جودة الحياة، الأبعاد الفلسفية والأخلاقية

جودة الحياة، الأبعاد الفلسفية والأخلاقية

عبارة «جودة الحياة»، دائمًا ما تثير الجدل. إن الفكرة الأساسية وراء هذا المفهوم هي أن بعض خصائص الفرد، أو الصفات المميزة له، والبيئة المحيطة به، تكون أفضل من غيرها من منظور خير الإنسان وصالحه وازدهاره. وتقريبًا كل رواد الفكر الغربي، بداية من أفلاطون وأرسطو، ومرورًا بجيريمي بنثام، وإيمانويل كانط، وجون ستيوارت ميل، وكارل ماركس، وفريدريك نيتشه وجون ديوي، قدموا أفضل ما لديهم في سبيل حياة إنسانية أفضل، وهكذا فعل كبار الكُتَّاب المسرحيين والشعراء والروائيين في العالم. وفي السنوات الأخيرة قدَّم الاقتصادي أمارتيا سين، الحائز على جائزة نوبل، مساهمات مهمة في هذا الموضوع.

ومع ذلك لم يحُز أي إسهام مما سبق على الإجماع أو القبول العالمي. غير أن العديد من هذه الإسهامات تتداخل وتتشابك، ويمكن تمييز الخطوط العريضة لثلاثة توجهات أو نظريات عامة على الأقل، وهي: نظرية المتعة أو اللذة، وتقوم على فكرة أن السلوك البشري مدفوع بالسعي وراء المتعة وتجنب الألم أو الاستياء، وترجع أصول النظرية إلى بدايات الفلسفة الغربية، ونظرية الاختيار العقلاني، والمعروفة أيضًا بنظرية التفضيل العقلاني، وهي منهج لفهم المقاصد والوسائل، وإن كان التركيز فيها على الوسائل، وتفترض التسليم بالمقاصد كثوابت، كما تفترض مواجهة الفرد لمحددات فيزيائية واقتصادية ومنطقية، وتحاول هذه النظرية أن تُبيِّن الطريقة التي نختار بها أفضل الوسائل (الأفعال) لتحقيق المقاصد، والمعايير التي نفاضل بها بين الخيارات المتاحة لنا من الأفعال في إطار المحددات المختلفة التي تجابه الشخص، وثالث النظريات هي نظرية ازدهار الإنسان، ويُعرَّف ازدهار الإنسان بأنه جهد لتحقيق الذات والإنجاز في سياق مجتمع أكبر من الأفراد، لكل منهم الحق في متابعة جهوده الخاصة.

اعتقدَ أرسطو أن ازدهار الإنسان يتطلب حياةً مع أشخاص آخرين، وأن الناس يكتسبون فضائل (أي عادات حميدة) من خلال الممارسة، وأن مجموعة من الفضائل الملموسة يمكن أن تقود الشخص نحو التميُّز الطبيعي والسعادة. وفقًا لهذه النظرية، يكون المجتمع أفضل حالًا بقدر ما يزيد من التفضيلات الإجمالية المكشوفة لأعضائه، وعلى النقيض من ذلك، تجادل نظرية ازدهار الإنسان أنه على الرغم من وجود طرائق عدة لعيش حياة كريمة، فإنه ليست كل طريقة قد يختارها الشخص لقضاء حياته ستكون كريمة. لكن على الرغم من صعوبة مفهوم «جودة الحياة» وافتقاره إلى الوضوح، فإنه حيوي، ولا يمكن الاستغناء عنه، ولا سيما في نطاق الرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية.

مصادر الجدل

ترى إحدى المدارس الفكرية في الفلسفة وعلم الأخلاق أنه لا ينبغي استخدام مفهوم «جودة الحياة»؛ لأنه يقوِّض كرامة وقيمة الحياة البشرية الفطريتين، فحياة الإنسان ليست شيئًا ينبغي تقييمه، حياة البشر نفيسة في حد ذاتها وليست مجرد وسيلة لشيء آخر. ويبدو أن مصطلح «جودة الحياة» يقتضي ضمنًا بأن الحياة في جوهرها لا تستحق الاحترام والتقدير، ويمكن أن يكون لها قيمة أكبر أو أصغر، أعظم أو أدنى، وفقًا لظروفها وملابساتها. وإضافة إلى أولئك الذين يرون كل حديث عن جودة الحياة إهانة للكرامة المتأصلة في ذات الإنسان، فإن الاعتراضات على المصطلح تصدر كذلك من جماعة حقوق المعوقين، وهي حركة اجتماعية وعالمية تدعو لضمان تكافؤ الفرص، والمساواة في الحقوق، وتتكون من مجموعة منظمات حول العالم يتشارك الناشطون فيها الأهداف والمطالب، كتأمين السلامة في المنشآت المعمارية، والنقل، والأماكن الأخرى، وتكافؤ فرص متساوية في العمل، والتعليم، والإسكان، والتخلص من مواقف الإساءة، والإهمال، والانتهاكات، ويعمل ناشطو هذه المنظمة على كسر الحواجز الجسدية والمجتمعية والمؤسسية التي تمنع المعوقين من العيش كبقية المواطنين.

من هذا المنظور، فإن مفهوم جودة الحياة هو جزء من أيديولوجية تطبيع أوسع في الثقافة السائدة، ويعمل على حساب الأشخاص ذوي الإعاقات، وذلك بتكريس وتأبيد الوصم والتمييز ضدهم، آخذين في الحسبان أن كلمة «جودة» تتضمن معيارًا لشيء ما، أو درجة التميز في شيء ما، مقيسًا بأشياء أخرى من النوع نفسه.

إلامَ يشير مفهوم جودة الحياة؟

إذا أمعنّا النظر في الطرق المختلفة التي يُستخدم بها مفهوم جودة الحياة في مجال الرعاية الصحية، فمن الممكن للفرد أن يشق طريقه بنجاح خلال حقل الألغام الدلالي هذا. ومن أجل القيام بذلك من المهم تمييز أربعة اتجاهات مختلفة لمفهوم جودة الحياة:

جودة الحياة كملكية فردية

أولًا- يُستخدم مفهوم جودة الحياة للإشارة إلى بعض الخصائص المميزة للفرد أو إلى كينونته أو وجوده. إن نوعية الحياة، سواء كانت جيدة أو رديئة، هي شيء يمتلكه الفرد بقدر ما يمتلك خاصية جسدية أو حرفة أو يمتلك أرضًا ويستعملها. وبهذه الطريقة في الفهم فإن نوعية حياة الفرد، أو جودتها، ليست ضرورية لهويته أو احترامه وتقديره لذاته، وعلى النحو نفسه ليست لها أهمية أخلاقية مباشرة وصريحة. إن نوعية الحياة الرديئة (بسبب اعتلال الصحة، أو فقدان الوظيفة، أو انهيار العلاقات الشخصية، أو ما شابه) ليست بالضرورة علامة على الفشل الأخلاقي للفرد، كما أنها على هذا النحو لا تقول شيئًا عن القيمة الجوهرية للحياة، أو حتى عن القيمة الأخلاقية لحياة بعينها في وقت مُعيَّن.

جودة الحياة كهدف للرعاية

المعنى الشائع الثاني لجودة الحياة يُعرِّفها بأنها هدفٌ للرعاية. النقطة الأخلاقية في تعاملاتنا مع شخص آخر (سواء كنا في موقف رعاية صحية أو شكل آخر من أشكال العلاقات) هو الحفاظ على الحياة وتحسينها. وبهذا المعنى، تصبح جودة الحياة معيارًا لتوجيه النشاط البشري، ومفهومًا للتقدير والتقييم. لكن لنلاحظ أن التقييم هنا موجه في المقام الأول لمُقدِّم الرعاية ولعملية تقديم الرعاية وليس لمتلقيها الذي يشارك في نوعية الحياة المنجَزة ولا يُحكم عليه من خلالها.

علاوة على ذلك، يمكن التفكير في جودة الحياة بوصفها تفاعلًا بين الفرد والظروف المحيطة به، وتشمل الظروف الأشخاص الآخرون. ومن ثم تُفهم على أنها هدف أو حصيلة للرعاية، وأن نوعية الحياة المحَسَّنة قد تكون بمنزلة تغيير (للأفضل) في أعراض الفرد أو تصوراته، أو قد تكون تغييرًا في علاقة الفرد بمحيطه. إن العلاج الطبي وتخفيف الأعراض والسعادة النفسية والتمكين الاجتماعي قد تكون كلها أهدافًا للرعاية مشمولة في مفهوم جودة الحياة.

جودة الحياة كوضعية اجتماعية

قد يشير مفهوم جودة الحياة إلى حالة من التفاعل بين الفرد ومحيطه الفيزيائي، وفي هذا السياق لا تُعد نوعية محددة من الحياة كخاصية للفرد في حد ذاته، وإنما كوظيفة لشكل حياة ذلك الفرد. بهذا الفهم فإن تقدير نوعية الحياة المتدنية لا يشير بالضرورة إلى تقييم سلبي للفرد أو لقيمته، وعلى حد سواء يمكن أن يتضمن تمامًا تقييمًا نقديًّا لبيئة الفرد، ويشير إلى الطرائق التي يمكن من خلالها تغيير تلك البيئة، من أجل تغيير نوعية الحياة وتحسينها وفقًا لبعض المعايير كالعدالة والحرية والصحة والسعادة وما شابه.

جودة الحياة كقيمة أخلاقية للحياة

أخيرًا، ينبغي الإقرار بأن مصطلح جودة الحياة يستخدم أحيانًا ليشير إلى القيمة الأخلاقية أو إلى قيمة الفرد وحياته. وبدفع المفهوم إلى أقصى حدوده المنطقية، يأخذنا هذا الفهم لجودة الحياة إلى المفهوم النازي سيئ السمعة القائل: إن «الحياة غير جديرة بأن تُعاش»، الذي استُعمل لتسويغ كل شيء، بداية من القتل الرحيم للأشخاص المعوقين، وانتهاء بمعسكرات الإبادة الجماعية. إن القول: إن شخصًا لا يتمتع بجودة حياة، أو إن نوعية حياته متدنية للغاية؛ يعني أن إطالة حياة هذا الشخص ليست لها أهمية أخلاقية، سواء للشخص نفسه أو للمجتمع.

من وجهة نظر هذا المؤلف، من الخطأ استخدام جودة الحياة مقياسًا للقيمة الأخلاقية للبشر. إن مفهوم القيمة الأخلاقية للحياة مستقل ومختلف، إلى حد بعيد وعلى نحو منطقي، عن مفهوم جودة الحياة. إن رصيد القيمة الأخلاقية يرتكز على قيمة ضمنية للإنسانية جمعاء أو للإنسان كفرد، بما هو إنسان. ومن ناحية أخرى يستند مفهوم جودة الحياة على رصيد القدرات الكامنة والفطرية للفرد وعلى الظروف الخارجية. قد تخبرنا نوعية الحياة ما هو مطلوب ليصبح الفرد إنسانًا بدرجة أكبر، لكنها لا تخبرنا بتاتًا ما قيمة الإنسان وكينونته.

النظريات الفلسفية لجودة الحياة

النظريات الفلسفية هي إسهامات منهجية يمكن أن تُستخدم لتزودنا بأساس لمعتقداتنا ولفرز تلك الأفكار التي نعتنقها عن اقتناع عقلاني من تلك التي ينبغي نبذها. من ثم فإن النظرية الفلسفية لجودة الحياة هي إسهام يتعلق بوصف ما يجعل الحياة البشرية تستحق أن تُعاش، ومحاولة لتمييز وانتقاء العناصر الأساسية للتجربة البشرية، أو الشرط البشري الذي يوفر الرضا عن مثل هذه الحياة. بالطبع ثمة إسهامات لا تحصى في تاريخ الفلسفة؛ إذ يقدم كل فيلسوف تفسيره المفضل للصالح البشري، ومعظم هذه النظريات تقع في الفئات الثلاث الآتية:

نظرية المتعة

تحدد نظرية المتعة نوعية الحياة مع حالات الإدراك أو الوعي أو تجربة الفرد. السعادة أو اللذة، أيًّا كان التعريف الدقيق لهذه المصطلحات، شرط لا غنى عنه لجودة الحياة. يسمح هذا بتنوع فردي كبير في تقييم نوعية الحياة الجيدة؛ لأن الأشياء المختلفة تجعل الأشخاص المختلفين سعداء، ويسمح كذلك بنوع من المقاييس المشتركة (على الأقل في الجانب السلبي) نظرًا لوجود حالات سلبية عالمية من الألم أو المعاناة أو التعاسة التي يتجنبها جميع الأشخاص العاديين.

السؤال المثير للاهتمام هو: هل من الضروري على الفرد أن يدرك أنه سعيد ليكون سعيدًا؟ بعبارة أخرى، هل نوع السعادة (أو المتعة) هو الذي يجعل الحياة جيدة مباشرة، من دون وسيط حسي، أم إنها حالة نفسية ناتجة عن فعلٍ ما مِن تأويل الذات؟ إذا كان المعنى الأول هو المقصود، حينها سيتبع ذلك القول إن شخصًا محبوسًا في زنزانة مع قطب كهربائي مزروع في مركز المتعة في الدماغ سيختبر أعلى مستويات جودة الحياة. لا بد أن هذا الاستنتاج خطأ ويتعارض مع النظرية. من جهة أخرى، إذا كانت السعادة أو المتعة التي تستلزمها النظرية تنطوي على شكل من أشكال الوساطة المعرفية الإدراكية والتأويل الثانوي، فسيُحكم حينها تلقائيًّا وبحكم التعريف على الأفراد الذين يعانون عجزًا إدراكيًّا خطيرًا بأن حياتهم متدنية، ويبدو أن هذه الرؤية متحيزة بإفراط ضد السلع غير الفكرية في الحياة.

نظرية التفضيل العقلاني

تُعرِّف نظرية التفضيل العقلاني جودة الحياة من حيث الرضا الفعلي أو إنجاز الرغبات أو التفضيلات العقلانية للشخص. هذه النظرية أكثر موضوعية من نظرية المتعة في كون الفرد لا يحتاج إلى أن يعي أن تفضيلاته تتحقق (أو أنه لا يحتاج إلى أن يستمتع بهذه المعرفة) من أجل أن تكون نوعية حياته جيدة؛ ما دامت تتحقق في الواقع. إن الجاذبية الكامنة في هذا النوع من النظريات هي في فكرة أن الأفراد يتمتعون بحياة جيدة، عندما تتطابق الحالة الموضوعية للعالم مع ما يرغبون فيه عقلانيًّا.

نظرية ازدهار الإنسان

تحاول هذه النظرية أن تبني فهمنا للحياة الجيدة على أساس الوظائف والقدرات والفضائل البشرية. فبقدر ما نكتسب ونتقن تلك القدرات، وبقدر ما نتجنب تلك الظروف التي من شأنها أن تعوق أو تقوض تلك القدرات، فإننا نزدهر بوصفنا بشرًا. لدى هذا النوع من النظريات عنصر تنموي مدمج فيها، فالقدرات البشرية الكاملة هي تلك التي لا تُتقن عند الولادة أو يُعبَّر عنها تلقائيًّا بالغريزة، لكن ينبغي تطويرها وتغذيتها بالتعليم والتفاعل مع الآخرين والممارسة طوال العمر، فبقدر ما يستمر الفرد في النمو والتطور خلال عمره فإن حياته تتحسن بهذه الطريقة.

تختلف هذه القدرات البشرية في وسط الفلاسفة العاملين في هذا التراث التنظيري، ولكن كتعميم يمكننا القول: إن هذا النوع من المساهمات الفلسفية يشدد عادةً على قدرة البشر على التعبير وعلى تجريب المعنى في العلاقات الاجتماعية كالألفة والمودة والصداقة والتعاون، والقدرة على استخدام العقل، وعلى تطوير واتباع خطة حياة لتحقيق الذات والوعي بالذات، والقدرة على الاستقلال والاعتماد على الذات، والحاجة الإنسانية لبيئة اجتماعية وثقافية مناسبة توفر للفرد أنواعًا مختلفة من الموارد المادية والروحية والرمزية اللازمة لعيش حياة إنسانية تنموية تلبي الاحتياجات الأساسية والثانوية. إن جودة الحياة هي حصيلة جهد مشترك بين الفرد والمجتمع، والمجتمع والدولة، بين ما تقدمه الدولة من مرافق وخدمات، وما يحافظ عليه الفرد ويضيف إليه، ولأن الحياة لا تكون جيدة وسعيدة بالعنصر المادي فحسب، يلزم أن يصاحب البناء المادي الاهتمام بالجوانب النفسية والروحية وضمان الحريات.

العمل المستقبلي على جودة الحياة

بمراجعة هذه المقاربات الفلسفية الثلاث يمكن للمرء أن يجادل في أن مفهوم جودة الحياة ينبغي ألَّا يُفسَّر على أنه أرضية لا يتطلب تحتها أي إنفاق مجتمعي كبير للموارد، والذي تحتها يمكن تخفيض جهود تقديم الرعاية الشخصية إلى الحد الأدنى اللائق. ثمة طريقة أفضل بكثير للتفكير في مفهوم جودة الحياة تتمثل في النظر إليه كسقف، وكمستوى محتمل من القدرة الوظيفية التي من أجلها يجب أن تُعَد جهود تقديم الرعاية. إن ارتفاع هذا السقف لن يكون هو نفسه للجميع، كما أن جودة الحياة ليست اختبارًا تفشل فيه إن لم تصل فيه إلى ارتفاع محدد. فالنقطة المهمة هي أن مفهوم جودة الحياة يجب أن يستخدم كمفهوم غائي -تحديد غاية للوصول إليها عبر منهج في متناول اليد، أكثر من كونه مفهومًا لترتيب الأولويات- تحديد تنظيم مرتب لتوزيع الموارد الشحيحة.

ختامًا، من المهم أن نلاحظ أنه لا توجد نظرية واحدة من النظريات الفلسفية السابقة قد فازت في السباق، فلا تزال النظريات الثلاث قيد التطوير في الأدبيات الفلسفية حول جودة الحياة؛ ولا واحدة منها قدمت إسهامًا كاملًا، مع ذلك فعناصر النظريات الثلاث جوهرية لتغطية النطاق الفسيح من الظروف والاحتياجات الفردية وثيقة الصلة بمسألة جودة الحياة في مجتمع يتطور ويتقدم في العمر.


المصدر:

https://www.encyclopedia.com/education/encyclopedias-almanacs-transcripts-and-maps/quality-life-philosophical-and-ethical-dimensions