بيتيا دوباروفا: مقاومة سوء الفهم البشري بالشعر

بيتيا دوباروفا: مقاومة سوء الفهم البشري بالشعر

يفترض الوالدان أن ابنتهما الشاعرة الشابة (1962- 1979م) قد تُوفيت بسبب الإهمال الطبي، ففي 4 ديسمبر، قبل أربعة عقود رحلت الطفلة– المعجزة في الشعر البلغاري المعاصر بيتيا دوباروفا في سن السابعة عشرة فقط، ولوحظ يومها على جدران بعض المباني في مسقط رأسها مدينة بورغاس الساحلية المطلة على البحر الأسود وضع شخص أو أشخاص ملصقات عليها تحمل عبارات من مثل «الموت لقتلة بيتيا». ولكن من يمكنه أن يقتل شاعرة شابة موهوبة في مدرسة بورغاس الإنجليزية الثانوية؟!

مع انطواء الزمن صار واضحًا أن بيتيا كان محكومًا عليها بالإخفاق في مجتمع بلغاريا الشيوعية؛ لأنها كانت مختلفة عن أقرانها، ولم يقدر لها أن تستمر في الحياة مع فرط الحساسية العاطفية الذي رافقها منذ سنواتها الأولى. لقد قلل مدرسوها من سلوكها، وتركها الأطباء في غرفة الإسعاف من دون إمداد جسدها الصغير بالأكسيجين اللازم في لحظات مميتة بالنسبة لها، وبينما كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة في المشفى، امتدت يد شريرة وسرقت الأقراط الذهبية الصغيرة من أذنيها، هدية والديها لها في عيد ميلادها.

شاعرة مدينة بورغاس الساحلية الشابة بيتيا دوباروفا التي ظلت دائمًا في سن السابعة عشرة من عمرها، وُلدت في إبريل 1962م، وبدأت كتابة قصائدها الأولى وهي في دور الحضانة كما تقول والدتها ماريا دوباروفا. وعندما سئلت بيتيا أكثر من مرة عمن كتبها أجابت فقط بكلمة «أنا»، فهي لم تكن تتقن الكلام بشكل جيد بعد. تقول والدتها: «في بادئ الأمر لم أهتم. اعتقدت أنها حفظتها دون وعي منها، ولكنني أدركت أنها كانت تسجل لحظة فارقة في حياتها عندما أنهت الصف الأول الابتدائي، وذهبنا في إجازة. لقد كتبت رسالة مطولة لأبيها يرشح منها الشعر، وقدمت فيها وصفًا استثنائيًّا للطبيعة من حولنا بطريقة أدبية لافتة. لقد منحها الله موهبة الكتابة، وبدا واضحًا للجميع أن بيتيا سوف يُساء فهمها لأنها كانت تنمو بشكل أسرع من أقرانها، وهذا دفع بكثير من مدرسيها للتقليل من شأن كتاباتها، وغالبًا اتهموها بأنها تستنسخ أشعار الآخرين، وتنسبها لنفسها».

قال لها زميلها في الفصل الدراسي ساخرًا وموبخًا: «لا يمكنك أن تكوني شاعرة موهوبة». بكت الصغيرة بيتيا، وأقسمت أن كل ما تكتبه هو لها. جمعت الأم ماريا دوباروفا نحو ثلاثين عملًا لابنتها الموهوبة، وأرسلتها إلى مجلة المدرسة الثانوية «خطاب الوطن»، وبسبب من إهمال مدير التحرير بقيت القصائد في الأدراج سنة كاملة تقريبًا قبل أن تقع في يد المحرر الأدبي البارز غريغور لينكوف الذي شعر من فوره بنضج أدبي رفيع المستوى وغير مسبوق عند مواطنته «البورغاسية» الصغيرة.

تحب أن تصاب بالجنون

بدأت قصائد بيتيا تنشر تباعًا في الصحف المحلية قبل أن تصبح طالبة في المدرسة الثانوية. كانت تكتب من 5-6 قصائد في اليوم الواحد، وعندما شبَّت قليلًا، أخذت تقلل من كتاباتها، والتفتت للنثر أيضًا، وأخذت تكرس نفسها له. كان والداها من الناس العاديين. والدها يعمل مديرًا مناوبًا في مصنع لمحركات السيارات، ووالدتها معلمة لغة بلغارية في مدرسة مسائية. وكانت بيتيا بينهما بلغة أهل الشعر طائرًا صوفيًّا محلقًا. كانت تعزف على آلة الغيتار وتغني، وكانت تحب أن تصاب بالجنون كتعبير عن فرط النشاط البدني والذهني الذي تقوم به، وقلَّدها الآخرون من دون أن يرتفعوا إلى مستوى موهبتها النادرة.

كانت الفتاة ذات السحنة الداكنة والضفائر السميكة طالبة مجتهدة من دون أن تبذل كثيرًا من الجهد، وحصلت دائمًا على معدلات عالية بسبب مستوى ذكائها غير العادي وذاكرتها المتوقدة، وهو ما أهَّلها لدخول مدرسة النخبة في مدينة بورغاس في ذلك الوقت –المدرسة الثانوية الإنجليزية- حيث اعتقد زملاؤها أنها متعجرفة. انطوائية بيتيا، والنظرة العميقة المتأملة التي تسكن رُوحها صدَّت كل أولئك الذين لم يعرفوها من كثب، وكان لها زميلان مقربان منها في الفصل الدراسي، وهو الأمر الذي أزعج لسبب غامض بقية زملائها وبعض المعلمين.

يمكن القول: إنه من خلال بعض المفاهيم الخاطئة التي سادت بلغاريا الشيوعية في سبعينيات القرن الماضي كان إجبار طلاب مدارس النخبة على العمل في مصانع الدولة والعمل في خطوط الإنتاج، بهدف يبدو للوهلة الأولى تعليميًّا، من أجل معرفة كيفية كسب لقمة العيش، وتعلم مهارات أعمال لن يحتاجوا إليها أبدًا. أما بيتيا دوباروفا، فقد وقع الاختيار عليها للعمل في مصنع لإنتاج الجعة في مدينة بورغاس، ويعتقد أن اختيار هذا المسار لها من جانب كومسمول الشبيبة الشيوعية هو ما أدى إلى وفاتها المبكرة المأساوية.

وجدت بيتيا نفسها مثل جميع زملائها في الفصل الدراسي وهي تعمل وراء آلات لتعبئة زجاجات الجعة، وفجأة من دون سابق إنذار يتعطل العداد، وتبدأ الزجاجات بالدخول للمستودع من دون معرفة مصيرها، وهو ما أدى إلى فضيحة من العيار الثقيل في الشركة، وهذا دفع بإدارة المصنع والمدرسة على حد سواء إلى فتح تحقيق موسع. وصار واضحًا تمامًا أن هناك فئة من المدرسين يكنّون العداء للشاعرة الشابة، وبخاصة المديرة البدينة التي لم تكن تتوقف عن تقريعها، ووجدت في أمر التحقيق سانحة ذهبية، وأخذت تروج أن هذا خطؤها، وأنها تعمدت كسر الآلة للتخلص من النشاط العملي المزعج.

صارت بيتيا دوباروفا تقلل من سلوك الشاعرة، وبدا واضحًا أن ظلمًا صارخًا يحيق بروحها البريئة التي لا تعرف النفاق. «كنت أخشى عليها أن تتوقف عن الدراسة، وأن تنزل من المرتفعات، ويَتقَطَّع جناحاها الغضان»، تقول والدتها ماريا دوباروفا، وتتذكر: «لو كانت قد عوقبت في العام الماضي على إهمالها مثلًا، لكان الأمر مختلفًا…». بدا لبعض حينها أن الشابة الموهوبة بيتيا كانت ترتكب مخالفات في سلوكها اليومي عامدة، كأن تمشي وهي تفلي شعرها للأسفل، وتشد بلوزة حمراء تحت مئزرها.

التفاخر في المجتمع الشيوعي

لا يستطيع المراهقون اليوم الذين يذهبون إلى المدرسة بالسيارة أن يتخيلوا تلك الأوقات التي يكون فيها الزي المدرسي متضمنًا ألوان حداد داكنة فقط، ويُقَصّ الشعر أو يُجْدَل. كان العقاب الإداري يطول أي فتاة غير مطيعة تريد بطريقة ما التباهي أو التفاخر في المجتمع الشيوعي. في الفصلين الدراسيين الثامن والتاسع، كانت بيتيا تتصرف أحيانًا على نحو طفولي، لكنها في الصف العاشر قررت أن تركز على واجبات المدرسة. عندها أُنزِلَت العقوبة القاتلة عليها بذريعة انخفاض في مستوى سلوكها، الذي يحتم إعادة تقويمه ووضعه على المسار الصحيح، وبدا واضحًا أن هناك من يترصد هفواتها، أو أنها على نحو ما تخضع لرقابة الجهات المختصة في الدولة التي صارت تنظر إليها بانتباه أكبر بوصفها صاحبة ميول غربية في التفكير.

كان على بيتيا أن تكون أكثر صلابة وأكثر مقاومة لسوء الفهم البشري. وقبل والداها عقوبة المدرسة، حتى إن والدها نصحها بعدم الاهتمام. في اليوم الذي اكتشفت فيه تقويم سلوكها من إدارة المدرسة، تُركت بيتيا وحيدة في المنزل. وكان من الصعب تحديد الأكوان التي يجول فيها فكرها في تلك اللحظات، لكن النهاية كانت واحدة: قاتلة. التقطت الطالبة الشابة حفنة من «الديازيبام» و«الأميتريبتيلين» وابتلعتها من دون أن تترك رسالة وداع لوالديها. وعندما عادت والدتها من المدرسة الليلية، وجدت ابنتها ما زالت تتنفس. وأطلقت صرخة مروعة خيل لمن سمعها أنها قسمت الحي حول شارع جلادستون في بورغاس إلى شطرين، ووصلت سيارة الإسعاف بعد فوات الأوان، كانت الفتاة بالفعل في غيبوبة.

«أقف بجانب غرفتها في المشفى ليلة 3-4 ديسمبر، وأتنصَّت إلى كادر الفريق المناوب، وهم يروون بعض قصص الصيد التافهة لبعضهم الآخر. سألت على استحياء ما إذا كان هناك حاجة للاتصال بأطباء آخرين من أجل تقديم الاستشارة». تتذكر الأم التي ظلّت تتشح بالسواد حتى نهاية عمرها أن ابنتها ما زالت تتنفس في غرفة العناية المركزة: «قال لي الطبيب المناوب غينيف: إنه يريد مني فقط أن أغادر باب الغرفة من دون إبطاء. لقد عرفت بعد سنوات أنه قضى نحبه في حادث سير، وأملت أنه وجد من يغلق له عينيه قبل الدفن، لأن بيتيا رحلت وعيناها مفتوحتان. في الصباح عندما استعادت وعيها، وفتحت عينيها كان لا بد من إعطائها الأكسيجين. لقد صرخت الممرضة في الممر بأعلى صوتها: أين المفتاح؟ أين مفتاح الأكسيجين؟ ولكنهم لم يجدوه في الوقت المناسب، أو هم لم يريدوا البحث عنه أساسًا».

رحلت بيتيا دوباروفا لتصبح أيقونة شعرية في وجدان الشعب البلغاري مثل الفنانين الكبار على الرغم من حداثة سنها. في قصيدة لها كتبتها قبل أربع سنوات من مِيتتها المأساوية تقول:

«أريد، بمجرد أن أموت متعبة/ أن تبرد الشمس معي/ وأن تضيء مثل دمي الأحمر/ على الأراضي والحدائق/ لأطير بين الناس السعداء/ ولتخبرني عني وعن نفسي/ أنني سأبقى على قيد الحياة/ إلى الأبد،/ لأن شمسي لن تغرب».

هل كان يمكن للأطباء أن ينقذوا بيتيا؟ الوالدان الحزينان يقولان: إنه ربما ضاعت بعض الفرص. كان لدى بيتيا قرطان ذهبيان صغيران على أذنيها. عندما أعادوها إلى المنزل جثة هامدة، كانا قد اختفيا. لا أحب الأقراط، يقول الأب ستويكو دوباروف، لكن بيتيا لم تكن كذلك، وربما لم يكن هناك أشخاص من حولها.

حولت البلدية منزل العائلة إلى متحف، وظلت الأسرار تحيط بوفاتها الغامضة ولم تكشف حتى من بعد مرور أربعة عقود. كانت موهبة شعرية خارقة ممزوجة ببراءة لا تصدق، براءة هي كل ما يحتاجه الشعراء الكبار.

وقبل عامين قام المخرج البلغاري ألكسندر كوسيف بتصوير فِلْم يحكي قصة حياة بيتيا دوباروفا. لعبت الدور الممثلة البلغارية آلينا فيرغوفا رفقة والدها يوليان فيرغيف.

قصيدتان

بيتيا دوباروفا

اعتراف

(بعد لقاء عائلي)

لقد سجنوني -كسرت كل قفل

لم أشعر كيف يتدفق الذنب في عروقي

وفي ظلالي الأرجوانية العذراء

كان يتدفق ظل الصبي

أنا عائدة– ذنبي كبير

تشدني نزلة برد سوداء غير مرئية

من أيامي في الجرَّة المكسورة

كل شيء سكبته كان يتدفق

هل تسامحينني أماه؟ أنا عائدة

أمامك أنا الجاحدة

أصبحت محرجة ومذنبة

سوف ترين

لم يفت الأوان بعد

بورغاس الحكيمة شاهدة عليَّ

وسوف تنبعث فرحتك أماه

أقسم لك: أنا مذنبة!

عبر زجاج الصيف

السعادة تستلقي على شعري

مثل منشفة ريفية ملونة

تغطيني الأمطار بالماء

ودفق من الهواء المضحك

يسحب ملابسي

ويلقي بظلاله الخفيفة عليَّ

مثل لحية بابا نويل

وأنا الممتلئة بالصيف

أحدق عبر زجاج الصيف

لأرى كيف يذوب الليل مثل شمعة زرقاء

لأرى حلم الصيف

أنظر عبر زجاج الصيف

لأرى أشياء لم تُرَ من قبل!


المصدر : صحيفة «Blitz» البلغارية.