراهيم حول نوعها الأدبي الذي تنتمي إليه: هل هي روايات أم تدوين لسيرته الشخصية؟ ويخلص إلى نتيجة مفادها أن صنع الله لم يكتب سيرة ذاتية وإنما رواية تصريف الذاتي في علاقته بتحولات الواقع، إذ لو أراد صنع الله كتابة سيرته الذاتية الخالصة لما تردد في إنجاز ذلك وإنما هي وضعية الروائي الذي آثر توزيع تفاصيل حياته على امتداد أكثر من نص روائي مؤثرًا إملاء سيرته على طرف ما دون كتابتها مباشرة. أي أن السيرة الذاتية لصنع الله إبراهيم موزعة على امتداد رواياته. ويستشهد صدوق على هذه النتيجة التي خرج بها إلى ما قاله فيصل دراج في كتابه «نظرية الرواية والرواية العربية» بأن «صنع الله لم يعط روايات بل عمل على إعطاء مشروع روائي؛ إذ إن كل رواية تحيل على رواية أخرى… كما لو كان يكتب رواية واحدة مستمرة تتجدد بتجدد الوقائع اليومية التي تكتبها».

ويخلص صدوق إلى مجموعة من الخصائص التي تميزت بها روايات صنع الله إبراهيم من خلال دراسته للثلاثية. منها أن صنع الله لا ينزع إلى الصيغ المباشرة في القول وإنما يحرص على الإيحاء الذي يترك فراغات تتيح للمتلقي أن يكمل المعنى المقصود مع المؤلف. كما أن خطابه الروائي في عمقه ليس جماليًّا وحسب وإنما توثيق سياسي لمرحلة من مراحل الحياة السياسية العربية التي جسدتها مصر وعبر عنها في رواية «1970». واحتضنت أعماله الروائية أجناسًا أدبية مختلفة وظفها لخدمة نصه الذاتي كاليوميات والرسائل والمذكرات. مشيرًا إلى أن التعبير عن الذات في أعمال صنع الله جزء لا ينفصل عن التطرق لقضايا المجتمع والتفاعل معه، وأن الثلاثية تعطي صورة عن الروائي المثقف الملتزم الذي حافظ وظل يحافظ على النهج الأدبي الذي سطره لنفسه.

«البحث عن عازار».. رواية الأعراق المتنوعة

«البحث عن عازار».. رواية الأعراق المتنوعة

نزار آغري

تكشف رواية الكاتب السوري نزار آغري «البحث عن عازار» (الكتب خان – القاهرة) ما تتمتع به بلاد الشام من تعددية عرقية ودينية ولغوية وحضارية ينعدم وجود نظير يماثلها في العالم، وبدلًا من أن تكون واحة للتناغم والتعايش تحولت تلك الميزة إلى عبء ومسوغ لارتكاب المجازر كلما سنحت الفرصة وامتلكت أي من هذه الجماعات القوة في حقبة ما، إذ سرعان ما تعمل على إخضاع الجماعات الأخرى وأحيانًا ارتكاب المجازر البشعة بحقهم، وفي حقب معينة قد تتعرض جميع هذه العرقيات إلى اضطهاد من قوى خارجية مثلما حدث من الأتراك من مجازر بحق الأرمن وغيرهم من الأجناس. وهذا الاضطهاد الذي يمارس من الغريب يمارسه أبناء البلد الواحد بعضهم على بعضهم الآخر، حتى إن كانوا ينتمون إلى الجنس العرقي نفسه مثل حال بطل الرواية «عيد»، فهو كردي ويتعرض بسبب عرقيته إلى مضايقات من العرقيات المغايرة، إضافة إلى أنه يتعرض للإيذاء من الأكراد أنفسهم.

رواية «البحث عن عازار» تتكون من ثلاثة أجزاء في 444 صفحة، كل قسم من أقسامها يعبر عن مرحلة من مراحل الصداقة والحب الصوفي بين المراهقين عيد الكردي الإيزيدي، وعازار اليهودي، وهما في عمر 14 عامًا، القسم الأول يبدأ فيه السارد باجترار الماضي بعد مقدمة صغيرة من الحاضر تعبر فيها البنت لأبيها عن عجزها عن الوصول عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى صديق والدها الذي يبحث عنه، عازار ناحوم عزار.

ومن هذه النقطة تنطلق الرواية مستعيدة الماضي، كيف تعرف عيد على عازار في المدرسة ونشأت بينهما علاقة صداقة ومحبة قوية، وأصبح فيها عيد فردًا من أفراد أسرة صاحبه، فعازار وأسرته يقيمون في القامشلي، في حين أن عيد طالب مغترب من إحدى قرى مدينة عامودا يدرس في مدارس القامشلي، ومن خلال هذه الآلية يستطيع أن يقدم نزار آغري وصفًا مكانيًّا مميزًا للمدينة السورية القامشلي التي تقع في شمال شرق سوريا على الحدود مع تركيا، تتبع إداريًّا محافظة الحسكة. حيث يطوف الصديقان كل أحياء المدينة، ويصف ما كان عليه في النصف الثاني من القرن العشرين حي البشيرية، حي السريان، حي العنترية، حي الكرنيش، حي الغربي… إلخ، وبعودة عيد إلى قريته عامودا وهي من مدن محافظة الحسكة في أقصى شمال شرق سوريا على الحدود السورية-التركية يصف السارد شكل القرى وعاداتها وتقاليدها في هذه الحقبة أيضًا. ولا يتوقف الوصف المكاني عند هاتين المدينتين، فهو ينتقل إلى حلب وبيروت اللبنانية راسمًا صورة مكانية تجعل القارئ يشعر بأجواء المناطق التي يصفها.

ألم الفراق

في القسم الثاني من الرواية الذي يبدأ من الصفحة 259، يتحدث عن ألم الفراق، حيث يفاجأ عيد بعد عودته من قريته إلى القامشلي مع بداية العام الدراسي الجديد برحيل عازار وأسرته من المدينة بشكل مفاجئ من دون أن يعرف طريقًا للوصول إليهم، وهو ما يدخله في حالة نفسية سيئة، ويقع تحت وطأة المرض غير قادر على تجاوز الرحيل غير المفسر، يترك القامشلي التي تذكره كل أحيائها بصديقه، ويبدأ في كتابة رسائل إلى عازار يبث فيها إليه أشواقه، هذه الرسائل يحتفظ بها لنفسه لأنه لا يعرف مكانًا لعازار، تمضي السنون ويدخل عيد كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية، وينخرط مع الجماعات السياسية الماركسية مما يعرضه إلى بعض المضايقات الأمنية، فيهرب إلى لبنان عبر الحدود، ثم يشارك في الجبهة الشعبية، ليفر بعد ذلك إلى النرويج ويعمل مترجمًا وتستقر حياته فيها.

أما القسم الثالث من الرواية فلا يتجاوز عدد صفحاتها الثماني من ص437: 444، وهو يمثل النهاية السعيدة، فبعد 40 عامًا يلتقي الصديقان عبر تمكن ابنة السارد من التواصل مع ابن عازار عبر وسيلة من وسائل التواصل الاجتماعي، عدالة شاعرية كما يطلق عليها نقديًّا: «ها نحن يا عازار نلتقي من جديد بعد أربعين سنة من الفراق، تغيرت الدنيا حولنا، تغير الناس، تغيرت حكومات ودول وبلدان، تغيرت القامشلي.. أنت الفتى اليهودي الهادئ الجميل، وأنا صديقك الإيزيدي الذي ما زال يحبك مثلما أحبك في اللحظة الأولى من لقائنا».

تتعدد الهويات داخل رواية نزار آغري، وهو أمر رصدته كثير من روايات الكتاب السوريين، ويصف السارد مدينة قامشلي بقوله: «فيها عدد لا يحصى من اللغات واللهجات والأديان والطوائف والمذاهب، لم أكن أعرف أن القامشلي هي المدينة التي بناها المسيحيون حين طاردهم الأتراك وارتكبوا المجازر. جاء السريان والآشوريون والكلدان والأرمن وأصلحوا الأرض، وسووا التراب، وأقاموا بيوتهم واستقروا» ص31. هذه التعددية يجدها البطل عيد وهو يقسم طلاب فصله وفقًا لهوياتهم العرقية؛ أغلب الطلاب سريان، واثنان عرب، وثلاثة أكراد، وواحد آشوري، وثلاثة أرمن. وتعدد الهويات يتبعه تعدد في اللغات، ففي القطار المتجه إلى حلب تسمع لهجات شتى: «كنا نتفرج على الركاب الجالسين في مقاعدهم، سحنات وأشكال وملابس مختلفة، يتكلمون بلغات مختلفة، لغات المنطقة: السريانية، والكردية، والعربية، والأرمينية، والآشورية، والكلدانية، لم يكن أحد يتكلم العبرية» ص192. وفي أسواق القامشلي تسمع لغات ولهجات متنوعة. وهذا التعدد يتبعه وجود مقاطع متنوعة من هذه اللغات. إضافة إلى أغانٍ بالإنجليزية والفرنسية؛ فالمؤلف يجيد أكثر من ست لغات هي الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والتركية والفارسية والنرويجية والكردية. لذا كان لهذه اللغات حضور في النص.

رواية منولوجية

الرواية تنتمي إلى الأدب الواقعي، وهي رواية منولوجية لا تعدد للأصوات داخلها، وتحمل أيديولوجيا الراوي، وتبرر بصورة غير مباشرة ما يحدث في فلسطين عبر التركيز على المجازر التي ارتكبت في حق اليهود، وفي المقابل تجاهل المجازر التي ارتكبت من المنتمين إلى الكيان الإسرائيلي بحق الفلسطينيين العزل، فالراوي يتعمد عدم ذكر كثير من التفصيلات التي ترسم المشهد كاملًا في علاقة العرب باليهود، وإنما صور مشهد واحد فقط من الحكاية.

يقوم صلب الرواية كما ذكرنا سابقًا على علاقة حب أسطورية نشأت بين المراهقين عيد وعازار، ولم يستطع الزمن أن يمحيها، علاقة حب ذات طابع صوفي إن صح التعبير، يشبهها في إحدى المرات بعلاقة شمس الدين التبريزي بجلال الدين الرومي. تحضر في الرواية القوة الناعمة لمصر ومدى انتشارها في النصف الثاني من القرن المنصرم، حيث الكتب المصرية التي ينتظر البطل قدومها، محبته لطريقة كتابة المنفلوطي الرومانسية التي يقدم لبعضها قراءة نقدية، وأحمد شوقي بشعره، ويحضر طه حسين والعقاد ونجيب محفوظ، وتحضر الأفلام المصرية وأبطالها مثل سعاد حسني وحسين فهمي، وتحضر مصر بأغانيها ومغنيها، ويظهر عشق السارد لكوكب الشرق أم كلثوم، يظهر عبدالحليم حافظ، بل يقدم قراءات نقدية لأغانيه مثلما فعل ما أغنية «زي الهوى».

رواية «البحث عن عازار» عمل ينعش الذاكرة من خلال ذكريات الماضي والطفولة، يعبر عما تتمتع به بلادنا العربية من تعددية يجب أن تكون مصدرًا لقوتها، وتفوقها، والتباهي، لا الاختلاف والتناحر والقتال، عمل مفعم بالغنائية والسرد المتقن، وإعادة إحياء تفصيلات المدن عبر الكتابة.