تونس ونظامها السياسي.. بين ضرورة المراجعة واستحالتها

تونس ونظامها السياسي.. بين ضرورة المراجعة واستحالتها

لم تشهد الذكرى العاشرة للثورة التونسية احتفالات في البلاد؛ بسبب الوضع الصحّي وإجراءات منع التنقّل التي فُرضت على مدى أربعة أيام تقاطعت مع هذه الذكرى، فتصاعد الإصابات بكوفيد 19 طغى على كلّ الأحداث، لكنّ ذلك لم يمنع من اندلاع احتجاجات ليلية في العديد من المدن الفقيرة والأحياء المهمشة للتذكير بأنّ جزءًا مهمًّا من استحقاقات الثورة ووعودها يظلّ معطّلًا إلى اليوم.

وثمة شبه إجماع بين المحلّلين في تونس على أنّ الثورة نجحت في تحقيق مكاسب سياسية لكنها تعثرت في المستويين الاقتصادي والاجتماعي، وهذا الاتفاق الظاهري قد يحتاج إلى مراجعة وتدقيق. فبالعودة إلى المدة التي سميت بالثورة، وهي المدة الفاصلة بين يومي 17 ديسمبر 2010م و14 يناير 2011م، نجد أنّ المحتجّين قد طرحوا آنذاك صنفين من المطالب. ففي المناطق المهمّشة والأحياء الشعبية كانت المطالب تتمحور حول طلب الكرامة المتمثلة أساسًا في توفير العمل للشباب المعطّل، وتوفير المرافق الأساسية للحياة مثل المشافي والأطباء. أمّا النخب فكانت تتطلّع إلى الحرية وإلى حياة سياسية على النمط الغربي يُسمَح فيها بحرية الرأي والتعبير، وتكوين جمعيات وأحزاب تُنَظَّم فيها انتخابات دورية ونزيهة تسمح بتداول السلطة في بلد كان قد اختار منذ الاستقلال النظام الجمهوري.

ولقد ترتّب على التحام الصنفين من المطالب تشكّل زخم شعبي هو المشار إليه عادة بالثورة، من دون التغاضي عن عوامل أخرى ساعدت في توجيه الأحداث وما زال كثير منها غامضًا إلى اليوم، مثل الصراعات الداخلية في منظومة الحكم السابقة والتدخلات الخارجية. لكنّ الحركة الاحتجاجية الشعبية ببعديها الاجتماعي والسياسي كان لها الدور الأكبر في مآلات الأوضاع.

لكن هل كان ممكنًا الاستجابة للمطالب السياسية والاجتماعية في الآن ذاته؟

على عكس بلدان أخرى، تميزت الثورة التونسية بالسلمية فغادر الرئيس البلد بسرعة ونُصِّبَتْ منظومة مؤقتة لتسيير الأمور، تكوّنت من مسؤولين من النظام السابق، وممثلين من النخبة السياسية «الثورية»، وسمح هذا التعايش السلمي بإبعاد البلد من النزاعات العنيفة. لكن ترتب عليه أيضًا منح الأولوية للقضايا السياسية ومسألة إعادة تنظيم السلطة. وكان السيناريو المقترح في البداية الإعداد لانتخابات رئاسية حرة في غضون ستة أشهر وتكليف لجنة من خبراء القانون بإعداد دستور جديد للبلاد.

لكن سرعان ما تجاوزت الأحداث هذا الحلّ، وطُرح بديل له يتمثل في تنظيم انتخابات لتشكيل مجلس تأسيسي يتولّى إعداد الدستور الجديد ويحكم البلاد أثناء المرحلة الانتقالية. وقد ترتب على هذه الانتخابات تقدّم ملحوظ لحركة «النهضة» الإسلاموية التي ظنت أنها تستطيع بذلك أن تسيطر على الأوضاع. وسرعان ما وجدت نفسها عاجزة عن الاستجابة إلى المطالب الاجتماعية المتنامية للطبقات الشعبية، فضلًا عن المعارضة الشديدة التي واجهتها من النخب الحداثية. ولم يكن للإسلامويّين دراية حقيقية بشؤون الحكم وكانت وعودهم مثالية وبعيدة كل البعد من التحقّق. فانتهوا إلى التراجع عن التمسك بالسلطة والقبول بحوار وطني انتهى إلى وضع الدستور الجديد وتنظيم أول انتخابات اشتراعية ورئاسية خسرها الإسلامويّون لكنهم ظلوا بعدها قوة سياسية مهمة.

التوفيق بين رؤيتين

حظي ذلك الحوار باحتفاء كبير حتى إن الأطراف التي بادرت بتنظيمه حصلت على جائزة نوبل للسلام سنة 2014م. لكن بعضًا يتساءل اليوم: هل الدستور الذي وضع آنذاك قابل للتطبيق؟ الحقيقة أن الدستور قام على أساس التوفيق بين رؤيتين: الأولى تنشد نظامًا برلمانيًّا، حيث يكون البرلمان محور الحياة السياسية، والثانية تفضّل نظامًا رئاسيًّا، حيث يكون الرئيس هو محور الحياة السياسية. وللتوفيق بين هذا وذاك، أقدم الدستور على تقسيم السلطة التنفيذية إلى قسمين، قسم عهد به إلى رئيس الدولة ويشمل شؤون الدفاع والخارجية وهيئات أخرى ذات أهمية بالغة مثل مجلس الأمن القومي، وقسم عهد به إلى رئيس الحكومة ويشمل بقية الوزارات.

من الواضح اليوم بعد ست سنوات من العمل بالدستور أنّ هذه القسمة متعسفة ومن شأنها أن تجعل السلطة التنفيذية في وضع يتسم بالتنازع وغياب الاستقرار. وإذا أضفنا إلى ذلك أن مجلس نواب الشعب (البرلمان) يعتمد نظام الانتخاب بطريقة النسبية، بما يمنع من تشكيل أغلبية ساحقة فيه، فإنّ غياب الاستقرار يطغى على السلطتين التشريعية والتنفيذية في آن واحد.

كان السيد الباجي قائد السبسي، مؤسس حزب «نداء تونس»، أول رئيس ينتخب على أساس هذا النظام ويواجه تعقيداته. بدا له أن يخرج من المأزق بأن يعيّن لرئاسة الحكومة شخصية شابة ومغمورة آنذاك تكون خاضعة له. لكن للسياسية أحكامها، فسرعان ما تمرّد رئيس الحكومة الشاب، السيد يوسف الشاهد، على رئيس الدولة مستفيدًا من الصلاحيات الواسعة التي يضمنها له الدستور، وذهب إلى حدّ التحالف مع خصوم حزبه السابق للمحافظة على تزكية البرلمان.

في الانتخابات الموالية التي انتظمت سنة 2019م، انهار حزب «نداء تونس» وانتصر حزب «النهضة» انتصارًا نسبيًّا؛ إذ ظل بعيدًا من تحقيق الأغلبية المطلقة في البرلمان.

ويبدو أن رئيسه السيد راشد الغنوشي أراد أن يعيد التجربة بطريقة أخرى، فحصل على رئاسة البرلمان ودفع إلى تزكية شخصية قريبة منه لرئاسة الحكومة، لكنها لم تحصل على ثقة البرلمان. ويقتضي الدستور التونسي في هذه الحالة تدخل رئيس الدولة لتعيين شخصية أخرى. كان الرئيس هذه المرة السيد قيس سعيد الذي لم يُخْفِ أبدًا استياءه من الدستور الحالي، وهو أستاذ القانون الدستوري، مع الالتزام باحترامه لأنه انتخب على أساسه.

سعى بدوره لتعيين شخصية من خارج الأحزاب الممثلة في البرلمان لتكون واقعة تحت تأثيره. تشكلت حكومة أولى أسقطت بتهمة الفساد، ثم ثانية برئاسة السيد هشام المشيشي الذي أعاد ما فعله يوسف الشاهد مع الباجي قائد السبسي، فقد استقلّ بنفسه وتحالف مع خصوم الرئيس. وفي يوم 26 يناير الماضي، نجح السيد المشيشي في الحصول على تزكية ثانية من البرلمان ضمنت له سيطرة تامة على فريقه الحكومي، رغم إعلان الرئيس قبلها بيوم عن معارضته لتعديلاته الحكومية وتهديده برفضها.

من الواضح أنّ هذه السلسلة الطويلة من المنازعات بين رأسي السلطة التنفيذية سبب من الأسباب الرئيسة التي حالت دون رسم سياسات اقتصادية واجتماعية واضحة؛ إذ إن هذه السياسات تطلب التنفيذ على مدى طويل، في حين كانت الحكومات المتعاقبة تشعر بأنها مؤقتة، وتعتمد الحلول المستعجلة، ومنها الإكثار من الوعود والاتفاقيات من دون قدرة على تحقيقها في أغلب الأحيان، ولكن فقط بقصد التقليص من الاحتجاجات الاجتماعية، ومنها سلوك سياسة التداين الداخلي والخارجي، من دون تنفيذ الالتزامات التي قدمتها خاصة مع صندوق النقد الدولي.

خيبات اجتماعية واقتصادية

يبدو اليوم أنّ الحديث عن نجاحات سياسية مقابل خيبات اجتماعية واقتصادية حديث قابل للتدقيق. صحيح أن تونس قد حققت مكاسب سياسية لا لبس فيها مثل حرية التعبير وتنظيم الانتخابات الحرة والنزيهة، لكن النظام السياسي القائم على تقسيم السلطة التنفيذية قسمينِ؛ مسؤول -ضمن أسباب أخرى- عن الخيبات الاقتصادية والاجتماعية المتواصلة إلى اليوم.

فقد يكون من الأرجح القول: إنّ هذه الخيبات هي نتيجة نظام سياسي يبدو سليمًا على الورق لكنه عسير التنفيذ على أرض الواقع. لكن كيف يمكن تغييره؟ يبدو الأمر شبه مستحيل، فقد استغرق إعداد الدستور سنوات كادت تعصف بالبلاد وبالسلم، فهل يمكن المغامرة بمراجعات دستورية عميقة تكاد تنتهي إلى دستور جديد؟ وكيف ستتوافر الأغلبية الضرورية لاعتماده؟

في هذه الأثناء، تؤكّد كلّ الأرقام وكل التصريحات، الداخلية والدولية، القريبة من الحكم أو المعارضة، دقة الوضعين الاقتصادي والاجتماعي. قد تراجعت القدرة الشرائية للمواطن التونسي بنحو الثلث مقارنة بما قبل الثورة، وتجاوز الدين الخارجي الناتج المحلّي الإجمالي، وساهمت جائحة كوفيد 19 في تردّي الأوضاع بفقدان الآلاف من المواطنين وظائفهم وموارد رزقهم، ولا سيما في قطاعات السياحة والرحلات والخدمات، ونزلت نسبة النمو العام.

ويتطلب ذلك التعجيل في إيجاد الحلول التي لا يمكن أن تكون ظرفية ولا يمكن أن تنتظر أيضًا تغييرات دستورية معقدة الإنجاز. وليس من المبالغة القول: إنّ هامش المناورة قد تقلّص تمامًا، وإن الدولة تحتاج إلى قروض كبيرة من المؤسسات المالية الدولية لن تتمكن من الحصول عليها إلا بتنفيذ الإصلاحات التي يترتب عليها مزيد إفقار فئات واسعة من الشعب.

رئيس الحكومة الحالي وعد بعد الحصول على ثقة البرلمان بتطبيق الإصلاحات الاقتصادية الموعودة، لكن؛ فِيمَ تتمثل هذه الإصلاحات؟ أساسًا في تقليص الدعم على المواد الضرورية، والتخلص من جزء من عمّال المؤسسات العمومية. لهذه الإصلاحات مبرراتها لا شك، ويمكن أن تؤدي إلى تعافي الاقتصاد على المدى المتوسط والبعيد، لكنها ستضاعف في المدى القصير من مصاعب فئات عديدة تشكو من قسوة الوضعينِ الاقتصادي والاجتماعي، بما سيضاعف من منسوب الاحتجاجات، ويفسح المجال للأطراف المعارضة للحكومة باستغلالها لإضعافها، وهكذا دواليك.

إذا تواصلت الأمور على النحو الحالي، فالمتوقع أن تترك لرئيس الحكومة مسؤولية اتخاذ القرارات غير الشعبية ومواجهة الاحتجاجات والغضب الشعبي، بينما يمكن لرئيس الجمهورية وللتيارات السياسية المساندة له التعلّل بعدم الموافقة على تشكيلته الحكومية. وسينتهي حزب «النهضة» وهو الداعم الرئيس له بالتنكّر له بعد أن استفاد من حكومته، كما تنكّر لحلفاء سابقين كثر، يستعملهم ثم يتخلّص منهم عند انتهاء الحاجة إليهم.

حل البرلمان والتغيير الجذري

أما السيناريو المقابل، فيتمثل في إقدام الرئيس على حلّ البرلمان وتنظيم انتخابات سابقة لأوانها، لكن من المستبعد أن تغيّر جذريًّا المشهد الحالي بما أنها ستعتمد النظام السياسي ذاته، إلا إذا وضع الرئيس شعبيته في الميزان وساند قائمات مترشحة للانتخابات البرلمانية.

وفي الحالين، ثمة مجازفة كبرى؛ إذ يمكن أن تخرج الاحتجاجات عن نطاق السيطرة ويتزايد منسوب العنف الاجتماعي بأشكال مختلفة، ولا يشارك المواطنون في الانتخابات القادمة إلا بنسب ضئيلة.

ثم إنّ الإصلاحات الاقتصادية لا تؤتي أكلها على مدى قصير، ولا يمكن أن تقتصر على تعديل الميزان المالي للدولة، فنماء الاقتصاد رهين أيضًا بتوافر مناخ استقرار وثقة ووضوح يشجع الاستثمارات الداخلية والخارجية، ويحرّر طاقات المواطنين للمبادرة والإبداع. وقد تساعد بعض المؤثرات الخارجية على تحسين نسبي للوضع، فالاستقرار في ليبيا يمكن أن يفتح المجال للمؤسسات والعمال التونسيين للعمل هناك، والمصالحة الخليجية يمكن أن تعيد استثمارات مهمة إلى تونس بعيدًا من ضغوطات الولاء لطرف دون آخر، وتراجع جائحة كورونا في أوربا بفضل توافر اللقاحات قد يعيد الزخم إلى المعاملات التونسية مع أوربا، الشريك الاقتصادي الأول. لكن هذه المؤثرات ليست مؤكدة بدورها، ولا سيما استقرار الوضع في الجارة ليبيا.

لطاما كتبنا أن الثورة في ذاتها ليست غاية، إنما هي وضع استثنائي ناتج عن تعسر الإصلاح، ولكن الإصلاح الحقيقي قد تأخر في تونس وفي أغلب المجالات، وتعمقت مقابل ذلك حالة من التناحر السياسي غير المفيد التي لا يمكن للنظام الدستوري الحالي ضبطها.

وما تحققه الأحزاب والشخصيات من مكاسب لا ينعكس على الجزء الأكبر من الفئات الشعبية وبخاصة الشباب. وقد تحتاج تونس اليوم إلى حوار سياسي من صنف جديد، يدار بعيدًا من مواطن الإثارة والمناورة، ويوجّهه المثقفون والخبراء، لإيجاد حلول معقولة كفيلة بتعديل النظام السياسي، وتوفير الدفع للاقتصاد، والمسارعة بإيجاد الحلول العاجلة لتطوير الإدارة، وتحسين المرافق الأساسية وفي مقدمتها التعليم والصحة والنقل العمومي.

ويمكن لهذا الحوار أن يكون الإطار الأفضل لمصالحة شاملة على أساس التعويض بدل التنكيل، مصالحة لا تقوم على الابتزاز أو التشفّي، ولا تعتمد إلا الحقيقة والإنصاف، وتشمل مرحلة ما قبل الثورة وما بعدها سوى قضايا القتل والتعذيب والإرهاب. أما على المستوى السياسي البحت، فيجب تعديل المشهد السياسي بتأسيس حزب قادر على منافسة حزب «النهضة»، الذي ظلّ يناور بخصومه مستفيدًا من توزعهم على عشرات من الأحزاب الصغيرة.

فالديمقراطية الحقيقية لا تقوم على وجود حزب مسيطر على الساحة وأكثر من مئتي حزب صغير، بل على وجود أربعة أحزاب كبرى أو خمسة قادرة على تحقيق التداول السلمي للسلطة.

في انتظار مبادرات جادة في هذا الاتجاه، سيظلّ الصراع بين رأسي السلطة التنفيذية والصراعات داخل الكتل البرلمانية الميسم الرئيس للمشهد السياسي، بما يعطّل كل إصلاح حقيقي ويعمّق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية.