المفاهيم الأخلاقية والسياسية بين المُهيمِن والمُهيمَن عليه مفهوم التسامح أنموذجًا

المفاهيم الأخلاقية والسياسية بين المُهيمِن والمُهيمَن عليه

مفهوم التسامح أنموذجًا

ننطلق في هذا المقال من مسلَّمة مفادها أن تبني أمة من الأمم لترسانة مفاهيمية ذات طبيعة أخلاقية وسياسية لا يعني بالضرورة عملها بها، ومردّ ذلك إلى أن المُنَظِّر الفيلسوف ليس هو الفاعل السياسيّ، مع العلم أن استقراء نيكولا ميكيافيلي لواقع الممارسة السياسية قادَه إلى الاعتراف بشكل صريح بأن السياسة لا تعدو كونها مكرًا وخداعًا وصراع مصالح باستمرار. على هذا النحو نلحظ على مستوى الواقعيْنِ الأخلاقي والسياسي ظاهرة تتجاوز حدود كونها لغويةً، لتقدم نفسها على أساس أنها سلوكية، تؤثر في كيفية تعامل الفرد مع الفرد، والدولة مع الفرد، والدولة مع دولة أخرى؛ إنها ظاهرة موت المعنى، أو الاستعمال المغرض للمفاهيم الأخلاقية والسياسية.

يمكن أن نبين هذا الأمر من خلال ضرب الحق بالحق، عبر توليد المعنى قسرًا، وحسب المبتغى، بالانطلاق من قواعد قانونية محددة، تجعل آخر ما يتلفظ به متهم بريء بعد محاكمته، أو طالب حق فقير، هو قولهما: «اللهم إنَّ هذا منكر». يتجسد هذا الأمر على نحو ماكروفيزيائي بشكل أكثر خطورة، وهو ما يمكن تقريبه من خلال استحضار الاستعمالات المغرضة لمفهوم السلام أو الإرهاب، فباسم إقرار السلام تشتعل الحروب اليوم، فيما يشبه قتلًا لكل معنى يمكن أن يحمله مفهوم السلام، بحيث يصير المعنى مساويًا لنقيض المعنى.

هذا الأمر مبثوث على نحو أصيل حتى في القراءات السياسية للتصورات الفلسفية التي جعلت إقرار القانون بدل القوة هو الفاعل في الانتقال من حال الطبيعة إلى الحال المدنية، كما يصور ذلك توماس هوبس في كتاب «لفياثان»، وعلى نقيض ذلك جعلت الوسيلة المميزة للدولة هي العنف، فيما يشبه عودة إلى حالة الصفر، وهو أمر يدركه مواطنو دول الطغيان الذين لم يعودوا يرغبون سوى في العيش في خلوة جنبًا إلى جنب مع الطبيعة، هربًا من كل التجمعات البشرية، ومشاكلها الاجتماعية والاقتصادية والصحية.

حاصل ذلك أننا نعيش زمن موت للحمولة الأصيلة للمفاهيم الأخلاقية والسياسية الموجهة للسلوك الفردي والمؤسساتي، وهو ما يتطلب إعادة قراءة هذه المفاهيم، وممارسة نوع من النقد الفلسفي عليها، حتى يتم تخليصها من كل الشوائب التي يمكن أن تقضي على كل مفعول إيجابي لها، وهذا هو الأمر الذي سنعمل على بسط ملامحه من خلال هذه الورقة، وسنركز في هذا السياق على مفهوم بعينه، وهو مفهوم التسامح.

في الدلالة الأصيلة لمفهوم التسامح

من المعروف أن مفهوم التسامح ظهر خلال القرن السادس عشر ميلادي في أوربا خلال حقبة الصراع الديني بين طائفتي البروتستانت المصلحين والكاثوليك المحافظين، حيث قدم نفسه كمفهوم أخلاقي وسياسي، يمكن أن يؤدي العمل به إلى تجاوز منطق الصراع وحفظ الحقوق بين المختلفين على قدم المساواة. وقد لقي ترحيبًا فلسفيًّا خاصًّا، من جانب فلاسفة هذه المرحلة وما بعدها بأوربا، ومن بينهم: جون لوك، فولتير، جان جاك روسو، وصولًا إلى كارل بوبر وغيره من فلاسفة الحقبتين الحديثة والمعاصرة بأوربا.

أدت المناقشة الفلسفية لهذا المفهوم كما هو معبَّر عنها في كتابات هؤلاء، التي جاءت في شكل رسائل عملية ومقتضبة، إلى تضمينه دلالة مفادها أنه يعني احترام المختلف، سواء كان مصدر الاختلاف معه دينيًّا، أو عرقيًّا، أو لغويًّا، أو فكريًّا… إلخ. فالتسامح الحق هو احترام الآخر المختلف، وضمان حقه في ممارسة شعائره الدينية والتعبير عن أفكاره بكل حرية وعدم المساس بحقه في العيش.

هكذا ظهر هذا المفهوم كطاقة تحررية أدى تفعيلها على المستوى المحلي الأوربي إلى تقدم ملموس في العلاقات الإنسانية بين الأوربيين، مقارنة بما كان عليه الوضع قبل ظهور المفهوم والدفاع عنه فلسفيًّا، ومن ثم صارت الحداثة الأوربية تعُدّ التسامح ملمحًا من ملامحها التي لا غنى عنها، بل إنها رأت أن المدخل لبناء حداثة موازية بأقطاب غير أوربية هو ترسيخ التسامح كممارسة حياتية ذات طبيعة أخلاقية وسياسية.

هكذا أيضًا دُعِيَ إلى تبنّي مفهوم التسامح في هذه الأقطاب، بل العمل على نشره حفظًا لحقوق الإنسان ودفاعًا عن كرامته، خصوصًا بعد أن تضمن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان إشارات واضحة لمفهوم التسامح بوصفه ضرورة لا غنى عنها.

لكن الأسئلة التي فرضت نفسها في السياق المعاصر، سياق الانفتاح اللامحدود، وعولمة القيم، والتكتلات الاقتصادية… إلخ هي: هل حافَظَ مفهوم التسامح على قيمته الأخلاقية والسياسية، عندما صار الأمر متعلقًا بالتعامل بواسطته مع غير الأوربيين؟ هل يمكن قيام علاقة تسامح حقيقية في ظل التفاوت الثقافي والاقتصادي بين دول الشمال ودول الجنوب، أو بين الغرب والعرب ومختلف الطوائف المشكلة لدويلاتهم؟ وإذا كان التسامح الديني الذي ظهر بادئ الأمر وليد تكافؤ القوة بين البروتستانت والكاثوليك، فهل يمكن أن تقوم له قائمة بين من هم غير متكافئين على مستويات متعددة: اقتصادية، واجتماعية وسياسية…؟

مفهوم التسامح في الاستعمال المغرض

من المعروف أن مفهوم التسامح لقي مقاومة فكرية كبيرة خلال بدايات احتكاك العالم الغربي بالعالم العربي، أي خلال الحقبة الاستعمارية، بعد أن قدَّم نفسه خلال هذه المرحلة مفرغًا من حمولته الأخلاقية والسياسية الأصيلة، وقد تَنَبَّهَ المصلحون العرب إلى هذا الموت النسبيّ للمعنى الأصيل لمفهوم التسامح، فما كان منهم إلا أن دافعوا عن نقيضه ألا وهو التعصب، لكنهم دافعوا عن التعصب لأنه من وجهة نظرهم يحقق المبتغيات التسامحية، ورفضوا التسامح لأنه يكشف عن إرادة تعصبية، هدفها خلق الفتنة بين مكونات العالم الإسلامي الشاسع؛ بسبب تعدديته العرقية واللغوية واختلاف تأويلاته الدينية… إلخ.

لقد جاء مفهوم التسامح بادئ الأمر في أوربا من أجل إقرار الاختلاف، وحفظه في ظل الوَحْدة، غير أنه خلال هذه المرحلة استعمل استعمالًا مغرضًا، وكان الهدف منه هو تشتيت الوَحْدة وتنبيه الطوائف المختلفة إلى اختلافها الهوياتي، وحثها على فرض نفسها على الطوائف والهويات الأخرى، ويمكن القول: إن الظهير البربريّ الذي صاغته سلطات الحماية الفرنسية بالمغرب يعبر عن هذا الأمر خير تعبير، شأنه شأن أشكال أخرى من التدخلات السياسية في كيفية تسيير دول العالم الإسلامي لشؤونها الداخلية، بل لشأنها من حيث هو شأن مشترك، تتخوف دول العالم الغربي من أن يتحقق على هذا النحو.

باختصار، لقد تَنبَّه العالم الغربي إلى أن السيطرة على العالم الإسلامي تقتضي أولًا خلق الفُرقة داخله، من حيث هي تَخْلِيةٌ تَسبِقُ التَّحْلِيةَ التي هي الهيمنة التامة، وقد نجح العالم الغربي في ذلك، بل إنه طور سبل الهيمنة في سياق العولمة والانتشار الواسع لتقنيات الاتصال، حتى صار الاختلاف حاصلًا داخل الأسرة نفسها بأبشع صوره، وليس فقط على مستوى الدولة الواحدة، والعالم الإسلامي مثلما كان عليه الأمر من قبلُ.

لقد تنبه المصلحون العرب إلى أن التسامح بالأمس، لعب الدور نفسه الذي يلعبه مفهوم السلام اليوم، فهو سبيل للاختراق الهوياتي والعسكري والسياسي والاقتصادي، وهو أمر يستوعبه قادة العرب جيدًا، لكنهم لا يستطيعون ردّه، فيما يشبه نوعًا من الوعي الشقيّ؛ بسبب معرفتهم المسبقة بعدم تكافؤ القوى بينهم وبين العالم الغربي، الذي فهم أن سيادته نتيجة للتفرقة التي عمل على ترسيخها سنين طويلة وما زال مستمرًّا في ذلك.

إن القبول بالفهم السياسيّ الغربيّ للتسامح هو شكل من أشكال الإذعان، والمطالبة إلى جانب القوى الغربية بإقرار السلام في بعض دول العالم العربي، هو أيضًا شكل من أشكال الإذعان؛ لأن التحقيق الفعلي للمعنى الأصيل لهذه المفاهيم يتطلب أولًا تكافؤ القوى أو تنازلًا من جانب القوى المهيمنة، في إطار السعي لتخليق فِعلِها السياسيّ وإضفاء الإنسانية عليه، وهو أمر يصعب تحقيقه إلا إذا كان الحاكم فيلسوفًا على المنوال الذي تصوره أفلاطون لجمهوريته الفاضلة.

إن هذا الاستعمال المغرِض لمفهوم التسامح دفع المفكر المغربيَّ علي أومليل إلى الدفاع عن شرعية الاختلاف، من حيث هو أساسًا اختلاف بين المنطق الأوربي في إدارة العلاقات الإنسانية والمنطق الإسلامي العربي في إدارة العلاقات الإنسانية، ولذلك تساءل في كتابه «الإصلاحية العربية والدولة الوطنية» بحرقة واستنكار في الفصل الرابع حول مفهوم التسامح: هل هو مفهوم محايد؟

على سبيل الختم

إن اللاتسامح الغربي الحقيقي ليس هو ذلك الذي يكشف عن نفسه على نحو مباشر، كما وقع مؤخرًا بمسجد نيوزلندا، إنما هو ذلك الذي يتم باسم التسامح نفسه، ليس هو ذلك الذي يتوجه من فرد غربيّ تجاه غير الغربيّ، أو من فرد غير غربيّ تجاه فرد غربيّ، إنما هو ذلك الذي يأخذ طابعًا مؤسساتيًّا، ويقدم نفسه في شكل محاولة دولة تخريب دولة، فهو هنا يتجسد في أبشع صوره، بل يلبس لباس الشرعية وهو منها براء، وفي الأغلب يتم برعاية الباباوات والمنافحين عن حقوق الإنسان، في إطار الإعلاء من شأن الشكل على حساب المضمون، والصورة على حساب الواقع.

إن اللاتسامح الحقيقي هو التسامح الذي يأخذ صورة إذعان، يفرض من خلالها القوي منطقه وإرادته، مستعليًا من دون تكافؤ القوى بينه وبين اللامتسامح معه باسم التسامح والسلام والحرية. على هذا النحو نلمس حاجة ماسّة إلى إعادة المعنى الأصيل للمفاهيم الأخلاقية والسياسية، وهي الغاية التي تتطلب ممارسة نقد فلسفي جادّ على هذه المفاهيم، على أساس ألّا تفهم أنها غاية نهائية وجامدة، بل هي وسيلة لتجويد العلاقات الإنسانية والرقي بها إلى مستوى الإنسانية الحقيقية، من حيث هي فعل مقاومة لكل أشكال الهيمنة التي يمكن أن تذكرنا بالانتماء الأصيل إلى مملكة الغاب، الذي تضمنه الحد اليوناني للإنسان من حيث هو حيوان عاقل وناطق تميزه من سائر الحيوانات القدرةُ على التواصل. على المفاهيم الإنسانية؛ إذن أن تغذي الثقافة فينا، لا أن تغذي الطبيعة.