ما أهمية أن نُنظِّر للتسامح في الوقت الحاضر؟

ما أهمية أن نُنظِّر للتسامح في الوقت الحاضر؟

تناول عدد من الفلاسفة والمنظِّرين السياسيين موضوع التسامح، من زوايا مختلفة. هنا ترجمة لمقالين كتبهما اثنان من أهم المفكرين البارزين، هما: ويندي براون، من جامعة كاليفورنيا، ولارز توندر، من جامعة كوبنهاغن.

التسامح كما لو لم يكن موجودًا

ويندي براون جامعة كاليفورنيا

يدعونا نيتشه للتساؤل: «متى…، ولماذا تُصبح بعض الفضائل ضرورية، وأي مجموعة من الفضائل يمكن أن تتأرجح كلما سادت المجتمع؟ كمْ مُحِيَ هذا التاريخ بالاختلال الديمقراطي في فِكر التدوين التاريخي المعاصر؟ إذن، ما قيمة التسامح؟ ماذا تقاوم، أو ماذا تُنحِّي؟ أية أزمنة تاريخية أُخفِيَت خلف ظاهرها الذي يتميز بالفضيلة؟

يدعونا فوكو للتساؤل: «أي قوى حرب يمكن أن تلعب تحت مظلة معاهدات السلام، وكيف دوَّن المنتصرون انتصاراتهم باللغة، سواء أنظمةٌ تتسم بالمصداقية أو حكومات تتسم بالحكم الرشيد؟ كيف تشكَّلت وتجانَست الهويات والنزعات الذاتية في خِضم تلك القوى وما قد دُوِّنَ؟».

يدعونا فرويد للتساؤل: «أية مشاعر عدوانية أنكرتها أو أسكتتها الممارسات الحضارية؟ وأية نتيجة حققتها؟ أي نوعٍ من الغطاء يوفِّره التسامح للبغض والكراهية؟ ما مشاعر السمو ورحابة الصدر التي تتولَّد عند حامليها؟ يدعونا روسو للتساؤل: «كيف نخفق في فك قيود الحرية أو نخفق في الإذعان لسيادة قانون المساواة؟ كما يهيب بنا ماركس كي نتساءل: «كيف تعكس وتؤمِّن المبادي السائدة للمجتمعات غير الحرة مسألة تقييد حريتها؟ أية أحوال مُقيدة تفترضها وترفع عنها الصفة السياسية تلك المبادئ؟» أية تقسيمات طبقية تاريخية عميقة، امتيازات وصراعات رُسِّخَت بدلًا من أن يحسمها التسامح؟

هناك مفكرون عظماء، على مر التاريخ، يستطيع المرء أن يفكر معهم بتأنٍّ في التسامح المعاصر، مثل: إبكتيتوس وسبينوزا، كانط ومِيل، غوته وفولتير، غاندي وكينغ. لكنني أرى أن المفكرين السابق ذكرهم يصوغون السؤال المطروح فيما يخص تلك المناظرة النقدية: ما أهمية أن ننظِّر للتسامح في الوقت الحاضر؟ بصفته إحدى مسائل النقديْنِ السياسي والاجتماعي. إنهم ينادون لبحث مسألة القوة الغائبة والتاريخ والنزعات الذاتية التي روَّجت لها عمليات التسامح؛ إنهم يستوجبون اهتمامًا لـ: متى، ولماذا، وبمن، وعلى من يُمارس التسامح؛ إنهم ينظرون بعين الريبة للسمعة الواضحة للتسامح؛ ويطرحون السؤال بعد أن يؤكدوا على نحو غير محدد، دوافع أنظمة التسامح وتأثيراتها.

كل الكائنات الحية تمارس التسامح. النباتات تتحمل الانتهاكات والحرمان من الشمس والظل والماء والفضاء والغذاء. الحيوانات التي تعيش في البرّيّة تتحمل أوقات الطقس القاسي، وأوقات الجوع الطويلة والإرضاع المستمرّ للصغار. في المحيط المنزلي يتحمَّل القط الكلب الذي يتحمَّل الرضيع الذي يتحمَّل الطفل، بينما يُحدِّق الوالدانِ والشابُّ اليافع أحدهما إلى الآخر بدلًا من أن يتجاذبوا أطراف الحديث خمس مرات في اليوم.

يمكن أن يُعَدّ التسامح مفهومًا، اتجاهًا، عُرفًا، غاية، فن المغايرة، الانسجام الحسَّاس، صيغة للتعددية الدينية والثقافية، صِفة أخلاقية، مبدأ سياسيًّا، أسلوب معيشة. يبرز الأدب الأكاديمي بمفهومه الشامل عن التسامح كل تلك المقاربات للتسامح وأكثر. لكن إذا أراد شخصٌ ما أن يستوعب التسامح سياسيًّا، كونه مشكلة قوة وكونه علاقات مُنظِمة بين المواطنين والبلاد، إذن يُفهم أنه، ضمن أمور أخرى وكونه مشروعًا عرضيًّا يتم خلال خطابات تاريخية محددة، عبارة عن معايير مُعدة لغويًّا تسير وفق نسق عام.

في الغرب يبرز التسامح، في بواكير العصر الحديث، كحلٍّ سياسي للشقاق والصراع الديني الذي تنامى بعد الإصلاح؛ فنجد أن التسامح يعمل يدًا بيد مع العلمانية لتخصيص وتمييز الدين موضوعًا خاصًّا بالعقيدة والإيمان. لكن في أواخر القرن العشرين يتحول موضوع التسامح من أديان الأقلية إلى أعراق الأقلية (معتقدات وممارسات منحرفة) وفي وقت متأخر يرتبط بالأبحاث الحديثة الخاصة بالليبرالية والعنصرية والتعددية الثقافية لتصوغ موضوعاتها. هذا الارتباط يتجانس بشكلٍ مختلف مع التسامح المتفاوت ويؤمِّن المعايير التي تصوغ في المقام الأول موضوعات التسامح.

إن الجدال الدائر بشكل مُطرد حول التسامح يتعدى مرحلة أن كل إطراءٍ يخص التسامح ينبثق من طيفٍ خاص بالتعصب، أو أن مضاد التسامح يمكن أن يُراوِح ما بين الإقصاء والإبادة والاضطهاد الدمويّ. إنه يتعدى أيضًا فكرة أن التسامح يحفزه التنافر والكراهية – نحن نسامح ما نُفضِّل أن يكون غير موجود. من ناحية أخرى، إن صور التسامح تصوغ مجالات الهويات والممارسات التي يمكن أن تظهر فقط لتُنظم أو لتوضع على مستوى محايد. من ناحية أخرى، إن بعض أنظمة التسامح تجتمع تحت مظلة مدارات معيارية كبيرة، معايير الهيمنة أو التكافؤ، التفاهم أو الخصومة، المواطنة أو الفردية. تلك المعايير تُسهم في تكوين الهويات التي تُعَدّ أسس التسامح، والتسامح بدوره يُرسِّخ المعايير في مسيرتها كإضافة.

في الديمقراطيات الليبرالية التسامح السياسي الخاص بالأقليات لا يساوي الحرية، المساواة أو الشمولية. إنها تدعم تلك المبادئ التي تكشف نطاقها غير المكتمل؛ التسامح يلج بينما تتعثر العهود الليبرالية. التسامح يعالج ما تبقى من أسس الليبرالية، يُستثنى من ذلك الانتماء أو الحقوق التي تصوغ المساواة التي تنادي بها الليبرالية بشكل متساوٍ، وتداخلها مع الثقافة التي لا يُعترف بها، وبالمعايير التي يكفلها عدم الاعتراف. في داخل الليبرالية التسامح يقوم بالمهام المتناقضة الخاصة بالقيم المحصنة والمهيمنة، وفي الوقت نفسه يقوم بحماية القيم المستهدفة والمهمشة.

هل التسامح لا يزال يُعَدّ واحدًا من المنتجات السياسية التي لا يمكن ألّا نرغبها حتى لو كنا نفهم حدودها أو حيلها؟ حتى لو كنا نعلم أن دثارها الدافئ الخاص بالحيادية والفضيلة يمكن أن يُلقى به في مستنقعات باردة من البؤس والقسوة؟ بدلًا من أن نتفق أو نختلف حول التسامح، فيمكننا أن نطرح تلك المسالة بتلك الطريقة: هل هناك عقولٌ متفتحة وخطابات أكثر تحررًا لتحليل ومعالجة تلك المسائل التي من أجلها نحتاج إلى التسامح في الوقت الحاضر؟ إذا أعدنا التسامح إلى سلوك وأخلاقيات خَيّرة يومية بشكل عاديّ، فما الذي يمكن أن يضطرنا بأن نطالب أنفسنا بتحقيق العدالة؟

هل يمكن معالجة تأجّج الصراعات في المجتمعات المعاصرة، حتى لو هُدِّئتْ بعدم تسييسها والتنصل منها؟ لا تزال التعددية السياسية تحمل القدرة على مراقبة التفاوت وعدم التجانس لكونها ملامح جوهرية للحياة السياسية الحديثة. إن التعددية السياسية تتطلب التخلي عن المساواة والامتثال لتنظيم ميثاق ديمقراطي، وتقاسم السلطة والمؤسسات. يمكن أن يُقال عن الحضارة: إنها تقوم على قاعدة التسامح أكثر من سفك دم الآخر. هذا لا يُسوغ للتسامح مباشرة العدل أو عدّه ميزة إيجابية للحياة الديمقراطية.

هل التسامح يسبق السياسة؟ إذن يمكن أن تكون أهميته في الوقت الحاضر في الديمقراطيات الليبرالية، دلالة على التدهور والعودة إلى أسس الحكم والتخلي عن الطموحات السياسية الحديثة. في الوقت الحاضر يدرسون التسامح في المدارس الأميركية العامة بوصفه نمطًا لمناقشة التعددية الثقافية والانقسام العنصري واختلاف الجنس والرغبات المتعددة. لماذا لا تعنينا المساواة أو الحرية؟ أو الممارسات الأخرى التي تحتاجها الكيانات السياسية الديمقراطية، مثل تقاسم السلطة؟ هل ينشأ التسامح في أفق فقدانها؟

ماذا يمكن أن يفعل المجتمع المتسامح؟

لارز توندر جامعة كوبنهاغن

من بين الاتجاهات العديدة في نظريات التسامح الجديدة التي اتجه لها مفكرون مثل ويندي براون (2006م)، ورينر فروست (2013م)، ومايكل ويلزر (1999م)، وسلافوي جيجك (2008م)، الاتجاه الأكثر أهمية هو الذي يتعلق بالصلة بين دراسة القوة ونوع العلاقات السياسية الاجتماعية، ويتلخص في أن المجتمع المتسامح يُمكِّن، من خلال التزاماته، من وضع معايير للديمقراطية على نحو خاص مع مراعاة الاندماج والتعددية. الاتجاه الأكثر جلاءً من بين تلك الاتجاهات ذات الصيغة النقدية للتسامح، ولكنه اتجاه حاضر أيضًا في الاجتهادات المتعددة لإرساء التسامح كفضيلة جوهرية لتداولٍ ديمقراطي، هو الذي يتبنى نقاشات الروابط بين التسامح والقوة التي قدمت رؤى عديدة مُهمة وجديدة.

تلك النقاشات أظهرت كم يكون من العسير تمييز هذا النسق الفذ إلى حد ما للمقاومة، ولماذا يمكن أن نرى، وفقًا لنزعة غير موفقة خلال النظريات الحديثة للتسامح، القوة كظاهرة أو بناء خارجي للتسامح نفسه. إن هدفي من هذا المقال أن أتناول بالنقد النمط الأخير من هذين النمطين، وأن أقترح أننا في حاجة إلى دراسة جديدة للتسامح والقوة. إلى أي مدى ولأي أسباب ترى النظريات الحديثة القوة مؤثرًا خارجيًّا للتسامح؟ ما حدود تلك الفرضية؟ كيف يمكننا أن نطوّر منهجًا بديلًا خاصًّا بالعلاقة بين القوة والتسامح، منهج يُقِرّ أن تلك القوة حقًّا لا يمكن أن تكون على نحو حقيقيّ المؤثر الخارجي للمُثل وأساليب التسامح؟

ولكي نحاول أن نولي اهتمامًا لتلك التساؤلات؛ دعونا نبدأ بتقويم كيف أن نظريات التسامح الجديدة التي وضعها مفكرون مثل براون وفروست وولزر وجيجيك، قد قدمت عناصر مختلفة للاهتمام النقدي، الذي فُهم عامة لكي يُدخل تحسينًا على مفهوم التسامح والقوة الذي اقترحته لنا الليبرالية الكلاسيكية. وطبقًا للأخيرة، فإن العلاقة بين التسامح والقوة قد صيغت على أنها قضية تعريف أو تحديد، بمقتضاها يكون هدف التسامح كبح جماح مباشرة القوة لمنع الدول والأفراد من الجور على المعتقدات والأعراف، التي تتعارض مع ما يظنونه مناسبًا لأنفسهم وللمجتمع بصورة تُفهم على نحو أشمل.

لا تتضارب النظريات الحديثة للتسامح بالضرورة مع تلك الطريقة لتأطير القضية. لا تزال، ترى النظريات جميعُها، كلٌّ بطريقتها، أن رؤية الليبرالية السلبية على نحو صارم يجب أن تُستكمل بمنهج أكثر دقة، تلك التي لا يكبح فيها التسامح جماح القوة فحسب بل يُعزز مآرب وطموحات الأقوى بطرائق يمكن أن تكون أكثر قمعًا أو أقل قمعًا، أكثر تحررًا أو أقل تحررًا. براون وفروست وولزر وجيجيك جميعهم يتفق على أن هذه الإضافة ضرورية لضبط مسألة، على نحو أفضل، كم أن التسامح يعمل في سياق ليبرالي جديد وهو الذي عُزِّزتْ فيه القوة عبر شبكات منتشرة من الانضباط والرقابة، أكثر منها عبر أبنية متمركزة ذات تدرج سلطوي وسياسي. إن تأكيد العلاقة الخارجية بين القوة والتسامح يجعل من العسير على النظريات الحديثة للتسامح أن توجه تلك التساؤلات، ومن ثم يمكننا القول بأن واحدًا من أهم التحديات التي تواجه التفكير فيما يمكن أن يفعِّل المجتمع المتسامح؛ يظل: كيف نضع تصورًا لمسألة قوة التصرف على نحو متسامح.

هناك رسالة مهمة للتفكير في الارتباط بين التسامح والقوة، هي أن نوضح كيف يمكن أن يكون مفيدًا لنا لو أننا أعدنا إزالة الالتباس في النظرية النقدية ما بعد الماركسية، بأن التسامح قد أصبح وسيلة لتأطير عدم المساواة كحقيقة للتعددية، التي تدعم بدلًا من أن تعوق تركيبَيِ الإقصاء والظلم. الخطوة الأولى في هذا الشأن هي أن نُسلِّم، على الرغم من تداخلهما في الوقت الحالي، بأن تاريخ التسامح والليبرالية الجديدة لم يكن متطابقًا؛ إذ كان تاريخ كل منهما في وضعٍ مقابل للآخر، مع تسامح يدعم قضايا الأفراد والجماعات التي يُراد منها أن تلغي أهدافًا ليبرالية أولية مقترنة بالادخار المالي والمراقبة الاجتماعية.

إنه سبب مهم في حد ذاته، لمعالجة التسامح في نطاق قوته، الذي يُعرف بأبعاد العوامل المؤثرة والمفاهيم المترتبة عليه، التي بدورها تدعم على الأقل بعضًا من تجارب الألم والانتقادات.

أحاول أن أختتم مقالي مستنتجًا أن الرهان أصبح كبيرًا على نجاح النظريات الجديدة، التي تستند إلى دراسات تخلص إلى أن التسامح يمكن أن يكون شيئًا أفضل مما هو عليه في الوقت الحاضر. طالما أن التسامح يظل مصطلحًا مميزًا في التفكير في مبادئ الاندماج والتعددية، فمن الضروري أن النظرية السياسية تعطي اهتمامًا بالغًا لأوجه التسامح، التي ربما تبدو عرضية للنقاش المعاصر، لكن بالرغم من ذلك يمكن أن تغرس طاقة جديدة في السياسة الديمقراطية، وتُلهم المواطنين من كل الاتجاهات لتوسيع نطاق الاختلافات المقبولة في المجتمع.

من المهم، في هذا الشأن، أن ندرك أن الديمقراطيات من دون تسامح استباقي تدعمه ممارسات تحمُّل ومرونة، لا يمكن أن تكون ديمقراطية على الإطلاق، لدرجة أن مبادئ الاندماج والتعددية تُنمِّي فرص النزاعات والخلافات السياسية، حتى يغير هذا التنامي تصنيف القوة ومنح الامتياز. إن السياسة الديمقراطية نفسها يمكن أن تُعرف بالدائرية، تتطلب تسامحًا فاعلًا يظل مرنًا في وجه عيوبها. هناك حافز مهم للانتقال من منظور خارجي إلى منظور داخلي، مع إعادة وضع منهجنا للارتباط بين القوة والتسامح، هو تسليط الضوء على تلك الرؤية وتهيئتها لتصبح بؤرة لنقاشات جديدة، حول قضية: ماذا يمكن أن يفعل المجتمع المتسامح حينما يناضل ليكون أكثر نبلًا وأكثر قوة مما هو عليه في الوقت الحاضر؟