وهم تطابق القيم في المجتمعات الإنسانية.. المثلية وحولها

وهم تطابق القيم في المجتمعات الإنسانية.. المثلية وحولها

في تاريخ الإنسانية قيم كبرى وقيم صغرى أو تابعة، وأيضًا قيم شبه ثابتة وقيم متغيرة. ولقد دأب علم الأنثروبولوجيا في دراسة الاختلاف بين القيم أو الاختلاف بين الثقافات منذ ظهوره في منتصف القرن التاسع عشر. في السابق كان اختلاف الثقافات يثير غرابة بعض؛ لأن القياس على ما هو سائد في الغرب هو الأساس، إلى درجة أن عددًا من الدارسين ذهبوا إلى أن تخلف بعض الشعوب ناتج من حجم الجمجمة أو ناتج من لون البشرة، وكان ذلك مسوغًا لاستعمارها. أما اليوم، ونتيجة لتقدم الدراسات الأنثروبولوجية، والتوسع في سرعة المواصلات والاتصالات وانحسار الاستعمار، فقد أصبح الناس سواسية، والاختلاف فقط فيما يعرف بـ(الثقافة) بشكل عام؛ لأنها تشكل هوية المجتمع.

هنا يتوجب علينا الحديث بشكل ملخص عن (المصطلح)، فالثقافة هي معايير عامة مشتركة يتقاسمها المجتمع، وفيها مساحات من التوافق واسعة، وتسمح أيضًا بالاختلاف، فكلما كانت صارمة ضاق أفراد المجتمع بقيودها، وكلما كانت مرنة، في بعض مساحاتها، شعر أفراد المجتمع بحُريّة أكبر في العيش والتعايش. كما أن المتعارف عليه هو الاختلاف النسبي للمعايير في المجتمع الواحد، فالثقافة وإن جمعت في كثير من الأحيان تختلف من بيئة اجتماعية وأخرى في المجتمع نفسه وتسمى (الثقافة الفرعية). فثقافة أهل المدن تختلف عن ثقافة أهل الريف، وثقافة أهل الصناعة تختلف عن ثقافة أهل الزراعة، وكذا حال الثقافة بين البيئات النهرية والبيئات الصحراوية. لكنها بشكل عام تحدد شخصية الفرد في المجتمع ولها جانبان بيولوجي واجتماعي. يشترك كل البشر في الصفات البيولوجية، ويختلفون كثيرًا في الصفات الاجتماعية، وتقييم الأشياء والأفعال والسلوك يمر عادة بمنظار (اجتماعي) وليس بيولوجيًّا. البيئة تؤثر حتى في نوع الأمراض التي يصاب بها الإنسان، فأصبح معروفًا أن هناك أمراضًا في المناطق الحارة وأخرى في المناطق الباردة، على سبيل المثال.

بعض الأدلة

لو أخذنا قيمة إنسانية أصبحت مقبولة ومتعارفًا عليها بشكل واسع، وتسمى بشكل فضفاض (الديمقراطية)، نجدها تطبق في بلدان مختلفة بأشكال وممارسات متباينة. فعلى سبيل المثال ما إنْ يفرغ كرسي رئيس الوزراء في بريطانيا، لسبب أو لآخر، حتى سرعان ما تنطلق آلية متفق عليها ومتدرجة للوصول الآمن وفي مواقيت محددة لاختيار الرئيس الجديد من دون عناء أو ضجة. في حين أن بلدًا مثل لبنان، يوصف بشكل عام أنه (ديمقراطي)، تجد أن تبادل السلطة عملية عسيرة وغير متوقعة وفي الغالب تأخذ المجتمع إلى فراغ سياسي طويل، وفي بعض الأوقات إلى حرب أهلية. كلا المجتمعين يصف نفسه بأنه (ديمقراطيّ)! الاختلاف في الظروف المحيطة بالمجتمع، والثقافة العامة وتركيبة الطبقة السياسية وتضارب المصالح! على الشاكلة نفسها فإن ديمقراطية فنلندا تختلف كليًّا عن ديمقراطية باكستان؛ بسبب اختلاف الثقافات وتوقعات المجتمع.

أما التجربة الشخصية فهي غنية بملاحظات فروق الثقافة.

في زيارة شبه رسمية للكاتب إلى اليابان صحبني شاب يتكلم الإنجليزية بطلاقة على أساس أنه دليل ثقافي في تنقلاتي، وكان في كثير من الأوقات يشير في أحاديثه إلى أسرته فيقول: أسرتي قالت كذا وهي تشجع كذا.. كنت أظن أن الرجل يتكلم عن أسرته البيولوجية، أي والده ووالدته، لكني اكتشف، في نهاية الزيارة، أنه يتحدث عن (الشركة) التي يعمل بها. في الصين بعض الشركات تعاقب الموظف المتقاعس بأن يمشي على ركبتيه ويديه في الشارع العام أمام الجمهور! مثال آخر حدث لصديق متوسط السن، كان يزمع السفر من مدريد عاصمة إسبانيا إلى مدينة برشلونة في الشمال، فأعلن عن قيام الطائرة، ولأن لغته لا تساعده، فقد صعد إلى الطائرة، لكنها كانت متجهة إلى (لشبونة) عاصمة البرتغال.

ويحدثنا أمين الريحاني- في كتابه الأشهر «ملوك العرب» (نشر في ثلاثينيات القرن الماضي)- حول رحلته في الجزيرة العربية، عن الضيافة في قرية يمنية. بات الريحاني وصاحبه في منزل المضيف، وفي الفجر استيقظا، ولما لم يجدا حركة في المنزل قررا الرحيل باكرًا، وما إنْ بدآ بالاستعداد للمغادرة حتى سقطت مجموعة من الجرار من الطابق العلوي محدثة ضجيجًا. ظن الاثنان أن شرًّا محدقًا قد يقع، فعجلا بالخروج، وإذا بصاحب المنزل في إثرهما يصرخ أن يعودا. توقفا لفهم الموضوع. قال لهما الرجل: لقد أخذني النوم، ولما تحركتما قررت زوجاتي إيقاظي برمي الجرار؛ لأن صوت المرأة لا يتوجب أن يسمعه غريب! اليوم المرأة اليمنية مذيعة ووزيرة وطبيبة. ثمة اختلاف في الزمن لا يقيم بعضٌ له حسابًا وهو من أهم العناصر المؤثرة في المتغيرات في موضوع القيم. فبمرور الزمن تتغير الأحوال وتتبدل القيم وبخاصة القيم القابلة للتغيير.

القيم الغربية الإنسانية

من الواقعية الاعتراف بأننا اليوم في عالم تتقارب فيه الثقافات أكثر من أي وقت مضى، وتجمعنا قيم إنسانية عامة، مثل احترام الوقت والصدق والتعاون والإيثار والحياء وتوقع سلوك معين من الآخرين والشفافية.. إلا أن التعميم يوقعنا في المحظور. فعند زيارتك للمنطقة الرابعة في باريس (بلدية باريس) تجد قريبًا منها حيًّا يقطنه (المثليون)، وعند تجوالك سترى المقاهي المتعددة وقد لا يستسيغ من هو قادم من ثقافة أخرى تلك المناظر التي تجمع رجلًا بآخر، في وضع حميمي. إلا أن ثقافة المثلية أصبحت في كثير من البلاد الغربية متاحة، غير مُجرَّمة بالقانون، بل إن رئيس وزراء لكسمبورغ يصطحب (زوجته) الرجل في الاجتماعات العامة، وتفخر إدارة الرئيس جو بايدن بأنها الإدارة الأميركية الأولى التي توظف عددًا من المثليين، بل إن أحد المثليين دخل سباق الرئاسة 2020م في الولايات المتحدة ثم أصبح وزيرًا!

في جانب آخر فإن دولة سويسرا تنظم بشكل رسمي أماكن لتعاطي المدمنين على المخدرات بذريعة أن تنظيمها أفضل من تركها عشوائية. فنحن أمام مفارقات تظهر أن سلوكًا مجرَّمًا لدى مجتمع مسموح به في مجتمع آخر! وفي المجتمعات التي تفصل فصلًا قاطعًا بين الرجل والمرأة تنتشر فيها (ولو بشكل غير علني) مرافقة الصبيان، وهناك على الشبكة الدولية عدد من الفيديوهات تظهر تلك الممارسة وطقوسها في تلك البلاد التي تضع حواجز بين الرجل المرأة.

الإجابة عن السؤال المركزي

السؤال هو: هل يمكن تعميم القيم، حتى الثابتة نسبيًّا، على جميع البشر؟ الإجابة بالطبع هي: لا. فالمجتمعات لديها قناعات شبه ثابتة لا يمكن أن تتغير بسهولة. مثال (قدسية البقرة) لدى الهندوس، أو الحرية الشخصية لدى الفرنسيين، أو حمل السلاح لدى الأميركان.. وقد يحدث شغب كبير عند فرض تغيير تلك القيم بالقوة. هذا بالضبط ما سيحدث عند فرض (المثلية) على المجتمع المسلم؛ فهي تتصادم مع ثوابته. وليست المثلية فقط، بل أيضًا طريقة تنظيم المجتمع قانونيًّا وسياسيًّا؛ فما هو مقبول لدى بعضٍ قد لا يكون مقبولًا لدى آخرين. من هنا فإن مصطلحات مثل التسامح والتعددية والحوار وقبول الآخر كلها مصطلحات يتوجب أن تغرس في عقول الناشئة، كما يتوجب على السياسيين احترام عادات وتقاليد المجتمعات الأخرى.

ما نشاهده حولنا من صراع إقليمي عالمي هو محاولة مجتمع (أو دولة) فرض قيمها الاجتماعية السياسية الثقافية على الآخرين، وتلك عملية شبه مستحيلة كما بينت لنا التجارب التاريخية. لقد بقي الاستعمار الفرنسي في الجزائر أكثر من قرن من الزمان، حاول جهده أن تكون الجزائر جزءًا من فرنسا بتجريف قيمها (دينها الإسلامي ولغتها العربية)، ولكن بعد ذلك الجهد الكثيف والمنظم لِفَرْنَسةِ الجزائر، خرجت البلاد من تلك المحاولات مُسلِمةً وعربيةً.

الوضع الصحي هو أن تقبل الثقافة ما تعتقد أنه مفيد وصالح لمجتمعها بما يتوافق مع المجتمع الدولي، وفي الوقت نفسه فإن القول بأن بعض الممارسات الثقافية أو السياسية أو الدينية أو المذهبية لا تناسب مجتمعًا ما، هو عدوان صارخ على حريتها. كما أن الوضع الصحي من جانب آخر هو فهم تطور الزمن واختلاف الوقت وتغير المصالح وتأثير ذلك، فيما تعارف عليه المجتمع، في السلوك والتصرف الإنساني، وقبول كل ما ينفع الناس والتعايش معه من دون مقاومة؛ لأن ذلك سيعوق تطور المجتمع.

الخلاصة

من هنا تأتي أهمية دراسة العلوم الاجتماعية، وبخاصة الأنثروبولوجي، التي تستطيع أن تدلنا على بوابة التفكير الصحيح في فهم سلوكيات الآخرين المختلفة عن توقعاتنا وأسبابها، ولماذا تتشكل سماتهم الاجتماعية بذلك الشكل المخالف لما نعرف؟ مثل (الكرم)، فعند جلوسك في مقهى في أي مكان ووجدت بعضهم يتسابقون على دفع الفاتورة فستعرف من أي ثقافة هم قادمون. وإن وجدت آخرين يقتسمون الفاتورة بينهم ستعرف إلى أية ثقافة ينتمون! ذلك في العموم ما تشي به الثقافة في الظاهر، أما في التخصيص فمن المهم تأكيد تطوير مناهج التعليم، وبخاصة تدريس المنطق والفلسفة اللتين تتيحان للإنسان فهم الآخرين وتقدير ظروفهم الإنسانية، أما اعتناق الأفكار من دون براهين فستدخل مع الآخر في طريق مسدود. فكيف تقنع مثل هؤلاء بزيف ما اقتنعوا به من خلال البراهين التي لم يتعرفوا إليها!

«ربيع العرب» والمعرفة الاجتماعية

«ربيع العرب» والمعرفة الاجتماعية

في حوار نشرته مجلة الفيصل في عددها الماضي قال الباحث نبيل عبدالفتاح: «إن علماء الاجتماع العرب لم يقدموا معرفة حول المجتمع العربي لا قبل الربيع العربي ولا بعده». وأرى أن في هذا الرأي تعميمًا يحتاج إلى وقفة. لعل الزميل يرغب في رؤية نظرية اجتماعية متكاملة تفسر الوضع العربي فلا يجدها، إلا أن الاستدراك واجب. لقد أصبح لدينا فيض من الكتابات الاجتماعية، منذ نصف قرن أو يزيد، كما أن بعض الكتابات عملت كجرس إنذار قبل «الربيع العربي»، أي في بداية العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين.

على سبيل المثال، لا الحصر، هناك كتابان لهما قيمة تبشيرية، أو قل إنذارية، لما حدث بعد نشرهما. نُشر الكتابان في نهاية العقد الأول من هذا القرن، في وقت كانت المجتمعات العربية في سبات (المراوحة في المكان)؛ جراء المشكلات الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة. الكتاب الأول بعنوان «مصر ليست أمي.. دي مرات أبويا» لأسامة غريب عبدالعاطي، وهو تجميع لعدد من المقالات نشرها الكاتب في الصحف. أما الكتاب الثاني فهو «وجع المصريين» لخليل فاضل.

اللافت أن المؤلفين لم يجدا ناشرًا ينشر كتابيهما، فنشرا على نفقتهما الشخصية. وقد طبع من الكتاب الأول خمس عشرة طبعة، دليل على إقدام القارئ على قراءة ذلك الشكل من النقد الساخن وتشريح المجتمع دون كثير من الكلام المنمق. فإن أضفنا إلى ما سبق عددًا من الكُتاب الذين سبقوا ولحقوا تلك الفترة فسوف نجد عددًا معقولًا من الكتابات الاجتماعية/ الاقتصادية التي تتناول الوضع العربي في دوله المختلفة من المغرب إلى المشرق. هناك كُتاب مغاربة وتونسيون وعراقيون ولبنانيون كتبوا، باجتهاد لافت، عن أحول المجتمع العربي بشكل شامل أو محلي (وطني).

ومنذ فجر ما يعرف بالنهضة العربية، منتصف القرن التاسع عشر تقريبًا، قدَّم كتاب عرب قراءة مختلفة للسائد من معرفة مجتمعاتهم، أمثال طه حسين وأحمد أمين وعلي الوردي. وجاء بعدهم كُتاب حاولوا تقديم تفسيرات متعددة أو (شبه نظريات) لتطور المجتمع، مثل: جلال أمين وفؤاد زكريا وغازي القصيبي، وهشام جعيط وحيدر إبراهيم وسيد عويس والمختار الهراس وخلدون النقيب. قدم هؤلاء أعمالًا وأفكارًا تدعو إلى التطور الاجتماعي والانفتاح الثقافي، ربما لم يأت الوقت لدراسة أعمال تلك النخب الحداثية ونقدها وتقديم تحليل لها للقراء. وهناك مؤسسات بحثية مدنية (غير رسمية)، قدمت جهدًا في محاولة فهم المجتمع العربي. منها، على سيبل المثال، مركز دراسات الوحدة العربية، بقيادة المرحوم خير الدين حسيب (عراقي)، وقد أنتج المركز كمًّا معقولًا من الدارسات الاجتماعية التي تستحق التنويه.

نظريات تفسير الواقع

ما نعانيه هو غياب مؤسسات (رسمية) تقرأ الوضع السائد وتقدم النصيحة للسياسيين كي يتخذوا سياسات مناسبة للمتغيرات الحادثة. لعل ما هو موجع ما سمع علنًا من القيادات التي مر عليها (الربيع) ودخلت مجتمعاتها في أنفاق ضيقة، كقول السيد زين الدين بن علي: «الآن فهمتكم»! وقول السيد معمر القذافي: «من أنتم؟» وقول السيد حسني مبارك: «خليهم يتسلوا»! رحمهم الله جميعًا، فقد كانوا في وادٍ مختلف عما يتكون من ضغوط في بلدانهم؛ لغياب القراءة الحقيقية للواقع الذي تعيش فيه شعوبهم، إما بسبب معلومات خاطئة مصدرها الأجهزة غير المدربة إلا على السمع والطاعة، أو بسبب إنكار أو رفض ما يدور على أرض الواقع.

النظريات الاجتماعية متغيرة مع تغير ظروف المجتمع الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية. فعدد من الاجتماعيين العرب، حتى اليوم، عندما يفكرون في نظرية اجتماعية شاملة لتفسير الواقع العربي يرجعون إلى نظرية ابن خلدون في تبدل الأمم وتغير الأنظمة. وهي نظرية معروفة في تبادل السلطة كما سماها ابن خلدون بين «أهل المدر وأهل الوبر». وقد تنطبق تلك النظرية على عصور سابقة، أما بعد القرن الثامن عشر، فإن نظرية ابن خلدون لم يعد لها مكان في تفسير الواقع، أي أن قيام الممالك لم يعد تبادلًا بين (المدر والوبر). لقد دخل عامل ثالث مهم جدًّا تحكم لسنوات طويلة في تلك المعادلة (أي تغير السلطة) وهو عامل الاستعمار الغربي، الذي عطل ميكانيزمات التفاعل الحر بين مكونات المجتمع، وفرض نوعًا من القسر على شكل (الدول) يناسبه، تحت شعارات (القيم الكبرى) التي فرضها في أشكال الحكم والإدارة، لمدة طويلة. فرض الاستعمار على بقاع كثيرة في العالم، ومنها مناطق واسعة من العالم العربي، نوعًا من الحكم (الجامد) الذي يحقق مصالح الاستعمار نفسه، من دون فرصة لعمل الميكانيزمات السابقة بحرية كما كانت تفعل.

من هنا فإن تغيير السلط السياسية في عالمنا أصبح له مفتاح آخر غير التفاعلات الداخلية وهو التدخل الخارجي؛ لذلك نجد كتابات كثيرة اليوم تتحدث عن تدخل الولايات المتحدة في أحداث الربيع العربي، وقد يكون ذلك الحديث مبالغًا فيه، إلا أن جانبًا منه لا يمكن استبعاده أو إنكاره.

لم تعد التفاعلات الداخلية الحرة بين مكونات المجتمع العربي المعني هي فقط المحركة للتغيرات الكبرى التي تحدث في مجتمعاتنا. هناك عوامل داخلية وخارجية، متفاعلة بين بعضها، تحرك بوصلة التطور في المجتمع. وأصبح للعالم اليوم هوامش مشتركة بسبب السرعة الهائلة في تطور وسائل المواصلات وتطور وسائل الاتصال؛ لذلك لم يعد العالم كما قيل «قرية صغيرة» فقط، بل أصبح بناية واحدة يتأثر سكانها بأي خلل يصيب أحد الطوابق فيها.

محاولات للفهم

لعل المثال الذي نعيشه اليوم هو أفضل شاهد، وأعني به الحرب الروسية/ الأوكرانية. مثل هذه الحرب في الزمن القديم ستبدو بعيدة ومعزولة عن العالم. أما اليوم فقد أثَّرت الحرب سلبيًّا في العالم أجمع، كنقص الطاقة ونقص الغذاء. فهي لا تؤثر في المشتركين فيها ومناصريهم فحسب، بل في مجتمعات بعيدة قد تصاب بالمجاعة والاضطرابات السياسية والاجتماعية الكبيرة، وتتغير أيضًا العلاقات الدولية: البطالة والتضخم وما تفرزه من حركات اجتماعية في الغرب نتيجة مباشرة لحرب تكاد تكون عالمية.

جزء من تعويق بناء نظرية اجتماعية عربية، أو مساهمة في جزء من بنائها، هو سقف الحريات المتدني الذي صاحب حكم العسكر والأحزاب الشمولية في عالمنا العربي. تدني هذا السقف يجعل من الإنتاج الفكري مقيدًا بقيود رسمية، إلى جانب القيود الاجتماعية القائمة، فيصبح المثقف منبوذًا وملاحقًا عند الجهر برأيه الذي تعدّه السلطة خارجًا أو يعدّه المجتمع خارجيًّا! وبالضرورة لا يمكن أن يتطور الفكر الإنساني في ظروف القهر والمطاردة. من جانب آخر فإن التعليم والإعلام لهام دور سلبي في إمكانية وجود اجتهادات نظرية اجتماعية، بسب سطوة القيم التقليدية في هذين المجالين، وهو ما يؤدي إلى تفريخ بشر متشابهين يحملون نظرة ضيقة للعالم ولمجتمعاتهم.

وعلينا أيضًا أن نقبل فكرة أن دراسة العلوم الاجتماعية هي (علوم صعبة)؛ لأن العلوم البحتة والتطبيقية تجري في معامل معزولة، أما الاجتماعية فإن المجتمع هو مجالها، وفيه من العقبات الثقافية ما يمنع انطلاق العاملين في هذا المجال إلى مناطق قد تكون محفوفة بالمحرمات أو محاصرة بالقوانيين!

شيرين أبو عاقلة من البحرين إلى بوابة النصر في باريس!

شيرين أبو عاقلة من البحرين إلى بوابة النصر في باريس!

نشأت شيرين أبو عاقلة في أسرة فلسطينية مهاجرة متوسطة الحال في البحرين، بعد أن هاجر والدها من بلده فلسطين، عقب النكبة في عام 1948م. فتحت العائلة مخزنًا لبيع الملابس وعاشت من دخله، أما شيرين فقد تعلمت في مدارس البنات، في الحي، من الابتدائية حتى الثانوية، وخالطت بنات جيلها واحتفظت بصداقات بعضهن. وبعد أن شبت قررت أن ترى العالم، فأخذتها حياتها الدراسية إلى أماكن عديدة، منها الولايات المتحدة التي اكتسبت جنسيتها. تدرجت شيرين في أعمال عديدة، وفي ربع القرن الأخير أصبحت وجهًا مألوفًا كمراسلة نشيطة لمحطة الجزيرة في الأرض المحتلة، التي تعشقها، فكانت، من مسقط رأس عائلتها، تقدم التقارير عن نشاط المقاومة التي فاقت أية مقاومة عرفها شعب في التاريخ الحديث.

القتل المتعمد

رصاصة غادرة اخترقت جمجمتها الصغيرة لتسقط، ربما كما تحب أن تموت على أرضها الفلسطينية. قتلُ الفلسطينيين ليس خبرًا جديدًا في الأرض المحتلة؛ فكل يوم تقريبًا يسقط شهداء على تلك الأرض، شباب وفتيات وسيدات ورجال طاعنين في السن. معركة مستمرة منذ قرابة أربعة وسبعين عامًا في السجل الرسمي، لكنها كانت قبل ذلك بعقود، معركة طويلة ومريرة، استغلها كثيرون؛ من أجل المتاجرة بها والمزايدة عليها. لكن على الرغم من هذه المدة من الزمن لم توهن عضد الفلسطيني المقاوم في أرضه أو خارجها. تقلبت به الأقدار وشُرِّد من أرضه وعاش في المنافي البعيدة وفي المخيمات العارية، لكنه، جيلًا بعد جيل، واصل نضاله من أجل وطنه الذي يعيش في كيانه.

قتل شيرين بدم بارد أقام الدنيا على السلطات المحتلة، وسُمع في كل عواصم العالم، إلى درجة أن ظهر رسمها على قوس النصر في باريس، بلد النور، دليلًا على أن الإنسانية تشجب هذا القتل العنصري، وبخاصة أنها صحفية تؤدي عملها المهني. والأقوال حول مقتلها عديدة، لكن الأقرب إلى الصحيح أنها استُهدفت من جندي إسرائيلي، في الغالب من غلاة المتعصبين.

في جنازتها المهيبة، التي شهدها العالم على محطات التلفاز، حدث عمل مروع آخر قام به الجنود الإسرائيليون، وذلك بضرب من حمل الجنازة، من أبناء وطنها، بصورة وحشية حتى كاد النعش يسقط أرضًا. وقد قام المسلمون والمسيحيون بالصلاة على جثمانها في ظاهرة تعاطف إنساني متميز، إلا أن بعض المتشددين، ممن يفهمون الإسلام فهمًا مغلوطًا، دخلوا، للأسف، في نقاش عقيم تشمئز من ذكره النفوس الإنسانية، كما يستنكره الإسلام العظيم.

لقد فتحت الصحف والمحطات التلفزيونية ووسائل التواصل الاجتماعي أبوابها مشرعة للتعليق على مقتل الشهيدة شيرين، كما استنكر مقتلها الساسة في عواصم عالمية كثيرة، وطالب الجميع أن يكون هناك تحقيق شفاف وعلني ومحايد في ظروف مقتلها، وفتحت السفارات الفلسطينية أبوابها، في العواصم الممثلة فيها، لتلقي العزاء، وأُعيدت القضية الفلسطينية إلى صدارة النقاش. لكنه نقاش يحتاج أن يدار بعقل مفتوح وحديث، فلا بد من القول: إن الصف الفلسطيني، على الأقل، ليس في أفضل حالاته اليوم.

فلسطين اليوم التالي!

في عالم وزمن تصل فيه الأخبار أولًا بأول، من خلال تليفون محمول، تختلط الأفكار وتشوش المعلومات، ويصل إلى الناس من الزيف الكثير، والقليل مما ينفع. هذا بالضبط ما حصل في الأسبوعين الأولين من شهر مايو 2022م، والعالم يشهد لا أقل من (إعدام) لسيدة عزلاء تؤدي عملها. معظم الاجتهادات كانت في الهوامش وليست في صلب الموضوع. الموضوع أن الفلسطينيين، في الضفة وفي القطاع وفي الداخل الإسرائيلي وفي الشتات، وبصرف النظر عن اجتهادات قياداتهم السياسية، يواجهون تصفية وتطهيرًا عرقيًّا على نطاق واسع، يشابه ما حصل لليهود في أوربا في منتصف القرن الماضي. والعالم يتفرج وبعضه يتعاطف، لكن على الأرض يظهر العجز الكامل عن تقديم أية مشروعات قابلة للتنفيذ للوصول إلى حل لتلك المعضلة التي تسمم تداعياتها الجوار، بل العالم، من الشيشان إلى نيويورك وما بينهما، والأحداث لمن يتابع هي شاهدة على نفسها. ومن هنا فإن مقتل الشهيدة شيرين قد يثار لمدة زمنية فإن لم ننتبه إلى أهمية حل القضية برمتها فسوف نبقى ننتظر الحدث التالي ثم التالي. إن مقتل شيرين المأساوي يطرح علينا إعادة زيارة صادقة للمسرح السياسي الفلسطيني والنظر إليه من زاوية الموضوعية، مع الاعتراف غير المتحفظ بأن القضية معقدة ومتشعبة.

جوهر الموضوع الفلسطيني

بعد أكثر من سبعة عقود من محاولات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لتطويع الفلسطينيين، أو استيعاب بعضهم في الداخل على قاعدة (العدالة المنقوصة)، لم تفلح تلك المحاولات في وقف النضال الوطني. السبب هو الفشل المتكرر في الاستيعاب، وأساسه اليمين العنصري الذي لم يتورع عن قتل رئيس وزراء معتدل (إسحاق رابين، نوفمبر 1995م) أراد أن يصل إلى نوع من الحل. هذا لا يعني غياب طائفة من اليهود ضد ذلك التوجه في داخل إسرائيل وخارجها؛ فقد سارت مظاهرات، طليعتها من اليهود، مناصرة للشهيدة شيرين في عدد من المدن الأميركية. بعدها اتجه التيار السياسي الإسرائيلي إلى اليمين، وزاد هذا اليمين من تشجيع التشدد من خلال التعبئة والاستمالة الشعوبية واستباحة المزيد من الأراضي الفلسطينية؛ من أجل سكن القادمين الجدد. وقعت إسرائيل في قبضة مخيفة هي تضخيم المخاوف وتحقير مطالب الفلسطينيين المستحقة، وهو ما دفع بالأطراف الأخرى إلى مواجهة التطرف بالتشدد، ورفض الانصياع للمشروع الإسرائيلي، كما ظهر في تاريخ الصراع الطويل.

إذا كان ثمة درس مهم يمكن استخلاصه من الأحداث الأخيرة، وبخاصة مقتل الشهيدة شيرين، فهو أن على الفلسطينيين اقتلاع شوكهم بأيديهم. والوحدة الفلسطينية ليست ترفًا بل ضرورة ومصلحة، ولن تكون بعيدة من المساعدة العربية والدولية إن توحدت الأهداف وتقاربت الوسائل. ولكن بالاعتماد على النفس وإعطاء الآخر مساحة، فمن هو قادر على المساعدة، الدبلوماسية والسياسية، يمكنه أن يفعل. ولا لوم على الفلسطينيين لتعاونهم مع من يرونه قادرًا على مساعدة مشروعهم التحرري، ولا لوم عليهم لتوزيعهم صكوك (الوطنية والخيانة) على الآخرين. ذلك لم يجدِ في السابق ولن يجدي اليوم ولا في الغد. وصولهم إلى هذه القناعة سيساعد القضية. وقد تمت دعوة الدول الإسلامية، بمبادرة سعودية، لأخذ موقف فعال سياسيًّا من أجل القضية، إضافة إلى حراك إقليمي ودولي يتوجب فهمه وعدم المزايدة عليه.

الثقافة لا تتغير بالقانون

الثقافة لا تتغير بالقانون

في افتتاح الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك لمؤتمر الحوار الأوربي المتوسطي والخليجي في سبتمبر 2006م قال: «اتسم القرن التاسع عشر بأنه قرن صراع القوميات، والقرن العشرون بأنه قرن صراع الأيديولوجيات، أما الحادي والعشرون فهو قرن صراع الثقافات». ولم يكن بعيدًا من الصواب؛ فقد شهد هذا القرن تغول الهويات الثقافية وصراعها كما لم يحدث من قبل، ودارت حروب أصلها ثقافي. سبب هذا الصراع في صلبه هو فهم أو عدم فهم لثقافة الآخر أو محاولة حرفها أو الاستيلاء عليها وقهرها. لقد ثبت أن الاستيلاء على ثقافة المجتمع هو الطريق إلى استعباده من جانب تلك المجموعة التي تستولي على الثقافة. كما أن إشباع المجتمع بثقافة خرافية ومعتقدات لا عقلانية تشيع الشعوذة، هو الطريق إلى قهر المجتمع وتخلفه.

في دول الخليج عدد من المشروعات، التي تتكاثر في السنوات الأخيرة والتي يمكن أن توصف بأنها (نشاطات ثقافية)؛ منها معارض الكتب، ومنها مهرجانات المسرح والسينما والمعارض الفنية، حتى مشروعات الترجمة. والجميع، من متخذي القرار في تلك النشاطات، يتحدث عن أهمية الثقافة في تطور المجتمع. وهذا صحيح، إلا أن الإشكالية التي تواجه المشتغل بالثقافة هي: «ما الثقافة»؟! إن غموض المصطلح في اللغة العربية يوقعنا في إشكالية يتوجب مناقشتها، فعلى الرغم من ثراء اللغة العربية، فإنها تواجه مشكلة المصطلح!

نعرف كثيرًا من التعريفات للثقافة جلها قادم من لغات أخرى، وخاصة الإنجليزية الأكاديمية، حيث عمل على تطوير المصطلح العديد من علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا في الدول التي تقدم فيها البحث الاجتماعي، ونقل كثير منها إلى العربية حرفيًّا، (تقريبًا). وكما أننا نعرف عن اجتهاد بعضنا في هذا الأمر، الذي عاد إلى القواميس تحدث عن (الحذق) في مجال معين من النشاط، بمعنى الثقافة. ثم تطور الأمر إلى القول العام: «الأخذ من كل علم بطرف»! وهو تعريف عام لا يخلو أيضًا من غموض.

معنى الثقافة

لا تسعفنا كثير من التفسيرات لتحديد معنى الثقافة في فضائنا العربي، وهي عندي أنها (منهج) أكثر مما هي (فكرة). ولتفسير ذلك، فالثقافة هي منهجية تناول القضايا العامة من خلال التفكير العلمي الممنهج والعقلاني الذي يقود إلى نتائج نسبية لا مطلقة. ولتفسير ما ذهبت إليه، تنشأ الفطنة من القراءة الممنهجة (بشكل رئيس) والتجارب الشخصية، والموروث الاجتماعي، وتحكيم العقل (لا العاطفة) في النظر إلى الأمور. والمثقف الذي يمكن أن يطلق عليه تلك الصفة، هو الشخص (الذي يعرف أنه لا يعرف)! أي أنه مستعد للتعلم دائمًا، وهذا يعني أن وجهة نظره قاصرة ومفتوحة للتعديل والتطوير إن استجدت معلومات ثابتة جديدة.

هناك مقولة منسوبة للإمام الشافعي أرى أنها تختصر الفكرة حيث قال: «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرى خطأ يحتمل الصواب». أي أن المثقف الحقيقي لا يمكن أن يدعي العصمة! وثمة مقولة في التراث الغربي منسوبة إلى فولتير: «قد أختلف معك في الرأي، ولكني على استعداد أن أدفع حياتي ثمنًا لحقك في التعبير عن نفسك». هذا هو المعنى العام الذي أستطيع أن أقول: إنه قريب إلى اجتهادي وخبرتي في فهمي لتوصيف المثقف، مع أني أعترف أنه قريب إلى المثالية منه إلى واقع حياتنا التي نعيش.

أما المعنى الخاص للثقافة فهو متعدد: فهناك مثقف موسيقي مثلًا، ومثقف تشكيلي ومثقف مسرحي، ومثقف اقتصادي.. من هنا فإن كثيرين يتحدثون عن التعددية الثقافية، أي المعرفة اليقينية بأن هناك (أشكالًا من الثقافة) مختلفة بين جماعة وأخرى، بل بين الجماعة الواحدة نفسها حسب سوية وتعليم أفرادها أو حسب موقعهم الجغرافي في البلد الواحد نفسه. مثال على ذلك، ختان البنات؛ فهو مقبول وممارس في بعض المجتمعات العربية، ومكروه ومستهجن في مجتمعات أخرى. وتقبيل الرجل للرجل مستنكر في جماعة وشبه عادي في جماعة أخرى. وتستنكر بعض المجتمعات المثلية الجنسية، في الوقت الذي تشرع فيه مجتمعات أخرى لقبول مثل هذا السلوك. الثقافة بهذا المعني نسبية وفي الوقت نفسه متغيرة ومرتبطة بقيم المجتمع وقد يحدث تغير طفيف أو عميق على تلك القيم فتتغير معه الثقافة العامة للمجتمع.

وكلما انعزلت المجتمعات عن بعضها وتباعدت أصبحت لها (ثقافات) محددة، وقد يستنكر مجتمع بعض الممارسات في ثقافة مجتمعات أخرى، ويعتقد أن ثقافته هي الصحيحة. وكلما انفتح المجتمع على آخرين وتفاعل معهم قبل التعددية الثقافية وفهم أن الثقافة نسبية وليست مطلقة.

لا يمكن تصنيف وتحديد الثقافة بشكل موضوعي؛ لأن تقييمها يقع بالضرورة ضمن نطاق قيم ثقافية معينة، وقد تتغير تلك القيم بمتغير الزمن أو الظروف الاقتصادية والاجتماعية أو السوية التعليمية للمجتمع، أو الضغوط السياسية. إلا أن الثابت أن الثقافة (أي ثقافة) لا تُغير بقانون، قد تنحني للقانون في وقت ما، لكنها تعود من جديد مرة أخرى متى ما تراخي ذلك القانون! وقد تقاوم أيضًا أي قانون يصدر، مثال اشتراك المرأة العربية في سلك العسكرية، تقبلته بعض المجتمعات العربية وقاومته أخرى.

الفرق بين النشاط الثقافي والثقافة

النشاط الثقافي هو إدارة العمل نفسه، وهو نشاط تقوم به الدولة من خلال مؤسساتها، ويقوم به الأفراد أو الجماعات من خلال ما يعرف بالمجتمع المدني، مثل: إقامة معارض للكتب، أو مهرجانات مسرحية، أو معارض لوحات فنية، أو معارض للأعمال اليدوية.. يسمى ذلك النشاط عادة بالنشاط الثقافي، إلا أن تأثيره في المجتمع يعتمد على سوية المتلقي، فليس كل جامع لوحات فنية مثقف، أو حاضر لنشاط مسرحي أو مهرجان للأغاني أو حتى زائر لمعرض الكتاب هو مثقف بالضرورة. المثقف والثقافة هو عمل فردي بالغ الخصوصية، أصله القراءة الجادة، إلا أن الفكر الاشتراكي قدم لنا مفهومًا هو (الثقافة الجماهيرية) وبعض بلداننا العربية سارت وراء ذلك المفهوم وحاولت تطبيقه من خلال (مسرح في كل مكان) و (كتاب للجميع) برخص الأثمان.. إلى آخر تلك الشعارات الأيديولوجية التي هدفها تعبئة الجمهور وراء مقولات وأهداف الحاكم أيا كان! وتعليب ثقافة الجمهور في علب جاهزة!

الثقافة العمودية والثقافة الراسية

الثقافة العمودية هي القراءة المعمقة في كتب جادة وعلمية وبطريقة منهجية في مجال من المجالات أو حتى أكثر من مجال: سياسة، اقتصاد، اجتماع، فلسفة، طب، علوم بحتة، علوم تطبيقية. وكلما تقاطعت تلك القراءات وهضمت من الشخص قرب إلى أن يكون إنسانًا مثقفًا، بشرط أن يملك المنهج، وهو منهج علمي يقوم على الاستعداد للتنازل عن الرأي إن كان هناك رأي أفضل منه، أو نفي الحقيقة المؤقتة بحقيقة أكثر ثباتًا منها، وأن يملك فهم الوقائع في إطارها التاريخي.

على سبيل المثال، يرى كثيرون أن روسيا لا تقبل أن يكون هناك سلاح فتاك قريب من حدودها، مثلما لم تقبل أميركا سلاحًا فتاكًا في كوبا قريبًا من حدودها! في الظاهر هذه المقارنة شبه معقولة، عيبها الرئيس أنها أسقطت عامل الزمن، وهو المهم هنا. فمثلًا الفرق بين سرعة الصواريخ العابرة للقارات منذ ستين سنة (واقعة كوبا) كالفرق بين سير عربة يجرها حصان، وسير القطار فائق السرعة. لقد كانت الصواريخ مهددة لأنها قريبة من الشواطئ الأميركية، أما صواريخ اليوم فهي عابرة للقارات.

الفكرة هنا أن إسقاط عامل الزمن أو تقديره هو جزء لا يتجزأ من موقف المثقف في القضايا العامة. المقارنة بين شيئين قد يكونان متماثلين في الظاهر مع إسقاط عامل الزمن يفسد المقارنة تمامًا. المثقف العمودي هو الشخص الذي يملك بوعي منهجًا متكاملًا وعقليًّا للنظر إلى الأمور ببعدها التاريخي. جزء من مشكلات الثقافة العربية المعاصرة أنها تسقط الزمن، وخاصة في التفسيرات الدينية/ الاجتماعية. كمثال يستند بعضٌ على أن (فلانًا) في الزمن البعيد أفتى بكذا! وعلينا أن نتبعه، مع أن الزمن قد تغير والمعطيات الاقتصادية والاجتماعية قد تغيرت تمامًا!

أما الثقافة الرأسية (وأخشى أن أسميها السطحية) فهي التي تلتقط الظواهر بشكل مجزأ وعاطفي في الغالب. لقد فتحت وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة هذا الباب واسعًا في السنوات الأخيرة، فلم يعد كثيرون يعتمدون على تلقي معلوماتهم من مصادر موثقة، مثل الكتب والدراسات الجادة، بل من بضع سطور يكتبها شخص غير متخصص وينشرها على العامة الذين يفتقرون إلى المناعة المعرفية، فلا يكتفون بتصديقها وإنما يقومون بترويجها أيضًا.

كم من شخص يعدّ نفسه رجل اجتماع ويفتي، فيصدقه الناس، وكم من شخص يعدّ نفسه (رجل دين) فيفتي بما لا يوافق العقل فيُصدق أيضًا! وهكذا ظهر مفهوم (الثقافة المضادة) وهي قد تستخدم بحذاقة سياسيًّا واجتماعيًّا لتضليل الجمهور العام سواء في المساقات السياسية أو الدينية أو الاجتماعية بل حتى العلمية. وقد تستخدمها الدول أو القوى المنظمة من خلال ما يعرف اليوم بـ«الذباب الإلكتروني» لترويج لشخص أو فكرة أو تشويه شخص أو سياسة معينة، وهو أمر استفحل حتى قامت بعض المجتمعات بتغليظ العقوبات على مثل تلك الأفعال.

على الرغم من انتشار كثير من النشاطات التي يمكن أن تعرف أنها نشاطات ثقافية في دول الخليج، فإن إعادة الزيارة لهذه النشاطات وتحليل مضمونها وتقييم الاستفادة منها هو صلب ما يتوجب أن يفكر فيه. فإن لم تكن الثقافة من أجل الخير العام ونشر السلام والمحبة بين أفراد المجتمع والاعتراف بالثقافات الجانبية وتعظيم دور الإنسان كإنسان واحترام المختلف في النوع والعرق، فهي تبقى شكلية.

الثقافة الحقة هي فعل إنساني يتخذ الإنسان معرفته لتحقيق غايات إنسانية إيجابية. الثقافة أداة ووسيلة وليست غاية بحد ذاتها، وربما يكون التعاون بين المؤسسات الثقافية في دول الخليج هو الخطوة الأولى للتنسيق وتحديد الأهداف واستخدام الموارد بما يحقق الخير العام للمجتمع وللثقافة العربية الجادة المثمرة في الإطار العربي كله.

الشباب والبُعد الاجتماعي للتقنية

الشباب والبُعد الاجتماعي للتقنية

قريبًا جدًّا لن يعود مستعمل الشبكة العالمية بحاجة إلى (واي فاي) في أي مكان في العالم. سوف تتوافر تقنية تليفون نقال مرتبط بالأقمار الصناعية، وسيكون بإمكانك التواصل مع الآخرين بالصوت والصورة. هذا ما تقوله لنا آخر أخبار التقنية. ما يطلق عليه اليوم مفهوم (إدمان التقنية الحديثة) هو نتيجة ما فعله الإنترنت خلال ربع قرن في سلوك الإنسان، وهذا ما لم يفعله أي اختراع سابق!

بحسب شركة Statista الألمانية، المتخصصة في أبحاث السوق، فإن عدد مستخدمي الهواتف النقالة في العالم ارتفع في نهاية عام 2018م إلى 2.53 بليون مستخدم، مقارنة بنحو 2.32 في عام 2017م، ثم وصل الرقم إلى 2.87 بليون بحلول عام 2020م؛ بل إن بعض التقارير تنذر من الآن أنه خلال وقت قصير جدًّا سوف يصبح الإنترنت على مستوى فضائي وبثمن يناسب أي إنسان على سطح الكرة الأرضية. وتذهب بعض التقديرات إلى أن الفرد في المتوسط يقضي 90 دقيقة على هاتفه النقال، أي أن معظم الناس يقضون 23 يومًا في العام مع هواتفهم الذكية.

في بريطانيا تُقدِّر الدراسات أن المواطن البريطاني يدقق في تليفونه النقال كل سبع دقائق، وينظر معظم المواطنين إلى تليفوناتهم خلال نصف ساعة من استيقاظهم من النوم، كما أن المتوسط للفرد هو أكثر قليلًا من ثلاث ساعات، يقضيها شاخصًا في شاشة تليفونه الذكي في اليوم. وتقفل اليوم جرائد يومية وأخرى أسبوعية بسبب مزاحمة الإنترنت حيث يستطيع القارئ أن يجد ما يريده فقط على تليفونه النقال، وأصبح (الكتاب الإلكتروني) الأكثر تداولًا؛ فشركة أمازون (التي أسست فقط عام 1994م) تبيع من الكتب الإلكترونية ما يفوق أي ناشر ورقي آخر في الولايات المتحدة. وتذهب التقارير المنشورة إلى أن مستهلكي الكتب الإلكترونية يفوق عدد مستهلكي الكتب المطبوعة، حتى الكتاب الإلكتروني العربي بدا يغزو السوق إما من خلال منصات خاصة للشركات العربية الناشرة، أو من خلال المنصة العالمية (أمازون) كما تفيد التقارير المنشورة بتراجع مبيعات معظم الصحف الورقة بسبب الإنترنت.

الشباب والتقنية الحديثة

تقول لنا الإحصائيات المتوافرة: إن أكبر شريحة لمستخدمي الإنترنت هم بين أعمار 16– 24، وربما الأكثر عددًا في الاستخدام عربيًّا، نسبة إلى عدد السكان، هم في دول مجلس التعاون. في عام 2018م نظمت مؤسسة الطفولة العربية في الكويت ندوة حول «الشباب العربي والتقنية»، ومن ضمن الذين استضافتهم الندوة شخصية كويتية تعمل في قطاع الطفولة والشباب في وزارة الداخلية الكويتية، حضر للمشاركة حول تأثير التقنية في الشباب. سرد في تلك المداخلة قصة لافتة عن أسرة كويتية سافرت مع أبنائها (ولد وبنت) إلى إحدى العواصم الغربية، وعند وصولهم إلى الفندق وانشغالهم بالتسجيل اختفي الابن (البالغ من العمر اثني عشر عامًا) فارتبكت الأسرة وبحثت عنه دون طائل. وبعد ساعات جاءت الشرطة وقالت: لقد وجدنا الابن وهو الآن مع جماعة من صحبه ولا يرغب في العودة إلى الأسرة؛ لأنه تعرَّف إلى تلك المجموعة (غير السوية) من خلال الإنترنت، وقد كلفوا محاميًا للدفاع عن حق الولد في الانضمام إليهم!

تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في الشباب والأحداث أصبح موثقًا وجزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية، وهو ما يؤرق المربين والأُسَر حتى الدول والمنظمات المهتمة بالشباب، إلى درجة أن بعض المعسكرات التي تقام للشباب في عدد من الدول تشترط عدم اصطحاب ما يُسهِّل لهم التواصل الاجتماعي (كالتليفون والجهاز اللوحي) ويسمح لهم بالاتصال بذويهم مرة أو مرتين في الأسبوع تحت الرقابة، وذلك للنأي بهم عن الانشغال بما لا يفيد من خلال الاطلاع الإدماني على وسائل التوصل الاجتماعي.

اختراق العقول

طفل في الخامسة من عمره لديه تليفون نقال؛ كي يتسلى كما قال والده في تلك الندوة. بعد أيام وجدت الأم أن ابنها يخبئ شاشة التليفون عنها، ولما أطلت عنوة على ما يشاهد وجدته ينظر إلى شريط يظهر أمورًا (غير أخلاقية) ولا تناسب عمره. فكر الوالدان ما العمل، واكتشفا أن هناك (تشفيرًا) يمكن أن يمنع الجهاز من عرض تلك الصور، وبالفعل بعد أن نام الطفل قاما بتشفير الجهاز مطمئنين على سلامة فعلهم، لكن بعد أيام وجدت الأم أن الطفل يسترق النظر إلى جهازه وكلما قربت منه ابتعد، واكتشفت أخيرًا أن الابن استطاع أن يتخطى التشفير!

يعتمد الآباء على أبنائهم في التعامل مع الإنترنت، في حجوزات الفنادق ودفع الرسوم والحصول على خدمات؛ لأن الجيل الجديد قد اندمج في هذا الحقل وبدأ أيضًا ينتج ابتكاراته. وتشتكي الأمهات من بناتهن الشابات اللاتي يتسوقن عن بعد، ويكتشفون ويكتشفن البضائع الحديثة والموضات الجديدة. ولقد ظهر جيل يسمى «الفاشنستات»، من الكلمة الإنجليزية Fashion، وهن من يعرضن على وسائل التواصل الاجتماعي أشكالًا متنوعة من البضائع والخدمات، ويحُزن على شهرة واسعة أكبر كثيرًا من شهرة أي كاتب جاد أو سياسي محنك أو حتى وزراء. ولقد تدفق إلى هذا الحقل العشرات بل المئات منهن بسبب الدخل المرتفع الذي تدره تلك المهنة البسيطة بالإعلان من خلال موقع تلك الفتاة الجميلة عن البضاعة أو الخدمة. وهو حقل لمن لا يعرفه به من الإغراءات الكثير، وقد ثارت حوله شبهات منذ أشهر (في عام 2020م) في الكويت وبعض دول الخليج تقول: إن تلك المواقع هي غطاء (لغسيل الأموال) وقد أوقفت السلطات تلك الأعمال حتى ينتهي التحقيق الذي لم يُعلن أنه أسفر عن شيء.

أخطار اجتماعية غير مرئية

الأخطار غير المرئية المحدقة بالأطفال والشباب من مستخدمي التقنية المتطورة كثيرة وخطيرة، فكلنا يعرف القاعدة البديهية للتغذية السليمة هي «أنت ما تأكل». وعندما يتعلق الأمر بالسلوك، فقد أجمع علماء الاجتماع على أن «الإنسان هو من يخالط»، ونحن نتأثر تأثيرًا كبيرًا ويوميًّا بطبيعة الناس والأشياء من حولنا، عائلاتنا ومجتمعاتنا ومؤسساتنا ومعتقداتنا والنماذج السلوكية المحيطة بنا. بل إن مصادر التأثير تجد سبيلها إلى نظامنا العصبي والبيولوجي، ولهذه العملية جذور عميقة في تطور البشر، وهي تعطينا ما يمكن تسميته (الواقع المشترك) وتمكننا من تقاسم الخبرات في الفضاء الاجتماعي.

اليوم لم يعد من نخالطهم بشرًا مثلنا بشكل مباشر أو غير مباشر؛ فهناك فضاء (افتراضي) يلتقي فيه الناس على شبكة التواصل الاجتماعي، التي يسميها بعضهم «شبكة الاعتلال الاجتماعي». هذه العلاقات ليست مع أناس تربطنا بهم صداقات ومعرفة، بل إننا في كثير من الأوقات لا نعرف حتى أسمائهم الحقيقية، فقد تكون مجهولة… ويقدم لنا تويتر وفيسبوك وإنستغرام (معلومات) تفضي إلى مجموعة من الأحكام المسبقة، وتزيد من الهُوّة بين (المتجاورين) لتصل إلى غير المتجاورين، وتؤثر في السلوك بشكل عام وبخاصة سلوك الأطفال والشباب.

التقنية تتمتع بتأثير كبير ومحتوم في الجيل الجديد، فلا تصادف مجموعة من الشباب إلا وتجدهم منهمكين في مطالعة شاشات تليفوناتهم، يحادثون البعيد، وينفصلون عن القريب، بل حتى في تجمع الأسرة ترى الجميع في (مكان واحد) منفصلين بعضهم عن بعض. قصة لعبة الحوت الأزرق معروفة اليوم، ابتدعها شاب روسي عام 2013م وانتشرت عام 2016م، واتهم مبتدعها بأنه السبب في انتحار عدد كبير من الشباب. ومثلها ألعاب كثيرة يدمن عليها الشباب، بعضها تضر بالنفس وأخرى تضر بالآخرين؛ جراء ما يتعرض له الشباب قليل الخبرة من تأثير بعيدًا من الأسرة والمجتمع. وهناك ما يسمى «الشبكة المظلمة» التي يتواصل من خلالها المهربون ومروّجو السموم والإرهابيون من أجل تجنيد الشباب ودفعهم للتهلكة.

كيف يمكن أن نعالج تلك المثالب؟

في الحقيقة احتار المربون وعلماء الاجتماع، حتى الشركات التي تقدم الخدمة في منصات مختلفة، في كيفية معالجة سلبيات هذه التقنية الحديثة على المجتمع وعلى الشباب خاصة. في الإطار العام تقوم بعض الدول بحجب إمكانية التواصل مع الشبكة، ولكن مثل تلك الدول تخضع للانتقاد العالمي كما أن هناك وسائل للتحايل على المنع؛ بسبب ما نوّهنا به في صدر المقال. كما أن بعض هذه المنصات لها سياسة ضد ما تسميه (التنمر) أو التغرير جنسيًّا بالأطفال من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، فتقوم برصده ومنعه.

اشتهر الخلاف بين وسائل التواصل الاجتماعي وبين الإدارة الأميركية في آخر مدة الرئيس الجمهوري دونالد ترمب (2017-2021م) حيث منع من الإطلالة على متابعيه في كل من فيسبوك وتويتر؛ وهو ما أغضب الجمهوريين، ولكن تبين أن القوانين الأميركية السارية تعطي الحق القانوني لتلك المنصات حسب تقديرها في المنع والسماح، ولكنها في الوقت نفسه تنتقد في أماكن أخرى، فعدد من النشطاء يعتقدون أنها تتسامح مع الذين لديهم محتوى (غير لائق) في نظرهم، سواء كان اجتماعيًّا أو أخلاقيًّا.

في عالمنا الثالث، وبخاصة العالم العربي، حتى الآن نحن متلقون للخدمة، وهناك جهد تشريعي وتطوير تقنية يتوجب أن يبذل فيها الوقت والمال من أجل اتقاء شرور وسلبيات هذه التقنية التي سوف تظل معنا وتتطور بطريقة قد نتوقعها اليوم وقد يصعب توقعها. من جانب آخر يتوجب علينا في المدارس والجامعات والإعلام العمل الجاد على (خلق مناعة) ثقافية للأجيال الجديدة وتبصيرهم بالسلبيات المحتملة من جراء الإدمان (وتصديق) كل ما ينشر من محتوى، فذلك المحتوى أصبح مضرًّا بالصحة الفردية والاجتماعية، وبالأمن وبسلامة الأوطان.