مؤلف «مديح القارئ السيئ» مكسيم دوكو: القراءة السيئة ليست أسهل من الجيدة، والفيلسوف مونتين أعظم القراء السيئين

مؤلف «مديح القارئ السيئ» مكسيم دوكو: القراءة السيئة ليست أسهل من الجيدة، والفيلسوف مونتين أعظم القراء السيئين

لعل كل من يستخدم لوحًا إلكترونيًّا أو قارئة إلكترونية قد رأى التنبيه الغريب الذي يقترح عليه حساب «رصيده» من القراءة وتحسينه. ولعله أيضًا سخر من الفكرة السخيفة. ومع ذلك فها نحن نشهد صدور مؤلف في «مديح القارئ السيئ»، عن دار مرموقة كمنشورات مينوي، مطلع هذا العام 2021م. هل يمكن تقويم جودة قراءاتنا؟ كان السؤال جديرًا بأن يطرح على مؤلف الكتاب، ماكسيم دوكو، وهو قارئ كبير لجوزيف بيريك ورومان غاري، ومتخصص في سوء النية وفي المكر؛ لذلك كان معه الحوار الآتي.

كتبك الصادرة من دار مينوي تتناول مفاهيم يتأسس كل منها على مفارقة معينة، بمعنى أنها قد تبدو قدحية في الظاهر، لكنك تبين كيف أنها، على العكس من ذلك، تشكل محركات للإبداع وإنتاج المعنى: سوء النية (2015م)، التقليد (2017م)، المكر (2018م)، القارئ السيئ (2021م). هل تعتقد أن الكتب يجب أن تُبنى على التناقض والسير عكس المتوقع؟ هل هذه طريقة لانتزاعنا من أفكارنا الروتينية من طريق أشكال من «الاستفزازات»، وهو المصطلح الذي استخدمته في مستهل كتابك «بكل سوء نية»؟

لا أعتقد أن قوة فكر معين تقاس بالضرورة بمدى ذهابه عكس القواعد والتوقعات. تقدم العديد من الكتب إضاءات غير مسبوقة من دون أن تستكشف المفارقات؛ فهذه الأخيرة ليست غاية في حد ذاتها، بل تنبع في الواقع من الموضوعات التي نلزم أنفسنا بتحليلها والتفكير بها، وإذا ركزنا اهتمامنا على سوء النية أو التقليد أو المكر أو القراءة السيئة، سوف نلحظ لا محالة أن هناك عمومًا إجماعًا على تبخيس هذه المفاهيم على الرغم من أن الأدب ينظر إليها بطريقة أكثر ازدواجية بكثير ويمنحها مكانة متميزة. هذا التناقض بين الرؤيتين بالضبط ما يهمني. والتناقض نفسه ينبئ بشيء ما عن الأعمال التي نقرؤها وعنا أيضًا، ومن ثم يجبرنا على التخلص من الأفكار الجاهزة، وعلى مراجعة ما لدينا من يقينيات.

لم أكن الوحيد الذي يقرأ بالطريقة الخطأ

كان أول كتبك الصادرة من دار مينوي «بكل سوء نية.. مفارقة أدبية» (2015م)، «لقارئ سيئ النية لكنه متسلح بقوة الإرادة». إنه على وجه التحديد القارئ الذي تركز عليه في كتابك الأخير، وهو قارئ سيئ تقوم أنت بمدحه. ما التجارب التي نشأ عنها الكتاب؟ عن تجربة الباحث المعتاد على التصدي لتأويلات خاطئة قد لا تخلو من لذة في بعض الأحيان؟ أم من ممارستك للنقد، أم من سلوكك شخصيًّا كقارئ سيئ؟

من الواضح أن جذور قارئي السيئ توجد في «بكل سوء نية» كما توجد أيضًا في «قوى المكر» وهما الكتابان اللذان قاداني إلى اكتشاف قراءات فاشلة أو محاصَرة، على الرغم من أنها غالبًا ما تمتاز بالهوس واليقظة. لكن اهتمامي بالانحرافات القرائية يأتي أيضًا مما هو أبعد من ذلك، فلأنني لم أنخرط في الدراسة الأكاديمية الأدبية إلا في وقت متأخر فقط، فقد كنت لمدة طويلة قارئًا متعطشًا، لكن هاويًا بشكل كلي، أقرأ في الاتجاهات جميعها وألتهم الكتب دونما دليل أسترشد به في تفسيراتها. حدث في أكثر من مرة أنني لم أفهم شيئًا من بعض النصوص، لعدم يقظتي أو لافتقاري للتمييز، لكن ذلك لم ينقص من شغفي بها، بل على العكس، ثمة متعة لا نجدها إلا في القراءات الخارجة عن المألوف، من هنا جاء ولعي بالنصوص التي يستعصي فهمها؛ جيمس جويس، وليام فولكنر، آلان روب غرييه، كلود سيمون، أو النصوص التي تخدعك ولا تحس بذلك؛ فلاديمير نابوكوف، هنري جيمس، لوي رينيه دي فوري، جورج بيريك. وبدا لي أنني لم أكن الوحيد الذي يقرأ بالطريقة الخطأ، على الأقل هذا ما أتمناه، وأن الظاهرة لم تكن غير ذات أهمية.

قد نخيب آمال القراء المستقبليين لكتابك، لكن ليس من السهل على المرء أن يصبح قارئًا سيئًا. القارئ السيئ ليس شخصًا لا يقرأ، قد ينطوي الأمر على شيء من البداهة، لكن لكي تقرأ بشكل سيئ، يجب عليك أولًا ممارسة القراءة، القارئ السيئ هو ذاك الذي يرفض المسارات التي ميزها المؤلف التي بُنيت داخل الكتاب ومن طرفه، إنه يطمح لأن يكون مبدعًا وحرًّا وصوتًا معارضًا، لدرجة أنك كتبت بأن «القراءة السيئة ليست (…) أسهل من القراءة الجيدة»، وأنه يجب التمييز بين القراءة السيئة والقراءة الفاشلة. ما الذي يجعل من الصعب جدًّا على المرء أن يصبح قارئًا سيئًا؟

كتابي دليل لتعلم كيفية القراءة السيئة، حينما نكون أمام عمل أدبي، فجميعنا تقريبًا يتساءل عما إذا كان قد قرأه بشكل صحيح، بل يتساءل عن كيفية قراءته بشكل جيد، قلة من الناس يتساءلون عن كيفية قراءة العمل بشكل سيئ، وهذا ليس بالأمر السهل خلافًا للاعتقاد السائد؛ لماذا؟ أولًا: لأنه عندما نكون دُرّبنا على القراءة بشكل صحيح، من الصعب جدًّا علينا أن نقرأ بشكل مختلف، وأن نسمح بظهور سلوكيات غير نمطية قادرة على استقبال تحيزاتنا ورغباتنا وتوهماتنا، وليس من السهل أن نتعارض مع ما يتطلبه النص لأن هذا السلوك يُنظر إليه على أنه مستهجن أو مخزٍ أو لا بد من كبحه، وينبغي أن يضاف بعد كل هذا وذاك أن القراءات السيئة ليست كلها متساوية.

هذا ما فهمه الأدب الذي اخترع طرقًا للقراءة السيئة مذهلة، خادعة، مرحة ولذيذة، وصاغها في قوالب متعددة. لقد أظهر لنا حس العبقرية والمكر والجرأة التي تتطلبها ممارسة قراءة سيئة مستنيرة بالفعل، ويمكن أن نستنتج من هذا أن الأعمال الأدبية أحاطت بشيء أساسي: القراءة السيئة؛ لأنها تعفي نفسها من الالتزام بقواعد الفعل القرائي الجيد وتتحرر من تابوهات القارئ، فهي عملية خلاقة، كما أنها قادرة على تجديد تفسيراتنا تجديدًا عميقًا وإثراء الأعمال الأدبية بشكل مختلف تمامًا. لكن لكي يتحقق ذلك، وهذا هو الرهان الذي يصبو إليه الكتاب، من الضروري أن نبين عن موهبة في قراءتنا السيئة، ولهذا أيضًا يبدو لي أن التربية على القراءة السيئة تمثل على الأقل ضرورة، إن لم تكن مشروعًا للخلاص العام.

طرائق القراءة السيئة أصبحت أكثر تنوعًا

يمثل كتاب «مديح القارئ السيئ» تأريخًا أدبيًّا يبتدئ مع القراء السيئين الذين سردت قصصهم في العديد من الروايات، وأنت تبين مدى فائدة هذه المقاربة لفهم المكانة التي يحتلها الأدب وتعريفه والأهمية التي يحظى بها. هل هذا سبب إضافي من شأنه ألا يجعل «القارئ السيئ» مفارقة أو وسيلة للاستفزاز فحسب، لكن مفهومًا فاعلًا ومقاربة نقدية؟

بالتأكيد. إن أي تعلم حقيقي للقراءة السيئة لا يمكن أن يتجاهل تطور التصورات التي بنيت حولها على مر القرون؛ لماذا؟ لأن التطور يكشف عن علاقتنا بالقراءة، لكن أيضًا على علاقة الأدب بها. قبل القرن العشرين، كان القارئ السيئ هو الذي يقرأ ويتماهى مع ما يقرأ، مثل دون كيشوت وإيما بوفاري، لكن بعد ذلك أصبحت طرائق القراءة السيئة أكثر تنوعًا كما أصبحت أكثر مركزية في المؤلفات، فلم يعد القارئ السيئ مجرد نشاز مشوه أو استثناء لا يجب تقليده، إنما أصبح شخصية رائعة تؤخذ على محمل الجد، وتمنح فرصة للتعبير عن نفسها. فالأدب، عبر كتابات جيمس، نابوكوف، بورخيس، بيريك، بولانيو، تانغي فييل، إيريك شوفييار وبيير سانج، أصبح يكتب القراءة السيئة. إنه يجعلنا نتشارك القراءات الزائغة، الحاقدة، المعوجة والعاشقة.

مكسيم دوكو

تساءلتُ عن اختيار «القارئ السيئ» كعنوان، هل هو لفظ شامل، شكل من أشكال المفهوم الذي يجب من هذا المنطلق ألّا يؤنث؟ أم أن الاختيار كان وسيلة تتصدى عبرها لفكرة نمطية حول القراءة السيئة التي لطالما ارتبطت بالنساء اللاتي تفسدهن قراءة الروايات؟

هو في الواقع لفظ عام يغطي مجموعة واسعة من الوجوه؛ لأنه لا يوجد قارئ سيئ ولكن قراء سيئون. من جهة أخرى، أنت لست مخطئًا في الإشارة إلى أن القراءة السيئة ظلت لزمن طويل لصيقة بالنساء. لماذا؟ لأنهن كنّ يُعْدَدْنَ سجينات عواطفهن، ويجسدن مثالًا نموذجيًّا للقارئ السيئ المتماهي؛ لذلك فقد جرى السعي إلى تأطير قراءاتهن، من حيث إنه إذا صح أن النساء المتعلمات خطيرات، فالنساء الضائعات أخطر.

لا نجد في مستهل كتابك أي إهداء، على الرغم من أنه يزخر بالعديد من «القراء السيئين» من عظماء الكتاب؛ روسو قارئًا سيئًا لمسرحية موليير «كاره البشر»، وبلزاك قارئًا سيئًا لرواية فلوبير «صومعة بارما» على سبيل المثال. إذا طلب منك أن تهدي مديحك لأعظم عظماء القراء السيئين، من سيكون؟

السؤال الذي تطرحه صعب جدًّا؛ لأن الاختيارات أكثر من أن تحصى؛ القراء السيئون كُثر، وكل واحد منهم يمارس قراءة سيئة على نمطه الخاص. القارئ السيئ في معظم الأحيان فرد يعلن عن حريته كفاعل وعن تفرده حتى في فعل القراءة، من خلال رفضه الخضوع للنص، وفي هذه الظروف، لا أعرف ما إذا كان القارئ السيئ سيقبل، وهو المحب للاستقلال والمقاوم للتموضع، بأن نفرض عليه عظيم العظماء، عوضًا قد نتمكن من أن نعثر على سلف له، وأنا لا أجد بين القراء السيئين من يملك الجرأة والإبداعية والتحرر والموهبة المبكرة ما يملكه كاتب مثل الفيلسوف مونتين.

يفتح «مديح القارئ السيئ» سلسلة كتب جديدة

أنت تبين أن العديد من الكتاب؛ مثل بروست أو سارتر، قد تبنوا أشكالًا من القراءة التي يمكن وصفها بأنها «سيئة»؛ لأنهم غاصوا في التماهي والإسقاط الذاتي من دون أن يتخذوا مسافة لنقد ممارستهم القرائية. وتبين أيضًا كيف حاول رولان بارت استعادة ذلك الشكل القرائي، تلك الرغبة والحماسة، في كتابه «شذرات من خطاب عاشق». يتعلق الأمر هنا بـ«إعادة تشكيل بارت لنفسه» كقارئ سيئ. وسؤالي سيكون مزدوجًا: هل هناك كُتُب لا تزال تثير فيك هذا النوع من القراءة؟ وما الذي نستفيده جميعًا، بوصفنا قراء كبارًا، ونقادًا، وأساتذة أدب، من استعادة هذا النوع من القراءة؟

متعة القراءة الأولى التي تكون مندفعة، متماهية وغير عقلانية إلى حد ما أجدها شخصيًّا لدى دوستويفسكي، ميلان كونديرا، فيليب روث، خافيير مارياس. لكن هذه التجارب لا تتطابق تمامًا مع ما كان عليه هذا النوع من القراءة في طفولتنا وشبابنا حيث كان تفكيرنا فيما نقرؤه أقل بكثير مما عليه اليوم. وهذه القراءة هي التي يسعى كل من بروست، وسارتر، وبارت جاهدين إلى استعادتها.

ما الفائدة من العودة إلى حالة القارئ الساذج، الطفولي، وربما السيئ أيضًا، عندما نكون مشتغلين بتدريس الأدب؟ حسنًا، الفائدة المرتجاة أن ننطلق من مشاعر القراء الذين نخاطبهم ونأخذها في الحسبان من أجل أن نبني عليها تفسيرات أكثر تركيبًا. ثم لنشاركهم هذه العواطف، بل نساعد الآخرين على الشعور بها؛ لأن الأمر يغدو صعبًا في بعض الأحيان عندما يرسخ لدينا الاعتقاد بأن من الواجب علينا أولًا أن نقرأ جيدًا أو نقرأ أفضل، وأننا مطالبون بتأويل ما نقرؤه، يتعلق الأمر إذن بالعودة إلى القراءة الأولى لكي نفهم أنها تخصنا، وأن الأمر متروك لنا لنستفيد منها لكي نبني تفسيراتنا للنصوص.

يتضمن كتابك تعليقات سديدة وحادة على مجموعة كبيرة من الكتب؛ «53 يومًا» لجورج بيريك، و«خزانة فيلير» لبونوا بيترز، و«أوسنابروك» لهيلين سيكسوس، إضافة أيضًا إلى كتب لبيير سانج وتانغي فييل وإريك شوفييار. هل تتمنى أن يكون لهذه الكتب المزيد والمزيد من القراء السيئين؟

إنه أفضل شيء يمكن أن يحدث لها، فروايات من قبيل «سينما» لتانغي فييل، و«هدم نيزارد» لإيريك شوفييار، و«شظايا ليشتنبرغ» لبيير سانج؛ كلها قراءات مَرَضيّة تسعى من دون شك جاهدة لتنقل إلينا فيروس القراءة السيئة، وخير طريقة للاحتفاء بهذه الكتب قراءتها بشكل سيئ.

في اللوحة النقدية الواسعة التي ترسمها كتابًا تلو كتاب، لو شئنا استخدام معجم الرواية البوليسية، من سيكون «ضحيتك» التالية بعد الكاذب والمقلد والمحتال والقارئ السيئ؟

أحسُّ بأن جَعْبَةَ الأدب ما زالت مليئة بالمناورات والحيل التي لم أقم باستكشافها بعد، أنا لا أنوي أن أتوقف في وسط الطريق، لديَّ شعور بأن الحسابات مع القارئ لم تُصفّ بعد، ومن المحتمل أن يكون ضحيتي التالية أيضًا. ربما لم يأتِ «مديح القارئ السيئ» فقط ليغلق سلسلة افتتحت مع «بكل سوء نية» لكن ليفتح سلسلة جديدة.


المصدر : مجلة Diacritik الفرنسية.