تصورات فلسفية عن التسامح

تصورات فلسفية عن التسامح

يشير مصطلح التسامح Toleration عامة إلى القبول المتبادل بين الأفراد أو المجتمعات للمعتقدات أو الأفعال أو الممارسات التي لا يقرّها كل طرف من الأطراف بوصفها قناعات شخصية له، ولكنها لا تزال «مقبولة» لديه عامة، بحيث لا تستدعي له المطالبة بحظرها أو تقييدها. وهناك العديد من السياقات التي ننعت فيها شخصًا أو مؤسسة ما أو مجتمعًا بصفة التسامح: يتسامح الآباء مع سلوك معين لأطفالهم، ويتسامح الصديق مع مثالب صديقه الآخر، كما يتسامح الرئيس مع الانتقادات التي يوجهها إليه شعبه، وتتسامح الدولة مع دين الأقلية، وقد يتسامح مجتمع مع سلوك يخالف الأعراف والتقاليد السائدة فيه. ومن ثم، يجب على أي تحليل يبحث في دوافع التسامح وأسبابه، أن يأخذ السياقات ذات الصلة في الحسبان.

حدود المفهوم

من الضروري التمييز بين المفهوم العام للتسامح والمفاهيم الأكثر تحديدًا له. فالأول يتميز بالخصائص الآتية:

أولًا- من الضروري أن يكون الشخص، أو الجهة أو المجتمع المتسامِح في الأساس حاملًا لمعتقدات تتعارض مع الشخص، أو الجهة أو المجتمع، المتسامَح معه؛ بمعنى أنه ينظر إليها بوصفها إما مرفوضة له أو خاطئة أو غير مبرَّرة. وإذا افترضنا غياب عنصر المعارضة هذا، فإننا في هذه الحال لا نتحدث عن «التسامح» ولكن عن «اللامبالاة».

ثانيًا- يجب موازنة عنصر الاعتراض بعنصر القبول، فرغم أن الحكم السلبي لدى المتسامح ما زال قائمًا، فإن التسامح في هذه الحالة يقدم له بعض الأسباب الإيجابية التي تتفوق على موقفه السلبي تجاه الطرف المعارض له. نعم ستظل ممارسات الطرف الآخر ومعتقداته في نظر المتسامح غير مقبولة له، لكنها ليست خاطئة على نحو لا يمكن تحمله أو بطريقة تستدعي النبذ والعداء والكراهية.

ثالثًا- يجب تحديد حدود التسامح؛ بمعنى أنه من الخطأ الاعتقاد أن التسامح لا بد أن يكون مطلقًا، فهناك حالات لا يمكن التسامح معها، وهي الحالات التي تكون فيها أسباب الرفض أقوى من أسباب القبول؛ لا يمكن التسامح مثلًا مع من يخرق القوانين إلا في الحالات الاستثنائية التي تقدرها الجهات القضائية المختصة، وهنا ستكون أسباب القبول أقوى من أسباب الرفض، كما لا يمكن التسامح مع كل عمل عدائي يهدد الإنسانية ويستبعد الآخر وينبذه؛ لأنه لا توجد أسباب تبرر مثل هذه المواقف.

أخيرًا، يمكن للمرء أن يتحدث فقط عن التسامح حيث يُمارسه طوعًا وغير مجبر عليه، وإلا فسيكون مجرد حالة «معاناة» أو «تحمل» أشياء معينة يرفضها المرء، ولكن لا حول له في إعلان رفضه لها. ومع ذلك، فمن الخطأ الاستنتاج من هذا أن المتسامح بحاجة إلى أن يكون في وضع يسمح له بحظر الممارسات المسموح بها أو التدخل فيها بشكل فعال؛ لأنه قد توجد أقلية لا تملك هذه السلطة وتكون متسامحة جدًّا، وعلى قناعة بأنها إذا حازت مثل هذه السلطة، فلن تستخدمها لقمع الأطراف الأخرى.

التصورات الأربعة

ينبغي عدم فهم المناقشة التالية للتصورات الفلسفية الأربعة عن التسامح من منطلق كونها تعبيرًا عن مراحل تاريخية لهذا المفهوم أو على أساس أنها مرتبطة زمنيًّا بتطور المجتمعات من عصر إلى آخر، بدلًا من ذلك، تختلف هذه التصورات بعضها عن بعض، لكنها قد تكون حاضرة جميعها في الوقت ذاته داخل المجتمع، بحيث يمكن النظر أيضًا إلى الاختلافات القائمة حول معنى التسامح بوصفها نوعًا من التضارب بين هذه التصورات.

  1. يرتبط التصور الأول بمفهوم السماح أو الإذن. ووفقًا له يكون التسامح علاقة بين سلطة أو أغلبية وأقلية معارضة «مختلفة» (أو أقليات متنوعة). يعني التسامح إذن أن السلطة تمنح إذنًا مشروطًا للأقلية للعيش وفقًا لمعتقداتهم بشرط أن تعلن الأقلية قبولها للمركز المهيمن للسلطة القائمة بوصفها تعبيرًا عن الأغلبية. وما دام اختلاف الأقلية يظل ضمن حدود معينة، أي في حدود المجال «الخاص»، وما دامت مجموعات الأقليات لا تطلب المساواة في الوضع العام والسياسي، فيمكن التسامح معها على أسس عملية أو توافقية أو حتى براغماتية؛ لأن هذا النوع من التسامح هو الأقل كلفة من بين جميع البدائل الممكنة ولا يزعج السلم الأهلي أو النظام القائم.
    كما أنه يقوم على أسس أولية مشتركة، بمعنى أنه يمتلك مبرره الأوّليّ؛ لأنه يمكن إقناع الشخص بسهولة بأن إجبار الناس، حتى لو كانوا أقلية، على التخلي عن معتقداتهم أو ممارساتهم يتعارض مع القيم الأخلاقية البديهية. ومفهوم السماح له طابع تاريخي كلاسيكي، حيث نجده في العديد من الكتابات التاريخية وفي حالات سياسة التسامح (مثل مرسوم نانت عام 1598م) وما زال يقدم تصورًا مقنعًا إلى حد كبير حول مفهوم التسامح. ووفقًا لهذا التصور، فإن التسامح يعني أن السلطة أو الأغلبية، التي لديها القدرة على التدخل في ممارسات الأقلية، «تتسامح» معها، في الوقت الذي تقبل فيه الأقلية هذا الوضع. هنا تكون «شروط التسامح» بها نوع من التراتبية: يسمح أحد الأطراف لطرف آخر بأشياء معينة بشروط يحددها الطرف الأول.
  2. يتأسس التصور الثاني على مفهوم التعايش، وهو مشابه للتصور الأول في فرضيته القائلة بأن التسامح هو أفضل وسيلة لإنهاء الصراع أو تجنبه. غير أن مفهوم التعايش هنا يتجاوز الفكرة التراتبية التي يتأسس عليها التصور الأول، حيث تصبح العلاقة هنا أفقية لا رأسية. وقد يكون من المفيد في هذا السياق استحضار مفهوم «اليوتوبيا غير المتجانسة»L’ utopie hétérogène، الذي صاغة الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو ليعبر به عن الرؤية ما بعد الحداثية للآخر. وما يعنيه فوكو بهذا المصطلح، هو تعايش «عدد كبير من العوالم المختلفة الممكنة» في «فضاء افتراضي»، أو إذا شئنا تبسيطًا للفكرة، وجود فضاءات متجاورة ومفروض بعضها على الآخر. ولا تتوقف الشخصيات في هذه الفضاءات طويلًا عند نقاط التمايز بينها، بل تنظر إلى الاختلاف بوصفه قيمة معرفية يتوجب ترسيخها. وهذا النوع من التسامح لا يمكن أن يتأسس داخل المجتمعات إلا عبر عملية تربوية طويلة المدى.
  3. يعتمد التصور الثالث على الاحترام بوصفه قيمة أخلاقية رفيعة. حيث تتأسس العلاقة بين الأطراف المتسامحة على قيمة الاحترام المتبادل بينهم. فعلى الرغم من اختلافهم جوهريًّا في معتقداتهم الأخلاقية المتعلقة بالطريقة الجيدة والحقيقية للحياة وفي ممارساتهم الثقافية، فإنهم يعترفون بعضهم ببعض من منطلق كونهم متساوين أخلاقيًّا وسياسيًّا؛ بمعنى أن إطارهم المشترك للحياة الاجتماعية يجب أن يكون متعلقًا بالأسئلة الأساسية للحقوق والحريات وتوزيع الموارد والاسترشاد بالمعايير التي يمكن لجميع الأطراف قبولها على قدم المساواة، والتي لا تفضل مجتمعًا أخلاقيًّا أو ثقافيًّا محددًا على مجتمع آخر.
    وهناك نموذجان لـ«مفهوم الاحترام»، نموذج «المساواة الشكلية»، ونموذج «المساواة النوعية». الأول يعمل على تمييز صارم بين المجال السياسي والمجال الخاص، الذي بموجبه يجب أن تقتصر الاختلافات الأخلاقية (أي الثقافية أو الدينية) بين مواطني دولة قانونية ما على المجال الخاص، بحيث لا تؤدي إلى صراعات داخل المجال السياسي. من ناحية أخرى، يعترف نموذج «المساواة النوعية» بأن بعض أشكال المساواة الرسمية تفضل أشكال الحياة الأخلاقية والثقافية التي تجعل معتقداتها وممارساتها من السهل استيعابها داخل الإطار العام/ الخاص.
    بعبارة أخرى، يميل نموذج «المساواة الشكلية» إلى عدم التسامح تجاه الأشكال الأخلاقية والثقافية للحياة التي تتطلب حضورًا عامًّا يختلف عن الأشكال الثقافية التقليدية السائدة حتى الآن. في حين يميل نموذج «المساواة النوعية»، إلى احترام الأشخاص بعضهم لبعض على أساس كونهم متساوين سياسيًّا مع هوية أخلاقية وثقافية مميزة يجب احترامها والتسامح بشأنها. وهكذا يُنظر إلى المساواة والتكامل الاجتماعي والسياسي، من منطلق كونها غير متعارضة مع الاختلاف الثقافي ضمن حدود معينة (أخلاقية)؛ أهمها المعاملة بالمثل.
  4. بإمكان المرء أن يجد في المناقشات الدائرة حول التسامح، جنبًا إلى جنب مع التصورات السابقة، تصورًا رابعًا يمكن تسميته بـ«التقدير المتبادل». وهذا يعني تصورًا أكثر اكتمالًا وأكثر اعتمادًا على الاعتراف المتبادل بين المواطنين بصورة تعلو على التصور السابق عن الاحترام. هنا، أن تكون متسامحًا لا يعني فقط احترام المنتمين لأشكال ثقافية أخرى أو المعتنقين لأديان مختلفة بوصفهم متساوين أخلاقيًّا وسياسيًّا، بل يعني أيضًا امتلاك نوع من التقدير الأخلاقي لمعتقداتهم؛ أي النظر إلى مفاهيمهم على أساس كونها حاملة لقيمة أخلاقية ما، على الرغم من اختلافها مع القناعات الشخصية لأحد أطراف تلك العملية. ولكي تظل هذه الحالة من التسامح قائمة، فإن نوع الاحترام الذي يميز هذه العلاقات ينبغي أن يكون «احترامًا متبادلًا»، أي نوع من القبول الإيجابي لاعتقاد «المختلف» بين أطراف تلك العملية كافة.

نأتي للسؤال المهم المتمثل في أي من هذه التصورات الأربعة يجب أن يكون بمنزلة الموجّه لمجتمع معين؟ ثمة جانبان مهمان جدًّا، ينبغي استحضارهما حال الإجابة عن هذا السؤال: يتطلب الجانب الأول تقويم الاختلافات التي تستدعي التسامح معها، بالنظر إلى تاريخ وشخصية المجموعات المعنية داخل المجتمع (فكما سبق وذكرنا هناك حالات لا يمكن التسامح معها)؛ أما الثاني فيتطلب تبريرًا معياريًّا مناسبًا ومقنعًا للتسامح داخل سياق اجتماعي معين. من المهم أن نضع في حسباننا أيضًأ أن تصور التسامح (المعتمد معياريًّا) نفسه لا يوفر مثل هذا التبرير؛ لأن هذا التبرير يجب أن يأتي من مصادر معيارية أخرى.

سياقات من الصراع المعياري والسياسي

وفقًا لما تقدم، وفي ظل المناقشات الفلسفية الراهنة حول التسامح في المجتمعات الحديثة متعددة الثقافات، غالبًا ما يُنظر إلى «مفهوم الاحترام» على أنه الأكثر ملاءمة من حيث إمكانية تطبيقه. لكن في هذه المناقشات، يمكن تبرير التسامح بوصفه «احترامًا» عبر العديد من الطرائق المختلفة. يحاجج التبرير الأخلاقي الليبرالي بأن الاحترام ضرورة للأفراد بصفتهم كائنات مستقلة على المستويين الشخصي والأخلاقي مع ما يمتلكونه من قدرة على الاختيار، مع قدرتهم على تحديد التصور الفردي للخير. يجب احترام هذه القدرة وتعزيزها لأنها الشرط الضروري (وإن لم يكن كافيًا) لتحقيق الحياة الطيبة. ومن هنا تفترض الحجة مسبقًا أطروحة محددة حول الحياة الطيبة؛ أي أن أسلوب الحياة المختار بشكل مستقل فقط هو الذي يمكن أن يؤدي إلى الحياة الطيبة.

إن أي استخدام لمفهوم التسامح على أرض الواقع يقع دائمًا داخل سياقات معينة من الصراع المعياري والسياسي، ولا سيما في المجتمعات التي تتحول نحو التعددية الدينية والأخلاقية والثقافية المتزايدة، وهذه مسألة يتوجب وضعها في الحسبان والعمل على معالجتها من خلال التشريعات القانونية والأهم من خلال عملية تربوية طويلة المدى تؤسس لقيم التعددية وتزرع قيم الاحترام والتقدير في عقول أفراد المجتمع وقلوبهم.

وربما استدعاء مقولة فولتير واجبة هنا؛ يقول: «إن التسامح لم يتسبب قط في إثارة الفتن والحروب الأهلية، في حين أن عدم التسامح قد نشر المجازر على وجه الأرض. لتكن على درجة كبيرة من التسامح مع من خالفك الرأي، فإن لم يكن رأيه صائبًا فلا تكن أنت على خطأ تشبثك برأيك. وفي هذا التقبل يمكن تجنب متوالية الشرور الناتجة عن التعصب والإكراه، فمن يقول لك اعتقدْ ما أعتقدُه وإلا لعنة الله عليك، لا يلبث أن يقول اعتقدْ ما أعتقده وإلا قتلتك. ومن قلة الدين أن نحرم البشر من حرية دينهم، وأن نحول دون اختيارهم لإلههم؛ ذلك أن الدين وجد لنكون سعداء في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ولن نكون سعداء في الآخرة إن لم نكن متسامحين».