فن الغرافيتي ذاكرة حروب لبنان

فن الغرافيتي ذاكرة حروب لبنان

كانت بيروت سباقة عربيًّا في اكتشاف فن الغرافيتي. والسبب الأول يرجع إلى طبيعة لبنان الجيوسياسية والتركيبة الفسيفسائية الدينية والإثنية التي ينعم بها. فهو بلد مركب من نحو ثماني عشرة طائفة، تتعايش وتتحاور وتختلف، وهذا التعدد الثقافي نجم عنه تعدد سياسي وفكري تجلى في صعود الأحزاب والجماعات على اختلاف هوياتها وأيديولوجياتها ومراجعها. كانت ملامح أولى من الغرافيتي السياسي بدأت تغزو جدران بيروت، كل بيروت، الغربية والشرقية إضافة إلى ضواحيها، في السبعينيات، ولم تكن تلك الرسوم والشعارات إلا تعبيرًا عن الغليان السياسي الذي كانت تشهده العاصمة ومعظم المناطق اللبنانية قبل سنوات من اندلاع الحرب الأهلية، وهو الغليان الذي سرعان ما استحال حربًا مفتوحة فرضت خطوط تماس ومتاريس راحت شيئًا فشيئًا تقسم بيروت والمناطق إلى بقع طائفية وحزبية. وكانت منظمة التحرير الفلسطينية قد دخلت ميدان الحرب الأهلية داعمة للحركة الوطنية وأحزابها اليسارية مثل البعث والشيوعيين والقوميين السوريين، إضافة إلى الأحزاب الإسلامية. وكان واضحًا انخراط القوى الفلسطينية في الحرب ضد اليمين الذي طغت عليه أحزاب مسيحية.

كان لا بد من هذا المدخل الذي يوضح طبيعة فن الغرافيتي الذي غزا جدران العاصمة والمدن عشية الحرب وغداة اندلاعها. فالجدران أصبحت إحدى واجهات الصراع السياسي والطائفي الذي عمّ لبنان، بل يمكن وصفها بـ«الشاشات» التي ظهرت عليها الشعارات والرسوم التي تعبر عن أفكار «المعسكرين» الشرقي والغربي، أو اليميني- المسيحي واليساري والإسلامي والفلسطيني، وكانت تنحرف في أحيان كثيرة لتمسي هجائية وساخرة و«شاتمة» ولا أخلاقية، تنم عن البغضاء أو الكراهية الكامنة في النفوس.

الحقد الأهلي

ولعل هذا «الحقد» الأهلي هو ما ميز الغرافيتي في لبنان وجعله مختلفًا عن الغرافيتي الذي عرفته بعض العواصم العربية التي شهدت ربيعها أو ثوراتها. فالرسوم والشعارات لم تكن تخضع لأي رقابة سياسية أو أيديولوجية أو أخلاقية خصوصًا في الجبهات، على خلاف الرسوم أو الشعارات الأخرى التي كانت تحملها الجدران البعيدة نسبيًّا من خطوط التماس أي في الساحات والأحياء التي كانت على مرأى الجميع من مواطنين وعائلات. والطريف في تاريخ الشعارات والرسوم أنها كانت في بعض المناطق القريب بعضها من بعض، تتبدل من غير أن تمحى بل كان المسلحون الذين يتولون رسم الشعارات يمحون شعارات «أعدائهم» الأهليين ثم يرسمون فوقها أو إلى جانبها شعاراتهم المناقضة. فالمعارك كانت تشهد حالات كر وفر دائمين، فإذا احتلت ميليشيا منطقة ملأت جدرانها بشعاراتها المنتصرة، ثم ما أن تتراجع إلى الوراء تحت ضغط الهجومات حتى يأتي مسلحو الميليشيا «العدوة» فيرسموا شعاراتهم.

وكم من جدران تحولت إلى مسوّدات أو لوحات مسودة يمكن من خلالها الاطلاع على حركة القتال، هجومًا وانسحابًا، وهنا تكمن خصائص الحرب الأهلية اللبنانية التي كانت تدور بين حي وحي أو حارة وحارة تبعًا للقرب الجغرافي الذي يجمع مناطق القتال المفصولة بخطوط تماسّ واهية أحيانًا.

ولئن بدت شعارات ورسوم مغالية في عدائها وهجائيتها إلى حد اللاأخلاقية خصوصًا تلك التي كان يتولاها مقاتلون على الجبهات، فإن رسومًا غرافيتية شهدت بعضًا من الرقي السياسي ولا سيما تلك التي حملت بعدًا سياسيًّا دعائيًّا أو أيديولوجيًا، وكانت ترسم في داخل المناطق البعيدة من الجبهات. وبدا أن بعض الرسامين على الرغم من عدم احترافهم كانوا يقلدون شعارات الثورة الطلابية التي اندلعت في باريس عام 1968م، فهؤلاء الحزبيون، سواء كانوا يساريين أم يمينيين، كانوا على اطلاع على الحركة الطلابية الفرنسية وشعاراتها ورسومها الغرافيتية الرائدة، وحاولوا تقليدها لمصلحة أحزابهم وعقائدهم. هكذا ارتفعت شعارات ورسوم ذات طابع دعائي أو مناقبي في المعنى الحزبي تركز على أفكار الحزب وتبرر خوض الحروب، وبدت مختلفة بين بيروت الشرقية وبيروت الغربية. في مناطق اليمين المسيحي كانت الرموز والأفكار المعبَّر عنها غرافيتيًّا تدعو إلى وحدة لبنان والمسيحيين ورفض «الاحتلال» الفلسطيني والسوري لاحقًا والدفاع عن الأرض والأرز والقومية اللبنانية… أما في المناطق الإسلامية والعروبية واليسارية فكانت الشعارات تدعو إلى نبذ التطرف اليميني الرجعي وإلى مواجهة العمالة والإمبريالية والتقسيم، وكانت بعض الشعارات تتهم اليمين بخدمة المصالح الإسرائيلية… هذه الشعارات التي ارتفعت في السنوات الست الأولى للحرب تمثل فعلًا خلاصات الأيديولوجيتين المتواجهتين والأهداف التي وضعتها الأحزاب والجماعات نصب أعينها من أجل تحقيقها، إلا أن النهايات لم تأت إلا بخيبة كبيرة لكل الأحزاب والطوائف والجهات. كانت كلفة الحرب كبيرة جدًّا، بل باهظة في الأرواح والخراب والمأساة ولم يتمكن فريق من الانتصار على فريق.

لكن السنوات التي تلت مرحلة الثمانينيات وحملت حروبًا أو معارك جديدة ولا سيما بعد دخول الجيش السوري ساحات القتال ضد اليمين المسيحي عقب انسحاب الفلسطينيين من لبنان الذي سببه الاجتياح الإسرائيلي الوحشي والمدمر للبنان، حملت شعارات ورسومًا مختلفة شكلًا ومضمونًا. حل هنا السوري في موقع العدو وراحت الرسوم تتناول حزب البعث والرئيس حافظ الأسد. وتوزعت رسمة غرافيتي شهيرة في المناطق الشرقية تحت عنوان: «أسد في لبنان، وفأر في الجولان». لكن الجنود السوريين كانت لهم أيضًا شعاراتهم ورسومهم التي تمدح البعث والرئيس «حافظ الأسد» وتهجو اليمين المسيحي والجيش الذي كان في عهدة الجنرال ميشيل عون، الذي كان أعلن «حرب التحرير» ضد الجيش السوري.

تأريخ خاص بالغرافيتي

ومثلما يمكن لرسوم الغرافيتي والشعارات أن تؤرخ للحرب أو الحروب اللبنانية المتعاقبة منذ عام 1975م، فمن الممكن كتابة تأريخ خاص بالغرافيتي والشعارات وهو تأريخ فريد من نوعه، تأريخ حي، بالوثائق والصور. فالغرافيتي يعد مرجعًا من المراجع الرئيسية لقراءة الحرب اللبنانية وأبعادها وخلفياتها، وهو مرجع يستحيل التشكيك فيه أو تكذيبه. وقد سعى بعض الصحافيين والمؤرخين إلى تأليف كتب في هذا الشأن لكنها لم تكن وافية؛ لأنها لم تستطع أن تكون شاملة، وأن ترافق كل مراحل الحرب والتحولات التي شهدتها مرحلة تلو مرحلة. ومعروف أن الحرب اللبنانية عرفت انقلابات عدة في المواقع: بعض أعداء الأمس أصبحوا أصدقاء اليوم، وبعض أصدقاء الماضي انقلبوا أعداء. وهذا ما عرفته عن كثب أحزاب عدة يمينية ويسارية، إضافة إلى حزب البعث السوري الذي قاتل أعداءه وحلفاءه على السواء. وقد يكون الكتاب الذي وضعته بالفرنسية الصحافية اللبنانية الفرانكوفونية ماريا شختورة وعنوانه: «حرب الغرافيتي- لبنان 1975- 1977م» هو من أهم المراجع في ميدان التأريخ الغرافيتيّ. وفي تقديمها للكتاب تبدي المؤلفة نوعًا من الاعتذار للقراء عما تسميه «اختلاط الشعارات السياسية بالبشاعات الأخلاقية»، وأوضحت أنها كانت أمينة في نقلها للرسوم والشعارات كما هي بفجاجتها وانحرافاتها عبر الكاميرا التي كانت أداتها الوحيدة، عطفًا على مشاهداتها التي كانت دليلها إلى بناء الكتاب حسب مراحل الحرب والمناطق التي كانت تخاطر في التنقل بينها مجتازة الحواجز وخطوط التماسّ. وتفتتح الكتاب بصورة شهيرة التقطها المصور المعروف جورج سمرجيان الذي ما لبث أن وقع شهيد مهنته في إحدى المعارك وهي تمثل مقاتلًا قُتِل للتوّ متدلِّيًا على جدار كُتب عليه: «لبيك يا لبنان».

تعبير يتجاوز كل الحدود

وفي روايتها لتاريخ الغرافيتي تقول ماريا شختورة لـ«الفيصل»: «إن الكتابات لم تظهر على الجدران إلا عندما بدأ القتال بين الفرقاء وكانت تبدو أنها وليدة تصميم مدروس. إن تفجير سلطة الدولة كان سببًا في سقوط كل الحواجز، وهو ما سمح للتعبير بأن يتجاوز كل القيود. فكنّا نقرأ، مثلًا، على جدران المنطقة الشرقية: «لن يبقى فلسطيني على الأرض اللبنانية»، وفي المنطقة الغربية: «لا للعلمنة، لا للطائفية، نعم للإسلام». علينا ألّا ننسى أن الكتابات الجدرانية كانت لسان من لا يملكون وسيلة أخرى للتعبير. فيخطّون على الجدران ما يجول في الأذهان: المطالب- الحقد- الأحلام- المُثُل- الأهداف- التخيّلات. كانت التنظيمات الحزبية تتغاضى عن ذلك؛ إذ كان اتخاذ مثل هذه المواقف يثير الحماسة ويسهّل التعبئة». وتضيف شختورة: «ليست الكتابات الجدرانية التعبير المعيّن لمجموعة معيّنة في ظرف معيّن فحسب، إنما أصبحت في السياق العام للحرب اللبنانية «لعبة»، أي: شيء منسّق له أشكاله الخاصة، وهكذا غدا تعبيرًا منظّمًا لجماعة منظّمة. فلكل معسكر لواؤه: الصليب للمسيحيين، وللآخرين الهلال أو أي نجمة ثورية. وأيًّا كان الشعار، فالتعبير عنه كتابة على الجدران. وعلى الجبهات المتحركة، كالتي في الجبال، كان يتقابل سكان أصليّون كارهون للغريب ومحاربون مسيّسون. فكانوا كثيرًا ما يؤكدون وجودهم على الجدران باللون الأحمر، بلون الدم أو بالأحمر الثابت أو بالأحمر الشيوعي. إن الذين أُثبِتوا في سجل الاستشهاد كانوا سببًا في تفجير المجموعات كتلًا صغيرة لم تجد طريقة لتخليد الرفيق أفضل من جدار في حوزتها لتسجّل عليه مناقب المقاتل الراحل. الكتابات الجدرانية ليست لعبةً ورمزًا فحسب إنها أيضًا عملية احتلال. فالمقاتل الذي يحتل مساحة من الأرض، هو إذن يملك كل ما يقوم عليها. والجدار الذي انتزعه يجب أن يحمل طابعه وأثر مروره».

وتقول أيضًا: «إن أقرب الشعارات إلى الأذهان وأقواها انطباعًا في الذاكرة هي الكتابات على الجدران، التي تكشف عن الأفكار التي لم يكن متاحًا لها أن تظهر وتُذاع. فكما أن كل ما كان محظورًا عمله قد عُمل مثل النهب والسرقة والتقتيل، كذلك فإن كل ما كان ممنوعًا قوله، قد قيل. هذه الطريقة حرّرت التعبير من كل القيود. وفي الوقت الذي كانت تُمحى الشعارات البالية؛ لأنها شديدة التطرُّف كان أكبر عدد من الكتابات يُطبع على الجدران، بعشرات النُّسخ، بواسطة صفيحة من حديد، طُليت بالدّهان، بعدما أُفرغت فيها مواضع الحروف. ولما أخذ الفرقاء يمارسون مهام الشرطة في مناطقهم تحوّلت الجدران إلى نوع من المؤسسات حتى كادت تصبح لهم بمثابة ناطقة شبه رسمية».

لكن من يزور بيروت الآن يكتشف أن جدرانها باتت خالية من الغرافيتي والرسوم والشعارات السياسية أو الحزبية، ما خلا القليل من الشعارات التي تُرسم في ظروف أو مناسبات معينة. لكنّ من يقصد طريق المطار التي تجتاز الضاحية الجنوبية التي يرين عليها حزب الله سياسيًّا وأمنيًّا يبصر شعارات وأعلامًا حزبية ومجسمات لبعض الأئمة الإيرانيين والشهداء.

الإشكال المشرقي المغاربي بين النهضة والحداثة

الإشكال المشرقي المغاربي بين النهضة والحداثة

لا يكاد يخفت السجال حول العلاقة بين المشرق والمغرب حتى يستعر مرة تلو أخرى، فيُعاد طرح قضايا هذه العلاقة الثقافية الشائكة التي لم تتخلص من طابعها الإشكالي، وهذا يدل على أن السجال لم يلق خاتمته المفترضة، وأن الأسئلة التي طالما طرحها منذ عقود لا تزال من دون أجوبة شافية. وواضح أن المثقفين المغاربة لم يتخطوا مشكلة تاريخية ما زالت تحفر في لا وعيهم الجماعي، وهي تتمثل في غيابهم عن الحركتين الرئيستين اللتين شغلتا القرن العشرين: وهما حركة النهضة، وثورة الحداثة. وفي المقابل ما برح المثقفون المشرقيون يرون أن هاتين الحركتين اللتين وسمتا القرن المنصرم هما إرث مشرقي ترسخ في جغرافيا «المركز» بين القاهرة وبغداد وبيروت، وظل المغرب العربي وقفًا على جغرافية «الأطراف» مثله مثل الخليج وسواه.

محمد-أركون

محمد أركون

معروف أن حركة النهضة الفكرية والأدبية انطلقت من القاهرة في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، ونشأت فيها وترسخت خلال العقود الأولى من القرن العشرين. وكانت القاهرة حينذاك بمنزلة البوصلة التي جذبت أعلام بلاد الشام الذين وجدوا فيها ملاذًا يقيهم الطغيان العثماني، ومساحة للإبداع الفكري والشعري خاصة، وفيها أسسوا صحفًا، وكتبوا وأبدعوا وناضلوا. أما حركة الحداثة، والمقصود هنا الحداثة الشعرية، فانطلقت في مرحلتها الأولى في بغداد من خلال الثورة التي أعلنها بين نهاية الأربعينيات ومطلع الخمسينيات من القرن العشرين، شعراء مثل بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وعبدالوهاب البياتي، وبلند الحيدري، وسواهم.

لكن حركة الحداثة ما برحت أن انتقلت إلى بيروت مع انطلاق مجلة «شعر» عام 1957م، وهي المجلة التي جسدت المشروع الحداثي، ليس في الشعر فحسب؛ إنما فكريًّا وفنيًّا أيضًا، نظريًّا وإبداعيًّا، وقد جمعت في بداياتها شعراء ونقادًا من لبنان وسوريا والعراق. وبرزت هنا أيضًا مجلة «الآداب» التي أسسها ورأس تحريرها الروائي سهيل إدريس عام 1956م، وكانت تمثل مرجعًا للتيار العربي القومي، والأدب الملتزم.

اضطراب المعادلة الثقافية

لا شك في أن غياب المغرب العربي عن هاتين الحركتين جعل المعادلة الثقافية المشرقية المغربية في حال من الاضطراب وعدم الانصهار، لا سيما أن هذا المغرب سرعان ما شهد حركة فكرية استطاعت خلال ما يقارب العقدين أن توازي الحركة الفكرية المشرقية، وبخاصة المصرية، وأن تتخطاها لاحقًا. ولعل مفكرين في حجم عبدالله العروي، ومحمد أركون، وهشام جعيط، ومحمد عابد الجابري، وفاطمة المرنيسي، وعبدالكبير الخطيبي، وعبدالفتاح كيليطو، وجمال الدين بن شيخ، وسواهم، كانوا في مقدّم الموجة الفكرية الحديثة، وساهموا في تأسيس تيار فكري جديد وطليعي في طروحاته وتطلعاته ومناهجه.

أما الإبداع الأدبي والشعري، فكان عليه أن ينتظر قليلًا حتى يبرز على الصعيد العربي، وقد بدا أثر بعض الشعراء والروائيين المشارقة فاعلًا في نشوء الحداثة المغاربية، إن أمكن القول، لا سيما عبر أدونيس وشعراء مجلة «شعر»، وكتّاب مجلة «الآداب»، لكنّ الجيل اللاحق والأجيال التي أعقبته ما لبثت أن تفردت بإبداعها ورؤيتها الحداثية، ومقاربتها الجمالية للغة، متمردة على الإرث المغاربي الذي غالبًا ما عرف بأصالته التقليدية، ولغته التقعيرية «أركاييك». وأغلب الظن الآن أن المبدعين المغاربة والمشارقة، ومبدعي جميع «الأطراف» (أو ما كان يسمى «الأطراف» سابقًا) باتوا في حال من التساوي والانصهار بعدما زالت التخوم الجغرافية، وغابت «المركزية»، ولم يعد هناك من عواصم تقصر الإبداع على نفسها.

لم تعد بيروت عاصمة الشعر الجديد، ولا القاهرة عاصمة الرواية الجديدة، وإن كانت هي الأغزر على الصعيد العددي، ولا بغداد وسواها. لقد تحررت الحركة الإبداعية العربية الراهنة من وطأة الجغرافية، وباتت تدور في أفق عربي واسع يضم كل الدول، إضافة إلى المنفى أو المغترب. وقد ساهمت حتمًا مساحة الإنترنت في السنوات الأخيرة في صهر التجارب العربية، ولا سيما بعضها ببعض، حتى بات المبدعون العرب ينتمون إلى أجيال وتيارات شاملة أكثر مما ينتمون إلى عواصم وبلدان.

العقدة المشرقية

عبدالله-العروي1

عبدالله العروي

وعلى الرغم من صعود نجم الحضور المغاربي، لا سيما في حقول مهمة مثل الفلسفة الحديثة والفكر والترجمة والنقد الأكاديمي، وقد تجلى هذا الحضور كل التجلي في هذه الحقول، وبات سباقًا، وكذلك في حقلي الرواية والشعر بدءًا من السبعينيات، فما زال بعض المثقفين يعانون ما يمكن تسميته «العقدة» المشرقية، وبخاصة فيما يتعلق بحركتي النهضة والحداثة. وليست المواقف السلبية أو المتوترة التي تُعلن حينًا تلو آخر في مضمار هذه العلاقة، إلا تعبيرًا عن الإشكال الذي لم ينته حتى الآن. وما يزيد من استعاره مواقف بعض المشارقة التي لا تخلو من الغلو في مدح الريادة المشرقية. لكن ذنب تغيّب المغرب العربي أو غيابه عن النهضة والحداثة لا يقع على عاتق المشارقة. والمسألة أبعد من أن تحد في إطار الجغرافيا أو الجهات. وليس من المستغرب أن يغيب المغرب العربي مثلًا عن كل الأبحاث النقدية والتاريخية التي تتناول النهضة والحداثة، ما خلا بضع ملامح أو أسماء قليلة جدًّا. الناقد والباحث في تاريخ الأدب العربي، قديمه وحديثه الأب حنا الفاخوري الذي وضع واحدًا من أهم الكتب المرجعية عن الأدب المغاربي وعنوانه «تاريخ الأدب العربي في المغرب» لم يذكر في كتابه الموسوعي «الجامع في تاريخ الأدب العربي» (الأدب الحديث) سوى اسم الشاعر التونسي النهضوي أبي القاسم الشابي. حتى أدونيس في كتابه «الثابت والمتحول» في أجزائه الأربعة لم يركز على أي شاعر من المغرب العربي.

شعراء بنيس غير المعروفين

فاطمة-المرنيسي

فاطمة المرنيسي

ولعل هذا «التغييب» الذي يخضع لمقياس موضوعي حدا الشاعر والناقد محمد بنيس على إبراز شعراء مغاربة في كتابه الضخم «الشعر العربي الحديث» في أجزائه الأربعة، سواء في مرحلة النهضة أم الحداثة. ففي الجزء الذي خصه بما يسمى النزعة التقليدية أورد اسم الشاعر المغربي محمد ابن إبراهيم (1897-1955م) المكنى بـ«شاعر الحمراء»، إلى جانب أسماء شعراء نهضويين كبار من أمثال: أحمد شوقي، ومحمود سامي البارودي، ومحمد مهدي الجواهري. أما في الجزء الخاص بالنزعة الرومانطيقية فأدرج اسم الشاعر المغربي عبدالكريم ابن ثابت (1917-1961م) مع أسماء كبيرة مثل: خليل مطران، وجبران خليل جبران، وأبي القاسم الشابي. وفي الجزء الخاص بالشعر المعاصر أورد اسم الشاعر المغربي محمد الخمار الكنوني (1941-1991م) إلى جانب أسماء رائدة من أمثال: بدر شاكر السياب، وأدونيس، ومحمود درويش.

لم يركز بنيس على أسماء هؤلاء الشعراء المغاربة غير المعروفين عربيًّا، ويمعن في دراستهم مثلهم مثل نظرائهم المشارقة، إلا ليعيد إلى الشعر المغاربي حضوره ودوره المنتقص في مرحلتي النهضة والحداثة. وبدا واضحًا أن من المستغرب أن يدرج اسم الشاعر محمد الخمار الكنوني إلى جانب أسماء الرواد الثلاثة، مع أنه لم يصدر سوى ديوان واحد هو «رماد هسبريس» الذي صدر متأخرًا عن دار توبقال عام 1987م.

أدونيس

أدونيس

أما كتاب الشاعر محمد بنيس الأكاديمي «الشعر العربي الحديث» في أجزائه الأربعة، وسائر أعماله النقدية النظرية والتطبيقية، فبدت خطوة مهمة نحو ترسيخ الشعرية المغربية تاريخيًّا وحداثيًّا، وقد آزرته مجموعة من النقاد الجدد في إيضاح خصائص هذه الشعرية وهويتها الأنطولوجية ودلالاتها، ومن هؤلاء النقاد: محمد مفتاح، والشاعر صلاح بوسريف، وعبدالرحيم جبران، ومصطفى الغرافي، وعبدالفتاح الحجمري، وسواهم.

وبات من الممكن الكلام عن شعرية مغاربية انطلاقًا من الجهود التي بذلها أيضًا نقاد في تونس والجزائر، ومنهم محمد لطفي اليوسفي، والمنصف الوهايبي. وكان صدور مجلة «انفاس» (سوفل) المغربية عام 1973م بالفرنسية أولًا، ثم بالعربية، حدثًا شعريًّا مهمًّا على مستوى الشعر المغاربي الفرانكفوني والمكتوب بالعربية. هذه المجلة أرست ما يمكن تسميته الحداثة الشعرية المغاربية التي تضاهي الحداثة المشرقية الموازية لها زمنيًّا، وقد شارك في تأسيسها الطاهر بن جلون، ومصطفى النيسابوري، وعبداللطيف اللعبي، ومحمد خير الدين. ثم صدرت مجلة «الثقافة الحديثة» عام 1974م التي أسسها محمد بنيس مع الكاتب مصطفى المسناوي، وأعقبتها مجلة «البيت» الصادرة عن «بيت الشعر المغربي». وعلى الرغم من انفتاح هذه المجلات على الأدب العربي الراهن والأدب العالمي، فإنها بدت كأنها تتبنى مشروعًا أساسيًّا، هو بلورة الهوية المغربية ثقافيًّا وأدبيًّا وشعريًّا، وجعلها هوية عربية، ولكن منفتحة على آفاق فرانكفونية وعالمية، وهذا يسبغ عليها سمات التفرد والخصوصية.